كتاب اللمع في الرّد على أهل الزّيغ والبدع

المؤلف:

أبي الحسن الأشعري


المحقق: الدكتور حمّوده غرابة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المكتبة الأزهريّة للتراث
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٣٥

(٤)

باب الكلام فى الرؤية

ان قال قائل : لم قلتم ان رؤية الله تعالى بالأبصار جائزة من باب القياس؟ قيل له : قلنا ذلك لأن ما لا يجوز أن يوصف به البارى تعالى ويستحيل عليه فانما (١) لا يجوز لأن فى تجويزه اثبات حدثه (٢) ، أو اثبات حدث معنى فيه ، أو تشبيهه ، أو تجنيسه (٣) ، أو قلبه عن حقيقته ، أو تجويزه (٤) ، أو تظليمه ، أو تكذيبه.

وليس فى جواز الرؤية اثبات حدث ؛ لأن المرئى لم يكن مرئيا لأنه محدث ، ولو كان مرئيا لذلك للزمهم أن يرى كل محدث ، وذلك باطل عندهم. على أن المرئى لو كان مرئيا لحدوثه لكان الرائى محدثا للمرء ؛ اذ كان مرئيا لحدوثه. وليس فى الرؤية اثبات حدوث معنى فى المرئى لأن الألوان مرئيات ولا يجوز حدوث معنى فيها (٥) (والا) (٦) لكان ذلك المعنى هو الرؤية ، وهذا يوجب أنا اذا رأينا الميت فقد حدثت فيه الرؤية وجامعت الرؤية الموت ، واذا رأينا عين الأعمى حدثت فى عينه رؤية فكانت الرؤية مجامعة للعمى ؛

__________________

(١) ل : نقلها الناسخ هكذا : فان ما.

(٢) ب وتبعه ل : حده.

(٣) ل : نقلها الناسخ : بجليسه.

(٤) ل : نقلها الناسخ : تجويزه.

(٥) ب وتبعه ل : فيه.

(٦) ليست فى الأصل.

٦١

فلما لم يجز ذلك بطل ما قالوه. وليس فى اثبات الرؤية لله تعالى تشبيه (١) البارى تعالى ، ولا تجنيسه (٢) ولا قلبه عن حقيقته ؛ لأنا نرى السواد والبياض فلا يتجانسان ولا يشتبهان بوقوع الرؤية عليهما ، ولا ينقلب السواد عن حقيقته الى البياض بوقوع الرؤية عليه (٣). ولا البياض الى السواد. وليس (٤) فى الرؤية تجويره (٥) ، ولا تظليمه ، ولا تكذيبه ؛ لأنا نرى الجائر (٦) والظالم والكاذب ، ونرى من ليس بجائز (٧) ولا ظالم ولا كاذب ؛ فلما لم يكن فى اثبات الرؤية شيء مما لا يجوز على البارى لم تكن الرؤية مستحيلة ، واذا لم تكن مستحيلة كانت جائزة على الله.

فان عارضونا بأن اللمس والذوق والشم ليس فيه اثبات الحدث ولا حدوث معنى فى البارى تعالى. قيل لهم (٨) : قد قال بعض أصحابنا ان اللمس ضرب من ضروب المماسات. وكذلك الذوق وهو اتصال اللسان واللهوات بالجسم الّذي له الطعم ، وان الشم هو اتصال الخيشوم بالمشموم الّذي يكون

__________________

(١) ل : نقلها الناسخ : لسببه.

(٢) ل : نقلها الناسخ : يحسه.

(٣) ب ، ل : عليهما.

(٤) ب وتبعه ل : وأ ليس.

(٥) ب وتبعه ل : تجويزه.

(٦) ب وتبعه ل : الجائز

(٧) ب ، ل : بجائز.

(٨) ب وتبعه ل : له.

٦٢

عنده الادراك له ، وان المتماسين انما يتماسان بحدوث مماسين فيهما ، وان فى اثبات ذلك اثبات حدوث معنى فى البارى. ومن أصحابنا من يقول : لا يخلو القائل أن يكون أراد بذكره الذوق واللمس (الشم) (١) أن يحدث الله تعالى له (٢) ادراكا فى هذه الجوارح من غير أن يحدث فيه (٣) معنى ، أو يكون أراد (٤) حدوث معنى فيه. فان كان أراد حدوث معنى فيه فذلك ما لا يجوز ، وان كان أراد حدوث ادراك (٥) فينا فذلك جائز ، والأمر فى التسمية الى الله تعالى ان أمرنا أن نسميه لمسا وذوقا وشما (سميناه (٦) ، وان منعنا امتنعنا ، وأما السمع فلم (٧) يختلف أصحابنا فيه وجوزوه جميعا (٨) ، وقالوا انه جائز أن يسمعنا البارى تعالى نفسه متكلما.

