في ظلال التّوحيد

الشيخ جعفر السبحاني

في ظلال التّوحيد

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: نشر مشعر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-6293-82-4

الصفحات: ٧١٢

٢ ـ عادات : ينتفعون بها في معايشهم ، والأصل فيها أن لا يُحظر فيها إلّا ما حظر الله»(١).

ثمّ إنّه لو أتى في العادات بما حظره الله لا تعدّ بدعة بل يكون محرّماً ، لأنّ المفروض أنّه يأتي به ويُحدثه باسم التقاليد لا باسم الدين ، وربما يعترف بكونه على خلاف الدين ، كإشراك النساء السافرات في الضيافة مع الرجال. حتى وإن صار الأمر العادي المحرم رائجاً بينهم.

نعم شذّ قول الدكتور عزت علي في المقام حيث يقول : «فيما حظره الله منها إذا كان من الأُمور المحدثة كان بدعة» (٢).

لكن يلاحظ عليه ، بما ذكرناه في تحديد البدعة بتضافر الكتاب والسنّة على كونه التدخل في أمر الشريعة بالزيادة أو النقيصة وتنسيبه إلى الشارع ، وهذا لا يصدق على كلّ محدث في الأُمور العادية ، وإن كان محرّماً ، نعم هو بدعة بالمعنى اللغوي ، حتى لو صار عمله الإجرامي سنّة سيئة يكون عليه وزر كل من عمله بها ، لكن لا بما أنّه أبْدَع في الدين ، وتدخل في الشريعة ، وقد مرّ نص في تفسير قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من سنّ سنّة حسنة ...» ما يفيدك في المقام.

قال الشيخ شلتوت : «التكاليف الشرعية تنقسم إلى عقائد وعبادات ومحرّمات (٣) ، ثمّ قال : أمّا ما لم يتعبدنا (٤) الله بشيء منه ، وإنّما فوّض لنا الأمر فيه باختيار ما نراه موافقاً لمصلحتنا ، ومحققاً لخيرنا بحسب العصور والبيئات ، فانّ التصرّف فيه بالتنظيم أو التغير ، لا يكون من الابتداع الذي يؤثّر على تديّن

__________________

(١) اقتضاء الصراط المستقيم : ١٢٩.

(٢) البدعة : ٢٦٥.

(٣) لا يخفى ما من المسامحة في هذا الحصر ، لأنّ التكاليف الشرعية أوسع من الثلاثة كالأحوال الشخصية.

(٤) يريد من التعبّد ، ما للشارع فيه دور ، فيعم جميع أبواب الفقه والأقسام الأربعة.

١٢١

الإنسان وعلاقته بربّه ، بل أنّ الابتداع فيه من مقتضيات التطوّر الزمني الذي لا يسمح بالوقوف عند حدّ الموروث من وسائل الحياة عن الآباء والأجداد (١).

الإسلام بين التزمّت والتحلل من القيود الشرعية

إنّ بين المسلمين من يريد حصر الأُمور السائغة بما هو موجود في عصر الرسول الأكرم ، لذا يعد نَخْل الدقيق بدعة ، بحجة أنّه لم يكن في عصره صلى‌الله‌عليه‌وآله أيّ منخل (٢). وبين من يريد التحلّل من كلّ قيد ديني في مجال العمل ، فلا يلتزم في حياته بشيء مما جاء به الإسلام.

فالإسلام لا هذا ولا ذاك ، فهو يرفض التزمّت إذا كان العمل غير خارج عن الأُطر العامة الواردة في الكتاب والسنّة ، كما يرفض التحلّل من كلّ قيد. فآفة الدين ليست منحصرة بالثاني بل آفة الأوّل ليست بأقل منه.

فانّ حصر الجائز من الأُمور العادية بما كان رائجاً في عصر النبيّ أو عصر الصحابة كبت للعقول ، وتقييد للحركة الحضارية عن التقدّم نحو الكمال. وإظهار الإسلام بأنّه غير قابل للتطبيق في جميع الأعصار المتقدّمة فضلاً عن عصر الذرّة. علماً أنّ من الأسباب التي أوجبت خلود الدين الإسلامي ، وأعطته الصلاحية للبقاء مع اختلاف الظروف وتعاقب الأجيال كونه ديناً جامعاً بين الدعوة إلى المادة والدعوة إلى الروح ، وديناً وسطاً بين المادية البحتة والروحية المحضة ، فقد آلف بتعاليمه القيّمة بينهما ، مؤالفة تفي بحقّ كلّ منهما ، بحيث يتيح للإنسان أن يأخذ قسطه من كلّ منهما بقدر ما تقتضيه المصلحة.

وذلك أنّ المسيحية غالت في التوجه إلى الناحية الروحية ، حتى كادت أن

__________________

(١) الفتاوى : ١٦٣.

(٢) الاعتصام ٢ : ٧٣.

١٢٢

تجعل كلّ مظهر من مظاهر الحياة المادية خطيئة كبرى ، فدعت إلى الرهبانية ، وترك ملاذ الحياة ، والانعزال عن المجتمع ، والعيش في الأديرة وقلل الجبال ، وتحمّل الظلم والرفق مع المعتدين ؛ كما غالت اليهوديّة في الانكباب على المادة حتى نسيت كلّ قيمة روحية وجعلت الحصول على المادّة بأيّ وسيلة كانت ، المقصد الأسنى ، ودعت إلى القوميّة الغاشمة والطائفية المقيتة.

