ارشاد الطالبين الى نهج المسترشدين

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

ارشاد الطالبين الى نهج المسترشدين

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٦

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ان أولى ما صرفت فيه قوة فحول الافكار ، لاقحة لخرائد أبكار الاذكار ، مستخدمة في اظهار نتائجها فصيح الاذكار ، حمد موجد (١) تفرد بوجوب الوجود وصفات الكمال ونعوت الجلال لذاته ، وشكر منعم أفاض سجال جود الوجود على قوابل ماهيات آثاره ومصنوعاته ليظهر سر «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف» فخلق (٢) الخلق على هياكل تعبداته ، وجعل مظهر ذلك السر نوع الانسان ، وحفه بآلاء وألطاف معدة لحصول مرامه فى مقاصده ومراداته ، فالسعيد من وافق أوامره ، والشقي من خالف منهياته.

اختار من بين أفراده أنبياء وأولياء ، شرفهم تشريفا ، وكرمهم تكريما وجعلهم سفراء بينه وبين عباده ، ليظهروا لهم من فضله جسيما ، وخص من بينهم بخطاب (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) (٣) وكان فضل الله عليك عظيما ، وشرفه ب «لولاك لما خلقت الافلاك».

وجعله مرشدا لمقربي حضرته من الاملاك ، بدليل «فسبحنا فسبحت الملائكة

__________________

(١) وفى «ن» : موجود.

(٢) وفى «ن» : فخلقت.

(٣) سورة النساء : ١١٣.

٣

بتسبيحنا وقدسنا فقدست الملائكة بتقديسنا».

ذلك نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أولي الكرامات الباهرات ، والمقامات العلويات ، صلاة تملا أقطار الارض والسماوات.

أما بعد : فحري بمن أكرمه الله من عنده ، وأولاه مزيد فضله وجليل رفده أن يتجلى بذلك ، ويظهره بحسب طاقته وجهده بدليل «ان الله يحب أن يرى آثار نعمه على عبده» فكان الكتاب الموسوم ب «نهج المسترشدين فى أصول الدين» من تصانيف شيخنا وإمامنا الامام الاعظم ، علامة العلماء فى العالم وارث الأنبياء وخليفة الأوصياء ، بل آية الله في العالمين ، جمال الملة والحق والدين ، أبي منصور الحسن بن المطهر (طهر الله رمسه وقدس وكرم ، وشرف نفسه وبجل وعظم) ، قد احتوى من المباحث الكلامية علي أشرفها وأبهاها ، وجمع من الفوائد الحكمية أحسنها وأسناها ، حتى شغف بالاشتغال به معظم الطلاب ، وعول على تقرير مباحثه جماعة الاصحاب.

وكنت ممن جد في تحرير مباحثه بالتحصيل ، وان لم أحصل منه الاعلى القليل ، حتى جمعت من مباحث المشايخ ـ أعزهم الله ـ وفوائدهم مما يتعلق به نبذة ، بحيث صار (١) منها بين الطلبة مما يعد على نعمة.

فحداني ذلك على جمعها في كتاب ، وتصييرها في مركز ونصاب ، ليحصل تأليف متمزقها واجتماع متفرقها ، فتعود شرحا يعول في تقرير مباحثه عليه ، ويعرج في تحرير تقريراته إليه ، وأرهف (٢) عزمي على اتمام هذا الشأن ، التماس ذلك بعض أعزة الاصحاب وأجلة الاخوان ، وفقنا الله واياه للعلم والعمل ، وجنبنا واياه الخطأ والزلل.

وها أنا أشرع في ذلك ، مستعينا بالله ، ومتوكلا عليه ، ومتقربا بوضعه

__________________

(١) وفي «ن» : تنبها.

(٢) أى لا أقطع عزمى بشيء قبل أن أكمله ، فهو كناية عن الجد فى اتمام الكتاب.

٤

إليه ، بعد استخارتي اياه ، واتباعي أوامره فيه ورضاه ، وسميته «ارشاد الطالبين الى نهج المسترشدين». وما توفيقي الا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

[تحقيق حول البسملة]

قال قدس الله نفسه : بسم الله الرحمن الرحيم.