والدليل على أن الله تعالى يرى بالابصار قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (٩) ولا يجوز أن يكون معنى قوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) معتبرة كقوله تعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) (١٠) لأن الآخرة ليست بدار

__________________

(١) ليست فى الأصل.

(٢) أى للذائق أو الشام أو اللامس.

(٣) أى فى البارى تعالى

(٤) فاعله ضمير يعود على (القائل).

(٥) ب وتبعه ل : ادراكا

(٦) ل : حذفها الناسخ

(٧) ل : نقلها الناسخ : لم

(٨) ب وتبعه ل : وجوزوا.

(٩) س : الآيتان ،.

(١٠) س : الآية.

٦٣

اعتبار. ولا يجوز أن يعنى متعطفة راحمة كما قال : (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) (١) أى لا يرحمهم ولا يتعطف عليهم ؛ لأن البارى لا يجور أن يتعطف عليه. ولا يجوز أن يعنى منتظرة ؛ لأن النظر اذا قرن بذكر الوجوه لم يكن معناه نظر القلب الّذي هو انتظار ، كما اذا قرن النظر بذكر القلب لم يكن معناه نظر العين ؛ لأن القائل اذا قال انظر بقلبك فى هذا الأمر كان معناه نظر القلب ، وكذلك اذا قرن النظر بالوجه لم (٢) يكن معناه الا نظر الوجه. والنظر بالوجه هو نظر (٣) الرؤية التى تكون بالعين التى فى الوجه ؛ فصح أن معنى قوله تعالى : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) : رائية ؛ اذ لم يجز أن يعنى شيئا (٤) من وجوه النظر (الأخرى) (٥). واذا كان النظر لا يخلو من وجوه أربع وفسد منها ثلاثة أوجه ، صح الوجه الرابع وهو نظر رؤية العين التى فى الوجه.

فان قال قائل : أليس قد قال الله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ ، تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) (٦) والظن لا يكون بالوجه فكذلك (٧) قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ، إِلى رَبِّها

__________________

(١) س : الآية.

(٢) ل : يزيد الناسخ كلمة «هو» قبل قوله لم.

(٣) ب ، ل : النظر ، ويصح مع تأويل بعيد.

(٤) أوتبعه ب : شا.

(٥) ليست فى الأصل.

(٦) س الآيتان.

(٧) ب وتبعه ل ، م وكذلك.

٦٤

ناظِرَةٌ) أراد نظر القلب؟ قيل له : لأن (١) الظن لا يكون بالوجه ولا يكون الا بالقلب ، فلما قرن الظن بذكر الوجه كان معناه ظن القلب اذ لم يكن الظن الا به ، فلو كان النظر لا يكون الا بالقلب لوجب اذا ذكره مع ذكر الوجه أن يرجع به الى القلب ، فلما كان النظر قد يكون بالوجه وبغيره وجب اذا قرنه بذكر الوجه أن يريد به نظر الوجه ، كما أنه اذا قرنه بذكر القلب وجب أن يريد به نظر القلب.

مسألة

فان قالوا : فما معنى قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) (٢)؟ قيل لهم : فى الدنيا دون الآخرة (٣) ؛ لأن القرآن لا يتناقض ، فلما قال فى آية أخرى : انه (لا تدركه) (٤) الأبصار علمنا أن الوقت الّذي قال انه لا تدركه الأبصار فيه غير الوقت الّذي أخبرنا أنها تنظر إليه فيه.

(فان) (٥) قال قائل : ما أنكرتم أن يكون قوله تعالى : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) : أى الى ثواب ربها ناظرة؟ قيل له : ثواب الله تعالى غيره ، ولا يجوز أن يعدل بالكلام عن الحقيقة الى المجاز بغير حجة ولا دلالة.

__________________

(١) يزيد م قبلها قوله : (لا) ولا ضرورة فلأن محط الاجابة قوله فيما بعد «كان معناه» بل لعل زيادتها تضر بالمعنى.

(٢) س الآية.

(٣) أو تبعه ب : له

(٤) كذا فى الأصل ولعل الواجب أن نقول : (تنظر إليه) بدلا من قوله (لا تدركه) ويمكن ان يقال أن أساس هذا الباب آية الرؤية السابقة : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) وآية مسألتنا أخرى بالنسبة لها.

