ارشاد الطالبين الى نهج المسترشدين

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

ارشاد الطالبين الى نهج المسترشدين

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٦

والعقاب ان لم يتنافيا لم ينف أحدهما الاخر ، وان تنافيا اجتمع الوجود والعدم في كل منهما ، لان المنافاة ثابتة من الطرفين ، وليس انتفاء السابق بالطارئ أولى من العكس.

احتجوا : بأنه لو لا الاحباط لحسن ذم من كسر قلم من أنعم عليه بأنواع متعددة لا تحصى.

والجواب : المنع من قبح الذم على هذا القدر اليسير.

أقول : المؤمن المطيع اذا كفر زال استحقاق ثوابه اجماعا ، والكافر اذا آمن زال استحقاق عقابه اجماعا. واختلف في المؤمن اذا فعل ما يستحق به عقابا هل يجتمع له استحقاق ثواب واستحقاق عقاب أم لا؟ فقالت المرجئة والامامية والاشاعرة : نعم يمكن ذلك ، وقال جمهور المعتزلة لا يمكن ذلك لما يأتي من شبهتهم ، ولذلك قالوا بالاحباط والتكفير ، فالاحباط هو : خروج فاعل الطاعة عن استحقاق المدح والثواب الى استحقاق الذم والعقاب.

والتكفير هو : خروج فاعل المعصية عن استحقاق الذم والعقاب الى استحقاق المدح والثواب.

ثم أن أبا علي الجبائي من المعتزلة قال : ان المكلف اذا استحق خمسة أجزاء من الثواب ، ثم فعل [فعلا استحق به] خمسة أجزاء من العقاب ، فان الخمسة الطارية ـ أعني العقابية ـ أسقطت الخمسة الاولى وبقيت هي.

وابنه أبو هاشم يقول : ان الطارية تسقط الاولى وتعدم هي أيضا ، وان كان السابق أزيد من الطاري أسقط الطاري ما قابله وعدم هو وبقي الزائد ثابتا ، كما لو كانت الاولى في مثالنا ستة ، يبقى له جزء. وعلى هذا يسمى هذه «الموازنة» والحق مذهب الاولين واستدل المصنف على حقيته بوجهين :

الاول : أن القول بالاحباط والتكفير ملزوم الباطل فيكون باطلا ، أما

٤٢١

الصغرى فلانه يلزم أن من فعل احسانا واساءة متساويين كخمسة أجزاء وخمسة أجزاء مثلا يكون بمنزلة من لم يفعل شيئا أصلا ورأسا ، وكل ذلك باطل عقلا وهو ضروري. ونقلا كقوله تعالى (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (١) ، (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) (٢) و «من» في الشرطية للعموم. والاول يبطل الاحباط ، والثاني يبطل الموازنة.

الثاني لو صح القول بهما لزم اجتماع الوجود والعدم ، واللازم باطل فكذا الملزوم بيان الملازمة : أن الثواب والعقاب اما أن يتنافيان أولا ، ان كان الثاني لم يحصل مطلوبكم وهو انتهاء أحدهما بالآخر ، وان كان الاول كانت المنافاة ثابتة من الطرفين ، فيكون كلا منهما مزيلا لصاحبه ، والا لزم الترجيح بلا مرجح وهو محال ، واذا كان كلا منهما مزيلا لصاحبه لزم أن يكون كلا منهما موجودا من حيث أنه مزيل ومعدوما من حيث أنه مزال ، فيكون موجودا معدوما [معا] وهو محال.

احتجت المعتزلة : بأنه لو لم يكن القول بالاحباط حقا لزم حسن ذم من أحسن الى غيره بأنواع الاحسان ، كما لو نجى ولده من الغرق ، أو عالجه حتى شفى من أنواع المرض ، أو سقاه الماء وقد أشرف على التلف من العطش ، بأن كسر له قلما أو وتدا ، واللازم باطل للنفرة من ذلك ، فيكون القول بالاحباط حقا.

والجواب : المنع من قبح ذمه ، بل هو ممدوح على احسانه مذموم على اساءته.

__________________

(١) سورة الزلزلة : ٧ ـ ٨.

(٢) سورة النساء : ١٢٣.

٤٢٢

[حكم وعيد أصحاب الكبائر والكفار]

قال : الخامس : وعيد أصحاب الكبائر منقطع ، خلافا للمعتزلة.

لنا : قوله تعالى (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (١) فالمطيع بايمانه اذا عصى استحق ثوابا وعقابا ، فان داما لزم المحال ، وان انقطع الثواب لزم تأخير العقاب عن الثواب ، وهو باطل بالاجماع ، فتعين العكس. ولقوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (٢).

