ارشاد الطالبين الى نهج المسترشدين

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

ارشاد الطالبين الى نهج المسترشدين

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٦

واختلف فى كيفية وصول هذه الروائح الى القوة الشامة ، فقال بعضهم : يتحلل شيء من أجزاء ذي الرائحة ، ثم يخالط الهواء المنتقل الى القوة الشامة كما في التبخير.

وفيه نظر : اذ لو كان بالتحلل لزم من ذلك عدم الجسم عند تواتر ادراكه لانتقال أجزائه المخالطة للهواء.

وقيل : بانفعال الهواء المتوسط بين ذي الرائحة والخيشوم بكيفية ذي الرائحة ، كما في المسك وغيره ، فان الهواء المحيط به يتكيف برائحته ، للطف الهواء وسرعة انفعاله عن الملاقي له ، ثم يتكيف به هواء آخر ، لمجاورته (١) له وهكذا ، وكذا الكلام فى التبخير. لكن تحلل الاجزاء سبب فى هذا التكيف لا أن الاجزاء يتحلل وينتقل ، للزوم ما ذكرناه من الفساد.

[تعريف الحرارة والبرودة]

قال : الخامس ـ الحرارة والبرودة : وهما كيفيتان ملموستان متضادتان :

فالحرارة كيفية تقتضي جمع المتجانسان وتفريق المختلفات ، وهي جنس لانواع كثيرة ، كحرارة النار ، وحرارة الشمس ، وحرارة الغريزية ، وحرارة الادوية ، والحادثة عن الحمى.

ومن جعل البرودة عدم الحرارة عما من شأنه أن يكون حارا فقد أخطأ ، فانا نحس من الجسم البارد بكيفية زائدة على عدم الحرارة.

أقول : هما من أظهر المحسوسات وأبينها ، فلا يفترقان الى تعريف لما عرفت ، اذ الحاصل بالحس أظهر من الحاصل بالتعريف.

__________________

(١) فى «ن» : بمجاورته.

٨١

قوله «ملموستان» احتراز (١) به عن غير الملموس ، كالمبصرات والمسموعات.

قوله «متضادتان» تحترز به عن الحرارتين ، فانهما لا تتضادان ، وانما كانت الحرارة والبرودة متضادتين ، لانطباق تعريف التضاد عليهما كما سيأتي. أما المشهوري فظاهر ، اذ لا يجتمعان في محل واحد. وأما الحقيقي فانّهما كذلك مع غاية البعد بينهما ، وهذا مذهب المحققين.

وبعضهم جعل التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، وهو رأي من جعل البرودة عدم الحرارة ، كما يجيء بيان غلطه.

ولكلّ واحد منهما حكم لاحق بها : أمّا الحرارة : فمن حكمها جمع المتشاكلات وتفريق المختلفات ، وذلك لان من شأنها احداث الخفة والميل الصاعد للالطف فالالطف ، فاذا وردت الحرارة على الجسم المركب الذي هو غير شديد الالتحام ، كبدن الحيوان مثلا ، فانها تحلل أجزاءها وتصعدها الالطف فالالطف ، بحيث يتصل كل جزء بما يشابهه ، فقد حصل تفريق المختلفات وجمع المتشاكلات بما فلنا من الاتصال.

وأما اذا كان شديد الالتحام ، فاما أن يكون لطيفه وكثيفه قريبتين من الاعتدال لما بينهما من التجاذب والتلازم ، كما في الذهب ، فيفيد سيلانا ودورانا. أو يكون أحدهما أغلب ، فان كان الكثيف أغلب لا في الغاية أثرت تليينا ، كما في الحديد. وان كان اللطيف أغلب أثرت تصعيدا بالكلية اذا كانت قوية.

وأما البرودة : فحكمها بخلاف ذلك.

ثم الحرارة جنس لانواع كثيرة : منها الحرارة المحسوسة من النار ، ومنها الحرارة الغريزية التي هي شرط في الحياة ومناسبة لها ، واختلف فيها فقيل :

__________________

(١) فى «ن» : تحترز.

٨٢

هي الحرارة المحسوسة ، وهي الجزء الناري في بدن الحيوان ، اذا بلغ طبخه (١) الى الاعتدال. وقيل : [بل] هي غيرها ، لان المحسوسة مضادة للحياة ، وهو (٢) شرط فيها مناسب لها.

ومنها الحرارة المنبعثة عن الكواكب ، كالحرارة الشمسية.

ومنها الحرارة التي تكون في ظهور كيفيتها من محلها موقوفا على ملاقاة بدن الحيوان ، كحرارة الادوية.

ومنها الحرارة الحادثة عن الحمى.

قوله «ومن جعل» الخ أي بعضهم جعل البرودة عدم الحرارة ، وهو غلط ، فان البرودة محسوسة ، ولا شيء من العدم بمحسوس ، ينتج من الشكل الثاني : لا شيء من البرودة بعدم. أما الصغرى فلانا نحس بالبارد بكيفية زائدة على عدم الحرارة ، كما في برودة الثلج وهو ظاهر. وأما الكبرى فلان الحس انما يدرك ما يلاقيه أو يقابله ، او لا ملاقاة ولا مقابلة بين الموجود والعدم (٣).