(٥) ليست فى الأصل ولم ينبه م الى ذلك.

٦٥

ألا ترى أن الله تعالى لما قال : صلوا لى واعبدونى ، لم يجز أن يقول قائل عنى غيره. ولو جاز (هذا لجاز) (١) لزاعم أن يزعم أن قوله : (لا تُدْرِكُهُ) أراد به أنه (٢) لا تدرك غيره الأبصار. فان قال : فاذا كان قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) (يعنى) (٣) فى وقت دون وقت فما أنكرت أن يكون قوله : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) (٤) (يعنى) (٥) فى وقت دون وقت؟ قيل له : الفرق بينهما أنه قال لنا (٦) فى آية انه لا تدركه الأبصار ، وقال فى آية أخرى ان الوجوه تنظر إليه ، فاستعملنا الآيتين وقلنا ان المعنى فى ذلك أنها تنظر إليه فى وقت ولا تدركه فى وقت ، ولم يقل لنا فى آية ان السنة والنوم تأخذانه (٧) وفى آية أخرى لا تأخذانه (٨) ، فيستعمل فى وقتين. وأيضا فان النوم آفة تقوم بالنائم تزيل عنه العلم ، وليست الرؤية آفة تحل فى المرئى (٩) فيجب منع الرؤية بمثل ما به وجب منع النوم.

__________________

(١) ما بين قومين ليس فى الأصل وزيادته ضرورية لتمام التعبير وكمال المعنى وقد اقترح م إصلاح التعبير على نحو آخر أشرنا إليه فى المقدمة.

(٢) ب وتبعه ل : أنها

(٣) ليست فى الأصل.

(٤) س ٢ الآية ٢٥٥.

(٥) ليست فى الأصل أيضا.

(٦) ب نقلها الناسخ : أيضا.

(٧) كذا فى الأصل والواجب «يأخذانه» على التغليب.

(٨) ل : نقلها الناسخ : تفف.

(٩) ب وتبعه ل : المرئ.

٦٦

مسألة

فان قالوا : لو جاز أن يرى القديم سبحانه وليس كالمرئيات (١) لجاز أن يلمس ويذاق ويشم وليس كالمذوقات ولا كالملموسات ولا كالمشمومات قيل لهم (٢) : ما الفرق بينكم وبين من قال : ولو جاز أن يكون القديم رائيا (٣) عالما قادرا حيا لا كالرائين (٤) العلماء القادرين الأحياء لجاز أن يكون لامسا ذائقا شاما لا كاللامسين الذائقين الشامين؟ فان (لم) (٥) يجب هذا فما أنكرتم من أن لا يجب ما قلتموه.

مسألة

فان قال قائل : فهل شاهدتم مرئيا الا جوهرا أو عرضا محدودا أو حالا فى محدود؟ قيل له : لا ، ولم يكن المرئى (٦) مرئيا لأنه محدود ولا لأنه حال فى محدود ، ولا لأنه جوهر ، ولا لأنه عرض ، فلما لم يكن ذلك كذلك لم يجب القضاء بذلك على الغائب ، كما يجب اذا لم نجد فاعلا الا جسما

__________________

(١) ب وتبعه ل : كالمريات.

(٢) ب وتبعه ل : له.

(٣) ل : نقلها الناسخ : رأسا.

(٤) ل نقلها الناسخ : لاركايين.

(٥) ليست فى الأصل.

(٦) ب وتبعه ل : المرئ.

٦٧

ولا شيئا الا جوهرا أو عرضا (١) ، لا عالما قادرا حيا الا بعلم وحياة وقدرة محدثة أن يقضى (٢) بذلك على الغائب ؛ اذ لم يكن الفاعل فاعلا لأنه (جسم) (٣) ولا الشيء شيئا لأنه جوهر أو عرض (٤).

* * *

__________________

(١) ل : نقلها الناسخ : أو.

(٢) أن وما دخلت عليه فى تأويل مصدر فاعل لقوله «يجب» المصدرة بالنفى.

(٣) ليست فى الأصل ولم ينبه م الى ذلك.

(٤) ب وتبعه ل : جوهرا ولا عرضا.

٦٨

(٥)

باب الكلام فى القدر

ان قال قائل : لم زعمتم أن اكساب العباد مخلوقة لله تعالى؟ قيل له قلنا ذلك لأن الله تعالى قال : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (١) وقال : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢). فلما كان الجزاء واقعا على أعمالهم كان الخالق لأعمالهم. فان قال : أفليس الله تعالى قال : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) (٣) وعنى الأصنام التى نحتوها ، فما أنكرتم أن يكون قوله : (خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) أراد الأصنام التى عملوها؟ قيل له : خطأ ما ظننته ؛ لأن الأصنام منحوتة لهم فى الحقيقة فرجع الله تعالى بقوله : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) إليها ، وليست (٤) الخشب معمولة لهم فى الحقيقة فيرجع بقوله : (خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) إليها.

