في ظلال التّوحيد

الشيخ جعفر السبحاني

في ظلال التّوحيد

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: نشر مشعر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-6293-82-4

الصفحات: ٧١٢

والأخذ والعطاء تحت سلطان ذلك المنهج الذي تمّ الاتّفاق عليه ، والاحتكام إليه ، ولم يكن يخطر في بال السابقين منهم ولا اللاحقين بهم أنّ حاجزاً سيختلق ليرتفع ما بينهما بصُنع طائفة من المسلمين فيما بعد ، وليقسم سلسلة الأجيال الإسلامية الى فريقين ، يصبغ كلاً منهما بلون مستقلّ من الأفكار والتصوّرات والاتّجاهات ، بل كانت كَلِمتا السلف والخلف في تصوّراتهم لا تعني ـ من وراء الانضباط بالمنهج الذي ألمحنا إليه ـ أكثر من ترتيب زماني كالذي تدلّ عليه كلمتا : (قبل وبعد) (١).

إنّ ما ذكره هذا المحقق هو الحق القراح الذي لا يرتاب فيه من له إلمام بالكتاب والسنّة وسيرة المسلمين وتاريخهم ، وأين هذا ممّا ذكره الدكتور سيد الجميلي حيث جعل للسلفية والسلف حقيقة شرعية وقال : كلمة السلفية والسلف مصطلحان شرعيان (٢) وليس هذا الاشتباه منه ببعيد لضآلة علمه بالتاريخ وإن كنت في شك فانظر كيف فسّر الأشاعرة بقوله : هم أتباع أبي موسى الأشعري المتوفّى سنة ٤٤ ه‍ مع أنّهم من أتباع أبي الحسن الأشعري المولود عام ٢٦٠ ه‍ والمتوفّى عام ٣٢٤ ه‍ وهو من أحفاد أبي موسى الأشعري ، فهذا مبلغ علمه ويريد أن يقضي بين الفقهاء والمجتهدين والمحدّثين!!

__________________

(١) السلفية مرحلة زمنية لا مذهب إسلامي : ص ١٣ ـ ١٤.

(٢) مناظرات ابن تيمية مع فقهاء عصره : ١٠٣.

١٠١

المبحث الخامس

أسباب نشوء البدعة

البدعة عمل اختياري للمبدع ولها ـ كسائر الأفعال الاختيارية ـ أسباب وغايات يعدّ الجميع مناشئ لها ولا توجد البدعة إلّا في ظلّ أسباب وغايات ومن خلال عرض النصوص الدينية وما دخل في التاريخ من بدع ، يمكن التوصّل إلى ما نتبنّاه في هذا الفصل.

١ ـ المبالغة في التعبّد لله تعالى

هذا العنوان ذكره الشاطبي لدى تعريفه للبدعة ، حيث قال : «طريقة مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبّد لله تبارك وتعالى» (١). وهذا وإن لم يكن أمراً كليّاً صادقاً في جميع مواردها لكنّه أحد أسباب نشوء البدع ، كما يشهد له التاريخ ولعلّ من هذا المنطلق استأذن عثمان بن مظعون النبيّ في الإخصاء ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ليس منّا من خصي أو اختصى ، إنّ اختصاء أُمّتي

__________________

(١) الاعتصام ١ : ٣٧.

١٠٢

الصيام» إلى أن قال : ائذن لي في الترهب ، قال : «إنّ ترهّب أُمّتي الجلوس في المساجد لانتظار الصلاة» (١).

فانّ المبتدع ربّما يتصوّر أنّ ما اخترعه من طريقة توصله إلى رضا الله سبحانه أكثر ممّا رسمه صاحب الشريعة ، فلأجل ذلك يترك قول الشارع ويعمل طبق فكرته ، ويذيع ذلك بين الناس باسم الشرع ، ولهذا أيضاً شواهد في التاريخ نقتطف منها ما يلي :

١ ـ روى جابر بن عبد الله : أنّ رسول الله كان في سفر فرأى رجلاً عليه زحام قد ظُلِّل عليه فقال : «ما هذا؟» قالوا : صائم ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ليس من البرّ الصيام في السفر» (٢).

٢ ـ روى الكليني عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خرج من المدينة إلى مكّة في شهر رمضان ومعه الناس وفيهم المشاة ، فلمّا انتهى إلى كُراع الغميم دعا بقدح من ماء فيما بين الظهر والعصر فشرب وأفطر ثمّ أفطر الناس معه وثَمّ أُناس على صومهم فسمّاهم رسول الله العصاة وإنّما يؤخذ بآخر أمر رسول الله (٣).

فإنّ الإنسان المتزمّت يتخيّل انّه لو سافر صائماً يكون عمله أكثر قبولاً عند الله تبارك وتعالى ، ولكنّه غافل عن مناطات التشريع وملاكاتها العامة ، التي توجب الإفطار في السفر ، ليكون الدين رفقاً بالإنسان ، يجذب الناس إليه ، قال سبحانه : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٤).

٣ ـ روى مالك في الموطّأ : أنّ رسول الله رأى رجلاً قائماً في الشمس فقال : «ما

__________________

(١) الاعتصام ١ : ٣٢٥.

(٢) أحمد بن حنبل ، المسند ٣ : ٣١٩ و ٣٩٩ ، ولاحظ الفقيه ٢ : ٩٢ / ٢.