[تعريف الرطوبة واليبوسة]

قال : السادس ـ الرطوبة واليبوسة : وهما كيفيتان محسوستان متضادتان : فالرطوبة تقتضي سهولة قبول الاشكال لموضوعها ، واليبوسة كيفية تقتضي عسر قبول الاشكال لموضوعها ، وقد يفسر الرطوبة بالبلة.

أقول : هاتان الكيفيتان أيضا من المحسوسات بحس اللمس (٤) ، وأمّا

__________________

(١) فى «ن» : طبعه.

(٢) فى «ن» : وهذه.

(٣) فى «ن» : والمعدوم.

(٤) المراد باللمس هو ادراك الكيفيات الاربع وتوابعها ، وهى الحرارة والبرودة

٨٣

تضادهما فظاهر. وبعض الاوائل فسر الرطوبة بعدم الممانعة ، فعلى هذا بينهما عدم وملكة.

واختلف في تفسيرهما : فقال أبو علي ابن سينا : الرطوبة كيفية تقتضي سهولة قبول الاشكال لموضوعها ، كالماء الموضوع في الاناء المربع ، فانه يصير الماء مربعا أيضا ، فاذا أدرناه الى اناء مثلث صار مثلثا من غير صعوبة في ذلك. واليبوسة كيفية تقتضي عسر قبول الاشكال لموضوعها كالحجر ، فانا اذا أردنا جعله مثلثا افتقر الى عسر في نحته وجعله على ذلك الشكل ، وكذا اذا أردنا بعد ذلك شكلا آخر.

وفيه نظر : فانّا لا نسلم أن عسر قبول الاشكال في الحجر لليبوسة ، ولم لا يجوز أن يكون للصورة التركيبية ، مع أنّا نقول : لو كان العسر في الحجر اليبوسة لوجد أين وجدت وليس كذلك ، فان من الاجسام البسيطة ما يقبل الاشكال بسهولة مع كونه يابسا كالنار.

وفسر بعضهم الرطوبة بما يقتضي سهولة الالتصاق وسهولة الانفصال ، فعلى هذا يكون العسل رطبا ، فيكون أرطب من الماء. وهو خلاف ما أجمع عليه المحققون ، أجاب بعضهم بأن العسل وان كان سهل الالتصاق ، لكنه عسر الانفصال.

وقيل : الرطوبة هي البلة التي تنتشر على سطح المحل ، فعلى هذا الهواء غير رطب.

والتحقيق أن هاتين الكيفيتين من الامور المحسوسة ، وقد عرفت أنّها لا تفتقر الى تعريف ، فهؤلاء ان قصدوا التعريف فهو خطأ ، ويرد عليهم ما ذكرناه من النقض ، والا فهو ذكر لبعض خواصهما وأحكامهما ، فلا يكون عاما مطردا.

__________________

والرطوبة واليبوسة ، وتوابعها الخشونة والملاءة والصلابة واللطيف «منه» كذا بخطه الشريف على هامش نسخة الاصل.

٨٤

[تعريف الصوت والحرف]

قال : السابع ـ الصوت : وهو كيفية مسموعة تحصل من تموج الهوائين ـ قارع ومقروع ـ الى أن يصل الى سطح الصماخ ، وهو غير باق بالضرورة.

والحرف هيئة عارضة للصوت ، يتميز بها عن صوت آخر مثله تميزا في المسموع.

أقول : من الاعراض المحسوسة بحس السمع الصوت ، وحيث انه محسوس لا يفتقر الى تعريف.

وذهب النظام الى أنه جوهر ينقطع بالحركة. وهو خطأ ، فان الجوهر يدرك باللمس ، ولا شيء من الصوت مدرك باللمس ، فلا شيء من الجوهر بصوت وينعكس الى لا شيء من الصوت بجوهر.

وذهب بعضهم الى أنه عبارة عن التموج الحاصل فى الهواء من القلع والقرع. وبعضهم قالوا : (١) انه نفس القرع والقلع. وكلاهما فاسد ، لان التموج والقلع والقرع يدرع بالبصر ، ولا شيء من الصوت بمدرك بالبصر ، فلا شيء من ذلك بصوت ، وسبب غلطهم أخذ سبب الشيء مكان ذلك الشيء.

والتحقيق أنه عرض مسموع بحدث من التموج الحاصل فى الهواء الذي سببه القلع أو القرع. والقرع هو امساس عنيف ، والقلع تفريق عنيف. وبيانه أنه اذا حصل بين الجسمين المتقاربين (٢) مقارعة انقلب (٣) من بينهما هواء ، فيصدم ذلك الهواء هواء آخر ، [وهكذا] حتى يصل ذلك التموج الى سطح

__________________

(١) فى «ن» : قال.