أقول : قد جرت عادة المصنفين بالابتداء في كتبهم بذكر البسملة ، وانما فعلوا ذلك لوجوه :

الاول : قوله عليه‌السلام : كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه بذكر الله فهو أبتر (١).

الثاني : اتباعا (٢) لنسق الكتاب العزيز ، فانه معنون في أوله وسائر سوره بذكر البسملة.

الثالث قول الصادق عليه‌السلام : لا تترك البسملة ولو كتبت شعرا (٣).

الرابع : تيمنا وتبركا بذكر اسمه تعالى.

الخامس : ان الشيء له وجود في الاعيان ، ووجود في الاذهان ، ووجود في اللسان ، ووجود في البنان. ووجود الله تعالى أشرف الموجودات في الاقسام كلها ، والاشرف مقدم على غير ذي الاشرف ، كما سيأتي في أقسام التقدم.

اذا تقرر هذا فنقول : الجار والمجرور هاهنا يتعلق (٤) بمحذوف ، تقديره

__________________

(١) هذا الحديث مشهور فى كتب الشيعة والسنة ومتداول على الالسنة ، ولكن مرفوعا لا مسندا ، ولم نجد له سندا الى الآن.

(٢) وفى «ن» اتباع.

(٣) نور الثقلين عن اصول الكافى ١ / ٦.

(٤) وفى «ن» : متعلق.

٥

بسم الله أقرأ أو أكتب ، كقولهم للمعرس : باليمن والبركة ، أي أعرست. وقدر المحذوف متأخرا ، ليختص اسم الله بالتقديم ، ولان من عادتهم الابتداء بالاهم ، وقال الكوفيون : انه مقدم لكونه عاملا ، ويدل على تأخره قوله (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) (١).

والاسم قيل : هو مشتق من السمة ، وهي العلامة ، لدلالته على المسمى ، لكن يبطل ذلك تصغيره على سيم (٢) ، و [اسم (٣)] جمعه على أسماء ، وكان القياس على ذلك ويسم وأوسام ، وقد تقرر في التصريف كون الصغير والجمع يردان الاشياء الى أصولها.

والحق اشتقاقه من السمو ، وهو العلو ، لعلو المسمى به وظهوره ، ويدل عليه تصغيره وجمعه المذكوران.

وهل هو نفس المسمى أو غيره؟ الحق الثاني ، لكونه دالا ، والدليل مغاير للمدلول ، وتحقيقه في الاصول. وعند النحاة الاسم هو ما دل على معنى في نفسه ، مجردا عن زمن من [الازمنة (٤)] الثلاثة.

والتحقيق هنا أن نقول : اسم الله تعالى قد يكون دالا عليه ، لا باعتبار أمر آخر ، وذلك لفظة «الله» لا غير ، وقد يكون باعتبار أمر ما (٥) ، اما إضافة (٦) ذهنية كالقادر والعالم وأمثالهما ، أو سلب كالواحد والفرد والقديم والازلي

__________________

(١) سورة هود : ٤١.

(٢) وفى «ن» : اسيم.

(٣) الزيادة من «ن».

(٤) غير موجودة فى الاصل.

(٥) وفى «ن» : أمر آخر.

(٦) وفى «ن» إضافية.

٦

والابدي ، أو اضافة وسلب كالحي والواسع والعزيز والرحيم ، فجملة أسماء الله تعالى ترجع في التحقيق الى ذلك.

«الله» قيل : أصله لاه على وزن فعل ، فالحق به الألف واللام للتفخيم والتعظيم فقط ، لا للتعريف ، اذ أسماؤه تعالى معارف. وقال سيبويه : أصله إله على وزن فعال ، فحذفت الهمزة وعوض عنها حرف التعريف ، ولذلك قيل في النداء «يا الله» بقطع الهمزة ، كما يقال «يا إله» ، ولو كانت غير عوض لم تثبت في الوصل ، كما لم تثبت في غير هذا الاسم.

وهل هو مشتق أو جامد؟ قال الخليل : بالثاني ، اذ لا يجب في كل اسم أن يكون مشتقا ، وإلا لزم التسلسل. وقال قوم : بالاول فقال بعضهم من الالوهية اي العبادة ، والتأله التعبد ، فعلى هذا هو الّذي يحق له العبادة ، لقدرته على أصول النعم ، فهو اسم يختص به تعالى أزلا وأبدا.