وهذه المبادئ سواء أصحّت عن الكليم والمسيح عليهما‌السلام أم لم تصحّ (ولن تصحّ إلّا أن يكون لإنقاذ الشعب الإسرائيلي من ملاذ الحياة يوم ذاك وإنجائهم عن التوغّل في الماديات ، وسحبهم إلى المعنويات بشدة وعنف.

وإن شئت قلت : كانت تعاليمه إصلاحاً موقتاً لإسراف اليهود وغلوّهم في عبادة المال حتى أفسدوا أخلاقهم ، وآثروا دنياهم على دينهم) هذه المبادئ لا تتماشى مع الحضارات الإنسانية التقدميّة ولا تسعدها في معترك الحياة ، ولا تتلاءم مع حكم العقل ولا الفطرة السليمة.

لكن الإسلام جاء لينظر إلى واقع الإنسان ، بما هو كائن ، لا غنى له عن المادة ، ولا عن الحياة الروحية ، فأولاهما عنايته ، ودعا إلى المادة والالتذاذ بها بشكل لا يضر بالحياة الروحية ، كما دعا إلى حياة روحية لا تصطدم مع الفطرة وطبيعتها.

هذه هي حقيقة الإسلام ومرونته وسبب تماشيه مع الحضارات المختلفة حتى حضارة اليوم الصناعية ، فلو حصرنا الجائز من العاديات بما في عصر النبيّ تكون النتيجة حياد الإسلام عن الساحة ، وبطلانه ، مع أنّه خاتم الشرائع ، وكتابه خاتم الكتب ، ونبيّه خاتم النبيّين.

والآن هلمّ معي ندرس آراء المتزمّتين في الأُمور العادية ثمّ نبكي على الإسلام وأهله :

١ ـ يقول الشاطبي : إنّ من السلف من يرشد كلامه إلى أنّ العاديات كالعبادات ، فكما أنّنا مأمورون في العبادات بأن لا نحدث فيها فكذلك العاديات ،

١٢٣

وهو ظاهر كلام محمد بن أسلم ، حيث كره في سُنّة العقيقة مخالفة من قبله في أمر العاديين ، وهو استعمال المناخل ، مع العلم بأنّه معقول المعنى نظراً ـ والله أعلم ـ إلى أنّ الأمر باتباع الأوّلين على العموم غلب عليه جهة التعبّد ، ويظهر أيضاً من كلام من قال : أوّل ما أحدث الناس بعد رسول الله المناخل (١).

٢ ـ يحكى عن الربيع بن أبي راشد ؛ أنّه قال : لو لا أنّي أخاف من كان قبلي لكانت الجبانة مسكني إلى أن أموت ؛ إذ السكنى أمر عادي بلا إشكال ، ثمّ يقول : وعلى هذا الترتيب يكون قسم العاديات داخلاً في قسم العباديات ، فدخول الابتداع فيه ظاهر والأكثرون على خلاف هذا (٢).

٣ ـ روى الغزالي : أنّ رجلاً قال لأبي بكر بن عياش : «كيف أصبحت»؟ فما أجابه ، قال : دعونا عن هذه البدعة (٣).

٤ ـ روى الشاطبي عن أبي مصعب صاحب مالك أنه قال : «قدم علينا ابن مهدي ـ يعني المدينة ـ فصلّى ووضع رداءه بين يدي الصف ، فلما سلّم الإمام رمقه الناس بأبصارهم ورمقوا مالكاً ـ وكان قد صلّى خلف الإمام ـ فلمّا سلّم قال : من هاهنا من الحرس؟ فجاءه نفسان ، فقال : خذا صاحب هذا الثوب فاحبساه.

فحبس ، فقيل له : إنه ابن مهدي ، فوجّه إليه وقال : أما خفت الله واتّقيته أن وضعت ثوبك بين يديك في الصف وشغلت المصلّين بالنظر إليه ، وأحدثت في مسجدنا شيئاً ما كنّا نعرفه ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من أحدث في مسجدنا حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين»؟ فبكى ابن مهدي ، وآلى على نفسه أن لا يفعل ذلك أبداً في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا في غيره»(٤).

__________________

(١) و (٢) الاعتصام ٢ : ٧٩.

(٣) إحياء العلوم ٢ : ٢٥١ كتاب العزلة.

(٤) الاعتصام ٢ : ٦٨.

١٢٤

٥ ـ حكى ابن وضاح قال : ثوَّب المؤذّن بالمدينة في زمان مالك. فأرسل إليه مالك فجاءه ، فقال له مالك : ما هذا الذي تفعل؟ فقال : أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر فيقوموا. فقال له مالك : لا تفعل ، لا تحدث في بلدنا شيئاً لم يكن فيه ، قد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بهذا البلد عشر سنين وأبو بكر وعمر وعثمان فلم يفعلوا هذا ، فلا تحدث في بلدنا ما لم يكن فيه ، فكفّ المؤذّن عن ذلك وأقام زماناً ، ثمّ إنّه تنحنح في المنارة عند طلوع الفجر ، فأرسل إليه مالك ، فقال له : ما الذي تفعل؟ قال : أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر ، فقال له : ألم أنهك أن لا تحدث عندنا ما لم يكن؟

فقال : إنّما نهيتني عن التثويب. فقال له : لا تفعل. فكفّ زماناً. ثمّ جعل يضرب الأبواب ، فأرسل إليه مالك.

فقال : ما هذا الذي تفعل؟ فقال : أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر ، فقال له مالك : لا تفعل ، لا تحدث في بلدنا ما لم يكن فيه (١).

ومراده من التثويب هو ما يقوله المؤذن بين الأذان والإقامة «قد قامت الصلاة» أو «حيّ على الصلاة» أو «حيّ على الفلاح» أو قوله «الصلاة يرحمكم الله».