(٢) فى «ن» : المتفارقين.

(٣) فى «ن» : انفلت.

٨٥

الصماخ (١) ، ويدركه الحس السامع (٢) ، ومثال التموج فى المشاهدة التموج الذي يحصل فى الماء اذا وقع فى الماء حجرا وشيء له مقاومة ، فالسبب القريب هو التموج ، والبعيد هو القرع أو القلع ، وكذلك الصدى فانه اذا وصل التموج الى جسم صلب أو أملس ، رد ذلك الهواء الى خلف (٣) على شكله الذي كان عليه أولا فتدركه السامعة.

واعلم أن الصوت هل هو موجود في الخارج قبل وصوله الى القوة السامعة أم هو موجود فى القوة السامعة عند وصول التموج إليها؟ الحق الاول وذهب قوم الى الثاني وهو خطأ ، لانه لو كان كما ذكروا لما أدركنا جهته ، لكن تدرك جهته قطعا. بيان الملازمة : أنه اذا كان ادراكه ووجوده انما هو بملاقاة الحاسة أو يكون للحاسة تعلق بادراك جهته كما في اللمس ، فانه لما كان مدركا حال الملاقاة لم يكن يحصل لنا شعور.

ان قلت : انما أدركنا الجهة في الصوت ، لان القرع الذي هو سببه حصل فى تلك الجهة المقابلة للحاسة.

قلنا : هذا باطل ، فانا لو سددنا الاذن اليسرى مثلا التي هي مقابلة للقرع ، لادركنا جهة الصوت بالاذن اليمنى وهو قائم بالهواء ، لانه لو لم يكن موجودا فى الهواء لما مال بهبوب الرياح ، كالمؤذن على المنارة فانه يسمع صوته من جهة دون اخرى ، لإمالة الريح له الى تلك الجهة التي سمع منها.

اذا عرفت هذا فاعلم أنه غير باق بالضرورة ، بل يبقى زمان واحد وعدمه ، لعدم علته لا لذاته ، والا لكان ممتنعا.

__________________

(١) الصماخ ثقب الاذن.

(٢) فى «ن» : ويدركه به القوة السامعة.

(٣) فى «ن» : خلفه.

٨٦

قوله «والحرف» الخ : اختلف المتكلمون والحكماء في الحرف : فالمتكلمون لما منعوا من قيام العرض بالعرض ، منعوا من كون الحرف هيئة عارضة للصوت ، بل جعلوه من جنس الصوت وقسما منه.

والحكماء لما جوزوا قيام العرض بعرض آخر ـ وهو الحق ـ عرفوه بأنه هيئة عارضة للصوت يتميز بها عن صوت آخر مثله تميّزا في المسموع. فالهيئة شاملة له ولغيره ، وقولنا «عارضة للصوت» يخرج به هيئة عارضة لغيره من الاعراض ، كالسرعة العارضة للحركة ، وكالهيئات العارضة للاجسام.

وقولنا «يتميز بها عن صوت آخر مثله تميزا في المسموع» يخرج به ما يحصل به التميز من الهيئات العارضة للصوت ، لكنه لا في المسموع ، بل اما في الطبع ، ككون الصوت (١) طيبا والاخر غير طيب ، أو في الكم ككون أحد الصوتين طويلا والاخر قصيرا ، فان ذلك يفيد التميّز لكن في الطبع أو المقدار.

وبيان كون الحرف هيئة : أن الهواء الداخل الى القلب لترويح القلب قبل وصوله الى القلب يدخل الى الرية ليعتدل فيها ، بحيث يكون قريبا من مزاج القلب ، ثم يدخل الى القلب بعد ذلك ، فيسخن بحرارة القلب ، فيصير كلا على القلب ، فينفضه ليدخل عليه غيره ، فيدخل الى الرية كما كان أولا.

ثم ان الرية تدفعه أيضا لحصول غيره ، فيخرج فيحصل بينه وبين الحنجرة مقارعة ومقاومة لصلابة الحنجرة ، فيحدث الصوت ، ثم انه يصل الى المخارج المعهودة ، فيعرض له انقطاع عند كل واحد منها ، فيحصل له هيئة حينئذ وتلك الهيئة هي الحرف.

__________________

(١) فى «ن» : ككونه صوتا.

٨٧

ثم الحرف : اما مصوّت وهو حروف المد واللين وهي الألف والواو والياء اذا تولدت من اشباع ما قبلها من الحركات المجانسة لها ، كالفتحة للالف والضمة للواو والكسرة للياء [كها] وهو وهي ، وهذه الثلاثة لا يمكن الابتداء بها فى تلك الحالة ، لانها حينئذ ساكنة ، ولا يمكن الابتداء بالساكن.

واما صامت وهو ما عداها من باقي حروف التهجي ، كالتاء والجيم والدال والراء ، وهذه يمكن الابتداء بها.

[تعريف الاعتماد وأنواعه]

قال : الثامن ـ الاعتماد : وهو كيفية تقتضي حصول الجسم في جهة من الجهات. وهو : اما لازم كالثقل والخفة واما مجتلب. وأنواعه ستة بحسب تعدد الجهات ، وهو غير باق.