(٣) الكافي ٤ : ١٢٧ / ٥ باب كراهية الصوم في السفر.

(٤) الحجّ : ٧٨.

١٠٣

بال هذا؟» قال : نذر ألا يتكلّم ولا يستظلّ من الشمس ولا يجلس ويصوم ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «مره فليتكلّم وليستظلّ وليجلس وليتمّ صيامه» (١).

٤ ـ روى البخاري عن قيس بن أبي حازم : دخل أبو بكر على امرأة فرآها لا تتكلّم فقال: «ما لها لا تتكلّم؟» فقيل : حجّت مصمِتة ، قال لها : «تكلّمي فإنّ هذا لا يحلّ، هذا من عمل الجاهلية» فتكلّمت (٢).

٥ ـ إنّ متعة الحج ممّا نصّ عليها الكتاب العزيز فقال : (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) (٣) والمقصود من متعة الحج هو حجّ التمتع ، وهو أن ينشئ المتمتع بها إحرامه في أشهر الحج من الميقات ، فيأتي مكّة ويطوف بالبيت ثمّ يسعى بين الصفا والمروة ، ثمّ يقصّر ويحلّ من إحرامه ، فيقيم بعد ذلك محلّاً حتى ينشئ في تلك السنة نفسها إحراماً آخر للحج من مكة ويخرج إلى عرفات ، ثمّ يفيض إلى المشعر الحرام ثمّ يأتي بأفعال الحج على ما هو مبيّن في محله. هذا هو التمتع بالعمرة إلى الحجّ وهو فرض من بعد عن مكة بثمانية وأربعين ميلاً من كلّ جانب ، وإنّما أُضيف الحج بهذه الكيفية إلى التمتّع (حج التمتع) أو قيل عنه : بالتمتع بالحجّ ، لما فيه من المتعة أي اللّذة بإباحة محظورات الإحرام في المدّة المتخلّلة بين الإحرامين.

ولكن كان بين صحابة النبيّ من يستكره ذلك ، فقد روى الدارمي قال : سمعت عام حجّ معاوية يسأل سعد بن مالك : كيف تقول بالتمتع بالعمرة إلى الحجّ؟ قال : حسنة جميلة ، فقال : قد كان عمر ينهى عنها فأنت خير من عمر؟! قال : عمر خير منّي وقد فعل ذلك النبيّ هو خير من عمر (٤).

__________________

(١) الموطّأ ٢ : ٤٧٥ / ٦ كتاب الأيمان والنذور.

(٢) البخاري ، الصحيح ٥ : ٤١ ـ ٤٢ باب أيام الجاهلية.

(٣) البقرة : ١٩٦.

(٤) الدارمي ، السنن ٢ : ٣٦ كتاب المناسك.

١٠٤

وروى الترمذي قال : حدّثنا قتيبة بن سعيد عن مالك بن أنس عن ابن شهاب عن محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل ، أنّه سمع سعد بن أبي وقاص والضحاك ابن قيس عام حجّ معاوية بن أبي سفيان وهما يذكران التمتّع بالعمرة إلى الحجّ ، فقال الضحاك بن قيس : لا يصنع ذلك إلّا من جهل أمر الله تعالى. فقال سعد : بئس ما قلت يا بن أخي! فقال الضحاك : فإنّ عمر بن الخطاب قد نهى عن ذلك. فقال سعد : قد صنعها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وصنعناها معه. هذا حديث صحيح (١).

وروى ابن إسحاق عن الزهري عن سالم قال : إنّي لجالس مع ابن عمر في المسجد إذ جاءه رجل من أهل الشام فسأله عن التمتّع بالعمرة الى الحجّ ، فقال ابن عمر : حسن جميل. قال : فإنّ أباك كان ينهى عنها. فقال : ويلك! فإن كان أبي نهى عنها وقد فعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمر به ، أفبقول أبي آخذ ، أم بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟! قم عنّي (٢).

ولأجل ذلك كان هذا الصحابي يحرم بإحرام واحد للعمرة والحج ، مع أنّ النبيّ أمر الإحرام بإحرامين : الإحرام للعمرة ثمّ يتحلّل ويتمتّع بمحظورات الإحرام ثمّ يحرم للحج ، وما هذا إلّا لزعم أنّ ترك التمتع بين العملين أكثر قربة إليه تعالى ، وقد برّر فتواه بعد الاعتراف بأنّ عمرة التمتّع سنّة رسول الله بقوله : ولكنّني أخشى أن يعرسوا بهنّ تحت الاراك ثمّ يروحوا بهنّ حجّاجاً (٣).

هذه بعض النماذج التي تعرّض لها التاريخ في شتّى المناسبات ، والجامع لذلك هو المبالغة في التعبّد لله ـ حسب زعمه ـ وهي ناشئة عن قلّة استيعاب المبتدع لما يجب أن يعرفه ، فانّ الله سبحانه أعرف بمصالح العباد ومفاسدهم ، وبأسباب السعادة

__________________

(١) الترمذي ، السنن ٣ : ١٨٥ ، كتاب الحج ، ط دار الفكر ـ بيروت.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ٢ : ٣٨٨.

(٣) أحمد بن حنبل ، المسند ١ : ٤٩.

١٠٥

والشقاء ، ولا يشذّ عن علمه شيء. وكم في التاريخ الإسلامي من شواهد واضحة على هذا السبب (١).