وقيل : مشتق من الوله ، وهو التحير ، لتحير العقول في كنه عظمته. وقيل من قولهم ألفت الى فلان أي فزعت إليه ، لان الخلق يفزعون إليه بحوائجهم فقيل للمألوه إليه كما يقال للمؤتم به امام (١).

وقيل : من لاه أي احتجب ، لاحتجابه عن تخيل الاوهام [وادراك الحواس له (٢)] وقيل : من لاه أي ظهر ، لظهوره بآياته ودلالاته.

وفي التحقيق هو اسم غير صفة ، ويدل على الذات الموصوفة بجميع الكمالات ، المنزهة عن النقصان ، التي هي مبدأ لجميع الموجودات.

«الرحمن الرحيم» فعلان وفعيل كغضبان وغضيب (٣) ، مشتقان من

__________________

(١) وفى «ن» إمامة.

(٢) هذه العبارة غير موجودة فى نسخة الاصل.

(٣) وفى «ن» : وعظيم.

٧

الرحمة ، وهي افاضة الخير على المحتاج ، وارادته له عناية به ، وهي قد تكون عامة للمستحق وغيره ، وقد تكون خاصة للمستحقين دون غيرهم ، ورحمة الله تعالى عامة ، لانه أراد الخير لكل موجود ، وفعله به أحوال الدنيا والآخرة.

وفي «الرحمن» من المبالغة ما ليست للرحيم ، ولذلك قيل : الرحمن لجميع الخلق ، والرحيم بالمؤمنين خاصة. وروي عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : «الرحمن اسم خاص بصفة عامة ، والرحيم اسم عام بصفة خاصة» (١).

وبيان ذلك : أن الرحمن لا يسمى به غير الله تعالى ، والرحيم قد يطلق على غيره ، فهو في (٢) هذا الوجه مساو لاسم الله تعالى ، الذي هو علم على ذاته مختص به ، وان كان مشتقا من الرحمة ، لجواز اختصاص الرحمن بنوع من الرحمة ، لا يتصور حصولها لغير الله سبحانه وتعالى ، ولذلك جمع الله سبحانه بينه وبين اسمه الخاص في قوله (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) (٣).

وأما كونه بصفة عامة ، فلما عرفت أنه رحمن (٤) لجميع الخلق.

وأما عموم اسم الرحيم ، فلقولهم : أب رحيم وقلب رحيم. وأما خصوص صفته ، فلقوله (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) (٥).

قال : الحمد لله المنقذ من الحيرة والضلال ، المرشد الى سبيل (٦) الصواب في المعاش والمآل ، والصلاة على سيدنا محمد النبي من الخطأ في المقال والفعال ، وعلى آله الاطهار خير آل.

__________________

(١) التوحيد للصدوق : ٢٣٠.

(٢) وفى «ن» من.

(٣) سورة الاسراء : ١١٠.

(٤) وفى «ن» : رحمة.

(٥) سورة الاحزاب : ٤٣.

(٦) وفى المطبوع من المتن : سبل.

٨

[مقدمة مؤلف الكتاب]

أما بعد : فهذا كتاب (نهج المسترشدين في أصول الدين) لخصت فيه مبادئ القواعد الكلامية ، ورءوس المطالب الاصولية ، نفع الله تعالى به طلاب اليقين انه خير موفق ومعين.

اجابة لسؤال الولد العزيز (محمد) أيده الله تعالى بعنايته ، ووفقه للخير ، وملازمة طاعته ، وأيده بالعنايات الربانية ، وأسعده بالالطاف الالهية.

أقول : الحمد هو الوصف بالجميل على جهة التعظيم والتبجيل ، فالوصف شامل للحمد (١) وغيره وتقييده بالجميل خرج غير الجميل من الذم والهجاء ، وقولنا على جهة التعظيم والتبجيل خرج به الاستهزاء.

والمراد بالجميل هو أن يكون اختياريا ، أي صادرا من الفاعل بقدرته واختياره ، لا أن يكون طبيعيا ، وبذلك يقع الفرق بينه وبين المدح ، اذ المدح يقال للاختياري وغيره ، كما يمدح على حسنه وجودة نسبه.