والعجب أنّ الشاطبي مع إمامته في الفقه ربّما يتأثّر أحياناً بهذه الكلمات فيقول : فتأمّل كيف منع مالك من إحداث أمر يُخف شأنه عند الناظر فيه ببادي الرأي ، وجعلَه أمراً محدثاً ، وقد قال في التثويب أنّه ضلال وأنّه بيّن ؛ لأنّ كلّ محدثة بدعة ، وكلّ بدعة ضلالة ، ولم يسامح المؤذّن في التنحنح ولا في ضرب الأبواب ؛ لأنّ ذلك جدير بأنّ يتّخذ سنّة ، كما منع من وضع رداء عبد الرحمن بن مهدي خوفاً من أن يكون حدثاً أحدثه.

__________________

(١) الاعتصام ٢ : ٦٩.

١٢٥

٦ ـ يقول الشاطبي : وقد أحدث في المغرب المسمّى بالمهدي تثويباً عند طلوع الفجر وهو قولهم «أصبح ولله الحمد» إشعاراً بأنّ الفجر قد طلع ، لإلزام الطاعة ، وحضور الجماعة ، وللغد ولكلّ ما يؤمرون به فيخصّه هؤلاء المتأخّرون تثويباً بالصلاة كالأذان ، ونقل أيضاً إلى أهل المغرب فصار ذلك كلّه سنّة في المساجد إلى الآن. فإنّا لله وإنّا إليه راجعون(١).

هذه نماذج ممّا ذكره الشاطبي وغيره فتخيّلوها بدعة في الدين ، وأين هذه من البدعة في الدين؟ افترى هل يقوم أحد بهذه الأعمال الماضية باسم الدين ، أو يقوم باسم الأُمور العادية لتسهيل الأُمور؟ ولو كان الجاهل يتلقّاها أمراً دينياً فوباله على جهله لا على الفاعل. وقد اتّفقنا مع الشاطبي في تحديد البدعة ، وقد جعلها هو خاصة بالأُمور الشرعية ، ومع ذلك نسي هنا ما ذكره في مقام التحديد.

نحن نفترض أنّ هذه الأعمال تتّخذ سنّة حسب مرور الأيّام ، ولكنّها تكون سنّة عادية ، لا دينية ، ولا يمنع عنها إذا كانت مصلحة ولم ينطبق عليها عنوان محرّم. ولو تخيّله الجاهل سنناً دينيّة ، فعلى العالم إرشاده ، لا إعمال الضغط على المجتمع حتى يتنفّر عن الإسلام وأهله ويوادعهما.

والسبب الوحيد لهذه الزلّات والاشتباهات التي تشوّش سمعة الإسلام ، وتعرّفه ديناً متزمّتاً لا يقبل المرونة إنما هو جعل سيرة السلف وجوداً وعدماً معياراً للحقّ والباطل مكان الكتاب والسنّة في ذلك ، فأين هذه الغلظة من المرونة الملموسة من الكتاب والسنّة ، يقول سبحانه :

(وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) (٢).

__________________

(١) الاعتصام ٢ : ٧٠.

(٢) الحج : ٧٨.

١٢٦

(ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) (١).

(يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (٢).

(رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) (٣).

فهذه الآيات تصرّح بأنّ الله تعالى رفع عن أُمّة محمد الإصر ، ولم يفرض عليهم حكماً حرجاً صعباً كما كان في الأُمم الماضية.

وقد ورد في حديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «ممّا أعطى الله أُمّتي وفضّلهم على سائر الأُمم ، أعطاهم ثلاث خصال لم يعطها إلّا لنبيّ ، وذلك أنّ الله تبارك وتعالى كان إذا بعث نبياً قال له : اجتهد في دينك ولا حرج عليك ، وإنّ الله تبارك وتعالى أعطى ذلك لأُمّتي حيث يقول : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٤).

وظاهر هذا الحديث أنّ رفع الحرج الذي منّ الله به على هذه الأُمّة المرحومة كان في الأُمم الماضية خاصاً بالأنبياء ، وأنّ الله أعطى هذه الأُمّة ما لم يعط إلّا الأنبياء الماضين صلوات الله عليهم أجمعين.

وسئل عليّ عليه‌السلام : أيتوضّأ من فضل وضوء جماعة المسلمين (أحبّ إليك) أو يُتوضّأ من ركوٍ أبيض مخمر؟ فقال : «لا ، بل من فضل وضوء جماعة المسلمين ؛ فإنّ أحبّ دينكم إلى الله الحنيفية السمحة السهلة» (٥).

واشتهر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله : «بُعثتُ بالحنيفيّة السمحة السهلة» (٦).

إنّ الإسلام دين عالمي لا إقليميّ ، ودين خاتم ليس بعده دين. وقد انتشر

__________________

(١) المائدة : ٦.

(٢) البقرة : ١٨٥.

(٣) البقرة : ٢٨٦.

(٤) البرهان ٣ : ١٠٥.

(٥) الوسائل ١ : باب ٨ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ، ح ٣.

(٦) الكافي ١ : ١٦٤.

١٢٧

الدين في المجتمعات البشرية بصورة سريعة وكانت لذلك أسباب وعلل ؛ منها : يسر التكاليف وسهولة الشريعة ؛ فلو كان الإسلام خاضعاً لهذا النوع من التزمّت ولما يتغنّاه ابن الحاج (١) من سمادير الأهازيج في كتابه المدخل ، لقرئ السلام على الإسلام من أوّل يومه ، فهذا الرجل أخذ يحدث ألواناً من شتى الأباطيل ويفتريها ويسمّيها بدعة مع أنّها لا تمتّ لها بصلة ، بل تدور بين كونها إمّا أُموراً عادية خارجة عن موضوع البدعة بتاتاً ، وإمّا أُموراً شرعية لها دليلها العام وإن لم يكن لها دليل خاص ، وسيوافيك توضيح القسم الأخير في الفصل القادم.