أقول : هذا القسم أعنى الاعتماد يسميه الحكيم «ميلا» وثبوته فى الحس ظاهر ، فانا نحس فى الزق المنفوخ تحت الماء مدافعة الى الفوق ، وفي الحجر الواقف فى الهواء مدافعة الى التحت ، وهو غير الحركة ، لانها تعدم والمدافعة باقية. وهو غير الطبيعة أيضا ، فانها تكون موجودة في غير وقت المدافعة.

وعرفه المصنف : بأنه كيفية تقتضي حصول الجسم فى جهة من الجهات : امّا بالطبع كالزق المدافع الى الفوق ، والحجر المدافع الى تحت. وامّا بالقسر كالحجر المرمى الى جهة الفوق على خلاف طبعه. واما بالارادة كالحركة الحيوانية.

وينقسم الى لازم وهو ما كان طبيعيا ، كالثقل والخفة الذين فى الحجر والزق الى التحت والفوق. والى مجتلب وهو ما كان قسريا أو اراديا الى الجهات الاربع.

٨٨

قوله «وأنواعه» أي أنواع الاعتماد ستة : وذلك بحسب تعدد الجهات فانها ستة : فان الجسم له أبعاد ثلاثة : طول وعرض وعمق ، ولكل واحد منها طرفان واثنان فى ثلاثة ستة : وهو فوق وتحت ويمين وشمال وخلف وقدام. فالطبيعي منها هو الفوق والتحت ، والباقي غير طبيعي. فالاعتماد أيضا ينقسم الى ستة أقسام كما قلنا ، ميل (١) فوقي وتحتي وغير ذلك.

وهو غير باق ، لان الجسم اذا حصل فى حيز سكن ، ولو كان فيه ميل لم يسكن.

ان قلت : نمنع ذلك في الاعتماد اللازم ، أي الطبيعي ، فان السكون فيه يجوز أن يكون لعارض لا لعدم الميل ، أما في المجتلب فصحيح ، فانه لا يجب حصول الجسم في جهة من الاربع ولا انتقاله عنها ، فيكون الضمير حينئذ في قول المصنف عائد الى المجتلب.

قلت : الجسم اذا حصل (٢) الى حيزه الطبيعي ، لا يجوز أن يكون له عنه ميل ، والا لكان المطلوب بالطبع متروكا بالطبع وهو محال ، أو ميلا إليه ، والا لكان تحصيلا للحاصل.

وفي هذا نظر : فان فقدان الميل والحال (٣) هذه ـ أعنى كونه فى حيّزه الطبيعي ـ لا يدل على عدمه ، اذ هو لازم لطبيعته ، ولذلك لو أخرجناه منه لعاد إليه ، فيكون باقيا ، لكن فى جعل الضمير فى كلام المصنف وهو غير باق عائد الى المجتلب تعسف.

__________________

(١) فى «ص» : مثل.

(٢) فى «ن» : وصل.

(٣) فى «ن» : والحالة.

٨٩

 [تعريف التأليف]

قال : التاسع ـ التأليف : وهو عرض يختص بالمحلين لا أزيد ، يقتضي صعوبة تفكيك الاجزاء ، وأكثر العقلاء أحالوا وجود عرض واحد في محلين.

أقول : التأليف عرض يقتضي صعوبة تفكيك الاجزاء أو سهولتها.

وأثبته أبو هاشم وشيخنا أبو جعفر الطوسي ـ رحمه‌الله ـ لان بعض الاجسام يصعب تفكيكه كالحديد مثلا ، وبعضها يسهل تفكيكه كالماء والدهن ، فلو لا اتصاف ما يصعب تفكيكه بعرض يقتضي الصعوبة لم يكن أولى بها من ضدها ، ولا أولى بها من غيره من الاجسام.

وقال : انه يقوم بمحلين لا غير ، لانه اما أن يكون قائما بجزء واحد أو بجزءين أو بأكثر ، لا جائز أن يقوم بجزء واحد ، اذ الجزء الواحد لا تأليف فيه ، ولا جائز أن يقوم بأكثر من جزءين ، والا لجاز أن يقوم بالجبل العظيم تأليف واحد ، لعدم أولوية عدد عن عدد ، واذا كان كذلك لزم اذا أخذنا جزءا واحدا من الجبل العظيم انفكاك الجبل كله ، لعدم التأليف بعدم بعض محله ، فيسهل تفريق الباقي ، وهو معلوم البطلان ، فبقي أن يكون قائما بجزءين ، وهو المطلوب.

والمحققون من المتكلمين أحالوا وجود عرض واحد فى محلين ، كما استحال (١) وجود جسم واحد فى مكانين.

والحكماء جوزوا حلول عرض واحد فى محل واحد منقسم ، كالوحدة القائمة بالعشرة ، والتربيع القائم بالاضلاع الاربعة المحيطة بالسطح ، والحياة

__________________

(١) فى «ن» : استحيل.