أما الكفار فان وعيدهم دائم بالاجماع.

أقول : في هذا البحث مسألتان :

المسألة الاولى : في وعيد أصحاب الكبيرة ، والمراد بالكبيرة ما توعد الله عليها بالنار بعينه ، كالزنا والغضب واللواط وغيرها ، وعد منها سبعة ، وقيل سبعين.

قال ابن عباس : وهي الى سبعمائة أقرب غير أنه لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع اصرار. وقال بعض الاصحاب الذنوب كلها كبائر ، نظرا الى اشتراكها في المخالفة ، وانما سمي بعضها صغائر بالنسبة الى ما فوقها. فالقبلة المحرمة صغيرة بالنسبة الى الزنا ، وكبيرة بالنسبة الى النظر.

قال الاصوليون : ان الكبيرة والصغيرة يقالان اما بالإطلاق ، فالذنب الصغير هو ما نقض عقابه عن ثواب فاعله في كل وقت ، والذنب الكبير هو ما يزيد عقابه على ثواب فاعله في كل وقت. أو بالإضافة الى معصية أو طاعة فالذنب الصغير هو الذي ينقض عقابه عن ثواب تلك الطاعة ، أو عقاب تلك المعصية في كل وقت ، والكبير هو الذي يزيد عقابه عن ثواب تلك الطاعة ، أو عقاب

__________________

(١) سورة الزلزلة : ٧ ـ ٨.

(٢) سورة النساء : ٤٨.

٤٢٣

تلك المعصية في كل وقت وقلنا في هذه الصورة في كل وقت ، لانه لو اختلف الاوقات لوجب التقييد ، فتخلف الاسماء حينئذ.

اذا تقرر هذا فاعلم أن المتكلمين اختلفوا في عقاب صاحب الكبيرة : فقالت الوعيدية وهم المعتزلة ومن تابعهم : ان عقابه دائم.

وقالت الاشاعرة والمرجئة وأصحابنا الامامية : انه منقطع ، وهو الحق ، واستدل المصنف (رحمه‌الله) على حقيته هنا بوجهين :

الاول : قوله تعالى (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) وتقرير الاستدلال : أن المطيع بايمانه اذا فعل معصية استحق ثوابا وعقابا ، لما تقدم من بطلان التحابط ، فاما أن يكونا دائمين أو منقطعين أو أحدهما دائما والاخر منقطعا ، والاول باطل لاستلزامه اجتماع الضدين ، والثاني يلزم منه المطلوب ضمنا ، والثالث اما أن يكون المنقطع هو الثواب ، وهو باطل بالاجماع ، فتعين انقطاع العقاب ، وهو المطلوب.

الثاني : قوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (١) والكبيرة دون الشرك بلا خلاف ، وحينئذ نقول : سلب الغفران عن الشرك وأثبته لما دونه ، فدل على الفرق بينهما ، فلو كان عقابه دائما كعقابه لم يبق بينهما فرق ولم يكن لغفرانهما معنى.

احتجت الوعيدية : على قولهم بالآيات الدالة على تخليد الفاسق ، كقوله تعالى (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) (٢) وقوله (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) (٣) الى غير ذلك من الآيات.

__________________

(١) سورة النساء : ٤٨.

(٢) سورة النساء : ٩٣.

(٣) سورة النساء : ١٤.

٤٢٤

قالوا : والمراد من الخلود الدوام.

والجواب : المراد بالخلود المكث الطويل ، وهو أعم من الدوام وغيره ، فوجب حمله على المنقطع جمعا بين الادلة ، وهو المطلوب.

المسألة الثانية : في وعيد الكافر ، اتفق المسلمون كافة على أن الكافر المعاند مخلد في النار ، وأما الكافر الذي بالغ في الاجتهاد وطلب الحق لم يصل إليه ومات هل يكون مخلدا أم لا؟

فقال الجاحظ والمغيري (١) : انه معذور عند الله بقوله تعالى (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٢).

وقال البيضاوي في طوالعه : يرجى له عفو الله تعالى.

وقال باقي المسلمين : انه مخلد كالاول ، وهو الحق للاجماع وعموم القرآن والخبر ، ولان المبالغ في الاجتهاد ، اما أن يصل أو يموت على الطلب ، وكلاهما ناج ومحال أن يؤدي الاجتهاد الى الكفر ، وغير المبالغ في الاجتهاد اما مقلد لكافر أو جاهل جهلا مركبا ، وكلاهما مقصر غير معذور.