لا كما قال الزمخشري : انهما أخوان ، وذلك لان جعلهما أخوين يفيد تأكيدا ، وعلى ما قلناه يكون تأسيسا ، وهو أولى من التأكيد ، كما قرر في الاصول.

واللام لا يجوز أن تكون عهدية ، لعدم تقدم معهود ذكري ، كقوله تعالى (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) (٢). ولا يحسن فرض معهود ذهني ، لانه يكون منافيا للبلاغة ، وعموم اثبات الحمد لله. ولا يجوز أن

__________________

(١) وفي «ن» للجميل.

(٢) سورة المزمل : ١٦.

٩

[تكون] استغراقية ، كقوله تعالى (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) (١) لان الحمد طبيعة واحدة ليس (٢) فيه تعدد ، فبقي أن يكون لام الحقيقة ، كقولك : الرجل خير من المرأة (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) (٣).

ومعناه حقيقة الحمد وطبيعته ثابتة لله تعالى ، دائما مستقرا ، ولذلك أتى بالجملة الاسمية الدالة على ذلك ، دون الفعلية الدالة على التجدد والتصرم ، كقوله : حمدت الله ، أو أحمد الله.

اذا عرفت ذلك فللحمد خاصتان : الاول : كونه باللسان [خاصة] (٤) ، قال الله تعالى (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ) (٥) ، والقول لساني. الثاني : أنه لا يشترط فيه سبق نعمة ، لوروده مع النعمة تارة ، كقوله تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ) (٦) ومع عدم ذكرها أخرى ، كقوله تعالى (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) (٧) الآية.

وخلاف هاتين الخاصتين خاصة (٨) الشكر : فانه يكون باللسان والقلب والجوارح ، كقوله تعالى (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) (٩) ، ويستدعي سبق النعمة

__________________

(١) سورة العصر : ٢.

(٢) فى «ن» : فليس.

(٣) سورة يوسف : ١٣ وليس فى الآية «وانى أخاف» والصحيح «وأخاف أن» الخ.

(٤) غير موجودة فى نسخة الاصل.

(٥) سورة الاعراف : ٤٣.

(٦) سورة ابراهيم : ٣٩.

(٧) سورة الاسراء : ١١١.

(٨) كذا فى «ن» وفى نسخة الاصل : الخاصيتين خاصية.

(٩) سورة سبأ : ١٣.

١٠

كقوله تعالى (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) (١) فبينهما العموم من وجه ، كالحيوان والابيض.

«لله» مر معناه ، واللام فيه للملك والاستحقاق ، كالمال لزيد ، ويكون مرققا لكسر ما قبله ، ويفخم اذا فتح ما قبله أو ضم ، وقيل : فخم فرقا بينه وبين اللاة (٢) ، اذ بعضهم يقف عليها بالهاء.

«المنقذ» أي المخلص والمنجي.

و «الحيرة» قيل هي : الجهل البسيط ، أي عدم العلم : والضلال هو الجهل المركب وهو عدم العلم مع ادعاء العلم وقيل : الحيرة هي التردد بين النقيضين والضلال الاعتقاد الباطل الحاصل عن شبهة.

والتحقيق هنا أن نقول : اذا كان لنا مطلوب من المطالب ، فانه يحصل لنا البتة اذا قام الدليل عليه ، وان لم يحصل ، فاما من تعارض الادلة فتحصل الحيرة ، أو من قيام شبهة على نقيضه فيحصل الضلال ، والله تعالى هو المنجي من كلتيهما ، فحمده على ذلك.

فان قلت : نعم الله تعالى أعم من ذلك ، فكان ذكر الاعم أولى.

قلت : لا شك أن نعم الله تعالى غير متناهية ، لكنها تتفاوت في الكمال والمقدار فأعظمها هو الهداية الى الاعتقادات الحقة (٣) اليقينية في المعالم الدينية ، اذ باعتبارها يحصل الخلاص من العذاب السرمد ، والحصول على النعيم المؤبد.

واذا حصلت هذه الهداية ، انتفت الحيرة والضلال ، فيكون انتفاؤهما

__________________

(١) سورة يونس : ٦٠.

(٢) وفى «ن» : إله.

(٣) وفى «ن» العقائد الحقية.