٢ ـ اتّباع الهوى

إنّ استعراض تاريخ المتنبّئين الذين ادّعوا النبوّة عن كذب ودجل ، يثبت بأنّ الأهواء وحبّ الظهور والصدارة كان له دور كبير في نشوء هذه الفكرة وظهورها على صعيد الحياة ، والمبتدع وإن لم يكن متنبِّئاً ، إلّا أنّ عمله شعبة من شعب التنبّؤ ، وفي الروايات إشارات وتصريحات إلى ذلك. فقد خطب الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام الناس فقال : «أيّها الناس إنّما بدءُ وقوع الفتن أهواء تُتَّبع ، وأحكام تبتدع ، يخالف فيها كتاب الله ، يتولّى فيها رجال رجالاً ... (٢).

إنّ لحبّ الظهور دوراً كبيراً في الحياة الإنسانية ، فلو كانت هذه الغريزة جامحة لأدّت بالإنسان إلى ادّعاء مقامات ومناصب تختصّ بالأنبياء ، ولعلّ بعض المذاهب الظاهرة بين المسلمين في القرون الأُولى كانت ناشئة عن تلك الغريزة.

روى ابن أبي الحديد في شرح النهج أنّ عليّاً مرّ بقتلى الخوارج فقال : «بؤساً لكم لقد ضرّكم من غرّكم» ، فقيل : ومن غرّهم؟ فقال : «الشيطان المضلّ ، والنفس الأمّارة بالسّوء ، غرّهم بالأماني وفسحت لهم في المعاصي ووعدتهم الاظهار فاقتحمت بهم النار»(٣).

__________________

(١) لاحظ السيرة النبوية لابن هشام ٢ : ٣١٦ ـ ٣١٧ ، صلح الحديبية.

(٢) الكافي ١ : ٤٥ / ١ باب البدع.

(٣) شرح نهج البلاغة ١٩ : ٢٣٥.

١٠٦

٣ ـ حبّ الاستطلاع إلى ما هو دونه

إنّ حبّ الاستطلاع من نعم الله سبحانه ؛ إذ في ظلّه يقف الإنسان على مجاهيله ويكتشف معلومات تهمّه في حياته ، ولو لا ذلك الحبّ لكان الإنسان اليوم في أوليات حياته في العلم والمعرفة ، قال سبحانه : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١) ومع اشتراك الكلّ في تلك النعمة المعنوية إلّا أنّ الطاقات الكامنة لدى الإنسان تختلف من واحد إلى آخر ، فليس لكلّ إنسان قابلية التطلّع إلى كلّ شيء واستعراض جميع المجاهيل ، ولهذا ربّما أدّى ذلك العمل إلى الزلّة في الفكر والمعتقد ، ولذلك ترى عليّاً عليه‌السلام ينهى عن الغور في القدر فيقول : «طريق مظلم فلا تسلكوه ، وبحر عميق فلا تلجوه ، وسرّ الله فلا تتكلّفوه» (٢). ولكن الإمام نفسه تكلّم في مواضيع أُخر عن القضاء والقدر حينما كان يجد إنساناً قادراً على درك المفاهيم الغامضة.

إنّ القرون الثلاثة الأُول ، كانت قرون ظهور المذاهب الكلامية والفقهيّة ، وكانت الأمصار وحواضرها الكبرى ميداناً لمطارحات الفرق المختلفة ، وقد ظهرت في تلك القرون أكثر المذاهب والفرق ، مع أنّ الحقّ في طرف واحد ، فلو أنّهم توحّدوا في العقائد ؛ لما أدّى بهم الأمر إلى شقّ العصى وإيجاد الفرقة ، وبالتالي ذهاب الوحدة الإسلامية في مهبّ الريح ضحية البحوث الكلامية والفقهية وغير ذلك.

كان للخوض في الآيات المتشابهات دور كبير في ظهور البدع في الصفات الخبرية ، وفي تفسير اليد والرجل والوجه لله سبحانه الواردة في الكتاب والسنّة ،

__________________

(١) النحل : ٧٨.

(٢) نهج البلاغة : الحكمة ٢٨٧.

١٠٧

فقد كان البسطاء يخوضون في تفسيرها من دون إرجاعها إلى المحكمات التي هي أُمّ الكتاب وما هذا إلّا لقصور أفهامهم وقلّة بضاعتهم العلمية ، فكان واجبهم السكوت وسؤال الراسخين في العلم ، دون الخوض فيها.

إنّ للشيخ الرئيس أبي علي ابن سينا نصيحة لطلاب الفلسفة والحكمة ، يحثّهم على عدم إذاعة ذلك العلم بين اناس ليس لهم قابلية التفكير الواسع ، فيقول في آخر كتاب الإشارات :

«أيّها الأخ إنّي قد مخضت لك في هذه الإشارات عن زبدة الحق ، وألقمتك قفي (١) الحكم في لطائف الكلم. فصُنْه عن الجاهلين والمبتذلين ومن لم يرزق الفطنة الوقّادة والدربة والعادة وكان صغاه (٢) مع الغاغة ، أو كان من ملحدة هؤلاء الفلاسفة ومن همجهم ، فإن وجدت من تثق بنقاء سريرته واستقامة سيرته وبتوقّفه عمّا يتسرّع إليه الوسواس ، وينظر إلى الحقّ بعين الرضا والصدق فآته ما يسألك منه مدرجاً مجزأً مفرقاً تستفرس ممّا تسلفه لما تستقبله. وعاهدْه بالله وبأيمان لا مخارج لها ليجري فيما يأتيه مجراك متأسّياً بك فإن أذعتَ هذا العلم أو أضعته فالله بيني وبينك وكفى بالله وكيلاً» (٣).