فان قال (٥) قائل : أليس (٦) قد قال الله تعالى : (تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) (٧) ولم يرد افكهم ، فما أنكرت أن لا يرجع

__________________

(١) س ٣٧ الآية ٩٦

(٢) س ٣٢ الآية ١٧ وهى فى الأصل : «جزاء بما كنتم تعملون» ولا يوجد فى القرآن آية كذلك.

(٣) س ٣٧ الآية ٩٥

(٤) ل : نقلها الناسخ : وليست.

(٥) ل : حذفها الناسخ.

(٦) ل : نقلها الناسخ : أفليس.

(٧) س : ٢٦ الآية ٤٥

٦٩

بقوله : (خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) الى أعمالهم؟ قيل له : الّذي يأفكون هو الأمثلة (١) التى خيلوا الى الناس أنها حيات تسعى ، وافكهم تخييلهم (٢) ، فأراد بقوله : (يَأْفِكُونَ) أى يخيلون الى الناس أنها تسعى ، وافكهم هو ايهامهم الشيء على خلاف ما هو بسبيله ، فالأمثلة هى التى يأفكون ويخيلون الى الناس أنها تسعى فى الحقيقة ، وهى التى تلقفها العصا. وليس تجوز أن يعملوا الخشب فى الحقيقة فلم يجز أن يكون الله تعالى أراد بقوله : (خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (الرجوع) (٣) إليها ووجب أن يرجع الى الأعمال كما رجع بقوله : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٤) الى الأعمال ، فلو جاز لزاعم أن يزعم أن قول الله تعالى : (خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) أراد (به) (٥) غير أعمالهم كما أراد بقوله : (ما يَأْفِكُونَ) غير افكهم ، لساغ أن يزعم أن قول الله تعالى : (جَزاءً بِما كانُوا (٦) يَعْمَلُونَ) انما أراد به غير أعمالهم كما أراد بقوله : (خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) غير أعمالهم ، كما أن قوله : (ما يَأْفِكُونَ) انما أراد به غير افكهم ، فلما لم يجز هذا لم يجز ما قاله هذا.

__________________

(١) كذا فى ب وتبعه ل ، م ، ولعلها : لأخيله ، وكذا ما بعدها

(٢) ب وتبعه ل ، م : يخيلهم.

(٣) ليست فى الأصل.

(٤) فى الأصل : «جزاء بما كنتم ..» كما كتب أولا.

(٥) ليست فى الأصل.

(٦) فى الأصل أيضا : (بِما كُنْتُمْ).

٧٠

والدليل من القياس على خلق أعمال الناس : أنا وجدنا الكفر قبيحا فاسدا باطلا متناقضا خلافا لمن خالف ، ووجدنا الايمان حسنا متعبا مؤلما ، ووجدنا الكفار يقصد ويجهل نفسه الى أن يكون الكفر حسنا حقا فيكون بخلاف قصده ، ووجدنا الايمان لو شاء المؤمن أن لا يكون متعبا مؤلما ولا مرمضا لم يكن ذلك كائنا على حسب مشيئته وارادته. وقد علمنا أن الفعل لا يحدث على حقيقته الا من محدث أحدثه عليها ؛ لأنه لو جاز أن يحدث على حقيقته لا من محدث أحدثه على ما هو عليها لجاز (١) أن يحدث الشيء فعلا لا من محدث أحدثه فعلا ، فلما لم يجز ذلك صح أنه لم يحدث على حقيقته الا من محدث أحدثه على ما هو عليه وهو قاصد الى ذلك ، لأنه لو جاز حدوث فعل على الحقيقة (٢) لا من قاصد لم يؤمن أن تكون الأفعال كلها كذلك (٣) كما أنه لو جاز حدوث فعل لا من فاعل لم يؤمن أن تكون الأفعال كلها كذلك ، واذا كان هذا هكذا فقد وجب أن يكون للكفر (٤) محدث أحدثه كفرا باطلا قبيحا وهو قاصد الى ذلك ، ولن (٥) يجوز أن يكون المحدث له هو

__________________

(١) يعتمد المؤلف فى دليله على هذا الاستلزام مع أنه غير مسلم فليس يلزم اذا جاز صدور الفعل من فاعل جاهل ببعض نواحيه أن يجوز صدور الفعل بدون فاعل اصلا ، فان التسوية الحالتين مصادمة للبداهة.