[أحوال يوم القيامة]

قال : السادس : عذاب القبر والصراط والميزان والحساب وانطاق الجوارح وتطاير الكتب وأحوال الجنة والنار أمور ممكنة ، والله تعالى قادر على جميع الممكنات ، وقد أخبر الصادق عليه‌السلام بثبوتها فتكون واقعة.

أقول : يشير المصنف (رحمه‌الله) الى اثبات أمور من أحوال القيامة ورد النقل بها :

__________________

(١) فى «ن» : العنبرى.

(٢) سورة الحج : ٧٨.

٤٢٥

فمنها عذاب القبر : وهو أمر ممكن ولا استبعاد فيه ، مع احتمال كونه لطفا للمكلفين ، وقد تواتر النقل بوقوعه ، أما الاخبار فمشحونة به. وأما القرآن فيدل عليه آيات:

الاول : قوله تعالى (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) دل ذلك صريحا على حصول عذاب بعد الموت وقبل البعث ، والا لزم التكرار في قوله تعالى (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) وذلك هو عذاب القبر ، فثبت القول به.

الثاني : قوله تعالى في حق قوم نوح (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) أتي بفاء التعقيب ، فيكون ادخالهم النار عقيب الاغراق ، [فيكون هذا الادخال قبل الادخال الذي في القيامة ، لان ذلك ليس عقيب الاغراق] ، وادخال النار قبل يوم القيامة هو عذاب القبر.

الثالث : قوله تعالى (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) دل ذلك على أن في القبر حياة وموتا آخر ، والا لم يكن الاحياء مرتين والاماتة كذلك.

ان قلت : فعلى هذا يكون الاحياء ثلاثا ، فلم ذكر مرتين فقط.

قلت : التخصيص بالعدد لا ينفي الزائد ولا يتعين.

ومنها الصراط : وهو جسر بين الجنة والنار ، أدق من الشعر وأحد من السيف ، يتسع للمطيع ويتضيق للعاصي.

ومنها الميزان والحساب : وهما اشارة الى العدل في الجزاء.

ومنها انطاق الجوارح : وإليه الاشارة بقوله (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١).

ومنها تطاير الكتب : وإليه الاشارة بقوله تعالى (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ

__________________

(١) سورة النور : ٢٤.

٤٢٦

فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) (١).

ومنها أحوال الجنة ونعيمها والنار وجحيمها وكيفية الجزاء وأنواع اللذات والآلام ، وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

وكل هذه الامور ممكنة ، والله تعالى قادر على جميع الممكنات ، والصادق عليه‌السلام أخبر بوقوعها فتكون واقعة وهو المطلوب.

[جواز العفو عن الفاسق ومسألة الشفاعة]

قال : السابع : يجوز العفو عن الفاسق ، خلافا للوعيدية. ومنعت المعتزلة كافة من العفو سمعا ، واختلفوا في منعه عقلا ، فذهب إليه البغداديون ، ونفاه البصريون.

والحق جواز العفو عقلا ، ووقوعه سمعا.

لنا : أنه احسان ، وكل احسان حسن. والمقدمتان ضروريتان. ولان العقاب حقه تعالى ، فجاز منه (٢) الاسقاط. ولقوله تعالى (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) (٣) و «على» يدل على الحال. وقوله (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (٤) وليس المراد مع التوبة لعدم الفرق بينهما ولانه عليه‌السلام ثبت له الشفاعة ، وليست في زيادة المنافع ، والا لكنا شافعين فيه ، فثبت في انتفاء المضار.

أقول : لما لم نقل نحن بوجوب عقاب الفاسق كان عقابه عندنا في بقعة

__________________

(١) سورة الاسراء : ١٣.

(٢) لم تثبت فى المطبوع من المتن وفيه «اسقاطه» بدل «الاسقاط».

(٣) سورة الرعد : ٦.

(٤) سورة النساء : ٤٨.

٤٢٧

الامكان ، فتارة نقول بوقوعه ويكون منقطعا ، وتارة نقول بعدم وقوعه ، وذلك اذا حصل أحد أمور ثلاثة : اما التوبة أو العفو أو الشفاعة ، أما الاول فسيأتي بيانه ، وأما الآخران فهذا البحث معقود لهما ، فهنا مقامان :

الاول : في جواز العفو عن الفاسق ، وقد اتفق على ذلك أصحابنا الامامية والمرجئة والاشاعرة [بل] ومن الناس من يحكم بوجوب العفو عنه ، وقالت الوعيدية : بامتناع العفو عنه سمعا ، واختلفوا في جوازه عقلا ، فمنعه البغداديون والبلخي ، وجوزه البصريون.