١١

والانقاذ منهما اعظم النعم ، فلذلك خصه بالذكر ابتداءً.

ثم أردف (١) بذكر كليات نعمه اجمالا ، وهو أنه أرشد الى سبيل الصواب فى المعاش وهي دار الدنيا ، والمآل وهي دار الآخرة.

و «المرشد» هو الذي يحصل منه الرشاد ، وهو وجدان ما يوصل الى المطلوب.

و «السبل» (٢) هى الطرق ، والصواب هو المطابق لما في نفس الامر ، وتلك الطرق اما علمية ، محضة ، كالاعتقادات الحقة (٣) من التوحيد والعدل والنبوة والامامة ، واما علمية كالعلم بالعبادات الخمس ، والعلم بكيفية المعاملات والاحكام ، وغير ذلك مما يتم به انتظام أحوال النوع الانساني في الدنيا والآخرة كالشرعيات. فالقسم الاول يعلم بعلم الكلام الذي نحن بصدده (٤) وتقرير مباحثه ، والقسم الثاني يحصل بعلم الفقه.

ولما كان هذا الارشاد المذكور يحصل بواسطة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان له علينا نعم تستدعي الشكر عليها ، فعقب الحمد بذكر الصلاة عليه.

و «الصلاة» هنا من الله تعالى بمعنى الرحمة ، ومن الملائكة الاستغفار ، ومن الآدميين الدعاء. واللام فيه لاستغراق الجنس ، اذ لها أفراد متعددة كما ترى. وسمي محمدا ، لكثرة خصالة المحمودة ، وتحليته بالكمالات العلمية والعملية.

و «المعصوم» المتصف بالعصمة ، وهي لغة المنع ، واصطلاحا هي عبارة

__________________

(١) وفى «ن» أردفه.

(٢) كذا فى نسخة الاصل وهو يوافق ما فى المطبوع من المتن ، ويغاير ما ذكر أولا ، وفى «ن» السبيل.

(٣) وفى «ن» : الحقية.

(٤) وفى «ن» : بصدد تقرير.

١٢

عن لطف يفعله الله تعالى بالمكلف ، بحيث يمتنع منه بسببه وقوع المعصية وارتفاع الطاعة ، مع قدرته عليهما.

و «الخطأ» ضد الصواب [وقد عرفته] (١).

واعلم أنه عليه‌السلام معصوم في أربعة : الاول : في مقاله لا يقول باطلا. الثاني : في فعاله لا يفعل باطلا. الثالث : في تروكه لا يترك حقا. الرابع : في تقريراته ، أي لا يقرب بحضرته باطل وهو ساكت عنه ، اذ لا يجوز له التقية. والثلاثة الاول يشاركه الامام فيها ، وأما الرابع فلا ، اذ يجوز على الامام التقية كما سيجيء بيانه إن شاء الله.

و «آل» أقرباؤه ، والمراد بآله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو : علي وفاطمة والحسنان عليهم‌السلام ، وهم الذين أذهب الله عنهم الرجس ، كما جاء به النص (٢). ويمكن أن يدخل فيه باقي الائمة التسعة المشهورين ، لمشاركتهم له في العصمة صلوات الله عليهم أجمعين.

وألف آل منقلبة عن همزة هي بدل من هاء «أهل» ، ولا يستعمل هذا اللفظ إلا في الاشراف ، فيقال : آل الله وآل محمد ، كقول عبد المطلب رحمة الله عليه : نحن آل الله فى كعبته ، لم يزل ذاك على عهد ابراهيم. ولا يقال : آل الاسكاف والزبال. والاهل يعم الكل ، وأما قوله تعالى : (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ) (٣) فلانه كان شريفا في قومه معظما فيهم.

«أما بعد» كلمة تسمى فصل الخطاب ، ومعناها : بعد حمد الله والصلاة

__________________

(١) ليس فى نسخة الاصل.

(٢) سورة الاحزاب : ٣٣. والروايات من الفريقين فى ذلك متواترة ، وقد أخرجنا أخباره عن العامة فى ذيل كتاب الطرائف للسيد ابن طاوس ١٢٢.

(٣) سورة غافر : ٤٦.