(٢) كذا فى الأصل وقد غيرها م الى «حقيقة» بغير ضرورة.

(٣) ل : نقلها الناسخ : بذلك.

(٤) ب وتبعه ل : الكفر.

(٥) لعل الأولى أن يقول : لا.

٧١

الكافر الّذي يريد أن يكون الكفر حسنا صوابا حقا فيكون على خلاف ذلك. وكذلك للأيمان (١) محدث أحدثه على حقيقته متعبا مؤلما مرمضا غير (٢) المؤمن الّذي لو جهد أن يقع الايمان خلاف ما وقع من ايلامه واتعابه وارماضه لم يكن الى ذلك سبيل ، واذا لم يجز أن يكون المحدث للكفر على حقيقته الكافر ، ولا (٣) المحدث للايمان على حقيقته المؤمن ، فقد وجب أن يكون محدث ذلك هو الله تعالى رب العالمين القاصد الى ذلك ؛ لأنه لا يجوز أن يكون أحدث ذلك (٤) جسم من الأجسام ، لأن الأجسام لا يجوز أن تفعل فى غيرها شيئا.

فان قال قائل : فلم لا دل (٥) وقوع الفعل الّذي هو كسب على أنه لا فاعل له الا الله ، كما دل على أنه لا خالق (له) (٦) الا الله تعالى؟ قيل له : كذلك نقول. فان قال : فلم لا دل على أنه لا قادر عليه الا الله عزوجل؟ قيل له : لا فاعل له على حقيقته الا الله تعالى ولا قادر عليه أن يكون على ما هو عليه من حقيقته أن يخترعه (٧) الا الله تعالى. فان قال : فلم لا دل كونه كسبا (٨)

__________________

(١) ب وتبعه ل : الأيمان.

(٢) صفة لقوله محدث.

(٣) ب ، ل : الا.

(٤) ب : تركها الناسخ.

(٥) فى الأصل : فلم لا دل فى المواضع الثلاثة وصحتها فلم لم يدل.

(٦) ليست فى الأصل وزيادتها أولى.

(٧) بدل من قوله .. «عليه» أى قادر على أن يخترعه.

(٨) ل : نقلها الناسخ : مكسب.

٧٢

على حقيقته على أنه لا مكتسب له فى الحقيقة الا الله؟ قيل له : الأفعال لا بد لها من فاعل على حقيقتها ، لأن الفعل لا يستغنى عن فاعل ، فاذا لم يكن فاعله على حقيقته الجسم ، وجب أن يكون الله تعالى هو الفاعل له على حقيقته وليس لا بد للفعل من مكتسب يكتسبه على حقيقته ، كما لا بد من فاعل يفعله على حقيقته ، فيجب اذا كان الفعل كسبا كان الله تعالى (هو) (١) المكتسب له على حقيقته ، ألا ترى أن حركة الاضطرار تدل على أن الله تعالى هو الفاعل لها على حقيقتها ولا تدل على أن المتحرك بها فى الحقيقة هو الله تعالى (٢) ، اذ كانت حركة كما كان هو الفاعل لها فى الحقيقة ، ولا يجب أن يكون المتحرك المضطر إليها فاعلا لها على حقيقتها ، اذ (٣) كان متحركا بها على الحقيقة ، اذ كان معنى المتحرك أن الحركة خلته (٤) ولم يكن (ذلك) (٥) جائزا على ربنا تعالى ، وكذلك اذا كان الكسب دالا على فاعل فعله على حقيقته لم يجب أن يدل على أن الفاعل له على حقيقته هو المكتسب له ولا على أن المكتسب له على الحقيقة هو الفاعل له على الحقيقة ، اذ كان المكتسب مكتسبا للشيء لأنه وقع بقدرة (٦) له عليه محدثة ولم يجز أن يكون (٧) رب العالمين

__________________

(١) ب : تركها الناسخ.

(٢) ب ، ل ، م : اذا.

(٣) فى الأصل : ارا فغيرها م الى : اذا.

(٤) ب : نقلها الناسخ : جلته.

(٥) ليست فى الأصل وزيادتها واجبة.

(٦) ل : نقلها الناسخ : قدرة.

(٧) ب وتبعه ل : أيكون.

٧٣

قادرا على الشيء بقدرة محدثة (١) فلم يجز أن يكون مكتسبا لكسب وان كان فاعلا له فى الحقيقة.

