في ظلال التّوحيد

الشيخ جعفر السبحاني

في ظلال التّوحيد

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: نشر مشعر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-6293-82-4

الصفحات: ٧١٢

وأكثر ما كان يتحقّق منه هو اشتراك جمع من مدينة واحدة أو من قبيلة معيّنة على أن يتعاونوا فيما بينهم ، وأين هذا من التعاون السائد في عصرنا هذا كتعاون دول المنطقة على إجراء مشروع مفيد للمنطقة ، أو تعاونهم على ضرب حكومة إسلامية فتيّة خوفاً على كراسيّهم ومناصبهم.

ولو أنّ المتزمّتين درسوا هذا البحث دراسة عميقة لربّما خمدت ثورتهم ضدّ المسلمين الذين يعملون الخير امتثالاً لحكم الدين.

لقد كان في التاريخ الإسلامي اناس يفهمون ـ بصفاء أذهانهم وخلوص قرائحهم ـ أنّ ما ورد في الكتاب والسنّة من وصفه سبحانه بصفات الجمال والكمال أُسوة لما لم يرد ، فللمسلم أن يدعو ربّه بأوصاف جميلة وإن لم ترد حرفياً في الكتاب والسنّة.

روى الطبراني : «أنّ النبيّ عليه الصلاة والسلام مرّ على أعرابي وهو يدعو في صلاته ويقول: «يا من لا تراه العيون ، ولا تخالطه الظنون ، ولا يصفه الواصفون ، ولا تغيّره الحوادث ، ولا يخشى الدوائر ، يعلم مثاقيل الجبال ، ومكاييل البحار ، وعدد قطر الأمطار ، وعدد ورق الأشجار ، وعدد ما أظلم عليه الليل ، وأشرق عليه النهار ، لا توارى سماء منه سماء ، ولا أرض أرضاً ، ولا بحرٌ ما في قعره ، ولا جبل ما في وعره ، اجعل خير عمري آخره ، وخير عملي خواتمه ، وخير أيّامي يوم ألقاك».

فوكّل رسول الله بالأعرابي رجلاً ، وقال : إذا صلّى فأتني به ، وكان قد أُهْدِي بعض الذهب إلى رسول الله ، فلمّا جاء الأعرابي ، وهب له الذهب ، وقال له : تدري لم وهبت لك؟

قال الأعرابي : للرحم التي بيني وبينك.

١٤١

قال الرسول الكريم : إنّ للرحم حقّاً ، ولكن وهبت لك الذهب لحسن ثنائك على الله»(١).

وأين هذا الكلام ممّا روي عن الشاذلي أنّه قال : «من دعا بغير ما دعا به رسول الله فهو مبتدع» (٢).

__________________

(١) تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل : ص ١٠٢.

(٢) روح البيان ٩ : ٣٨٥.

١٤٢

المبحث الثامن

الخطوط العامة لتحصين الدين من الابتداع

كان النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يتنبّأ دبيب البدعة في دينه بعد رحيله ، ويعلم أنّ سماسرة الأهواء سيبثّون بذور البدع في المجتمع الإسلامي. ولما كان الدين أعزّ شيء عند الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد ضحّى بالنفس والنفيس لأجله ، وتحمّل عبئاً عظيماً في طريق دعوته ، لذا اتّخذ عدّة إجراءات لتحصينه من البدعة ، نذكر منها ما يلي :

الأوّل : التحذير من البدع والمبتدعين

إنّ الخط الدفاعي الأوّل الذي وضعه رسول الله لحصانة دينه تمثل في ذمّ البدع والمبتدعين ، وتحذير المجتمع الإسلامي منهما ، من خلال خطبه وأحاديثه البليغة ، وقد تعرّفت على قسم منها في التقديم وبعده ، وإليك بعضها :

قال رسول الله : «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (١).

وقال : «إيّاكم والبدع ؛ فانّ كلّ بدعة ضلالة ، وكلّ ضلالة تسير إلى النار» (٢).

__________________

(١) لاحظ كنز العمال ج ١ الحديث ١١٠١.

(٢) لاحظ كنز العمال ج ١ الحديث ١١١٣.

١٤٣

وقال : «أصحاب البدع كلاب النار» (١).

وقال : «أهل البدع شرّ الخلق والخليقة» (٢).

وقال : «يجيء قوم يميتون السنّة ويوغلون في الدين ، فعلى أُولئك لعنة الله ولعنة اللاعنين والملائكة والناس أجمعين» (٣).

وقال : «من وقّر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام» (٤).

وقال : «إذا رأيتم صاحب بدعة فاكفهرّوا في وجهه» (٥).

