كتاب اللمع في الرّد على أهل الزّيغ والبدع

المؤلف:

أبي الحسن الأشعري


المحقق: الدكتور حمّوده غرابة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المكتبة الأزهريّة للتراث
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٣٥

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

يبدو الأشعرى فى كتابه «الابانة» حريصا كل الحرص على ادعائه الانتماء الى أحمد بن حنبل رضى الله عنه ، فهو يكثر من مدحه ويشيد بمنهجه ويدافع دفاعا حارا قويا عن جميع ما قاله وقرره. بل يحاول فى قوة اثبات الوجه واليدين الى غير ذلك كما فعل ، ويقول باستواء الله على العرش من غير كيف كما قال ، ويرد على المعتزلة والحرورية والجهمية الذين يريدون صرف الآيات الواردة فى ذلك عن معانيها الظاهرة ، كما أنه لا يتحدث عن «التنزيه» بأسلوب صريح ، ولا عن «نظرية الكسب» أصلا ، ويهمل فيه الكلام أيضا عن «البعث» و «مشكلة الخاص والعام» و «الوعد والوعيد» ، كما أنه لا يبين رأيه فى «التعديل» والتجوير باسهاب وكذلك رأيه فى «الايمان». مما جعل الباحثين الذين اعتمدوا على كتابه هذا فى حيرة من أمره ، فبعضهم اقتصروا فى تقديره وتقويم مذهبه على ذلك ، ثم عجبوا فى النهاية من تلك الشهرة التى واتته من غير أن يكون لها ما يبررها تبريرا قويا فى كتابه «الابانة» بل لعل عجبهم قد ازداد حين ادعى مؤرخو الفكر

٣

أن الأشعرى هو الّذي وضع أساس المذهب السائد اليوم باسم «الأشاعرة» وقد حملهم ذلك على التماس أسباب نجاح الأشعرى فى غير مذهبه ، فردوا ذلك النجاح الى مركز أسرته ، وشخصيته الروحية ، وقدرته على الجدل ، وكراهة الشعب للمعتزلة ، ورغبة الأمة فى أن ترى من أبنائها من يقارعهم بالحجة ويهزمهم بالمنطق والبرهان. كما حملهم ذلك على الحكم بوجود هوة سحيقة بين مذهب الأشعرى ومذهب الأشاعرة رغم ادعاء هؤلاء الآخرين أنهم أتباعه المخلصون وتلاميذته الموحيون. ولكن البعض الآخر من الباحثين لم يقتصر على «الابانة» فى دراسته ، بل استثار فى ذلك ما كتبه الثقات من العلماء كالباقلانى والشهرستانى عن مذهبه ، ومن هؤلاء المستشرق الهولندى «فنسنك» الّذي وضع الصورة المأخوذة من «الابانة» عن مذهبه ، الى جانب الصور العقلية التى رواها هؤلاء العلماء عنه ، ثم تساءل فى النهاية : أيمكن أن يكون الأشعرى ذا وجهين ، أم أن أتباعه قد تقولوا عليه؟ ثم رجا فى النهاية أن يوجد من كتابات الأشعرى نفسه ما يؤيد تلك الصورة التى رواها أتباعه عنه والتى تصرح «بالتنزيه أو الكسب» حتى يتضح مذهبه ويقوى تعليله ويكون جديرا بشهرته ومركزه ، فتتجلى لنا تلك الشخصية التى ينسب إليها أنها وحدها التى مكنت الاسلام من اتخاذ طريق وسط بين النقل والعقل ، أو بعبارة أخرى بين الحشوية والمعتزلة.