فان قال : فهل اكتسب الانسان الشيء على حقيقته كفرا باطلا وايمانا حسنا؟ قيل له : هذا خطأ ، وانما معنى «اكتسب الكفر» أنه كفر بقوة محدثة ، وكذلك قولنا «اكتسب الايمان» (معناه أنه من) (٢) بقوة محدثة من غير أن يكون اكتسب الشيء على حقيقته بل الّذي فعله على حقيقته هو رب العالمين. والقول فى الكذب وأن له فاعلا (يفعله) على (٣) حقيقته وكاذبا به غير من فعله على حقيقته ، كالقول فى فاعل الحركة على الحقيقة (٤) وأن (٥) المتحرك بها على الحقيقة غير من فعلها على حقيقتها وقد بينا ذلك آنفا.

ودليل آخر من القياس على خلق أفعال الناس : أن الدليل على خلق الله تعالى حركة الاضطرار قائم فى خلق (٦) حركة الاكتساب ، وذلك أن حركة الاضطرار ان كان الّذي يدل على أن الله خلقها حدوثها فكذلك (٧) القصة فى حركة الاكتساب ،

__________________

(١) ب : نقلها الناسخ : محدثا.

(٢) ب ، ل : «انما هو انما آمن».

(٣) ما بين قوسين ليس فى الأصل.

(٤) غيرها م الى حقيقتها.

(٥) ب وتبعه ل ، م : والمتحرك من غير زيادة «أن».

(٦) ب وتبعه ل : حركة خلق حركة.

(٧) ب : فذلك ، وقد نقلها الناسخ فى ل : فلذلك.

٧٤

وان كان الّذي يدل على خلقها (١) حاجتها الى مكان وزمان فكذلك (٢) قصة حركة الاكتساب. فلما كان كل دليل يستدل به على أن حركة الاضطرار مخلوقة لله تعالى يجب به القضاء على أن حركة الاكتساب مخلوقة لله تعالى ، وجب (٣) خلق حركة الاكتساب بمثل ما وجب (به) (٤) خلق حركة الاضطرار.

فان قال قائل : فيجب اذا كانت احدى الحركتين ضرورة أن تكون الأخرى كذلك ، واذا كان احداهما كسبا أن تكون الأخرى كذلك. قيل له : لا يجب ذلك لافتراقهما فى معنى الضرورة والاكتساب ، لأن الضرورة ما حمل عليه الشيء وأكره وجبر عليه ولو جهد فى (٥) التخلص منه وأراد الخروج عنه واستفرغ فى ذلك مجهوده لم يجد منه انفكاكا ولا الى الخروج عنه سبيلا ، فاذا كانت احدى الحركتين بهذا الوصف الّذي هو وصف الضرورة ، وهى حركة المرتعش من الفالج والمرتعد من الحمى كانت اضطرارا ، واذا كانت الأخرى بخلاف هذا الوصف لم تكن اضطرارا ، لأن الانسان فى ذهابه ومجيئه (٦) واقباله وادباره ، بخلاف المرتعش من الفالج والمرتعد من الحمى ، يعلم الانسان التفرقة (٧) بين الحالين من

__________________

(١) ب : نقلها الناسخ : خفها.

(٢) ب : نقلها الناسخ : فلذلك.

(٣) جواب لقوله قبل ذلك «فلما».

(٤) ليست فى الأصل ولم يزدها مع الحاجة إليها.

(٥) ب : نقلها الناسخ : التحصل.

(٦) ب : محيه.

(٧) ب : نقلها الناسخ ، التفرق.

٧٥

نفسه وغيره علم اضطرار لا يجوز معه الشك ، فقد وجب اذا كان العجز فى احدى الحالتين (١) أن القدرة التى هى ضده حادثة فى الحال الأخرى ؛ لأن العجز لو كان فى الحالتين جميعا لكان سبيل الانسان فيهما سبيلا واحدة ، فلما لم يكن هذا هكذا وكانت (٢) القدرة فى احدى الحركتين ، وجب أن (٣) تكون كسبا ؛ لأن حقيقة الكسب أن الشيء وقع من المكتسب به بقوة محدثة ، ولافتراق (٤) الحالين فى الحركتين ، ولأن احداهما بمعنى الضرورة وجب أن تكون الضرورة ، ولأن الأخرى بمعنى الكسب وجب أن تكون كسبا. ودليل (٥) الخلق (٦) فى حركة الاضطرار وحركة الاكتساب واحد ؛ فلذلك وجب اذا كانت احداهما خلقا أن (٧) تكون الأخرى خلقا. ألا ترى أن افتراقهما فى باب الضرورة والكسب لا يوجب افتراقهما فى باب الحدث والكون بعد أن لم تكونا. فكذلك لا يوجب افتراقهما فى باب الضرورة والكسب افتراقهما فى الخلق ألا ترى أن الجسم لما لم يسبق المحدثات وجب حدوثه بدخوله فى معنى الحدث ، وليس يجب اذا دخل فى الحدث بمشاركة المحدثات فى معنى الحدث اذا كان من المحدثات ما هو حركة أن يكون الجسم

__________________

(١) المقصود بها هنا حالة الاضطرار.