إلى غير ذلك من الأحاديث البليغة التي تحذّر المجتمع الإسلامي من البدعة والمبتدعين الذين سيظهرون بعد رحيله ، وبذلك أعطى بصيرة لمن خلفه لكي لا يغترّوا بكلام المبتدعين ويفتتنوا به.

الثاني : الإشارة إلى وجود الكذّابة على لسانه

وقف النبيّ الأكرم على أنّ هناك أُناساً في حياته أو بعد رحيله يكذبون أو سيكذبون على لسانه ، فيبدلون دينه ، فقال في حديث يرشد المسلمين إلى وجود الكذّابين ليأخذوا حذرهم :

«من كذب عليّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار» (٦).

أو «من يقل عليّ ما لم أَقُل فليتبوّأ مقعده من النار» (٧).

إنّ التاريخ يشهد بأنّ الأُمّة الإسلامية ـ في عصر الخلفاء ـ يوم اتّسعت رقعة البلاد الإسلامية واستوعبت شعوباً كثيرة ، شهدت دخول جماعات عديدة من

__________________

(١ ـ ٥) لاحظ كنز العمال ج ١ الحديث ١٠٩٤ ، ١٠٩٥ ، ١١٢٤ ، ١١٠٢ ، ١٦٧٦.

(٦ ـ ٧) البخاري ، الصحيح ١ : ٢٧ ؛ السنن لابن ماجة ١ : ١٣ ؛ صحيح مسلم بشرح النووي : ٦٦١ ؛ الترمذي رقم ٢٧٩٦ إلى غير ذلك من المصادر.

١٤٤

أحبار اليهود وعلماء النصارى في الإسلام ، مثل : كعب الأحبار ، وتميم الداري ، ووهب بن منبّه ، وعبد الله بن سلام ؛ الذين تسلّلوا إلى صفوف المسلمين ، وراحوا يدسّون الأحاديث الإسرائيلية ، والخرافات والأساطير النصرانية في أحاديث المسلمين وكتبهم وأذهانهم.

وقد ظلّت هذه الأحاديث المختلقة ، تُخيِّم على أفكار المسلمين ردْحاً طويلاً من الزمن ، وتؤثّر في حياتهم العمليّة ، وتوجهها الوجهة المخالفة لروح الإسلام الحنيف ، في غفلة من المسلمين وغَفْوتهم ، ولم ينتبه إلى هذا الأمر الخطير إلّا من عصمه الله ، كعليّ عليه‌السلام ، الذي راح يحذّر المسلمين عن الأخذ بمثل هذه الأحاديث المختلقة فقال : «فلو علم الناس أنّه منافق كاذب ، لم يقبلوا منه ولم يصدَّقوا ، ولكنّهم قالوا : صاحب رسول الله رآه وسمع منه ولقف عنه» (١).

نماذج وأرقام عن الأحاديث الموضوعة :

وحسبك لمعرفة ما أصاب المسلمين وما تعرّضت له الأحاديث ، ولمعرفة الذين لعبوا هذا الدور الخبيث في غفلة من الأُمّة ما كُتب في هذا الصدد مثل كتاب : ميزان الاعتدال للذهبي.

وتهذيب التهذيب للعسقلاني.

ولسان الميزان للعسقلاني.

ونظائرها من الكتب التي صنّفت في هذا المجال.

ولعلّ فيما قاله البخاري صاحب «الصحيح» المعروف ، إشارة إلى طرف من هذه الحقيقة المرّة ، حيث قال ابن حجر في مقدّمة فتح الباري :

إنّ أبا عليّ الغساني روى عنه قال : خرّجت الصحيح من ٦٠٠ ألف حديث (٢).

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ٢١٠.

(٢) الهدي الساري مقدمة فتح الباري : ص ٤.

١٤٥

وروى عنه الإسماعيلي أنّه قال :

أحفظ مائة ألف حديث صحيح وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح (١).

ويعرب عن كثرة الموضوعات اختيار أئمة الحديث أخبار تآليفهم (الصحاح والمسانيد) من أحاديث كثيرة هائلة ، والصفح عن غيرها ، وقد أتى أبو داود في سننه بأربعة آلاف وثمانمائة حديثاً وقال : انتخبته من خمسمائة ألف حديث (٢).

ويحتوي صحيح البخاري من الخالص بلا تكرار على ألفي حديث وسبعمائة وواحد وستين حديثاً اختاره من زهاء ستمائة ألف حديث (٣).

وفي صحيح مسلم أربعة آلاف حديث أُصول دون المكرّرات ، صنّفه من ثلاثمائة ألف(٤).

وذكر أحمد في مسنده ثلاثين ألف حديث ، وقد انتخبه من أكثر من سبعمائة وخمسين ألف حديث ، وكان يحفظ ألف ألف حديث (٥).