٤

وشاءت إرادة الله أن يوجد ذلك المؤلف الّذي نقدم له اليوم وهو «كتاب اللمع». فالأشعرى فى هذا الكتاب يبدو أعمق تفكيرا وأسلم منهجا وأشد عناية بالأدلة العقلية الى درجة التعقيد أحيانا. والأشعرى فى «كتاب اللمع» لا يذكر الامام أحمد رضى الله عنه ولا يشيد بمنهجه ، بل هو على العكس من ذلك يهاجم فى قسوة أولئك الذين يضيقون بالنظر والاستدلال وهم «الحنابلة» ، ويحاول جاهدا الاستدلال على صحة ذلك من القرآن والسنة المطهرة. والأشعرى أيضا فى «كتاب اللمع» لا يتعرض لذكر الوجه واليدين والاستواء على العرش كما فعل فى «الابانة» بل يهمل ذلك اهمالا تاما. ويزيد على ذلك التصريح القاطع بتنزيه الله عن الجسمية ونفيه عن الله أن يكون مشابها للحوادث. كما يتحدث فى اسهاب عن «نظرية الكسب» وما يلزم لتأييدها من الأدلة ويعطى عناية كبيرة لبعض المسائل الهامة التى أشرنا الى اهمال «الابانة» لها «كمشكلة البعث» وتحديد معنى «الايمان» ومسألة «الكبيرة» و «الوعد والوعيد» و «الخاص والعام» بما لا يخرج فى أساسه عن مذهب الأشاعرة.

واذن فالصورة العقلية التى رواها الثقات من العلماء عنه هى صورة حقة قد كتبت بيد الأشعرى نفسه. وهذه الصورة العقلية التى أخذناها من «اللمع» توصل فى الوقت

٥

نفسه الى نتائج قد تكون متعارضة أتم التعارض مع تلك النتائج التى وصل إليها من اعتمد على «الابانة» فى تقويم مذهبه وتقدير مواهبه. فسوف يلمس القارئ ـ بعد مطالعة هذا الكتاب ـ السر فى نجاح الأشعرى ، وكيف أن الأشعرى قد كسب تلك الشهرة عن أسباب ذاتية أصيلة فيه ، وأن مذهبه قد نال تلك المكانة الرفيعة لأنه مذهب يرضى خاصة الأمة ولا يصعب على عامتها ، لا لأن صاحبه كان من أسرة كبيرة أو أنه كان قوى الشخصية. كما أن القارئ سوف يلمس أيضا بطلان الادعاء بوجود هوة سحيقة بين مذهب الأشعرى ومذهب الأشاعرة ، وسوف يجد أن الخلاف بينه وبين أتباعه لم يمس أية مسألة جوهرية فى المذهب نفسه على حسب ما قرره وصوره ، وانما هو خلاف فى طريقة الاستدلال ، أو فى تفسير بعض الأصول أو الزيادة فى الشرح ، أو الاشتغال بمسائل لم تعرض للأشعرى فى أيام حياته ، وحسب «اللمع» ذلك ليكون جديرا بما بذل فيه من جهد ، وما كلفنا من نصب وارهاق.

ولكن ذلك يعنى أن هناك صورتين مختلفتين قد وردنا عن مذهب الأشعرى : صورة يحددها «اللمع» وأخرى يخددها «الابانة». فهل يوجد بين الصورتين تناقض؟ واذا كان فهل قررهما الأشعرى فى زمان واحد فيكون متناقضا فى نفسه ؛ أم أن ذلك يعود الى مرحلتين مختلفتين ، فى تطوره الفكرى بعد

٦

تحوله عن مذهب المعتزلة؟ واذا كان الأمر كذلك فأى المرحلتين هى الأسبق : مرحلة اللمع أم مرحلة الابانة؟

يرى مكدونالد وتريتن والسلفية أيضا أن الصورتين مختلفتان اختلافا بينا ، ويرون مع ذلك أن مرحلة «الابانة» كانت هى المرحلة الأخيرة التى انتهى إليها رأى الأشعرى ، وعلى ذلك جولد زيهر أيضا ، وان كان مكدونالد والسلفية على خلاف فى تعليل تحوله عن الصورة العقلية التى يصورها «اللمع» الى الصورة السلفية التى يصورها «الابانة». فمكدونالد يرى أنه اضطر الى ترك الصورة العقلية واثبات الوجه واليدين وغير ذلك بعد رحيله الى بغداد فى أخريات حياته ووقوعه تحت نفوذ الحنابلة. ومعنى ذلك أنه اصطنع الصورة الثانية ليكسب بها رضا الحنابلة ، وربما ليدفع شرهم أيضا. فليست المسألة مسألة عقيدة ولكنها مسألة ملاءمة للظروف ومراعاة لما تقتضيه. ولعل مما يشهد لذلك قول بعضهم : ان الأشاعرة قد جعلوا «الابانة» من الحنابلة وقاية. ولكن السادة السلفية لا يرضيهم هذا التعليل ، بل يقولون : ان الأشعرى قد وصل الى الحق على مراتب ؛ فترك أولا مذهب المعتزلة الى مذهبه العقلى فأصاب نصف الحق ، ثم ترك أخيرا مذهبه العقلى الى مذهب السلف فأصاب الحق كله ومات مرضيا عنه. وهذا قول يبدو مقبولا ولكنه سيظل فرضا حتى يجد الدليل القاطع الّذي يؤيده بل اننى أعتقد أن هناك فرضا آخر هو أحق بالادعاء وأدنى الى