٤ ـ التعصّب الممقوت

وهناك سبب آخر لا يقل تأثيره عمّا سبق من الأسباب وهو تقليد الآباء والأجداد ، وصيانة كيانهم وسننهم ، فإنّ اتّباع الأهواء القبلية والقومية وما شاكل فإنّها من أعظم سدود المعرفة وموانعها ، وهي التي منعت الأُمم عبر التاريخ من

__________________

(١) القفي : الشيء الذي يؤثر به للصنف.

(٢) صغاه : ميله.

(٣) كتاب الإشارات ٣ : ٤١٩.

١٠٨

الخضوع للأنبياء والرسل رغم البراهين الواضحة كما يقول سبحانه : (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ)(١).

ومن هذا المنطلق ، اقترح تميم بن جراشة على النبيّ ـ عند ما جاء على رأس وفد من الطائف يخبره بإسلام قومه ـ أن يكتب لهم كتاباً ، بأن يفي لهم بأُمور ، يقول : قدمتُ على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في وفد ثقيف فأسلمنا وسألناه أن يكتب لنا كتاباً فيه شروط فقال : اكتُبوا ما بدا لكم ثمّ ايتوني به ، فسألناه في كتابه أن يُحلّ لنا الربا والزنا ، فأبى عليّ رضى الله عنه : أن يكتب لنا ، فسألنا خالد بن سعيد بن العاص ، فقال له علي : تدرى ما تكتب؟ قال : أكتب ما قالوا ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أولى بأمره ، فذهبنا بالكتاب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال للقارئ : اقرأ ، فلمّا انتهى إلى الربا قال : «ضع يدي عليها في الكتاب» ، فوضع يده فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) (٢) الآية ، ثمّ محاها ، وأُلقيت علينا السكينة فما راجعناه ، فلمّا بلغ الزنا وضع يده عليها (وقال :) (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً) (٣) الآية ، ثمّ محاها وأمر بكتابنا أن ينسخ لنا (٤).

ورواه ابن هشام بصورة أُخرى قال : وقد كان ممّا سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يدع لهم الطاغية ؛ وهي اللّات ، لا يهدمها ثلاث سنين ، فأبى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك عليهم فما برحوا يسألونه سنة سنة ، ويأبى عليهم ، حتى سألوا شهراً واحداً بعد مقدمهم ، فأبى عليهم أن يدعها شيئاً مسمّى ، وإنّما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يتسلّموا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم ، ويكرهون أن يروّعوا قومهم بهدمها حتى

__________________

(١) الزخرف : ٢٣.

(٢) البقرة : ٢٧٨.

(٣) الإسراء : ٣٢.

(٤) أُسد الغابة ١ : ٢١٦ مادة تميم و ٣ : ٤٠٦.

١٠٩

يدخلهم الإسلام ، فأبى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فيهدماها ، وقد كانوا سألوه مع ترك الطاغية أن يعفيهم من الصلاة ، وأن لا يكسروا أوثانهم بأيديهم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أمّا كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منه ، وأمّا الصلاة ، فانّه لا خير في دين لا صلاة فيه. فقالوا : يا محمد ، فسنؤتيكها ، وإن كانت دناءة (١).

انظر إلى التعصّب المميت للعقل يسأل رسول الله ـ الذي بعث لكسر الأصنام وتحطيم كلّ معبود سوى الله ـ أن يدع لهم الطاغية وهي اللّات لا يهدمها ثلاث سنين ....

وكان هذا الاقتراح نابعاً عن العصبية لطرق الآباء وسلوكهم ، وكان المقترح في حضرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله.

هذه هي الأسباب العامّة ، وهناك أسباب خاصّة لظهور البدع في المجتمع الإسلامي لا تخفى على القارئ الكريم منها.

٥ ـ التسليم لغير المعصوم

إنّ من أسباب نشوء البدع التسليم لغير المعصوم ، فلا شكّ أنّه يخطأ وربّما يكذب ، فالتسليم لقوله سبب للفرية على الله سبحانه والتدخّل في دينه عقيدة وشريعة.

فإذا كان النبيّ الأكرم خاتم النبيين وكتابه خاتم الكتب وشريعته خاتمة الشرائع ؛ فلا حكم إلّا ما حكم به ، ولا سنّة إلّا ما سنّه ، والخروج عن هذا الإطار تمهيد لطريق المبتدعين. وفي ضوء ذلك لا معنى معقول لتقسيم السنّة إلى سنّة النبيّ

__________________

(١) السيرة النبوية ٢ : ٥٣٧ ـ ٥٤٣.

١١٠

وسنّة الصحابة ، وتلقّي الأخيرة حجّة شرعية وإن لم تُسند إلى المصدرين الرئيسيين. وهذه كتب الحديث والفقه تطفح بسنّة الصحابة ؛ فهناك سنن تُنسب إلى الخليفة الأوّل والثاني والثالث ، فما معنى هذه السنن إذا لم تستند إلى الكتاب والسنّة؟! ولو أُسندت فلا معنى لإضافتها إليهم. كما أنّ الإفتاء بمضمون تلك السنن بدعة في الشريعة.