٩٠

القائمة بالبنية المنقسمة الى الاعضاء. وفي التحقيق هو قيام عرض واحد بمحل واحد لكنه منقسم.

واعلم أن قول أبي هاشم ضعيف ، لجواز استناد صعوبة التفكيك الى الله الفاعل المختار ، أو الى أعراض قائمة بمحال متجاورة. وما ذكره من الحجة ركيك ، فان التأليف القائم بأحد الجزءين هو القائم بالآخر ، فيلزم قيام العرض الواحد بمحلين ، وهو باطل لما عرفت. وفيه نظر لجواز قيامه بمجموعهما ، لا أن يقوم بكل منهما على حدة ، فلا يلزم ما ذكرتم.

 [تعريف الفناء]

قال : العاشر ـ الفناء : وأثبت بعضهم للجواهر ضدا وهو الفناء ، اذا أوجده الله تعالى فنيت جميع الجواهر ، وليس فى محل. وهو خطأ ، فان وجود عرض لا في محل محال.

أقول : ذهب الجبائيان الى أن الجواهر تعدم (١) ، فعدمها ليس لذاتها ، والا لكانت ممتنعة فلا توجد ، ولا بالفاعل لان الفاعل شأنه التأثير لا عدمه ، ولا لعدم المؤثر فيها ، لان الباقي مستغن عنده عن الفاعل مع بقائه ، ولا لانتفاء شرطه ، لان الشرط ان كان جوهرا لزم الترجيح بلا مرجح ، اذ الجواهر متساوية في الجوهرية ، وان كان عرضا لزم الدور.

اذ العرض مشروط بوجود الجوهر ، فلو كان شرطا له دار ، فبقي أن يكون لطريان الضد ، وذلك الضد عرض هو الفناء ، اذا أوجده الله تعالى عدمت الجواهر.

وهو غير باق ، والا لافتقر الى ضد آخر ويتسلسل ، وليس فى محل ، اذ

__________________

(١) فى «ن» : باقية.

٩١

الضد لا يجامع ضده.

ثم اختلفا فذهب أبو على الى أن الفناء يتعدد بتعدد الجواهر [كلها] وذهب أبو هاشم الى أن فناء واحد يكفي في عدم الجواهر كلها ، وهذه المقدمات كلها ممنوعة.

أما أولا فلجواز استناد الاعدام الى الفاعل ، كما استند الايجاد إليه.

وأما ثانيا فلاستحالة وجود عرض لا في محل.

وأما ثالثا فلان عدمه في الآن الثاني (١) ان كان لضد آخر تسلسل ، وان كان لذاته كان ممتنعا فيستحيل وجوده.

وأما رابعا فلان عدم أحد الضدين بالآخر ليس أولى من العكس ، لانهما متساويان فى القوة ممانعان (٢) ، والا لما كانا ضدين.

[تعريف الحياة]

قال : الحادي عشر : ـ الحياة : وهي عرض يحل [في] الجسم المركب على بينة مخصوصة ، يصح على (٣) تلك الذات باعتبارها صحة القدرة والعلم.

والموت عدم الحياة عن محل اتصف بها.

أقول : عرف المصنف الحياة بأنها عرض يحل الجسم المركب على بنية مخصوصة. فالعرض جنس شامل لجميع (٤) الاعراض.

وقوله «يحل الجسم» يخرج به عرض يحل الخط والسطح.

وقوله «المركب» يخرج به الجسم البسيط.

وقوله «على بنية مخصوصة» يريد به أن تلك الاجزاء ينبغي أن يكون بينها

__________________

(١) فى «ن» : الثالث.

(٢) فى «ن» : متمانعان.

(٣) فى المطبوع من المتن : عن.

(٤) فى «ن» : بجميع.

٩٢

فعل وانفعال ، بحيث يحصل بينها مزاج.

وقوله «يصح على تلك الذات باعتبارها صحة القدرة والعلم» ليس من تمام التعريف ، بل حكم من أحكام الحياة [و] لازم لها. وهنا فوائد :

الاول : ذهب بعض الاوائل الى أن الحياة : هي عبارة عن اعتدال المزاج وبعضهم الى أنها قوة الحس والحركة.

وقال المحقق الطوسي : ان هذا النقل غير صحيح ، بل اعتدال المزاج شرط فى الحياة ، وشرط الشيء مغاير له ، وقوة الحس والحركة معلولة للحياة وأثر من آثارها ، فتكون متأخرة عنها ، فلا تكون هي.

وعرفها ـ رحمه‌الله ـ فى التجريد : بأنها صفة تقتضي الحس والحركة ، مشروطة باعتدال المزاج (١) هذا في حياتنا نحن (٢) ، أما فى حياته تعالى فليس من هذا القسم ، لاستحالة المزاج عليه والحس والحركة أيضا. والمراد باعتدال المزاج هو أن يكون الموضوع ما مزاج لائق بنوعه.