٧

القبول وهو أن الصورة السلفية التى يصورها «الابانة» قد صدرت أولا ، وأن الصورة العقلية التى يصورها «اللمع» قد صدرت أخيرا وأنها كانت تحديدا لمذهب الأشعرى فى وضعه النهائى الّذي مات صاحبه وهو يعتنقه ويعتقد صحته ويدافع عنه ويرضاه لأتباعه. وأسباب هذا الترجيح عندى كثيرة ؛ فمنها ما هو نفسى ، ومنها ما هو علمى ، ولعل مما يعود الى الأسباب النفسية أننا نرى الأشعرى فى كتاب «الابانة» أشرق ، أسلوبا وأكثر تحمسا وأعظم تحاملا على المعتزلة وأكثر بعدا عن آرائهم. وهذه مظاهر نفسية يجدها المرء فى نفسه تجاه رأيه الّذي يتركه ابان تركه أو بعيد التنازل عنه. أما من الناحية العلمية فحسب القارئ أن يراجع بابا مشتركا فى الكتابين ليرى أن كتاب «اللمع» فى ذلك الباب قد أحاط بمسائله وأجاد فى عرض أدلته ، وأفاض فى اعتراضات خصومه وأحسن فى الرد عليها ؛ مما يدل على أن «كتاب اللمع» لم يكتب الا فى الوقت الّذي نضج المذهب فيه فى نفس صاحبه ، وأنه لم يصوره فى هذا الكتاب الا بعد أن ألفه وأصبح واضحا عنده ويشاركنى فى هذا الرأى «فنسنك» وغيره من الباحثين.

ولكن اذا سلمنا بوجود التخالف بين الصورتين فهل يعنى ذلك الاعتراف بتناقضهما؟

الواقع أننى لا أرى أى تناقض بين الصورة التى يحددها

٨

«الابانة» وبين الصورة التى يحددها «اللمع» ؛ لأن مدح الامام أحمد والرد على المعتزلة والحرورية والجهمية فى انكارهم الوجه واليدين والاستواء على العرش فى الابانة ، مع السكوت عن ذلك فى اللمع ، لا يعتبر تناقضا ؛ لأن الأشعرى يتناقض حقا اذا نفى ذلك نفيا قاطعا فى كتابه «اللمع» ولكن الرجل لم ينف بل سكت ، والسكوت عن تقرير رأى فى مؤلف لا يعتبر مناقضا لتقريره فى مؤلف آخر. نعم الأشعرى قد صرح فى كتابه «اللمع» بالتنزيه ومخالفة الله للحوادث ، فهل يلزم من ذلك أن يكون متناقضا اذا أثبت الوجه واليدين والاستواء مثلا فى كتاب «الابانة»؟ نعم يلزم ذلك اذا أثبت وجها مماثلا لوجهنا ، ويدا مماثلة ليدنا ، واستواء مشابها لاستوائنا ؛ ولكن الأشعرى قد أثبت ذلك فى «الابانة» مع التصريح فى أكثر من موضع بأن ذلك انما هو «بلا كيف». ومعنى ذلك نفى المماثلة وعدم التعارض مع فكرة التنزيه. بل اننى أعتقد أن الصورة السلفية كما اعتنقها الصحابة والامام أحمد وربما ابن تيمية والوهابيون لا تتعارض الا قليلا جدا مع مذهب الأشاعرة الذين أولوا هذه الأشياء ، أعنى الوجه واليدين والاستواء الى غير ذلك ، بالذات والقدرة والاستيلاء مثلا ؛ لأن السلف مؤولون كالأشاعرة تماما. أقصى ما هنالك أن المراد بالوجه مثلا على مذهب السلف غير محددة ، مع القطع بأن الوجه الّذي نعرفه غير مراد ، وأن المراد عند الأشاعرة هو الذات