وقد قام الباحث الكبير المجاهد العلّامة الأميني في موسوعته (الغدير) ـ الجزء الخامس ـ باستخراج أسماء الكذّابين والوضّاعين للحديث على حسب الحروف الهجائية فبلغ عددهم ٧٠٠ ، وما قام به رحمه‌الله ، وإن كان عملاً كبيراً يشكر عليه ، غير أنّه لو قامت بهذا الأمر لجنة من الباحثين لعثروا على أضعاف ما ذكره ذلك البحّاثة الكبير.

وكان تحذير النبي الأكرم من الدجّالين الكذّابين وشيوع الكذب على لسانه سبباً لقيام العلماء بوضع علم الرجال وبيان مقاييس يُميّز به الصحيح عن السقيم.

__________________

(١) الهدي الساري مقدمة فتح الباري : ص ٥.

(٢) طبقات الحفّاظ للذهبي ٢ : ١٥٤ ؛ تاريخ بغداد ٩ : ٥٧.

(٣) إرشاد الساري ١ : ٢٠٨ ؛ صفوة الصفوة ٤ : ١٤٣.

(٤) طبقات الحفّاظ ٢ : ١٥١ ، ١٥٧ ؛ شرح صحيح مسلم للنووي ١ : ٣٢.

(٥) طبقات الحفّاظ ٩ : ١٧.

١٤٦

وقال : وقد تنبّأ الرسول بما سيصيب سنّته الشريفة ويصيب المسلمين فيما بعد على أيدي الكذّابين ووضّاعي الحديث وأعداء الإسلام ، وفي الوقت نفسه أخبر عمّن يقف في وجه هذا الخطر العظيم إذ قال : «يحمل هذا الدين في كلّ قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين وتحوير الغالين وانتحال الجاهلين كما ينفي الكير خبث الحديد» (١).

روى السيوطي أنّ عثمان بن عفان لمّا أراد أن يكتب المصاحف ، أراد أن يحذف الواو التي في سورة براءة في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٢).

قال أُبيّ بن كعب : لتلحقنّها أو لأضعنّ سيفي على عاتقي (٣).

فإنّ الخليفة كان يريد أن يقرأ قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ) بدون واو العطف ، لتكون هذه الجملة وصفاً للأحبار واليهود. وهذا مضافاً إلى كونه خلاف التنزيل وتغييراً فيما نزل به الوحي كما تلاه الرسول وقرأه على مسامع القوم ، فإنّ حذف الواو كان يعني أنّ آية حرمة الكنز سوف لا تشمل المسلمين بل ستبقى صفة للأحبار والرهبان. وكان يقصد من هذه إضفاء طابع الشرعية على اكتناز الأموال الطائلة.

وهذا يكشف عن مدى حفظ الأُمّة لنصّ الكتاب بهذه الصورة الدقيقة الأمينة ، بيد أنّ حفظ الأُمّة كان محدوداً لا يتجاوز هذا الحد ؛ إذ كان غير شامل لجوانب أُخرى من الشريعة وأُصولها ومصادرها وينابيعها.

__________________

(١) الكشي ، الرجال : ص ٥.

(٢) التوبة : ٣٤.

(٣) الدر المنثور ٣ : ٢٣٢.

١٤٧

الثالث : محاولة كتابة الصحيفة

هذا هو الخطّ الدفاعي الثالث الذي حاول الرسول وضعه لمكافحة دبيب البدعة ، وهنا نقتبس ما ذكره الإمام الشاطبي حرفياً ، يقول :

لقد كان عليه الصلاة والسلام حريصاً على أُلفتِنا وهدايتنا ، حتى ثبت من حديث ابن عباس رضى الله عنه .. أنه قال : لمّا حضر (١) النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهم ـ فقال : «هلمّ أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده» فقال عمر : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله غلبه الوجع ، وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله!! واختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول : قرّبوا يكتب لكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لن تضلّوا بعده ، وفيهم من يقول كما قال عمر ، فلمّا كثر اللغط والاختلاف عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «قوموا عنّي» فكان ابن عباس يقول : إنّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب اختلافهم ولغطهم(٢).

الرابع : التعريف بالثقلين

إنّ النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله نبّه الأُمّة وبيّن لها المرجع والملاذ بعد رحيله بقوله : «يا أيّها الناس ، إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي» (٣).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّي تركت ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ؛ ولن يفترقا حتى يردا عليّ

__________________

(١) أَي حضرته الوفاة.

(٢) الاعتصام ٢ : ١٧١ ـ ١٧٢ ولاحظ صحيح البخاري.