١٣

على نبيه وآله. وأول من تكلم بها قيل : داود عليه‌السلام ، وإليه الاشارة بقوله تعالى (آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) (١) وقيل : علي عليه‌السلام ، وقيل : قيس بن ساعدة الايادي حكيم العرب.

و «الكتاب» يحتمل معنيين : أحدهما المكتوب ، وهو المشهور من معاني اللفظ ، وهو مصدر سمي المفعول به ، كقولك «رجل رضي» أي مرضي ، و (هذا خَلْقُ اللهِ) أي مخلوقه ، فيكون معناه على هذا [الشيء] فهذا المكتوب في كذا والثاني أنه من الكتب بمعنى الشيء الذي يفعل به الجمع ، كالنظام لما ينظم به ، فيكون معناه على هذا الشيء الذي يجمع به كذا.

و «النهج» الطريق الواضح.

و «المسترشدون» الطالبون للرشاد ، اذ السين سين الطلب ، والرشاد قد عرفت معناه.

و «الاصول» جمع أصل ، وهو لغة ما يبنى عليه غيره ، وعرفا هو الدليل لابتناء المدلول عليه.

و «الدين» الطريقة والشريعة ، ويسمى هذا العلم بأصول الدين لان العلوم الدينية من الفقه والحديث والتفسير متوقفة على صدق الرسول المبين في هذا العلم ، فيكون هذا العلم أصلا لتلك العلوم.

وسمي [أيضا] بعلم الكلام لوجوه :

الاول : أن المتقدمين كانوا يعنونون فصول مباحثهم بالكلام فيقولون : كلام في القدرة ، كلام في التوحيد ، كلام في العدل ـ الى غير ذلك ـ فلما كثر لفظ الكلام في بحثهم سمي علم الكلام.

__________________

(١) سورة ص : ٢٠.

١٤

الثاني : قيل : ان أول مسألة بحث عنها فى هذا العلم ، واختلف (١) فيها آراء الباحثين في الاسلام ، هي مسألة كونه (٢) تعالى متكلما ، ومعنى الكلام وقدمه أو حدوثه الى غير ذلك ، وبعد ذلك انضم إليه باقي مباحث الصفات والافعال ، فحيث كان أول مباحثه مسألة الكلام سمي به.

الثالث : أن الماهر فيه المستحضر لقوانينه يصير له قوة الكلام مع الغير ، والمجادلة في الامور العقلية وغيرها. وبالجملة هو علم يبحث فيه عن ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله ، وأحوال الممكنات من حيث المبدأ والمعاد.

[لطيفة]

تفضيل (٣) علم على علم آخر بأمور :

اولال : بشرف (٤) معلومه ، فان علم الدباغة ليس له نسبة في الشرف الى علم الجوهر ، وذلك ضروري.

الثاني : كون أحد العلمين أوثق برهانا ، بأن يكون يقينيا ، فانه أشرف من غيره الذي [تكون] أدلته غير يقينية.

الثالث : كون العلم محتاجا إليه في [كل] العلوم الدينية يستحق التفضيل على غيره.

الرابع : كون العلم غير قابل للنسخ والتغيير ، يستحق الاشرفية على غيره من القابل لذلك.

__________________

(١) فى «ن» : واختلفت.

(٢) فى «ن» : كون الله تعالى.

(٣) فى «ن» انه انما يفضل.

(٤) فى «ن» : شرف العلم بشرف.

١٥

الخامس : كون العلم باقيا ببقاء النفس ، ويبقى أثره الى بعد الممات والمفارقة ، يستحق الاشرفية [والاعظمية] على غيره.

ولا شك أن علم الكلام له هذه الوجود المفيدة للشرف والتفضيل ، فيكون أشرف العلوم ، وهو المطلوب.

قوله «لخصت» التلخيص هو التبين ، وقيل : هو حذف الزوائد والاتيان بالفوائد.

و «المبادي» هي الامور التي يبنى عليها مسائل العلم ، والمسائل هي المطالب المنبثة (١) في العلم ويجهل انتساب محمولاتها الى موضوعاتها.

و «القواعد» جمع قاعدة ، وهي مرادفة للاصل والقانون ، وهو [الامر] الكلي المنطبق على جزئيات كثيرة ، بحيث تعرف أحكام تلك الجزئيات من ذلك الكلي.