٩

مثلا مع القطع بأن الوجه الّذي نعرفه غير مراد. وهذا يعنى اجماع الجميع على التنزيه ونفى الوجه المعروف مثلا ، وهذا يعنى التأويل عندهم جميعا. ولكن ما المراد بالوجه؟ يقول السلفية : هو وصف لله أجراه على نفسه ، فهو أعلم بمدلوله. ويقول الأشاعرة انه لفظ عربى ، وحيث قد استحال المعنى الحقيقى فليكن المعنى المجازى الّذي يناسب عظمة الله هو المقصود. فهما متحدان فى التنزيه والتأويل ، وهذا هو المهم فى العقيدة ، وما عدا ذلك فشيء لا يستحق خصاما ولا اختلافا ، ولعل من الخير لهذه الأمة الاسلامية أن تفهم هذه الحقيقة واضحة جلية.

المخطوطات

بدأت صلتى بكتاب اللمع منذ سنة ١٩٥٠ حيث هدانى زميل فاضل الى نسخة منه بالمتحف البريطانى ، ولكنى وجدت هذه النسخة منقولة عن نسخة قديمة موجودة بالكلية الأمريكية ببيروت ، فرأيت من واجبى العلمى أن أستحضرها أيضا. وبذلك أصبح لدى من المخطوط نسختان وان شئت فقل نسخة واحدة قد نقل عنها نسخة أخرى. ولذلك جعلت اعتمادى على الأصل ، أعنى نسخة بيروت ، وان كنت لم أهمل النظر فى النسخة الأخرى التى نقلت عنها ، بيانا لقيمتها واستلهاما لها فى بعض الأماكن التى تتميز فى الأصل بصعوبة قراءتها.

١٠

الناسخ لنسخة بيروت غير معروف ، وليس لدى من الوسائل ما يعين على تحديد الزمن الّذي كتبها فيه ، وان كان من الممكن الجزم بأنه قد كتبها بعد وفاة الغزالى (٥٠٥ ه‍). لأن الناسخ قد ذكر أن المخطوط يشتمل بجانب كتاب «اللمع» على كتاب «الرسالة اللدنية فى العلم اللدنى» لحجة الاسلام الغزالى رضى الله عنه. وان كان المخطوط لا يحتوى الا على كتاب «اللمع» فقط.

فاذا انتقلنا الى العنوان الّذي وضعه الناسخ لهذا الكتاب فاننا نجده «كتاب اللمع» فقط ، على حين أن الأشعرى نفسه فى كتاب «العمد» ـ على ما يرويه ابن عساكر ـ يذكر أنه قد كتب ثلاثة كتب بعنوان «اللمع» أعنى (١) «كتاب اللمع الصغير» (٢) «كتاب اللمع الكبير» (٣) «كتاب اللمع فى الرد على أهل الزيغ والبدع» فأى هذه الثلاثة ما بين أيدينا الآن؟ اننى أرجح أنه الثالث ؛ لأن الأشعرى نفسه قد ذكر أن هناك علاقة بين اللمع الصغير واللمع الكبير ، مؤكدا أن الأول يعتبر مقدمة وبابا للثانى على حين أنه لا توجد أى اشارة فى هذا الكتاب تربط بينه وبين مؤلف آخر ، وان كان ذكر ذلك ليس ضروريا ؛ ولذلك بقى الأمر ترجيحا فقط.

أما بالنسبة الى محتويات هذا المخطوط ، فقد ذكر كلاين أنه يشتمل على عشرة أبواب وهذا حق ، ألا أنه قد أعطى عناوين

١١

هذه الأبواب مع خطأ فى بعض الأحيان. فالمخطوط لم يذكر مثلا عنوانا للباب الأول فجعل كلاين عنوانه شطرا من عنوان الباب الثانى. والمخطوط قد ذكر مثلا عنوانا للباب التاسع هو «الخاص والعام والوعد والوعيد» فجعله كلاين عنوانا لبابين ، مما يقطع بأنه ربما لم ير المخطوط أصلا ، وان كان ثبتا فى كتابه عن الأشعرى قد ذكر هذه الأبواب بعناوينها على وجه صحيح.