(٣) كنز العمال ١ : ٤٤ ، أخرجه الترمذي والنسائي عن جابر.

١٤٨

الحوض ، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما» (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّي تارك فيكم خليفتين : كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض ، وعترتي أهل بيتي ؛ وانّهما لن يتفرّقا حتى يردا عليّ الحوض» (٢).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله ، وأهل بيتي ، وانّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» (٣).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّي أوشك أن ادعى فأُجيب ، وإنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله عزوجل ، وعترتي ؛ كتاب الله حبل ممدود من السماء الى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، وإنّ اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، فانظروني بمَ تخلفوني فيهما»(٤).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله في منصرفه من حجة الوداع ونزوله غدير خم : «كأنّي قد دُعيت فأجبت ، إنّي تركت فيكم الثقلين ، أحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله وعترتي ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» (٥).

وللكاتب الإسلامي منشي المنار كلام ذكره في تعليقته على كتاب الاعتصام للشاطبي قال : رواه ابن أبي شيبة والخطيب في المتّفق والمفترق عنه وهو «تركت فيكم ما لن تضلوا إن اعتصمتم به ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي : ورواه الترمذي والنسائي عنه بلفظ «يا أيّها الناس إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي» والحديث مرويّ بلفظ العترة بدل السنّة عن كثير من الصحابة ، منهم : زيد بن ثابت ، وزيد بن أرقم ، وأبو سعيد الخدري ، وروي عن

__________________

(١) كنز العمال ١ : ٤٤ ، أخرجه الترمذي عن زيد بن أرقم.

(٢) مسند أحمد ٥ : ٢٨٢ ـ ٢٨٩.

(٣) مستدرك الحاكم ٣ : ١٤٨.

(٤) مسند أحمد ٣ : ١٧ و ٢٦ ، أخرجه من حديث أبي سعيد الخدري.

(٥) مستدرك الحاكم ٣ : ١٠٩ ، أخرجه عن حديث زيد بن أرقم.

١٤٩

أبي هريرة بلفظ «السنّة» بدل العترة ، وفي كلا السياقين بلفظ «لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» والجمع بينهما في المعنى أنّ عترته أهل بيته يحافظون على سنّته ، أي لا يخلو الزمان عن قدوة منهم يقيمون سنّته لا يُثنِيهم عنها التقليد ولا الابتداع ولا الفتن (١).

الخامس : التعريف بسفينة النجاة

إنّ النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله شبّه أهل بيته بسفينة نوح فقال : «ألا إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من قومه ؛ من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق» (٢).

وفي حديث آخر يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح ؛ من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق. وإنّما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطّة في بني إسرائيل ؛ من دخله غفر له» (٣).

وفي حديث ثالث : «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لأُمّتي من الاختلاف ، فاذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس» (٤).

ومن المعلوم أنّ المراد ليس جميع أهل بيته على سبيل الاستغراق ؛ لأنّ هذه المنزلة ليست إلّا لحجج الله ، وهم ثلّة منتخبة مصطفاة من أهل بيته ، وقد فهمه ابن حجر فقال : يحتمل أنّ المراد بأهل البيت الذين هم أمان ، علماؤهم ؛ لأنّهم الذين يُهتدى بهم كالنجوم ، والذين إذا فُقِدوا جاء أهل الأرض من آيات ما يوعدون.

__________________

(١) الاعتصام ٢ : ١٥٦ ، قسم التعليقة.

(٢) رواه الحاكم في مستدركه بسنده عن أبي ذر ٣ : ١٥١.

(٣) الأربعون حديثاً للنبهاني : ص ٢١٦ نقله عن الطبراني في الأوسط.

(٤) رواه الحاكم في مستدركه بسنده عن ابن عباس ٣ : ١٤٩.

١٥٠

وقال في مقام آخر : إنّه قيل لرسول الله : ما بقاء الناس بعدهم؟ قال : «بقاء الحمار إذا كسر صلبه» (١).

والمراد من تشبيههم عليهم‌السلام بسفينة نوح أنّ من لجأ إليهم في الدين فأخذ فروعه وأُصوله عنهم نجا من عذاب الله ، ومن تخلّف عنهم كان كمن أوى يوم الطوفان إلى جبل ليعصمه من أمر الله فما أفاده شيئاً فغرق وهلك.

والوجه في تشبيههم بباب حطة هو أنّ الله تعالى جعل ذلك الباب مظهراً من مظاهر التواضع لجلاله والبخوع لحكمه ، وبهذا كان سبباً للمغفرة ، وقد جعل انقياد هذه الأُمّة لأهل بيت نبيّها واتّباعهم أيضاً مظهراً من مظاهر التواضع لجلاله والبخوع لحكمه ، وبهذا كان سبباً للمغفرة.