وهناك كلام للدكتور عزّت علي عطية ، جعل فيه الاقتداء بأئمة أهل البيت تسليماً لغير المعصوم ثمّ قال : نتساءل عن الصلة بين هذا الإمام وبين الله جلّ جلاله ، هل هي وحي ، أم إلهام أم حلول؟ إن كانت وحياً فقد نفوه ، وإن كانت حلولاً فهو الكفر بعينه ، وإن كانت إلهاماً فما الذي يفرق بينه وبين وساوس الشيطان وخطرات النفوس (١).

إنّ الدكتور عطية لم يدرس عقائد الإمامية حقّها وإنّما اكتفى بكتاب صغير كتب في بيان العقائد لا في البرهنة عليها ، ولو أنّه رجع إلى علمائهم ومؤلّفاتهم لوقف على أدلّة عصمة الأئمة ، فإنّ أحد تلك الأدلّة هو حديث الثقلين الذي أطبق المحدّثون على نقله ، وهو أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن تضلّوا ما إن تمسّكتم بهما». فإن كانت العترة عدلاً للكتاب وقريناً له فتوصف بوصفه ، فالكتاب معصوم عن الخطأ (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) (٢) فتكون العترة مثله.

وأمّا مصدر علومهم ؛ فغالب علومهم مأخوذ من الكتاب والسنّة إذ أخذ عليّعليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأخذ الحسن عليه‌السلام عن أبيه ، وهكذا كل إمام يأخذ عن أبيه ، علم يتناقل ضمن هذه السلسلة الطاهرة المعروفة ، ولم يأخذ أحد منهم عليهم‌السلام عن

__________________

(١) البدعة : ٢٤٥.

(٢) فصلت : ٤٢.

١١١

صحابي ولا تابعي أبداً ، بل أخذ الجميع عنهم ، ومنهم انتقلت العلوم إلى الآخرين كما تلقّاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من لدن حكيم خبير.

قال الإمام الباقر عليه‌السلام : «لو كنّا نحدّث الناس برأينا وهوانا لهلكنا ، ولكن نحدّثهم بأحاديث نكنزها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضّتهم».

وهناك مصدر آخر لعلومهم وهو أنّهم محدّثون كما أنّ مريم كانت محدّثة ، وكما كان عمر بن الخطاب محدّثاً حسب ما رواه البخاري ، روى أبو هريرة قال : قال النبي : «لقد كان فيمن قبلكم من بني إسرائيل رجال يُكلَّمون من غير أن يكونوا أنبياء فإن كان من أُمّتي أحد فعمر» (١). لكن الدكتور خلط بين التحديث والوحي.

وأمّا أنّهم بما ذا يميّزون الإلهام من وساوس الشيطان ، فليس بأمر عسير ؛ فإنّ الوساوس تدخل القلب بتردّد والإلهام يرد النفس بصورة علم قاطع ولأجل ذلك تلقّت مريم وأُمّ موسى ما أُلهمتا به ، كلاماً إلهياً ، لا وسوسة شيطانية.

__________________

(١) البخاري ، الصحيح ٢ : ١٩٤ باب مناقب عمر بن الخطاب.

١١٢

المبحث السادس

تقسيمات البدعة

١ ـ تقسيم البدعة إلى حسنة وسيّئة

إذا كانت البدعة بمعنى التدخّل في أمر الشرع بزيادة أو نقيصة في مجالي العقيدة والشريعة ، من غير فرق بين العبادات والمعاملات والإيقاعات والسياسات ، فليس لها إلّا قسم واحد لا يُثَنّى ولا يتكثّر ولكن ربّما تقسم البدعة إلى تقسيمات نذكر منها ما يلي :

أصل نشوء هذا التقسيم :

لقد جاء هذا التقسيم في كلمات الإمام الشافعي ، وابن حزم والغزالي والدهلوي وابن الأثير (١) وغيرهم ، والأصل في ذلك قول الخليفة عمر بن الخطاب ، وقد ظهر على لسانه في السنة الرابعة عشرة من الهجرة ، عند ما جمع الناس للصلاة بإمامة أُبيّ بن كعب في شهر رمضان ووصف الجماعة بقوله : «نعم البدعة هذه» والأصل في ذلك ما رواه البخاري وغيره.

__________________

(١) النهاية ١ : ٧٩.

١١٣

قال عبد الرحمن بن عبد القاري : خرجت مع عمر بن الخطاب رضى الله عنه ليلة رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرّقون يصلّي الرجل لنفسه ، ويصلّي الرجال فيصلّي بصلاته الرهط فقال عمر : إنّي أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ، ثمّ عزم فجمعهم على أُبيّ بن كعب ، ثمّ خرجت معه ليلة أُخرى والناس يصلّون بصلاة قارئهم ، قال عمر : «نعم البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون» يريد آخر الليل ، وكان الناس يقومون أوّله (١).