الثاني : استدل المتكلمون على وجود الحياة وكونها زائدة على صحة القدرة والعلم ، بأنه لو لا اتصاف الذات بأمر [ممكن] يقتضي هذه الصحة لم تكن الذات أولى بها من الجمادات ، لتشارك الاجسام في الجسمية والتركيب.

الثالث : الحياة هل هي مشروطة بالبنية أو لا؟ فذهب المحققون من الحكماء والمعتزلة الى ذلك ، لما عرفت من اشتراطها باعتدال المزاج ، وذلك انما يتم بوجود الجسم المركب من العناصر الاربعة. وذهبت الاشاعرة الى أن ذلك غير شرط ، وجوزوا قيام الحياة بالجوهر الفرد.

__________________

(١) شرح التجريد ص ١٩٥.

(٢) فى «ن» : يحسن.

٩٣

الرابع : ان الحياة تفتقر الى الروح وهو ظاهر. وفسر الحكماء الروح : بأنها أجسام لطيفة متكونة من بخارية (١) الاخلاط ، سارية في عروق تنبعث عن القلب ، وتلك العروق هي المسماة ب «الشرائين». وفسر بعض المعتزلة الروح : بأنها هواء رقيق تختص بضرب من البرودة يتردد في مجاري النفس.

واستدل أبو هاشم على افتقار هذه الحياة الى الروح ، بأن الممنوع من النفس يموت لفقد هذا الروح وشرط أكثر المعتزلة للحياة نوعا من الرطوبة ولهذا اذا خرج الدم من الحيوان يموت وشرط بعض الحكماء نوع من الحرارة.

الخامس : المحققون على أن التقابل بين الحياة والموت تقابل العدم والملكة ، وفسروا الموت بأنه عدم الحياة عن محل اتصف بها. وقيل : عما من شأنه أن يكون حيا ، فالنطفة ميتة على الثاني.

وذهب أبو علي الجبائي وأبو القاسم الكعبي (٢) الى أنهما ضدان ، وجعلا الموت صفة وجودية ، واستدلا بقوله تعالى (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) (٣) والخلق يستدعي الايجاد. وهو ضعيف فان الخلق لغة التقدير ، وهو كما يكون للوجودي يكون للعدمي.

[تعريف القدرة ومسائلها]

قال : الثاني عشر ـ القدرة : وهي كيفية قائمة بالذات ، يصح باعتبارها على تلك الذات أن تفعل وأن لا تفعل. وهي مقدمة (٤) على الفعل ، لان الكافر مكلف بالايمان حال كفره ، فلو لم يكن قادرا عليه حينئذ لزم تكليف ما لا يطاق

__________________

(١) البخار أجزاء مائية يخالطها أجزاء هوائية «منه».

(٢) أى البلخى.

(٣) سورة الملك : ٢.

(٤) وفى المطبوع من المتن : متقدمة.

٩٤

وهي متعلقة بالضدين والعجز عدم القدرة عما من شأنه أن يكون قادرا.

اقول : في هذا التقسيم مسائل :

الاولى : القدرة : هي الصفة التي باعتبارها يكون الحيوان ان شاء أن يفعل فعل ، واذا شاء أن يترك ترك ، تبعا للداعي وعدمه. والدليل على ثبوتها : هو أن الاجسام متفقة في الجسمية ومختلفة في صدور الافعال عنها وعدم صدورها ولا مائز الا هذه [الصفة] ولان حركة القادر متميزة عن حركة المرتعش ، وذلك [التميز] علة كون القادر متمكنا من الترك دون المرتعش ، والفرق بينها وبين الطبيعة المؤثرة ، هو أن القدرة لها شعور بأثرها دون الطبيعة. ثم ان القدرة ليست موجبة للفعل بذاتها ، للفرق الضروري بين فعل القادر والموجب ، من حيث مكنة الاول من الترك دون الثاني.

وهل مع انضمام القدرة الى الداعي يصير الفعل واجبا أم لا؟ أبو الحسين البصري والمحققون على الاول ، قالوا : لا ينافي الوجوب الاختيار ، لان المراد بالاختيار هو كون الفعل تابعا للداعي ، ومتساوي الطرفين بالنسبة الى القدرة ، وهو هنا كذلك.

وأكثر المعتزلة قالوا بالثاني. وقال محمود الخوارزمي : يكون الفعل أولى. وسيأتي تحقيقه إن شاء الله.

الثانية : هل القدرة متقدمة على الفعل ، بمعنى أن الذات تكون متصفة بها قبل وقوع الفعل منها أم لا؟ ذهب المعتزلة والحكماء والمحققون الى الاول ، وهو الحق. وذهبت الاشاعرة الى الثاني.

لنا وجهان : الاول : انا نعلم بالضرورة انا قادرين على الجلوس حال القيام ، ودفعه مكابرة.