فاذا أردنا بعد ذلك امتحان المخطوط وما يتميز به فاننا نجد الناسخ قد كتبه كتابة سيئة كما أهمل التنقيط فى كلمات كثيرة مما يكلف القارئ متاعب جمة ويقوده الى خطأ فى ادراك المطلوب أحيانا كثيرة. ولم يقتصر على ذلك من العيوب ، بل أسقط فى بعض الأحيان كلمات وجملا ، وزاد فى بعض الأحيان كلمات وجملا ، كما عكس الترتيب فى بعض العبارات ووضع عكس المطلوب فى البعض الآخر. ومن المؤكد أن الناسخ لا يعرف القرآن جيدا ، وليست له ثقافة عربية واسعة. وللبرهنة على ذلك نرجو القارئ أن يلقى نظرة فاحصة على التعليقات التى وضعناها فى الهامش تحت الحرف (ب) وهو الحرف الّذي جعلناه رمزا لهذه النسخة.

نحن الآن مع النسخة التى نقلت عن هذه النسخة. وهى نسخة المتحف البريطانى بلندن. فقد نسخها ـ كما يؤكد ذلك البارون فون كرامر ـ حدث مسيحى ، بل ونسخها بخط جميل

١٢

يغبط عليه ، وان كان الناسخ لم يصحح أى خطأ بالأصل بل أضاف إليها كثيرا من الأخطاء الخاصة به ، وربما كان عذره فى ذلك ـ كما أشرت الى هذا من قبل ـ أن نسخة بيروت ليست منقوطة فى كثير من المواضع ، وأن أسلوب الكتابة وموضوعة يتطلب لادراكه تخصصا واسعا فى العلوم العربية والاسلامية. وان كان هناك من الأخطاء ما لا عذر له فيه ، كحذف كثير من الكلمات والجمل ، بل وهناك من الأخطاء ما يصعب تعليله تعليلا سليما. مثال ذلك تغييره كلمة «سنين» فى قوله تعالى : «فلبث فى السجن بضع سنين» الى كلمة «أيام» مع وضوح الأصل فى ذلك وضوحا لا يسمح بالخطإ. وقد وضعت ملاحظاتى على هذه النسخة تحت الحرف «ل» وهو الحرف الّذي جعلته رمزا لها.

كان هذا ما كتبته تقديما لتخرجى هذا الكتاب قبل أن أفاجأ به مطبوعا ومصححا بيد الأب مكارثى الّذي نشر المخطوط سنة ١٩٥٣ ، فرأيت من واجبى أن أقرأ عمله فى هدوء مزمعا الاكتفاء به اذا كان قد قال الكلمة الأخيرة ، ومصمما على نشره للمرة الثانية اذا كان لم يصب كل الاصابة فى تخريجه. وقد وافق مكارثى على ذلك وزاد على هذا بأن أهدانى نسخة مطبوعة من عمله ، فشكرت له تلك الروح الطيبة التى يتحلى بها العلماء وحدهم.

١٣

مكارثى قد وفق من غير شك فى تصحيح أخطاء كثيرة بالمخطوط بل وصحح لى بعض ما كنت أزمع ذكره على أنه تصحيح للمخطوط قبل أن أرى عمله. ولكن عمل مكارثى مع ذلك لم يخل من أخطاء فى رأيى وهذه الأخطاء تكفى مبررا لاعادة النشر من جديد. وكل ما أرجوه أن يرى مكارثى هذا العمل ، وأن يصححه أو يحكم بصحته ، حتى يتم التعاون العلمى الصحيح.

فمثلا مكارثى قد ترك بعض التعبيرات مع اليقين بخطئها من غير تصحيح ، ففى (ص ٩) يذكر المخطوط «وذلك أنه لا يجوز أن يحوك الديباج بالنقاوير» فما معنى ذلك اذا بقيت العبارة من غير تصحيح؟.