إنّ إقامة صلاة التراويح جماعة لا تخلو من صورتين :

الأُولى : إذا كان لها أصل في الكتاب والسنّة ، فعندئذ يكون عمل الخليفة إحياء لسنّة متروكة سواء أراد إقامتها جماعة أو جمعهم على قارئ واحد ، فلا يصحّ قوله : «نعم البدعة هذه» إذ ليس عمله تدخّلاً في الشريعة.

الثانية : إذا لم يكن هناك أصل في المصدرين الرئيسيّين ، لا لإقامتها جماعة أو لجمعهم على قارئ واحد ، وإنّما كره الخليفة تفرّق الناس ، ولأجل ذلك أمرهم بإقامتها جماعة ، أو بقارئ واحد ، وعندئذٍ تكون هذه بدعة قبيحة محرّمة.

توضيح ذلك أنّ البدعة التي تحدّث عنها الكتاب والسنّة هي التدخّل في أمر الدين بزيادة أو نقيصة ، والتصرّف في التشريع الإسلامي ، وهي بهذا المعنى لا يمكن أن تكون إلّا أمراً محرّماً ومذموماً ولا يصحّ تقسيمه إلى حسنة وقبيحة ، وهذا شيء واضح لا يحتاج إلى استدلال.

نعم ، البدعة بالمعنى اللغوي التي تعمّ الدين وغيره تنقسم إلى قسمين ، فكلّ شيء محدث مفيد في حياة المجتمعات من العادات والرسوم ، إذا أُدّي به من دون الاسناد إلى الدين ولم يكن محرّماً بالذات شرعاً ، كان بدعة حسنة ، أي أمراً جديداً مفيداً للمجتمع ، كما إذا احتفل الشعب بيوم استقلاله في كلّ عام ، أو اجتمع

__________________

(١) البخاري ، الصحيح ٣ : ٥٨ كتاب الصوم ، باب فضل من قام رمضان.

١١٤

للبراءة من أعدائه أو أقام الأفراح لمولد بطل من أبطاله ، وبالجملة ما هو حلال بالذات لا مانع من أن تتّفق عليه الأُمّة ، وتتّخذه عادة متبعة في المناسبات ، ويكون بدعة لغوية.

وأمّا ما كان محرّماً بالذات فهو محرّم ليس من باب البدعة. فلو اتّخذ أمراً مرسوماً ورائجاً ، مثل دخول النساء سافرات متبرّجات في مجالس الرجال في الاستقبالات والضيافات ، فهذا أمر حرام بالذات أولاً ، وليس بمحرم من باب البدعة الشرعية ، بمعنى التدخّل في أمر الدين والتسنين فيه والتشريع على خلاف ما شرّعه الشارع ، وإنّما هو عمل محرّم اتّخذ رائجاً لا باسم الدين ولا باسم الشريعة ، وأقصى ما يعتذر بأنّه مقتضى الحضارة العصرية ، مع الاعتراف بكونه مخالفاً للشرع ، ولو قيل إنّه بدعة قبيحة أو مذمومة ، فإنّما هو بحسب معناها اللغوي.

وبذلك يظهر أنّ أكثر من أطنب الكلام في تقسيم البدعة إلى حسنة وسيّئة فقط خلط البدعة في مصطلح الشرع بالبدعة اللغوية ، فأسهبوا في الكلام وأتوا بأمثلة كثيرة زاعمين أنّها من البدع الشرعية مع أنّ أمرها يدور بين أمرين :

إمّا أنّها عمل ديني يؤتى بها باسم الدين والشريعة ، ولكن يوجد لها أصل فيهما ، فتخرج بذلك عن عنوان البدعة ، كتدوين الكتاب والسنّة إذا خيف عليهما التلف من الصدور ، وبناء المدارس والرُّبُط (١) وغيرهما. وقد مثلوا بالتدوين للبدعة الواجبة ، وببناء المدارس والرُّبَط بالبدعة المستحبّة ، مع أنّهما ليسا ببدعة لوجود أصل صالح لهما في الشريعة.

أو أنّها عمل عادي لا يؤتى بها باسم الدين بل يؤتى بها لأجل تطوير الحياة وطلب الرفاه ، فتكون خارجاً عن موضوع البدعة في الشرع ، كنخل الدقيق ، فقد

__________________

(١) جمع رَباط ؛ وهو ما يبنى للفقراء ، مولَّد (المصباح المنير : ص ٢١٥ ط دار الهجرة)

١١٥

ورد أنّ أوّل شيء أحدثه الناس بعد رسول الله ، اتّخاذ المناخل ولين العيش من المباحات.

وإنّما يصح إطلاق البدعة عليها بالمعنى اللغوي ، بمعنى الشيء الجديد ، سواء كان عملاً دينياً أو عادياً. وقد وافقَنا على نفي ذاك التقسيم لفيف من المحقّقين :

منهم : أبو إسحاق الشاطبي في كلام مسهب نذكر منه ما يلي :

إنّ متعقّل البدعة يقتضي ذلك بنفسه لأنّه من باب مضادة الشارع واطّراح الشرع ، وكلّ ما كان بهذه المثابة فمحال أن ينقسم إلى حسن وقبيح ، وأن يكون منه ما يمدح ومنه ما يذم ؛ إذ لا يصح في معقول ولا منقول استحسان مشاقة الشارع. وأيضاً فلو فرض أنّه جاء في النقل استحسان بعض البدع أو استثناء بعضها عن الذمّ لم يتصوّر ؛ لأنّ البدعة طريقة تضاهي المشروعة من غير أن تكون كذلك. وكون الشارع يستحسنها دليل على مشروعيتها ؛ إذ لو قال الشارع «المحدثة الفلانية حسنة» لصارت مشروعة.