الثاني : لو لم تكن القدرة متقدمة على الفعل ، لزم تكليف ما لا يطاق وهو محال كما يجيء. بيان الملازمة : ان الكافر مكلف حال كفره بالايمان ، وحال

٩٥

كفره ليس هو زمان الفعل ، بل هو متقدم عليه ، فلو لم يكن الكافر في تلك الحال قادرا على الايمان ، لكان تكليفه حال عجزه ، وهو تكليف ما لا يطاق.

واحتجت الاشاعرة : بأنها لو تقدمت على الفعل لكانت باقية والبقاء عرض فيلزم قيام العرض بالعرض وهو محال. والجواب منع المقدمتين وسيأتي تحقيقه.

الثالثة : هل هي متعلقة بالضدين أم لا؟ قال (١) المعتزلة والحكماء والمحققون بالاول وهو الحق ، لانا نعلم ضرورة أن القادر على الفعل قادر على الترك ، وأيضا الفرق بين القادر والموجب حاصل ، بأن الاول يصح منه الفعل والترك ، وهما ضدان دون الثاني ، فتكون القدرة متعلقة بهما لكن على سبيل البدل.

وقال (٢) الاشاعرة بالثاني ، لعدم تقدمها على الفعل ، فتكون مقارنة له ، فلا تتعلق بغيره ، وقد عرفت ما فيه.

الرابعة : اختلفوا في العجز ، فقالت الاشاعرة : صفة وجودية ، فتقابل القدرة تقابل الضدين. وقال المحققون من الحكماء والمعتزلة : هو عدم القدرة عما من شأنه أن يكون قادرا ، فلا يسمى الجماد حينئذ عاجزا وان لم يكن قادرا اذ ليس من شأنه القدرة ، فيكون على هذا بينهما تقابل العدم والملكة.

[تعريف الاعتقاد]

قال : الثالث عشر ـ الاعتقاد : فان كان جازما مطابقا ثابتا فهو العلم ، وان لم يكن ثابتا فهو اعتقاد المقلد ، وان لم يكن مطابقا فهو الجهل المركب.

اقول : الاعتقاد أمر وجداني ، فيكون غنيا عن التعريف ، وحيث هو تصديق فلا بد فيه من الحكم بمتصور على متصور ، فذلك الحكم ان كان جازما

__________________

(١) فى «ن» : وقالت.

(٢) فى «ن» : وقالت.

٩٦

مطابقا ثابتا فهو العلم ، وان كان جازما مطابقا غير ثابت فهو تقليد المحق ، وان كان جازما غير مطابق فهو جهل مركب. وهنا فوائد :

الاول : ان المراد بالجازم هو ما اذا عرض نقيضه على العقل حكم بامتناعه ، وبالثابت هو ما يمتنع زواله لوجود علته ، وبالمطابق هو ما عليه الامر في نفسه.

الثاني : أدرج بعض الحكماء الظن في الاعتقاد ، بأن قسمه (١) الى جازم وغير جازم ، والثاني الظن وهو قريب ، وبعضهم قسم غير الجازم الى ما يتساوى فيه الامران أي الاحتمالان ، فذلك شك ، والى ما يترجح أحدهما فيه على الاخر ، فالراجح الظن والمرجوح وهم. وهؤلاء قد أدخلوا على الاعتقاد ما ليس منه ، وهو الشك والوهم ، كما أخرج أبو الهذيل العلم منه ، وهما فاسدان.

الثالث : العلم أمر مشترك بين أمرين أي معنيين : أحدهما المذكور أولا ، وثانيهما حصول صورة الشيء في العقل ، وهذا يدخل فيه الاول والظن والتقليد والجهل.

الرابع : الجهل مشترك بين أمرين : أحدهما المذكور أولا ، والثاني (٢) عدم العلم ، فالاول قسم من الاعتقاد كما عرفته ، والثاني بينه وبينه (٣) تقابل بالعدم والملكة ، وسمي الاول مركبا لتركبه من عدم العلم واعتقاد العلم ، فهو مركب من جهلين ، والثاني يسمى بسيطا لعدم تركبه.

الخامس : الحق أن السهو عدم ملكة العلم وكذا النسيان. وذهب أبو علي الجبائي الى أن السهو معنى يضاد العلم ، فبينهما تقابل التضاد (٤) حينئذ. وفرق

__________________

(١) أى الاعتقاد.

(٢) فى «ن» : وثانيهما.

(٣) فى «ن» : وبين الاعتقاد.

(٤) فى «ن» : بالتضاد.

٩٧

الحكماء بين السهو والنسيان فقالوا : السهو زوال الصورة عن المدركة وان كان موجودا في الحافظة ، والنسيان زوالها عنهما معا.

[أقسام العلم الضرورى]

قال : والعلم اما أن يكون ضروريا أو كسبيا.

والضروريات ستة :

«الاوليات» ـ وهي القضايا التي في الجزم (١) بها تصور طرفيها ، كالحكم بأن الكل أعظم من الجزء ، وأن الاشياء المساوية لشيء واحد متساوية.