وأحيانا يصحح مكارثى الأصل بما لا يتناسب مع المطلوب. فمثلا يقول الأصل (ص ٥٢) : «ولو جاز لزاعم أن يزعم أن قوله لا تدركه أراد به أنها لا تدرك غيره الأبصار. فإن قال ...» وليس من شك فى أن الكلام بذلك ناقص يحتاج الى اصلاح. فما ذا فعل مكارثى؟ لقد وضع الأصل كما هو : «ولو جاز لزاعم أن قوله (لا تدركه) أراد به أنها لا تدرك غيره الأبصار» ثم زاد عليه (لجاز لزاعم أن يزعم أن قوله «صلوا الى واعبدونى» أراد به غيره فاذا فسد هذا فسد ما قاله). فلما ذا كل هذا؟ وهل المعنى على ذلك مستقيم؟ ان

١٤

«الزاعم» فى قوله : «ولو جاز لزاعم» على ذلك التصحيح ، يكون من خصوم الأشعرى أى من المعتزلة وهؤلاء لا يمكن أن يزعموا هذا الزعم. وعلى ذلك فالعبارة تحتاج فى رأى الى زيادة كلمتين فقط ، أعنى : «هذا جاز» بعد قوله فى الأصل : «ولو جاز» وقبل قوله : «لزاعم» فان المعنى بذلك يصبح صحيحا ومفهوما.

يضاف الى ذلك أن مكارثى يغير الأصل أحيانا من غير ضرورة ، فان الأصل مثلا يقول (ص ١٤٥) : «وبظاهر قوله تعالى : (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) أنه لا يترك الحكم بما أنزل الله الا كافر» فغير مكارثى كلمة «الكافرون» فى الأصل الى كلمة «الفاسقون» كما غير كلمة «كافر» الى كلمة فاسق ، فلما ذا غير؟ اننى أعتقد أنه اعتقد أنه لا توجد آية أخرى فى القرآن على الصورة التى وردت فى الأصل بل الموجود فقط (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ). مع أن فى القرآن آيتين أخريين هما (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) وقوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) فهل هناك فى ضوء هذا ضرورة للتغير وهل يصح؟

ومع ذلك فمكارثى جدير بشكر المسلمين ، لأنه ـ وهو قس كاثوليكى ـ قد اشتغل بخدمة التوحيد الاسلامى مع

١٥

وجود التباين العظيم بين ما يعتقده هو من ناحية وما يقرره الاسلام من ناحية أخرى. وقد وضعت جميع ملاحظاتى على عمله تحت الحرف «م».

وكل ما أرجوه بعد ذلك أن أكون قد قمت بنصيب متواضع فى خدمة العلم والمعرفة. والله ولى التوفيق.

* * *

دكتور

حمودة زكى غرابه

مدير المركز الثقافى بلندن

١٦

الرموز

ب : النسخة الموجودة بالكلية الأمريكية ببيروت.

ل : النسخة الموجودة بالمتحف البريطانى بلندن.

م : تخريج الأب مكارثى للمخطوط. المطبعة الكاثوليكية.

ببيروت سنة ١٩٥٣ ..

(٢ ـ كتاب اللمع)

١٧

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

الحمد لله ذى الجود والثناء ، والمجد والسناء ، والعز والكبرياء ؛ أحمده على سوابغ النعم وجزيل العطاء ، وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له عدة (١) اللقاء ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خاتم الأنبياء.

أما بعد ؛ فانك سألتنى أن أصنف لك كتابا مختصرا أبين فيه جملا توضح الحق وتدمع الباطل ، فرأيت اسعافك بذلك ، (رزقك) (٢) الله الخيرات ، وأعانك على الخير (٣) والمطلوبات.

(١)

[الله وصفاته (٤)]

مسألة

ان سأل سائل فقال : ما الدليل على أن للخلق صانعا صنعه ومدبرا دبره؟ قيل (له) (٥) : الدليل على ذلك أن الانسان الّذي هو فى غاية الكمال والتمام ، كان نطفة ثم علقة ثم لحما

__________________

(١) ل : عنده للقاء ، م : عنده للقاء ، وهى فى الأصل : عده للقاء.

(٢) بياض فى الأصل.

(٣) فى الأصل : «الخير مطلوبات» وقد اختار أن تكون «الخير بالمطلوبات» وقد تكون : «الجد فى المطلوبات».