ولمّا ثبت ذمّها ، ثبت ذمّ صاحبها ، لأنّها ليست بمذمومة من حيث تصوّرها فقط ، بل من حيث اتّصف بها المتّصف ، فهو إذن المذموم على الحقيقة ، والذمّ خاصة التأثيم ، فالمبتدع مذموم آثم ، وذلك على الإطلاق والعموم» (١).

ومنهم : العلّامة المجلسي قال : «إحداث أمر لم يرد فيه نصّ بدعة ، سواء كان أصله مبتدعاً أو خصوصياته مبتدعة فلربما يقال : إنّ البدعة منقسمة بانقسام الأحكام الخمسة أمر باطل ؛ إذ لا تطلق البدعة إلّا على ما كان محرّماً ، كما قال رسول الله : «كلّ بدعة ضلالة ، وكلّ ضلالة سبيلها إلى النار» (٢).

ومنهم : الشهيد في قواعده قال : محدثات الأُمور بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله تنقسم أقساماً :

__________________

(١) الموافقات ١ : ١٤٢.

(٢) البحار ٧٤ : ٢٠٣.

١١٦

لا يطلق اسم البدعة عندنا إلّا على ما هو محرّم منها (١).

سؤال وجواب :

وهناك سؤال يطرح نفسه ، وهو أنّه إذا كانت البدعة قسماً واحداً وأمراً محرّماً مقابل السنّة ، لا تقبل التقسيم إلى غيره فما معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فعمل بها بعده ، كتب له أجر من عمل بها ولا ينقص من أُجورهم من شيء ، ومن سنّ سنة سيئة فعمل بها بعده كتب له مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء» (٢).

والجواب : أنّ الشقّ الأوّل راجع إلى المباحات العامّة المفيدة للمجتمع ، كإنشاء المدارس والمكتبات وسائر الأعمال الخيريّة ، فلو أنّ رجلاً قام ـ برفض الأُميّة ـ بإنشاء مدرسة أو مكتبة وصار عمله أُسوة للغير ، فقام الآخرون بإنشاء مدارس في سائر الأمكنة ، فهو سنّة حسنة.

وأمّا الشقّ الثاني : فهو راجع إلى الأُمور المحرّمة بالذات ، فلو قام أحد بضيافة أشرك فيها النساء السافرات المتبرّجات ، ثمّ صار عمله قدوة للآخرين ، فعلى هذا المسنن وزر عمله ووزر من عمل بسنّته.

وعلى ضوء ذلك فالحديث لا يمت بصلة الى البدعة المصطلحة ، ولم يكن ببال أحد من الشخصين التدخّل في أمر الشرع بالزيادة والنقيصة ، بل كلّ قام بعمل خاصّ حسب دواعيه وحوافزه النفسية ، فالإنسان العاطفي يندفع إلى القسم الأوّل الذي ربّما يكون مباحاً أو مسنوناً ، ومن حسن الحظّ ، يكون عمله قدوة ، والإنسان الإجرامي يندفع إلى القسم الثاني ، فيعصي الله سبحانه لا باسم البدعة بل

__________________

(١) القواعد والفوائد ٢ : ١٤٤ ـ ١٤٥ القاعدة ٢٠٥. ونعلّق على كلامه أنّ القسم إنّما يكون بدعة إذا أتى باسم الدين ، وإلّا يكون محرّماً ومعصية لا بدعة.

(٢) مسلم ، الصحيح ٨ : ٦١ كتاب العلم.

١١٧

بارتكاب عمل محرّم ، ومن سوء الحظّ يكون عمله قدوة.

فكلا العملين لا صلة لهما بالبدعة الشرعية أصلاً ، ولو أُطلقت فإنّما تطلق عليهما بالمعنى اللغوي ، أي إبداع أمر لم يكن ، سواء أكان مباحاً أم حراماً ، ومن المعلوم أنّه ليس كلّ محرّم بدعة وإن كانت كلّ بدعة محرّمة.

٢ ـ تقسيم البدعة إلى عادية وشرعية

قد عرفت أنّ للبدعة تقسيمات باعتبارات مختلفة ، وعرفت مدى صحّة تقسيمها إلى حسنة وسيئة ، ومنها أنّها تنقسم إلى عادية وشرعية ، وهذا العنوان أوضح ممّا ذكره الشاطبي حيث قال :

تقسيمها إلى العادية والتعبديّة (١) ، وذلك لأنّ الأُمور التعبديّة قسم من الأحكام الشرعية التي يعتبر في صحة امتثالها قصد القربة ، والإتيان بها لأجل التقرّب وكسب الرضا وامتثال الأمر ، وهي منحصِرَة بالطهارات الثلاث : الوضوء والتيمّم والغسل بأقسامه ، والصلاة والزكاة والصوم والحجّ والنذر وما ضاهاها ، ولكن الأُمور الشرعية هي التي للشارع فيها دور ، أوسع من التعبديّات. ولذلك قسّم الفقهاء الأحكام الشرعية إلى أربعة :

١ ـ العبادات ، ويدخل فيها ما ذكرناه من الأصناف.