يقول ابن الحاجّ :

١ ـ المراوح في المساجد من البدع وقد منعها علماؤنا رحمة الله عليهم ؛ إذ أنّ اتّخاذها في المساجد بدعة (٢).

٢ ـ إنّ فرش البسط والسجادات قبل مجيء أصحابها من البدع المحدثة وينبغي لإمام المسجد أن ينهى الناس عمّا أحدثوه من إرسال البسط والسجادات وغيرها قبل أن يأتي أصحابها(٣).

٣ ـ إلى أن جاء ابن الحاج يحدّد ثمن اللباس الذي يجوز لبسه ويقول : أثمان أثوابهم القمص من الخمس إلى العشر وما بينهما من الأثمان ، وكان جمهور العلماء وخيار التابعين قيمة ثيابهم ما بين العشرين والثلاثين ، وكان بعض العلماء يكره أن يكون على الرجل من الثياب ما يجاوز قيمته أربعين درهماً وبعضهم إلى المائة ويعدّه إسرافاً فيما جاوزها ، وعلى ذلك فهو من البدع الحادثة بعدهم (٤).

__________________

(١) المدخل : أبو عبد الله العبدريّ المالكي المتوفى سنة ٧٣٧ ومع ذلك له كلمة قيّمة في زيارة القبور ، لاحظ ١ : ٢٥٤.

(٢) و (٣) المدخل ٢ : ٢١٢ ، ٢٢٤.

(٤) المدخل ٢ : ٢٣٨.

١٢٨

٤ ـ لا بدّ من ترك فرش السجاد على المنبر لأنّها ليست موضعاً للصلاة (١).

هذه نماذج من أفكار الرجل حول البدعة ، افترى أنّ الإسلام الذي يعرفه هذا الرجل المتزمّت ممّا يصلح نشره في العالم ، ويصلح لدعوة المثقّفين والمفكّرين إليه ، وهل هذا هو الإسلام الذي يصفه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالحنيفية السمحة السهلة؟!

الأصل في العادات الإباحة

كان على هؤلاء الذين يتحدّثون باسم الإسلام أن يدرسوا الكتاب والسنّة ويقفوا على أنّ الأصل في العادات الإباحة ما لم يدلّ دليل على خلافها ، فإنّ كلّ ما ذكره من الأُمور عادية حتّى سكب ماء الورد على قبر الميت احتراماً له ، من هذه الأُمور التي يتصوّرها ابن الحاج من البدعة والأصل فيها الإباحة لا الحظر ، فانّ الحكم بالحظر بدعة ، صدر من القائل (٢).

يقول سبحانه : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (٣) ويقول : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً) (٤) ومعنى الآيتين أنّه ليس من شأن الله أن يعذّب الناس أو يهلكهم قبل أن يبعث رسولاً ، وليست لبعث الرسول خصوصية وموضوعية. ولو أُنيط جواز العذاب ببعثهم فإنّما هو لأجل كونهم وسائط للبيان والإبلاغ ، والملاك هو عدم جواز التعذيب بلا بيان وإبلاغ ، فتكون النتيجة أنّه لا يحكم على حرمة شيء قبل بيان حكمه ووصوله إلى يد المكلّف. وهذه الأُمور التي أضفى ابن الحاج عليها اسم البدعة ، كلّها أُمور عادية ما ورد النهي عنها ، مثلاً :

__________________

(١) المدخل ٢ : ٢٦٤.

(٢) انظر الاعتصام ٢ : ٧٩ ـ ٨٢.

(٣) الإسراء : ١٥.

(٤) القصص : ٥٩.

١٢٩

إذا شككنا أنّ لعبة كرة القدم أو الاستماع إلى الإذاعة هل هما جائزان أو لا؟ فالأصل بعد التتبع وعدم العثور على الدليل المحرّم ، هو الحلّية.

فبذلك علم أنّ جميع العادات من قول أو فعل فهو محكوم بالإباحة ما لم نجد نصّاً على تحريمه في الكتاب والسنّة ، سواء أكان حادثاً أم غير حادث ، سواء أصارت سنّة أم لا ، ما لم ينطبق عليه عنوان خاص أو أحد العناوين الكلية المحرّمة ك «الإسراف» و «الإعانة على الإثم» و «تقوية شوكة الكفّار» و «الإضرار بالمسلمين» و «الإضرار بالنفس والنفيس» ، تعدّ أمراً مباحاً.

وعلى أساس ذلك فانّ جميع المصنوعات الحديثة التي هي من نتائج التقدّم الحضاري التكنولوجي ، مثل الهاتف والتلغراف والتلفزيون والسيّارة والطائرة وما شابهها ، واستخداماتها المتعارفة ؛ محكومة بالحلّية والإباحة لعدم وجود نصّ خاصّ على تحريمها في الكتاب والسنّة ، ولعدم انطباق أحد العناوين العامة المحرّمة عليها.

وقد كان معظم المشايخ المتزمّتين يحرّمون كلّ ذلك في بدء حركتهم ودعوتهم أيام «عبد العزيز» ولكنّهم عند ما أُزيحوا عن منصّة الحكم ، وحلّ الآخرون محلّهم أباحوه وصاروا يتحدّثون في الإذاعة والتلفزيون ، ويستخدمون كلّ معطيات الحضارة الحديثة ، ويحلّلون كلّ أشيائها واستخداماتها.