وقد أوضح ابن حجر حقيقة التشبيه في الحديث الشريف فقال : «ووجه تشبيههم بالسفينة أنّ من أحبّهم وعظّمهم شكراً لنعمة مشرفهم وأخذاً بهدي علمائهم نجا من ظلمة المخالفات ، ومن تخلّف عن ذلك غرق في بحر كفر النعم ، وهلك في مفاوز الطغيان ـ إلى أن قال : ـ وبباب حطة ـ يعني ووجه تشبيههم بباب حطة ـ أنّ الله جعل دخول ذلك الباب الذي هو باب أريحاء أو بيت المقدس مع التواضع والاستغفار سبباً للمغفرة ، وجعل لهذه الأُمّة مودّة أهل البيت سبباً لها» (٢).

دور أئمة أهل البيت في مكافحة البدع :

إنّ لأئمة أهل البيت دوراً بارزاً في مكافحة البدع ، والردّ على الأفكار الدخيلة على الشريعة عن طريق أهل الكتاب ، الذين تظاهروا بالإسلام ، وتزيّوا بزيّ

__________________

(١) الصواعق لابن حجر ، الباب الحادي عشر : ٩١ ، ١٤٢.

(٢) لاحظ المصدر نفسه : ١٥٣.

١٥١

المسلمين ، نظراء : كعب الأحبار ، وتميم الداري ، ووهب بن منبه ، ومن كان على شاكلتهم.

إنّ كتب الحديث ، من غير فرق بين الصحاح وغيرها ، مشحونة بأخبار التجسيم والتشبيه والجبر ونفي الاستطاعة المكتسبة ونسبة الكذب والعصيان إلى الأنبياء والرسل ، وقد تأثّر بها المحدّثون السُّذَّج وحسبوا أنّها حقائق راهنة فنقلوها إلى الأجيال اللّاحقة ، وقد حيكت العقائد على منوال هذه الأحاديث ، ولم يتجرّأ أحد من المفكّرين الإسلاميين القدامى والجدد على نقدها إلّا من شذّ.

وفي مقابل هذه البدع نرى أنّ أئمة أهل البيت يكافحون التجسيم والتشبيه والجبر وغيرهما بخطبهم ورسائلهم ومناظراتهم أمام حشد عظيم. وفي وسع القارئ الكريم مراجعة نهج البلاغة للإمام عليّ عليه‌السلام وكتاب التوحيد للشيخ الصدوق (٣٠٦ ـ ٣٨١ ه‍) ، وكتاب الاحتجاج للشيخ الطبرسي (ت ٥٥٠ ه‍) ، إلى غير ذلك من الكتب المؤلّفة في هذا المضمار ، وما أحلى المناظرات التي أجراها الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام في عاصمة الخلافة الإسلامية (مرو) يوم ذاك مع الماديّين والملحدين وأحبار اليهود وقساوسة النصارى ، بل ومع المتزمّتين المغترّين بتلك الأحاديث.

لقد كان لفكرة الإرجاء التي تدعو إلى التسامح الديني في العمل ، واجهة بديعة عند السذّج من المسلمين ولا سيّما الشباب منهم ، فقام الإمام الصادق بردّها والتنديد بها ، وقد أصدر بياناً فيها حيث قال : «بادروا أولادكم بالحديث قبل أن تسبقكم إليهم المرجئة» (١).

هذا هو الإمام الثامن عليّ بن موسى الرضا يكافح فكرة رؤية الله تبارك وتعالى بالعين.

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤٧ / ٥ ؛ ولاحظ البحار ٦٨ : ٢٩٧.

١٥٢

ويرد الفكرة المستوردة من اليهود والتي اغترّ بها بعض المحدّثين ، وإليك ما جرى بينه وبين أحدهم باسم أبي قرّة.

قال أبو قرّة : إنّا روينا أنّ الله عزوجل قسم الرؤية والكلام بين اثنين ، فقسم لموسىعليه‌السلام الكلام ولمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله الرؤية.

فقال الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام : «فمن المبلّغ عن الله عزوجل الى الثقلين الجنّ والإنس (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) (١) و (لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (٢) و (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (٣) أليس محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

قال : بلى.

قال الإمام : «فكيف يجيء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنّه جاء من عند الله وأنّه يدعوهم إلى الله بأمر الله ويقول : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) و (لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) و (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ). ثمّ يقول أنا رأيته بعيني وأحطت به علماً وهو على صورة البشر. أما تستحيون؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي عن الله بشيء ثمّ يأتي بخلافه من وجه آخر» (٤).