٢ ـ العقود ، وتدخل فيها عامة المعاملات ممّا تحتاج إلى إيجاب وقبول ، كالبيع والرهن والوديعة والصلح والشركة والمضاربة والمساقاة والمزارعة إلى غير ذلك ممّا هو مذكور في محلّه.

٣ ـ الإيقاعات وهي ما تقوم بجانب واحد ، كالطلاق بأقسامه والإيلاء

__________________

(١) الاعتصام ٢ : ٧٩.

١١٨

والظهار ، وتدخل فيها المواريث إلحاقاً حكمياً.

٤ ـ السياسات ، ويدخل فيها القضاء والحدود والديات وما شابهها.

فلو كان هناك شيء خارج عن الأبواب الأربعة موضوعاً ، فهو بوجه ما ملحق بواحد منها ، فهذه كلّها أُمور شرعية وللشارع فيها دور ، إمّا تأسيساً واختراعاً كالعبادات والحدود والديات ، أو إمضاءً واعترافاً لما في يد العقلاء ، لكن مع تحديدها بشروط مذكورة في الفقه. فالتداخل في هذه الأبواب الأربعة بزيادة أو نقيصة كالنكاح بلا صداق ، أو البيع بلا ثمن ، والإجارة بلا أُجرة ، والطلاق في أيام الحيض أو تجويز الربا وبيع الكلب والخنزير ، أو تحوير الأحكام الشرعية في باب السياسات ، كلّها بدعة في أُمور شرعية.

كلّ هذا يُلْزِمنا أن نعبّر بالشرعية مكان التعبدية إلّا أن يراد منها ما يرادف مطلق الأحكام والأُمور الشرعية فإذاً لا مشاحة في الاصطلاح.

وأمّا العادية : فهي إمّا تدور مدار تقاليد وأعراف الناس ، سواء أكانت لها جذور تاريخية أم كانت أمراً محدثاً. وإمّا تطوير لمظاهر الحياة العامة ، الصناعية أو الثقافية أو الزراعية أو غير ذلك. وكل ذلك أُمور عادية تركها الشارع إلى الناس ، وجعل الأصل فيها الإباحة ، لكنّه حدّدها بأُطر عامة ، ولم يتدخل في جزئياتها ، وما لم تخالف الضوابط العامة فالناس فيها أحرار يفعلون ما يشاءُون ، ويعملون ما يريدون.

فعلى ذلك هل يقع البحث في صدق البدعة في الأُمور العادية مقابل الأُمور الشرعية التي تعرّفت على معناها الواسع ، أو لا يقع؟ وبما أنّك وقفت على حدود البدعة ، وأنّها عبارة عن الزيادة أو النقيصة في الشريعة والتدخل في الأُمور الدينية ، فلا تصدق في مورد الأُمور العادية بأي نحو كانت ، إذ ليست هي أُموراً تمتّ إلى الشرع ، فأمرها يدور بين الجائز والحرام لا بين البدعة والسنّة. وليس كلّ

١١٩

حرام بدعة ، وإليك التوضيح :

إنّ لكلّ قوم آداباً خاصة في لقاءاتهم السنويّة ، وأُمورهم العمرانية ، وفي كيفية استغلال الطبيعة ، فمثلاً ربّما تقتضي مصلحتهم تخصيص يوم واحد لتكريم زعيمهم ، أو يوم واحد للبراءة من عدوّهم ، أو توجب المصالح تطوير خدماتهم العمرانية وما ضاهاها ، أو استخدام أجهزة حديثة لاستغلال الطبيعة ، فقد ترك الشارع هذه الأُمور إلى الناس ، ولم يتدخل فيها إلّا بوضع الأُطر العامة لها ، وهي أن لا يكون العمل مخالفاً للقواعد والضوابط العامة ، ولو لا هذه المرونة لما كان الإسلام ديناً عالمياً سائداً ، ولتوقّفت حركته منذ أقدم العصور ، ونأتي بمثال لمزيد من التوضيح:

قد حدثت في العصور الأخيرة عدّة تقاليد في ميدان الألعاب الرياضية ؛ ككرة القدم ، والسلّة ، والطائرة ، والمصارعة ، والملاكمة ، وغير ذلك فبما أنّها امور عادية محدثة فلا تعدّ بدعة في الدين. ولو صحّ إطلاق البدعة فإنّما هو باعتبار المعنى اللغوي ، أي الشيء الجديد في ميادين الحياة ، لا في الأُمور الشرعية ، غاية الأمر يجب أن تحدد شرعيتها بالضوابط الكلية ، بأن لا يكون هناك اختلاط بين الرجال والنساء من اللاعبين ، وأن لا يكون هناك ضرر وإضرار كما هو المحتمل في الملاكمة.

والحاصل : أنّ الأصل في الأُمور العادية هو البراءة حتى يدلّ دليل على خلافه. وقد صرّح بذلك لفيف من العلماء منهم ابن تيمية ، يقول : إنّ أعمال الخلق تنقسم إلى قسمين:

١ ـ عبادات (١) : يتّخذونها ديناً ينتفعون بها في الآخرة أو في الدنيا والآخرة ، والأصل أن لا يشرَّع منها إلّا ما شرّع الله.

__________________

(١) يريد من العبادات : الأُمور الشرعية من دون أن تختص بما يعتبر في امتثالها قصد القربة.

١٢٠