فإذا كان قول الرجل «كيف أصبحت» وإدخال المراوح إلى المساجد ، وفرش البسط في المساجد وعلى المنابر ولبس ما زادت قيمته على ما حدّده ، وسكب ماء الورد على القبر من البدع ، فعلى الإسلام السلام.

ثمّ إنّ بعض ما عدّه ابن الحاج من الأُمور الدينية من البدع يتصوّر أنّه لم يكن بين السلف ؛ مردود بوجود دليل عليه في الشرع وهذا ما سندرسه في المبحث القادم.

١٣٠

٣ ـ تقسيم البدعة إلى حقيقيّة وإضافيّة

هذا التقسيم ذكره الشاطبي في كتابه ، وعرّف البدعة الحقيقية : بأنّها ما لم يدلّ عليها دليل شرعي لا من كتاب ولا سنّة ولا إجماع ولا استدلال معتبر عند أهل العلم ، لا في الجملة ولا في التفصيل. وإن ادّعى مبتدعها ومن تابعه أنّها داخلة فيما استنبط من الأدلّة ؛ لأنّ ما استند إليه شُبَه واهية لا قيمة لها.

أمّا البدعة الإضافية فقد عرّفها بأنّها ما لها شائبتان :

إحداهما : لها من الأدلّة متعلّق فلا تكون من تلك الجهة بدعة.

والأُخرى : ليس لها متعلّق إلّا مثلَ ما للبدعة الحقيقية ، أي أنّها بالنسبة لإحدى الجهتين سنّة لاستنادها إلى دليل ، وبالنسبة للجهة الأُخرى بدعة لأنّها مستندة إلى شبهة ، لا إلى دليل ، أو لأنها غير مستندة إلى شيء.

وسمّيت إضافية لأنّها لم تتخلص لأحد الطرفين : (المخالفة الصريحة) أو (الموافقة الصريحة) (١).

أقول : قد تقدّم البحث عن البدعة الحقيقية فلا حاجة إلى إيضاحها من جديد ؛ فانّ تحريم الحلال أو تحليل الحرام استناداً إلى شبه واهية أو بلا شبهة بدعة حقيقية ، وقد مرّت الأمثلة فيما سبق ، والمهم إيضاح المقصود من البدعة الإضافية التي لها شائبتان ، التي من جهة تشبه السنّة ومن جهة تشبه البدعة ، وتتضح بالأمثلة التالية التي ذكرها الشاطبي نفسه:

١ ـ تخصيص يوم أو أيام ، غير ما نهى الشارع عن صومه أو ندب إلى صومه ، بالصوم والمداومة عليه.

__________________

(١) الاعتصام ١ : ٢٨٦ ـ ٢٨٧.

١٣١

٢ ـ تخصيص الأيّام الفاضلة بأنواع من العبادات لم تشرع لها خصوصاً ، كتخصيص اليوم الفلاني بكذا وكذا من الركعات ، أو بصدقة كذا وكذا ، أو الليلة الفلانية بكذا وكذا من الركعات ، أو قراءة القرآن أو الذكر ؛ فإنّ ذلك التخصيص والعمل به إذا لم يكن بحكم الوفاق ، أو بقصد يقصد مثله أهل العقل والفراغ والنشاط ، كان تشريعاً زائداً.

٣ ـ ومن ذلك تحرّي ختم القرآن في بعض ليالي رمضان أو قراءة القرآن أو الدعاء بهيئة الاجتماع في عشية يوم عرفة في المسجد تشبهاً بأهل عرفة ونحو ذلك.

٤ ـ ومن ذلك الأذان والإقامة في صلاة العيدين.

والسبب في كون هذه الأُمور بدعاً وجوه ذكرها الشاطبي :

أوّلاً : أنّ فيها تخصيصاً بغير مخصص من الشرع ، وقد أصبحت بهذا التخصيص غير ما كانت عليه بدونه ، فكما أنّ الصلاة المفروضة لا تصحّ قبل الوقت مع كونها هي هي ؛ لوقوعها في غير وقتها المخصص لها ، فكذلك ما تقدم من الأمثلة بما انضمّ إليها من الأوصاف غير الواردة تصير غير مشروعة.

ثانياً : أنّ مثل هذه الأُمور عمل اشتبه أمره ، أَهو بدعة فينهى عنه أَم غير بدعة فيعمل به؟ ومثل هذا جاء الأمر بالتوقّي فيه ، والاحتراز منه ، كما يجب التوقف عن تناول اللحم المشتبه فيه.

ثالثاً : مخالفة السنّة ، حيث ترك مثل هذا العمل مع ظهور ما يقتضي فعله في عهد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه ، وعلى فرض أنّه وقع في بعض الأحيان فالأمر الأشهر والأكثر عدم فعله ، كما في سجود الشكر ، حيث لم يداوم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والصحابة عليه وإن ورد.

رابعاً : أنّ العمل بمثل هذه الأُمور قد يؤدّي إلى اعتقاد ما ليس بسنّة سنّة ،

١٣٢

وكذلك فالمداومة على فعل لم يداوم عليه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قد تؤدّي إلى اعتقاد النافلة سنّة ، وهذا فساد عظيم ؛ لأنّ اعتقاد ما ليس بسنّة سنّة ، والعمل به على حدّ العمل بالسنّة نحو من تبديل الشريعة ، وعلى ذلك كان قطع عمر للشجرة التي يتبرّك بها الصحابة ، ونهيه الصحابي عن الإحرام من بلده ، ونحو ذلك ، ونهيه عن إتيان المساجد التي صلّى فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. ولذلك كان مالك بن أنس وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ما عدا قباء وحده ، وأيضاً كان مالك يكره المجيء إلى بيت المقدس خيفة أن يتّخذ ذلك سنّة ، وكان يكره مجيء قبور الشهداء ، ويكره مجيء قباء خوفاً من ذلك (١).