و «الكلامية» منسوبة الى علم الكلام وقد عرفته ، والاصولية منسوبة الى علم الاصول وقد عرفتها أيضا.

«نفع» أي ينفع ، اذ الفعل الماضي اذا وقع في معرض الدعاء أفاد الاستقبال وكذلك البواقي.

و «اليقين» هو اعتقاد الشيء بأنه كذا ، مع اعتقاد أنه لا يمكن أن يكون الا كذا ، اعتقادا مطابقا لما في نفس الامر ، غير ممكن الزوال.

فاعتقاد الشيء جنس ، وبالقيد الاول يخرج الظن ، وبالثاني الجهل المركب. وبالثالث اعتقاد المقلد للحق ، وأما المقلد للباطل فداخل في الجهل المركب والتوفيق هو حصول الشرائط وارتفاع الموانع وقيل : جعل الاسباب متوافقة في التسبب ، و [قد] عرفه الغزالي بأنه موافقة أفعال العبد لقضاء الله وقدره.

__________________

(١) وفى «ن» : المبنية ، المثبتة.

١٦

و «المعين» من حصلت منه الاعانة ، وهي الاسعاد على الفعل.

و «السؤال» هو طلب الادنى من الاعلى.

و «العناية» هي وجود الشيء على أتم ما ينبغي ان يكون.

[تقسيم المعلوم]

قال قدس الله سره : ورتبته (١) على فصول : الاول في تقسيم المعلومات : المعلوم أما أن يكون موجودا ، وهو الثابت العين ، أو معدوما وهو المنفي العين.

أقول : الترتيب في اللغة هو جعل كل شيء في مرتبته [ومحله] واصطلاحا جعل الاشياء المتكثرة ، بحيث يطلق عليها اسم الواحد ، ويكون لبعضها الى بعض نسبة بالتقدم والتأخر (٢).

اذا عرفت هذا فنقول : انما قدم هذا البحث هنا في تقسيم المعلوم على باقى الاقسام ، لكونه أعم موضوعا ، فان المعلوم ـ وهو الصورة الحاصلة في الذهن ـ أعم مفهوما من باقي الاقسام الآتية.

وحينئذ نقول : المعلوم الذي هو الصورة الذهنية ، أما أن يكون له تحقق في الخارج عن الذهن ، أو لا يكون. فان كان الاول فهو الموجود [و] الثابت العين أي الثابت الحقيقة. وان كان الثاني فهو المعدوم والمنفي العين وليس هناك قسم آخر ليس واحدا بين (٣) هذين القسمين ، لان ذلك حصر

__________________

(١) وفى المطبوع من المتن : وبنيته.

(٢) وفى «ن» : بالتقديم والتأخير.

(٣) وفى «ن» : من.

١٧

ضروري لا يحتمل الزيادة والنقصان ، فان انحصار الشيء بين أن يكون من أول الاوائل لا ينكره عاقل.

[عدم وجود الواسطة بين الموجود والمعدوم]

قال : ولا واسطة بينهما على المذهب الحق ، لقضاء الضرورة بهذا الحصر.

أقول : هذا اشارة الى خلاف مشايخ المعتزلة ، غير أبي الحسين البصري فانهم أثبتوا واسطة بين الموجود والمعدوم ، وسموها ب «الحال» وعرفوها بأنها صفة لموجود لا توصف بالوجود ولا بالعدم ولا بغيرهما من المتقابلات. ومعرفة هذا المذهب يتوقف على تقرير مقدمة وهي :

ان المفهوم ينقسم الى قسمين : قسم يعقل لا بالقياس الى غيره كالجوهر مثلا فان معناه الموجود القائم بنفسه [ليس مقيسا الى غيره] (١). وقسم لا يعقل الا مقيسا الى الغير كشريك الباري ، فانا اذا قلنا الباري ليس له شريك ، كان معناه ان ليس هناك (٢) ما نسبته الى الباري كنسبة زيد الى عمرو بالمثلية ، فلا يعلم الا مقيسا الى الغير.

اذا تقررت هذه المقدمة نقول : المفهوم لا يخلو أما أن يكون معقولا (٣) بالقياس الى نفسه أولا ، فان كان الاول فهو الثابت ، وان كان الثاني فهو المنفي والاول أما أن يرد عليه صفة الوجود أو العدم ، أو لا يرد عليه شيء منهما ، فان كان الاول فهو الموجود ، وان كان الثاني فهو المعدوم ، وان كان الثالث فهو الواسطة والحال.