«والمحسوسات» ـ وهي القضايا (٢) التي يحكم بها العقل بمعاونة الحس الظاهر ، كالحكم بأن النار حارة والشمس مشرقة ، أو البطن كالجوع والشبع.

«والمجربات» ـ وهي قضايا يحكم بها العقل لتكرار المشاهدة ، كالحكم بأن شرب السقمونيا مسهل.

«والحدسيات» ـ وهي قضايا يحكم بها العقل لحدس قوي من النفس يزول معه الشك ، كالحكم بأن نور القمر مستفاد من الشمس ، لاجل اختلاف نوره بسبب تغاير أوضاعه.

«والمتواترات» ـ وهي قضايا يحكم بها العقل لكثرة ورود الاخبار بها ، بحيث تأمن النفس المواطأة على (٣) الكذب ، كالحكم بوجود النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ووجود مكة.

وليس لليقين عدد مخصوص.

__________________

(١) وفى المطبوع من المتن : الحكم.

(٢) محذوف من المتن المطبوع.

(٣) فى المطبوع من المتن : «و» بدل «على».

٩٨

والقضايا التي قياساتها معها ، وهي قضايا يحكم بها العقل لاجل وسط لا ينفك الذهن عنه ، كالحكم بأن الاثنين نصف الاربعة ، لانه (١) عدد انقسمت الاربعة إليه والى ما يساويه ، وكل عدد انقسمت الاربعة إليه والى ما يساويه ، فهو نصف ذلك العدد.

أقول : العلم ليس ضروريا مطلقا ، لان بعضه كسبيا قطعا ، كتصور النفس ، والتصديق بوجود الواجب. وليس كسبيا مطلقا ، لان بعضه ضروريا قطعا ، كتصور الحرارة والبرودة والتصديق بأن الواحد نصف الاثنين ، فتعين أن يكون بعضه ضروريا وبعضه كسبيا.

والمراد بالضروري في باب التصورات هو ما لا يتوقف على نظر وكسب ، وفي باب التصديقات هو ما لا يفتقر بعد تصور الطرفين الى نظر وكسب ، والنظري فيهما ما يفتقر الى نظر وكسب ، كتصور الملك ووحدة الصانع.

والضروري ستة أقسام :

الاول : البديهيات : وهي قضايا يحكم بها العقل بمجرد تصور طرفيها ، أعني المحكوم عليه والمحكوم به ، كقولنا : الكل أعظم من الجزء. فانا اذا تصورنا الكل ، وهو المركب من عدة أمور ، والجزء وهو واحد من تلك الامور ، حكمنا بأن الاول أعظم من الثاني. وكالحكم بأن المقادير المتساوية لمقدار واحد ، كالذراع مثلا متساويا (٢) في أنفسها ، بأن يكون كل واحد منها ذراعا.

الثاني : المحسوسات : وهي قضايا يحكم بها العقل بواسطة الحس ، أما الحس الظاهر ، فكالحكم بان النار حارة باللمس لها ، والحكم بان الشمس مضيئة بالرؤية لها بالبصر. وسمي هذا القسم «مشاهدات» وأما الحس الباطن ،

__________________

(١) فى المطبوع من المتن : لانها.

(٢) فى «ن» : متساوية.

٩٩

فكالحكم بأن لنا جوعا وعطشا وشبعا ، ويسمى هذا القسم «وجدانيات» أي يجدها الشخص من نفسه.

الثالث : المجربات : وهي قضايا يحكم بها العقل بواسطة مشاهدات متكررة كالحكم بأن شرب السقمونيا مسهل ، فانا لما رأينا الاسهال مترتب عليها مرة بعد أخرى حكمنا بذلك.

الرابع : الحدسيات (١) : وهي قضايا يحكم بها العقل بواسطة حدس قوي من النفس يزول معه الشك ، والحدس هو سرعة انتقال الذهن من المبادي الى المطالب ، كالحكم بأن نور القمر مستفاد من نور الشمس ، لاختلاف نوره بسبب تغاير أوضاعه الى الشمس قربا وبعدا.

الخامس : المتواترات : وهي قضايا يحكم بها العقل لكثرة ورود الاخبار [بها] عن قوم تأمن النفس من مواطأتهم على الكذب ، كالحكم بوجود النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله و [وجود] مكة وشجاعة علي عليه‌السلام وسخاء حاتم.

وهل لليقين فيها عدد مخصوص أم لا؟ ذهب قوم الى الاول ، فمنهم من قال اثنى عشر نظرا الى عدد النقباء. ومنهم من قال عشرون نظرا الى قوله تعالى (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا) (٢) ومنهم من قال أربعون نظرا الى قوله تعالى (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) (٣) وكانوا أربعين (٤) ، ومنهم من قال سبعون لقوله تعالى (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً) (٥) ومنهم من قال ثلاثمائة وثلاث

__________________

(١) لغة الظن «منه».

(٢) سورة الانفال : ٦٥.

(٣) سورة الفتح : ١٨.

(٤) فى «ن» : أربعون.

(٥) سورة الاعراف : ١٥٥.

١٠٠