(٤) هذا العنوان ليس فى الأصل وقد تطوعنا بوضعه بعد قراءة ما يشتمل عليه.

(٥) ليست فى الأصل.

١٨

ودما (وعظما) (١) ، وقد علمنا أنه لم ينقل نفسه من حال الى حال ؛ لأنا نراه فى حال كمال قوته وتمام عقله لا يقدر أن يحدث لنفسه سمعا ولا بصرا ، ولا أن يخلق لنفسه جارحة. يدل ذلك على أنه فى حال ضعفه ونقصانه عن فعل ذلك أعجز ؛ لأن ما قدر عليه فى حال النقصان فهو فى الكمال عليه أقدر. وما عجز عنه فى حال الكمال فهو فى حال النقصان عنه أعجز. ورأيناه طفلا ثم شابا كهلا ثم شيخا ، وقد علمنا أنه لم ينقل نفسه من حال الشباب الى حال الكبر والهرم ؛ لأن الانسان لو جهد أن يزيل عن نفسه الكبر والهرم ويردها الى حال الشباب لم يمكنه ذلك ؛ فدل ما وصفنا على أنه ليس هو الّذي ينقل نفسه فى هذه الأحوال ، وأن له ناقلا نقله من حال الى حال ودبره على ما هو عليه ؛ لأنه لا يجوز انتقاله من حال الى حال بغير ناقل ولا مدبر. مما بين (٢) ذلك أن القطن لا يجوز أن يتحول غزلا مفتولا ، ثم ثوبا منسوجا ، بغير ناسج ولا صانع ولا مدبر ، ومن اتخذ قطنا ثم انتظر أن يصير غزلا مفتولا. ثم ثوبا منسوجا بغير صانع ولا ناسج كان عن (٣) معقول (٤) خارجا ، وفى الجهل والجا. وكذلك من قصد الى برية لم يجد قصرا مبنيا فانتظر أن يتحول (٥) الطين الى حالة الآجر ، وينتضد

__________________

(١) ل : حذفها الناسخ.

(٢) ب : نقلها الناسخ : سنن ، واختار م أن يغيرها الى : يبين.

(٣) ل : نقلها الناسخ : عين.

(٤) الانسب «عن المعقول»

(٥) ل : نقلها الناسخ : تحول.

١٩

بعضه على بعض ، بغير صانع وإلا بأن ، كان جاهلا. واذا كان تحول النطفة علقة ، ثم مضغة ، ثم لحما ودما وعظما ، أعظم فى الأعجوبة ، كان أولى أن يدل على صانع صنع النطفة ونقلها من حال الى حال. وقد قال الله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ. أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) (١) فما استطاعوا أن يقولوا بحجة انهم يخلقون ما يمنون مع تمنيهم الولد فلا يكون ومع كراهتهم له فيكون. وقد قال الله تعالى منبها (٢) لخلقه على وحدانيته : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (٣) بين (٤) لهم عجزهم وفقرهم الى صانع صنعهم ومدبر دبرهم.

فان قالوا : فما يؤمنكم أن تكون النطفة لم تزل قديمة؟ قيل لهم (٥) : لو كان ذلك كما ادعيتم لم يجز أن يلحقها الاعتمال والتأثير ، ولا الانقلاب والتغيير ؛ لأن القديم لا يجوز انتقاله وتغيره ، وأن يجرى عليه سمات الحدث ؛ لأن ما جرى ذلك عليه ولزمته الضعة (٦) لم ينقل من سمات الحدث ، وما لم يسبق المحدث كان محدثا مصنوعا ؛ فبطل بذلك قدم النطفة وغيرها من الأجسام.

مسألة

فان قال قائل : لم زعمتم أن البارى سبحانه لا يشبه المخلوقات؟ قيل (٧) (له) (٨) : لأنه لو أشبهها لكان حكمه فى

__________________

(١) سورة ٥٦ الآيتان ٥٨ ، ٥٩.

(٢) ل : نقلها الناسخ : مبينا.

(٣) س ٥١ الآية ٢١.

(٤) م : يبين.

(٥) ب ، ل : له.

(٦) ل : نقلها الناسخ : الصغر

(٧) نقلها الناسخ : قليل

(٨) ليست فى الأصل.

٢٠