يلاحظ على هذا التقسيم : انّه لا طائل فيه ، ويعلم ذلك ببيان أمرين :

١ ـ شمول الدليل لجميع الحالات والكيفيات

إنّ مورد النقاش في ما إذا كان لدليل العمل العبادي إطلاق يعمّ جميع الصور والكيفيات ، بأن كانت جميع الحالات والصور المتصوّرة له أمراً مسوّغاً يشمله الدليل بإطلاقه أو عمومه وسعة دلالته ، مثلاً إذا دلّ الدليل على استحباب قراءة القرآن مطلقاً من غير تقييد بحالة خاصة فيعمّ جميع الحالات سواء أكانت بهيئة الانفراد أم بهيئة الاجتماع.

أو دلّ على استحباب قراءة الدعاء مطلقاً من يقين خاصّ فعمّ جميع الكيفيات.

وبعبارة أُخرى : دلّ الدليل بإطلاقه بتسويغ جميع الأقسام من غير تخصيص بتلاوة القرآن بصورة الانفراد أو بهيئة الاجتماع ومثله دليل الدعاء.

ومثل ذلك إقامة الصلاة في المساجد ؛ فالدليل يشمل جميع المساجد سواء

__________________

(١) الاعتصام ج ١ ، الباب الخامس.

١٣٣

أصلّى فيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو لم يصلّ ، وسواء أُقيمت الصلاة فيها يوماً أو أيّاماً أو طول السنة أو لا ، وهكذا سائر الأمثلة ، فلو نفترض عدم وجود إطلاق للدليل فهو خارج عن حريم البحث.

٢ ـ التداوم على هيئة أو فرد لا يرجع إلى تخصيص التشريع

إنّ اختيار كيفية خاصّة ، كالدعاء بهيئة الاجتماع أو تخصيص يوم في الأُسبوع للصوم ، لا يعني تخصيص التشريع بالفرد المختار وإنّ السائغ هو لا غير ، بل العامل يعتقد أن جميع الصور والكيفيات ، سائغة ، وفي الوقت نفسه يختار كيفية أو فرداً خاصاً لأجل أنّه أوفق بنشاطه وبالعوامل المحيطة به.

وبعبارة أُخرى : لا يلتزم بكيفيّة خاصّة إلّا لأجل أن يتلاءم مع نشاطه ويساعده على تحقيق غرضه ، مع الاعتراف بأنّ جميع الكيفيات من حيث الفضيلة سواء.

إذا تعرّفت على الأمرين تقف على أنّ الأمثلة التي قدّمها الشاطبي مثالاً للبدعة الإضافية هي إمّا بدعة حقيقية أو سنّة حقيقية ، فلو افترضنا عدم إطلاق الدليل للكيفية التي اختارها العامل أو كان له إطلاق ، ولكنّه يخصص التشريع بمختاره ، وينفي غيره فيكون عمله هذا مصداقاً للبدعة الحقيقية.

وأمّا إذا لم يكن هناك قصور في سعة الدليل ، أو لم يكن في نيته أي تخصيص وتدخّل في أمر الشريعة ، وإنّما كان الاختيار لملاكات اتفاقية ، فلا يعدّ العمل بدعة ؛ إذ لم يكن تدخلاً في أمر الشارع. وبذلك يظهر حكم الأمثلة ، كتخصيص يوم أو أيام ـ غير ما نهي عن صيامه ـ بالصوم ، أو كتخصيص يوم بنوع من العبادة ، كقضاء الصلوات الواجبة التي فاتت منه ، أو ختم القرآن بهيئة الاجتماع مطلقاً ، أو في يوم عرفة ؛ فانّ سعة رقعة الدليل كافية في كونها سنّة إذا لم يكن من قصده نفي

١٣٤

سائر الكيفيات بل كان التخصيص تابعاً لعوامل داخلة في حياة الإنسان.

وأمّا الأسباب التي اتّخذها ذريعة للحكم بالبدعة فإليك دراستها :

أمّا السبب الأوّل : أعني قوله : «إنّ فيها تخصيصاً بغير مخصص من الشرع» فغير مضر ؛ إذ التخصيص إنّما يكون بدعة إذا نسبه إلى الشرع ، دون ما كان نتيجة ظروف فرضت عليه اختيار هذا الفرد مع الاعتراف بأنّه مثل سائر الأفراد.

وأمّا السبب الثاني : أعني قوله : «إنّ مثل هذه الأُمور عمل اشتبه أمره ...» فهو مثل الأوّل ؛ فانّه مشتبه لمن لم يدرس البدعة حقّها دون من درسها.

وأمّا السبب الثالث : أعني قوله : «مخالفة السنّة حيث ترك مثل هذا العمل ...» فذلك لأنّ تركهم لا يكون حجّة على كون العمل بدعة بعد افتراض سعة رقعة الدليل ، وتركهم فرداً خاصاً لا يدلّ على عدم مشروعيته ؛ إذ لم يكونوا يعانون من الإتيان بسائر الأفراد فلأجله تركوا ذاك الفرد ، بخلاف الإنسان الذي فرضت الظروف عليه مداومة هذا الفرد أو كان نشاطه محفوظاً فيه دون سائر الأفراد.