هذا نموذج من نماذج كثيرة أوردناه حتى يكون أُسوة لنماذج أُخرى.

وإن أردت أن تقف على مدى مكافحة الأئمة الاثني عشر للبدع المحدثة فعليك مقارنة كتابين قد أُلّفا في عصر واحد بيد محدّثين في موضوع واحد ، وهما :

١ ـ التوحيد لابن خزيمة (ت ٣١١ ه‍).

٢ ـ التوحيد للشيخ الصدوق (٣٠٦ ـ ٣٨١ ه‍).

__________________

(١) الأنعام : ١٠٣.

(٢) طه : ١١٠.

(٣) الشورى : ١١.

(٤) التوحيد : ١١١.

١٥٣

قارن بينهما ، تجد الأوّل مشحوناً بأخبار التجسيم والتشبيه والجبر ، وما زال المتسمون بالسلفية ينشرونه عاماً بعد عام ، كأنّ ضالّتهم فيه.

وأمّا الثاني ففيه الدعوة إلى التوحيد وتنزيه الحقّ ومعرفته بين التشبيه والتعطيل وتبيين الآيات التي اغترّ بعضهم بظواهرها من دون التدبّر بالقرائن الحافّة بها.

وبذلك تبيّن أنّ النبيّ الأكرم قد جعل من الأئمّة واجهة دفاعية لصدّ البدع وأفكار المبتدعين ولا تتبيّن تلك الحقيقة إلّا بعد معرفتهم ومراجعة كلماتهم.

السادس : دعم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر

إذا كانت البدعة من أعظم الكبائر والمنكرات ، فعلى السلطة التنفيذية للحكومات الإسلامية ، دعم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، للقيام بمواجهة المبتدعين وردعهم عن أعمالهم ؛ فإنّ البدعة أوّل يومها بذرة في الأذهان ، ثمّ يستفحل عودها عبر الزمن حتى تصير شجرة خبيثة ، ولذلك دعا الذكر الحكيم إلى القيام بهذا الأمر وقال : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١) وفي آية أُخرى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)(٢).

والأُمَّة عبارة عن جماعة تجمعهم رابطة العقيدة ووحدة الفكر ، غير أنّ الواجب على الجميع غير الواجب على جماعة خاصة ، فيجب على كلّ مسلم ردع المنكر بقلبه ولسانه ، وأمّا القيام بأكثر من ذلك فهو على القويّ المطاع العالم

__________________

(١) آل عمران : ١٠٤.

(٢) آل عمران : ١١٠.

١٥٤

بالمعروف ، وبذلك يجمع بين الآيتين ، حيث إنّ الثانية ترى الأمر بالمعروف فريضة على الجميع ، والأُولى تراه فريضة على أُمّة خاصة ، فالمراتب النازلة فريضة على الكلّ ، والمراتب العالية وظيفة الأقوياء من أبناء الأُمّة.

ويكفي في أهمية تلك الفريضة قوله سبحانه : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) (١).

وهذا الإمام أمير المؤمنين يعلّل قيامه ونضاله ، بردع البدع ويقول : «اللهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن الذي كان منّا ، منافسة في سلطان ، ولا التماس شيء من فضول الحطام ، ولكن لنردَّ المعالم من دينك ، ونُظهر الإصلاح في بلادك» (٢).

وردّ المعالم من دينه كناية عن رفض البدع التي كانت قد ظهرت على الساحة الإسلامية.

وقال الإمام الباقر عليه‌السلام : «إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ، ومنهاج الصلحاء ، فريضة عظيمة ، بها تقام الفرائض ، وتأمن المذاهب ، وتحلّ المكاسب ، وتردّ المظالم ، وتعمر الأرض ، وينتصف من الأعداء ، ويستقيم الأمر» (٣).

وقد كان في العصور الماضية نشاط للآمرين بالمعروف في خصوص متابعة المساجد والمؤذّنين والوعّاظ والقرّاء ، حتى لا يخرجوا عن حدود الشريعة.

يقول ابن إخوة القرشي : «ومن وظائف المحتسِب مراقبة المساجد والمؤذّنين

__________________

(١) الحج : ٤١.

(٢) نهج البلاغة : الخطبة ١٢٧.

(٣) الوسائل ١١ : ٣٩٥.

١٥٥

والوعّاظ والقرّاء ، وعدم السماح لتصدّي هذه المشاغل إلّا لمن اشتهر بين الناس بالدين والخير والفضيلة ويكون عالماً بالأُمور والعلوم الشرعية» إلى آخر ما ذكره (١).