(٢) ب وتبعه ل : كان.

(٣) ب وتبعه ل : أيكون.

(٤) ب وتبعه ل «لافتراق» بغير واو العطف.

(٥) معطوف فى رأيى على قوله احداهما والتقدير ولأن دليل الخلق.

(٦) يكرر ب وتبعه ل كلمة الخلق.

(٧) ل : نقلها الناسخ : أيكون.

٧٦

حركة ، واذا كان منها ما هو جسم (لا) (١) يجب أن تكون الحركة جسما ، اذ لم يكونا (٢) يستويان فى معنى جسم وحركة واستويا فى معنى الحدوث. فكذلك لما استوى الكسب والضرورة فى معنى الخلق والحدث وجب اذا كان أحدهما خلقا لله أن يكون الآخر كذلك ، فذلك لم يوجب افتراقها فى باب الضرورة والكسب افتراقهما فى الخلق فان قال قائل : ما أنكرتم أن يكون الّذي دل على أن احدى الحركتين مخلوقة لله تعالى هو أن حركة الاضطرار وقعت معجزا (٣) عنها فاذا وقعت الأخرى مقدورا عليها خرجت من أن تكون مخلوقة؟ قيل له : لو كان ما وقع مقدورا لغير الله تعالى خرج من أن يكون مخلوقا لم يؤمن أن تكون حركات المرتعش من الفالج والمرتعد من الحمى قد أقدر الله تعالى عليها بعض ملائكته يفعلها فى المتحرك باضطراب ؛ اذ كان لا يستحيل عند مخالفينا أن يقدر القادر من المخلوقين على أن يفعل فى غيره ، فبطلت دلالتها على أن الله تعالى فعلها على ما هى عليه وكذلك القول فى حركات الأفلاك واجتماع أجزاء السماء وتأليفها. واذا كان هذا هكذا فقد بطلت دلالة هذه (٤) الأشياء على أن الله تعالى (خلقها) ولم يؤمن أن يكون لأجزاء السماء جامع غير الله سبحانه ، وللأفلاك محكم ، وللكواكب ، محرك غيره. واذا لم يجز ذلك فقد بطل ما قالوه (٥) من أن الشيء اذا كان مقدورا لغير الله تعالى خرج من أن

__________________

(١) ليست فى الأصل وزيادتها واجبة

(٢) ب وتبعه ل : يكن

(٣) كذا فى ب وتبعه ل ، وهو من أعجز صيره عاجزا.

(٤) ليست فى الأصل.

(٥) ب : قاتلوه.

٧٧

(يكون) لله تعالى مخلوقا (١). وأيضا فليس العجز بأن يدل على أن الله تعالى خلق المعجوز عنه بأولى من أن تكون القدرة التى جعلها الله تعالى دلالة (٢) على أن الله خلق المقدور عليه ؛ لأن ما خلق الله القدرة فينا عليه فهو عليه أقدر ، كما أن (ما) (٣) خلق فينا العلم به فهو به أعلم ، وما خلق فينا السمع له فهو له أسمع فاذا استوى ذلك فى قدرة الله تعالى وجب اذا أقدرنا الله تعالى على حركة الاكتساب أن يكون هو الخالق فينا كسبا لنا ؛ لأن ما قدر عليه أن يفعله فينا ولم يفعله فينا كسبا فقد ترك أن يفعله فينا كسبا ، واذا ترك أن يكون كسبا لنا استحال أن تكون (٤) له مكتسبين ؛ فدل ما قلنا على أنا لا نكتسبه (٥) الا وقد خلقه الله تعالى لنا كسبا.

مسألة

فان قال قائل : اذا كان كسب الانسان خلقا فما أنكرت أن يكون (٦) له خالقا؟ قيل له : لم أقل ان كسبى خلق لى فيلزمنى أن أكون له خالقا ، وانما قلت خلق لغيرى فكيف يلزمنى اذا كان خلقا لغيرى أن أكون له خالقا؟ ولو كان كسبى اذا كان خلقا لله تعالى كنت له خالقا لكانت حركة المتحرك باضطرار اذا كانت خلقا لله تعالى كان بها متحركا فلما لم يجز

__________________

(١) ب ، ل : من أن الله تعالى مخلوقا.