ولو صحّ ما ذكره يجب ترك المسنونات أحياناً ، لئلّا يتخيّل الجاهل أنّها فريضة ، فعلى من يرى القبض في الصلاة سنّة ، تركه في حين بعد حين ، دفعاً لعادية الجهل.

وعلى من يقيم صلاة التراويح جماعة تركها والإتيان بها فرادى ؛ لئلّا يعتقد الجاهل أنّ التشريع مختص بالجماعة. إلى غير ذلك من المضاعفات التي لا يلتزم بها الشاطبي وغيره.

فجهل الجاهل ، لا يكون سبباً لترك المسنون ؛ لأنّه لو قصر في التعليم فما ذنب من يريد الإتيان به وإنّما علينا دفع عاديته. وبذلك يظهر حسن إتيان المساجد التي صلّى النبي فيها ؛ وذلك لعموم الدليل الشامل لتمام المساجد التي صلّى فيها أم لم يصلّ ، وإنّما يختار ذلك لأجل التبرّك الذي تضافر النص بجوازه ، وليس تخصيصها

١٣٥

بالعبادة ، بمعنى ورود النصّ بها بالخصوص ، وانّما يختارها لغرض آخر وهو التبرّك.

وأمّا كراهة مالك المجيء إلى بيت المقدس ، فهو على خلاف السنّة ؛ حيث رخّص النبي السفر إليه ، كما سيوافيك عند البحث عن شدّ الرحال إلى زيارة قبر النبي.

ومنه تظهر حال كراهة زيارة قبور الشهداء ، أو المجيء إلى مسجد قباء ؛ فإنّه إعراض عن السنّة التي رسمها النبي ، حيث أمر بزيارة القبور ، وكان يجيء إلى مسجد قباء كلّ أُسبوع مرّة ويصلّي فيه.

وما أجمل قول الإمام الصادق : «إنّ هذا الدين متين ؛ فأوغلوا فيه برفق» (١).

قال التفتازاني : «ومن الجهلة من يجعل كلّ أمر لم يكن في زمن الصحابة بدعة مذمومة ، وإن لم يقم دليل على قبحه تمسّكاً بقوله عليه‌السلام : «إيّاكم ومحدثات الأُمور» ولا يعلمون أنّ المراد بذلك هو أن يجعل في الدين ما ليس منه. عصمنا الله من اتّباع الهوى ، وثبتنا على اقتفاء الهدى بالنبي وآله» (٢).

وأمّا السبب الرابع : أعني قوله : «انتهاء هذا العمل إلى اعتقاد ما ليس بسنّة سنّة» فهو أيضاً مثله ؛ فإنّه يجب على العالم إرشاد الجاهل لا ترك العمل الذي دلّ الشرع على جوازه بالإطلاق والعموم.

__________________

(١) الكافي ٢ : ٨٦ / ١.

(٢) شرح المقاصد ٥ : ٢٣٢.

١٣٦

المبحث السابع

لا بدعة فيما فيه الدليل نصّاً أو إطلاقاً

عرفت أنّ حقيقة البدعة هي الافتراء على الله والفرية عليه ، بإدخال شيء في دينه أو نقصه منه ، ونسبته إلى الله ورسوله. فإذا كان هذا هو الملاك فكلّ مورد يدلّ عليه الدليل يكون خارجاً عن البدعة موضوعاً.

والدليل على قسمين :

الأوّل : أن يكون هناك نصّ في القرآن يشخص المورد وحدوده وتفاصيله وجزئياته ، كالاحتفال بعيدي الفطر والأضحى ، والاجتماع في عرفة ومنى ، فعندئذٍ لا يكون هذا الاحتفال والاجتماع بدعة ، بل سنّة قد أمر بها الشارع بالخصوص ، فيكون إتيان العمل امتثالاً ، لا ابتداعاً.

الثاني : أن يكون هناك دليل عام في المصدرين الرئيسيين يشمل بعمومه المصداق الحادث ، وإن كان الحادث يتّحد مع الموجود في عهد الرسالة حقيقة وماهية ، ويختلف معه شكلاً ، ولكن الدليل العام يعمّ المصداقين ويشمل الموردين ويكون حجّة فيهما. وإليك بعض الأمثلة :

١ ـ قال سبحانه : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ

١٣٧

تُرْحَمُونَ) (١) والآية تأمر باستماع القرآن عند قراءته والإنصات له ، والمصداق الموجود لها في ظرف الرسالة هو استماع القرآن مباشرة من فم القارئ الذي يقرأ القرآن في المسجد أو في البيت ، ولكن الحضارة الصناعية أحدثت مصداقاً آخر لم يكن موجوداً في ظرف الرسالة ، كقراءة القرآن من خلال المذياع والإذاعة المرئية ، فالآية حجّة في كلا الموردين ، وليس لنا ترك الاستماع والإنصات في القسم الثاني ، بحجّة أنّه لم يكن في ظرف الرسالة ؛ وذلك لأنّ العربي الصميم عند ما يتدبّر في مفهوم الآية لا يرى فرقاً بين القراءتين ، فلو قلنا حينئذٍ بوجوب الاستماع أو ندبه فليس هذا قولاً بغير دليل ، أو بدعة في الدين.