فهذه هي الخطوط الدفاعية التي وضعها الإسلام أمام المبتدعين ، وهناك أُمور أُخرى للقضاء على البدعة والحدّ من نشاط المبتدعين ، نؤخّر بيانها إلى مجال آخر.

__________________

(١) معالم القربة في أحكام الحسبة : ١٧٩.

١٥٦

خاتمة المطاف

كيفية التوصّل إلى مكافحة البدع والقضاء عليها

بقي هنا أمر هام وهو ؛ كيف نتوصّل إلى مكافحة البدع ونقضي عليها؟ وهو سؤال مهمّ يبيّن موقفنا في هذا العصر أمام تيارات البدع قديماً وحديثاً. وفي الحقيقة أنّ ما نذكره في الجواب ، هو واجب العلماء المفكّرين الذين يتحرّقون لمعرفة الحق بين منعرجات الأهواء النفسية والانتماءات العصبية.

إنّ القضاء على البدع ولو نسبياً يتمّ بالقيام بأُمور هي :

الأوّل : دراسة العقائد الإسلامية في ضوء الكتاب والسنّة الصحيحة ، والفطرة الإنسانية ، والعقل السليم ، ونفي الاكتفاء برسالة «الطحاوية» للإمام الطحاوي ، و «الإبانة» للإمام الشيخ الأشعري ؛ فإنّهما ـ رضوان الله عليهما ـ قد أدّيا رسالتهما في عصرهما بأحسن وجه ، ولم يكن في وسعهما إلّا ما ألّفا ونشرا ، وإن تأثّرا بالروايات غير الصحيحة ؛ إذ في ثنايا ذينك الكتاب التلميح إلى التشبيه والتعطيل ، وتعريف الإنسان بلا اختيار وإرادة ، كالريشة في مهبّ الريح ، إلى غير ذلك ممّا تردّه الفطرة السليمة ، كجواز تعذيب الطفل يوم القيامة بالنار. ومن المؤسف جداً الاكتفاء بدراسة العقائد من خلال هذين الكتابين وما شاكلهما في مقابل التشكيكات البرّاقة

١٥٧

التي تثيرها كلّ يوم الوسائل الإعلامية على الإطلاق في معسكر الغرب والشرق ، وهل يمكن صدّ هذا التيار بهذه الكتب؟ كلّا ، ومن قال نعم ؛ فإنّما يقوله بلسانه وينكره بقلبه.

كلّ ذلك يسوقنا إلى أن نعطي للعقائد والمعارف قسماً أوفر في دراساتنا ، حتى تتميز البدع عن غيرها ، نعم انّ من يتلقى كلّ ما ذكره أحمد بن حنبل في كتاب السنّة والإمامين السابقين في رسالتهما لا غبار عليه ، وإن كان ضدّ الكتاب والسنّة المتواترة والعقل الفطري الصريح فلا يحسّ وظيفة أصلاً ، وكلامنا مع المفكّرين الواعين العالمين بما يجري في البلاد على الإسلام والشباب ، وما يثار من إشكالات حول الأُصول حتى التوحيد نفسه.

الثاني : تمحيص السنّة ودراستها من جديد دراسة عميقة سنداً ومضموناً مقارنةً مع الكتاب والسنن القطعية عن الرسول ، فانّ أكثر البدع لها جذور في السنّة المدوّنة ، وهوصلى‌الله‌عليه‌وآله عنها بريء ، وإنّما اختلقها الوضّاعون الكذّابون على لسانه. غير أنّ مسلمة أهل الكتاب وبما أنّهم لم يروا النبي الأكرم قد نسبوها إلى أنبيائهم وكتبهم ، ونسبها بعض السلف إلى نفس النبيّ الأكرم ، وها نحن نضع أمامك حديثين رواهما الشيخان في مورد الأنبياء حتى نتخذهما مقياساً لما لم نذكره.

إنّه سبحانه يعرّف فضله على النبيّ الأكرم بقوله : (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) (١) والمراد من فضله سبحانه في ذيل الآية هو علم النبي الذي أفاضه الله عليه ووصفه بكونه عظيماً ، مضافاً إلى ما في صدر الآية من إنزال الكتاب والحكمة عليه. ومع ذلك نرى أنّ الرسول في الصحيحين يُعرّف بصورة أنّه لا علم له بأبسط الأُمور وأوضح السنن الطبيعية في عالم النباتات ، حيث رأى قوماً يلقّحون النخيل فنهاهم عن ذلك

__________________

(١) النساء : ١١٣.