__________________

(١) كذا فى هامش نسخة الاصل.

(٢) وفى «ن» : موجود.

(٣) وفى «ن» : مفهوما.

١٨

واستدلوا على تحقق مثل هذا المعنى بوجهين :

الاول : ان الوجود زائد على الماهية ، فأما أن يكون موجودا أو معدوما أو لا موجودا ولا معدوما ، والقسمان الاولان باطلان ، فتعين الثالث ، فثبتت الواسطة ، وذلك هو المطلوب.

أما بطلان القسم الاول فلانه لو كان موجودا لكان له وجود ، وننقل الكلام الى وجوده ونقول فيه كما قلنا في الاول ، ويلزم التسلسل وهو محال.

وأما القسم الثاني فلانه يلزم منه اتصاف الشيء بنقيضه ، واتصاف الشيء بنقيضه أيضا محال ، واذا بطل هذان القسمان تعين الثالث.

الثاني : أن السواد والبياض أمران ثابتان يشتركان في اللونية ، والمشترك بين (١) الثابت ثابت ، فاللونية ثابتة. ثم [ان] السواد تميز عن البياض بأمر يجب أن يكون مغايرا لما به الاشتراك ، والا لما تحققت الاثنينية ، وبذلك المميز تعين كل واحد منهما. وحينئذ نقول : ذلك المشترك ـ أعني اللونية ـ أما أن يكون موجودا أو معدوما أو ليس واحدا منهما ، والاول باطل والا لزم قيام العرض بالعرض وهو محال ، والثاني باطل أيضا والا لكان المعدوم جزءا من الموجود.

أما الاول فلان اللونية قائمة بالسواد والبياض ، وهي عرض وهما عرضان فيلزم ما قلناه.

وأما الثاني فلان المشترك جنس والجنس جزء ، فلو كان معدوما لكان جزء السواد والبياض معدوما ، فيكونان معدومين ، هذا خلف.

واذا بطل [هذان] القسمان تعين القسم الثالث ، وهو المطلوب.

والجواب : أما من حيث الاجمال فهو أن هذا ايراد على الضروريات ، فلا

__________________

(١) وفى «ن» : فى.

١٩

يكون مسموعا ، اذ الضروري غير قابل للتشكيك.

وأما من حيث التفصيل فنقول : أما الوجه الاول فنجيب عنه بوجهين :

الاول : ان الوجود غير قابل لتلك القسمة المفروضة ، فان انقسام الشيء الى نفسه والى غيره محال ، فانه [كما] لا يقال السواد اما سواد واما بياض ، فكذا هنا لا يقال الوجود اما موجود أو معدوم ، واذا بطل التقسيم المذكور بطل ما ذكر تموه.

الثاني : انا نختار أن الوجود موجود ، قلتم : فيكون له وجود. قلنا : لا نسلم ، بل وجود الوجود عينه ، ولا يلزم حينئذ تسلسل. ومثاله في الحس أن يقال : الضوء أما مظلم أو مضيء ، فان كان مظلما لزم اتصاف الشيء بنقيضه ، وان كان مضيئا لزم أن يكون للضوء ضوء آخر.

فيقال في الجواب : ان الضوء مضيء بنفسه ، لا باعتبار ضوء آخر.

وأما الوجه الثاني : فيجاب عنه بوجهين :

الاول : انا نختار أن اللونية موجودة في الذهن ، فانها كلية والكلي ثابت ذهنا كما يجيء.

الثاني : سلمنا أنها موجودة في الخارج ، ولا يلزم المحال ، اذ العرض يقوم بالعرض كالبطء والسرعة القائمين بالحركة ، وسيأتي تحقيقه.

[تقسيم كل من الموجود والمعدوم الى الخارجى

والذهنى وبيانهما]

قال : والموجود أما أن يكون ذهنيا لا غير كالاشياء المتصورة في الذهن المنفية في الخارج ، كما نتصور جبلا من ياقوت أو (١) بحرا من زيبق ، وأما أن

__________________

(١) وفى المطبوع من النهج : و.

٢٠