٢ ـ قال النبيّ الأكرم : «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم» (٢) ومن الواضح أنّ العلوم حتى ما يمت إلى الشرع ، كانت في ظرف صدور الحديث محدودة ، ولكن المحدودية لا تمنع عن شمول الحديث للعلوم التي ابتكرها المسلمون لفهم الكتاب والسنّة ، كعلم اللغة والصرف والنحو والبلاغة ، بل والفقه المدوَّن عبر العصور ؛ وذلك لأنّ الحديث بصدد تأسيس قاعدة كليّة ، فليس لمسلم أن يصف هذه العلوم بالبدعة بحجّة أنّها لم تكن في عصر الرسالة ؛ لأنّ شأن الشارع الصادق إلقاء الأُصول وبيان القواعد والضوابط لا بيان المصاديق ، وبالأخص ما لم يكن في عصره.

٣ ـ لا شك أنّ من واجب المسلمين حفظ القرآن والسنّة النبويّة من الضياع ، لأنّ الإسلام ليس ديناً إقليميّاً بل ديناً عالمياً وليس ديناً موقتاً بل خاتماً ، فطبيعة ذلك الدين تقتضي لزوم حفظ نصوصه وسنّته حتى ترجع إليها الأجيال اللاحقة.

__________________

(١) الأعراف : ٢٠٤.

(٢) مجمع الزوائد ١ : ١٩.

١٣٨

وعند ما التحق النبيّ بالرفيق الأعلى ورأى المسلمون أنّ من واجبهم حفظ القرآن من الضياع خصوصاً بعد ما لحقت بالمسلمين في الحروب خسارة كبيرة باستشهاد مجموعة كبيرة من القرّاء ، فصار الحكم الكلّي (لزوم حفظ القرآن) مبدأ لإجراء عمليات مختلفة عبر الزمان ، وكلّها أُمور دينية مستمدّة من الحكم الكلي ، أي لزوم حفظ القرآن والسنّة ؛ فعمدوا إلى كتابة القرآن وتنقيطه وإعراب كلمه وجمله ، وعدّ آياته وتمييزها بالنقاط الحمراء ، وأخيراً طباعته ونشره ، وتشجيع حفّاظه وقرّائه وتكريمهم في احتفالات خاصّة ، إلى غير ذلك من الأُمور التي تعتبر كلّها دعماً لحفظ القرآن وتثبيته ، وإن لم يفعل بعضها رسول الله ولا أصحابه ولا التابعون ؛ إذ يكفينا وجود أصل له في الأدلّة.

٤ ـ إنّ من واجب المسلمين الاستعداد الكامل أمام هجمات الكفّار ، وأخذ الحيطة والحذر في كلّ ما يحتمل خطره عليهم ، يقول سبحانه : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) (١) ففي الآية نوعان من الدليل : خاصان في مورد رباط الخيل ، فلو جهزت الحكومة الإسلامية جندها بالخيل فقد امتثلت الأمر الإلهي ، كما إذا تسلّحت بالغوّاصات والأساطيل البحرية والطائرات المقاتلة إلى غير ذلك من وسائل الدفاع ؛ فقد جسّدت الآية وطبّقتها على مصاديقها التي لم تكن موجودة في عصر النبي ، وإنّما حدثت بعده. فهذه الموارد كلّها أُمور شرعية غير عادية ، بشهادة أنّ الإنسان يقوم بها بنيّة امتثال ما ورد في الشرع ، وليس للمتزمّت أن يرفضها بحجّة أنّه ليس هنا دليل خاص عليها ، وذلك لأنّ اللازم في نفي البدعة لزوم الدليل عاماً أو خاصّاً ، لا وجود دليل خاص ؛ فالدليل العام بعمومه حجة في جميع الأجيال على جميع الناس في كلّ

__________________

(١) الأنفال : ٦٠.

١٣٩

الموارد التي تجسّد الضابطة الكليّة.

٥ ـ قال رسول الله : «إنّ أفضلكم مَن تعلّم القرآن وعلّمه» (١).

وغير خفيّ على القارئ النابه أنّ كيفية التعليم في عصر الرسالة تختلف كثيراً عن عصرنا ، فكلا العملين يعدّان تعليماً وتجسيداً لكلام الرسول يقصد به رضا الله سبحانه وتقرّبه إليه ، وليس للمتزمّت رفض الأساليب الحادثة لتعلّم الكتاب والسنّة.

والحقّ أنّ هذا الموقف موضع زلّة لأكثر من يصف عمل المسلمين في بعض الموارد بالبدعة ، بحجة عدم وجود دليل خاص عليه ، فقد ضلّوا ولم يميّزوا بين الدليل الخاص والدليل العام. وخصّوا الدليل بالأوّل ، مع أنّ الكتاب والسنّة مليئان بالضوابط والقوانين العامة وإليك بعض الأمثلة :

أ ـ قال سبحانه : (لَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) (٢) فالآية تنفي أي سبيل للكافر على المؤمن ، ومن المعلوم أنّ السبل تختلف حسب تطور الحضارات ، وكثرة المواصلات ، وتشعّب العلاقات بين الناس. ففي عصر الرسالة كان السبيل السائد هو تسلّط الفرد الكافر على المسلم ، ككون العبد المسلم رقّاً للكافر ، أو تمليك المصحف منه وما قاربهما ، وأمّا في عصرنا هذا ؛ فحدّث عن السبيل ولا حرج ، فأين هو من تدخّل الكفّار في مصير المسلمين حكومة وشعباً حتى صار رؤساء الحكومات الإسلامية أسرى بيد الاستكبار العالمي.

ب ـ يقول سبحانه : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ)(٣) فإنّ التعاون الموجود في العصور السابقة كان محدوداً في إطار ضيّق ،

__________________

(١) البخاري ، الصحيح ٢ : ١٥٨ ؛ لاحظ سنن الترمذي رقم ٣٠٧١ وغيرهما.

(٢) النساء : ١٤١.

(٣) المائدة : ٢.

١٤٠