١٥٨

قائلاً بأنّه لا يظن أنّه يغني شيئاً ، فتركه الناس وواجهوا الخسارة وعدم الإثمار ، فأتوا إلى النبيّ الأكرم ، فقال ما قال ، وإليك نصّ الرواية :

١ ـ روى مسلم ، عن موسى بن طلحة ، عن أبيه ، قال : مررت ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوم على رءوس النخل فقال : «ما يصنع هؤلاء؟» فقالوا : يُلقِّحونه ، يجعلون الذكر في الأُنثى فتلقح ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما أظنّ يغني ذلك شيئاً» فأخبروا بذلك ، فتركوه ، فأخبر رسول الله بذلك ، فقال : «إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه ، فإنّي إنّما ظننت ظناً فلا تؤاخذوني بالظنّ ، ولكن إذا حدّثتكم عن الله شيئاً فخذوا به ، فإنّي لن أكذب على الله عزوجل»(١).

وروى عن رافع بن خديج ، قال : قدم نبيّ الله المدينة وهم يُؤبِّرون (٢) النخل ، يقولون : يلقّحون النخل ، فقال : «ما تصنعون؟» قالوا : كنّا نصنعه ، قال : «لعلّكم لو لم تفعلوا كان خيراً» فتركوه فنقضت ، قال : فذكروا ذلك له ، فقال : «إنّما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به ، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فانّما أنا بشر» (٣).

والعجب أنّ مؤلّف الصحيح مسلم النيسابوري ذكر الحديث في باب أسماه ب «وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره صلى‌الله‌عليه‌وآله من معايش الدنيا على سبيل الرأي» نحن نعلّق على الحديث بشيء بسيط ونترك التفصيل إلى القارئ.

أوّلاً : نفترض أنّ النبي الأكرم ليس نبياً ، ولا أفضل الخليقة ، ولا من أُنزل إليه الكتاب والحكمة ، ولا من وصف الله سبحانه علمه بكونه عظيماً ، ولكن كان عربياً صميماً ولد في أرض الحجاز ، وعاش بين ظهراني قومه وغيرهم في الحضر

__________________

(١) مسلم ، الصحيح ١٥ : ١٢٦ الباب ٣٨ ، كتاب الفضائل.

(٢) أبر يأبر كبذر يبذر : أدخل شيئاً من طلع الذكر في طلع الأُنثى فتعلق بإذن الله.

(٣) المصدر السابق : ص ١٢٧.

١٥٩

والبادية ، وقد تكرّرت سفراته إلى الشام ، وكلّ إنسان كان هذا شأنه يعرف أنّ النخيل لا يثمر إلّا بالتلقيح ، فما معنى سؤاله ما يصنع هؤلاء؟! فيجيبونه بقولهم : إنّهم «يلقحونه» أفيمكن أن يكون هذا الشيء البسيط خفيّاً على النبيّ؟!

ثانياً : كيف يمكن للنبي النهي عن التلقيح وهو سنّة من سنن الله في عالم الحياة ، وقال سبحانه : (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) (١) ومع ذلك فكيف يقول : «ما أظنّ يغني ذلك شيئاً»؟!

ثالثاً : إنّ الاعتذار الوارد في الرواية يُسيء الظنّ بكلّ ما يقوله النبيّ الأكرم ، فإن كان المخبر بهذه الدرجة من العلم ؛ فكيف يمكن الاعتماد بما يُخبر عن الله سبحانه؟! كلّ ذلك يسيء الظن بكلّ ما يذكره بلسانه ويخرج من شفتيه ، والأسوأ من ذلك ما نُسب إليه من الاعتذار بقوله : «وإذا حدّثتكم عن الله شيئاً فخذوا به ، فانّي لن أُكذب على الله عزوجل» ، لأنّ فيه تلميحاً إلى أنّه ـ والعياذ بالله ـ يكذب في مواضع أُخر.

فلو اعتمدنا على هذه الرواية ونظائرها في بناء العقيدة ، فستكون النتيجة أنّ النبي ربّما يكون جاهلاً بأبسط السنن الجارية في الحياة ، فهل يصحّ التفوّه بذلك؟

٢ ـ لو كان الحديث الأوّل يحطّ من منزلة النبيّ الأكرم ، فالحديث الثاني يحطّ من مكانة الكليم موسى عليه‌السلام. فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما بالاسناد إلى أبي هريرة ، قال : لمّا جاء ملك الموت إلى موسى عليه‌السلام فقال له : أجب دعوة ربّك ، فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها ، قال : فرجع الملك إلى الله تعالى ، فقال : إنّك أرسلتني إلى عبدٍ لك لا يريد الموت ، ففقأ عيني ، قال : فردّ الله إليه عينه ، وقال : ارجع إلى عبدي فقال : الحياة تريد ، فإن كنت تريد الحياة ، فضع يدك على متن

__________________

(١) فاطر : ٤٣.

١٦٠