(٢) هكذا فى ب وتبعه ل ولعل الأولى «دالة» وهى خير تكون.

(٣) ليست فى الأصل.

(٤) ب وتبعه ل : يكون.

(٥) ب وتبعه ل : يكتسبه

(٦) اسم كان ضمير يعود على الانسان كما هو ظاهر.

٧٨

ذلك لأنه خلقها حركة لغيره ، لم يلزمنا ما قالوه. لأن كسبنا خلق لغيرنا.

فان قال : أليس (١) قد خلق الله تعالى جور العباد؟ قيل له : خلقه جورا لهم ، لا له. فان قال : فما أنكرتم أن يكون جائرا (٢)؟ قيل له لم يكن الجائر جائرا لأنه فعل الجور جورا لغيره لا له ؛ (لأنه) (٣) لو كان جائرا لهذه العلة لم يكن فى المخلوقين جائر ؛ فلما لم يكن الجائر جائرا لأنه فعل الجور جورا لغيره ، لم يجب أن يكون الله بخلقه الجور جورا لغيره لا له جائرا. وأيضا فلو لزم ما قالوه لزم اذا فعل إرادة وشهوة وحركة لغيره لا له أن يكون مريدا مشتهيا متحركا ؛ فلما لم يجب هذا لم يجب ما قالوه.

فان قالوا : فقد يخلق الله تعالى حركة لا يكتسبها أحد ولا يكون متحركا. قيل لهم : وكذلك لو خلق الله تعالى جورا لا يكتسبه أحد لم يكن به جائرا ، وكان جورا لمن خلقه جورا له به يكون جائرا.

فان قالوا : فلم لا يقول قول غيره (كما خلق جور غيره) (٤)؟ قيل لهم : لم نقل (٥) انه يجوز (بجور) (٦) غيره ، فيلزمنا أن يقول (بقول) (٧) غيره ، وانما قلنا انه يخلق جورا لغيره

__________________

(١) ل : نقلها الناسخ : أفليس.

(٢) ل : نقلها الناسخ : جائرا.

(٣) ب ، ل : لالو

(٤) ب : كرر الناسخ ما بين قوسين مرتين.

(٥) ب : نقلها الناسخ : يقل.

(٦) ليست فى الأصل.

(٧) ب : تركها الناسخ.

٧٩

لا له ، ولا يكون به جائرا فعروض مثل هذا أن يخلق قولا لغيره ولا يكون به قائلا. وأيضا فلو وجب أن يقول الكذب من ليس بكاذب ، كما فعل الجور من ليس (بجائر ، لوجب أن يقول الكذب من ليس) (١) بكاذب كما فعل الإرادة من ليس بمريدها ، والحركة من ليس بمتحرك بها ، فان لم يجب هذا لم يجب ما قالوه. وأيضا فقد دللنا على أن كلام الله تعالى من صفات (٢) ذاته فى صدر كتابنا هذا ، فاستحال (٣) لذلك أن يكون يقول (٤) غيره قائلا ، كما اذا كان العلم من صفات نفسه استحال أن يكون علم غيره علما له ، وأن يكون رب العالمين عالما بعلم محدث.

مسألة

فان قال قائل : فهل يخلو العبد أن يكون بين نعمة يجب عليه شكرها أو بلية يجب عليه الصبر عليها؟ قيل له : لا يخلو العبد من نعمة وبلية والبلايا منها ما يجب الصبر عليها كالمصائب من الأمراض والأسقام ، وفى الأموال

__________________

(١) كل ما بين المربعين ليس فى الأصل ولا شك فى لزومه وقد حاول م اصلاح الفقرة فوضعها هكذا : «وأيضا فلو وجب (هذا لوجب) أن يقول الكذب من ليس بكاذب كما فعل الجور من ليس بجائر كما فعل الإرادة من ليس بمريد لها والحركة من ليس بمتحرك بها فان لم يجب هذا لم يجب ما قالوه» فهل تعطى الفقرة الآن معنى صحيحا .. واذا أعطت فهل يمكن أن يكون هو المقصود هنا؟

(٢) ب وتبعه ل : صفا.

(٣) ب : فستحال وفى ل : فسيحال.

(٤) ب : يقو ، وفى ل : يقول.

٨٠