والحق جوازه عقلا ووقوعه سمعا ، أما الاول فلوجهين :

الاول : أن العفو احسان ، وكل احسان حسن ، والمقدمتان ضروريتان لا يفتقران الى برهان.

الثاني : أن العقاب حقه تعالى ، فجاز منه اسقاطه. أما الاول فظاهر ، وأما الثاني فلانه لا ضرر عليه تعالى في تركه ولا لوم ، مع أنه اضرار بالعبد وتركه احسان إليه ، وكل ما كان كذلك كان اسقاطه جائزا ، بل ذلك غاية في الاحسان قطعا.

ان قلت : هذا معارض بوجهين :

الاول : أن العلم بالعفو اغراء للمكلف بفعل القبيح فيكون قبيحا.

الثاني : أنه ملزوم القبيح فيكون قبيحا ، أما أنه ملزوم القبيح فلانه يلزم الكذب في الوعيد والكذب.

قلت : الجواب عن الاول : أنا لم نقل بقطعيته حتى يلزم الاغراء ، مع أنه معارض بالتوبة ، فان العقاب يسقط بها ، مع أنه لا اغراء معها اتفاقا ، لعدم تيقن حصولها.

وعن الثاني : أنه معارض بخلف الوعد ، وهو أن تحتم العذاب ملزوم

٤٢٨

الكذب في الوعد ، فما أجبتم به فهو جوابنا.

وأما الثاني وهو وقوع العفو سمعا فلوجهين :

الاول : قوله تعالى (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) (١) ووجه الاستدلال أن «على» هنا يفهم منها معينان : أحدهما التعليل كما يقال : ضربته على عصيانه ، أي لاجل عصيانه ، وثانيهما الحال كما يقال : زرت زيدا على شربه ، أي في حال شربه ، والاول غير مراد في الآية اتفاقا فبقي الثاني ، فيكون معناه أنه لذو مغفرة للناس حال ظلمهم ، خرج من ذلك الكفر بالاجماع فبقي الباقي على عمومه ، وهو المطلوب.

الثاني : قوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (٢) ووجه الاستدلال من وجهين :

أحدهما : أنه أخبر أنه يغفر ما دون الشرك ، فاما أن يكون مع التوبة أو بدونها ، والاول باطل لعدم الفرق حينئذ بين الشرك وغيره ، فان الاجماع منعقد على غفران الشرك مع التوبة فتعين الثاني ، وهو أن يكون معفوا بدون التوبة فيكون واقعا لوجوب وقوع ما أخبر الله تعالى بوقوعه ، وهو المطلوب ، ولا يمكن أن يقال : ان عدم غفران الشرك مع التوبة وغفران ما دونه مع التوبة ، لخروج الكلام عن النظم الصحيح.

وثانيهما : أنه تعالى علق غفران ما دون الشرك بالمشية ، فوجب أن لا يكون مشروطا بالتوبة ، لان الغفران مع التوبة واجب عند الخصم ، ولا شيء من الواجب معلق بالمشية.

المقام الثاني : ان الشفاعة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ثابتة في حق

__________________

(١) سورة الرعد : ٦.

(٢) سورة النساء : ٤٨.

٤٢٩

الفاسق فيكون عقابه ساقطا بها ، فيكون معفوا عنه ، وهو المطلوب.

أما ثبوت الشفاعة فلوجوه :

الاول : الاجماع.

الثاني : قوله تعالى (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) (١) والفاسق مؤمن لما يجيء ، فوجب دخوله فيمن يستغفر له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم هذا الامر اما على سبيل الوجوب أو الندب ، وعلى التقديرين فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يفعله.

الثالث : قوله عليه‌السلام «ادخرت شفاعتي لاهل الكبائر من أمتي» (٢).

وأما أنها تسقط عقابه فلانها : أما لاسقاط العقاب أو لزيادة الدرجات كما يقوله الوعيدية ، أو لهما معا والثاني باطل ، والا لزم اذا سألنا الله تعالى زيادة درجة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أو اكرامه أن نكون شافعين له صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واللازم باطل بالاجماع ، فالملزوم مثله ، والاول والثالث يستلزمان المطلوب.

[حول التوبة وماهيتها]

قال : البحث التاسع ـ في التوبة : وهي الندم على المعصية والعزم على ترك المعاودة ، اذ لولاه لكشف عن كونه غير نادم.

وهي واجبة ، لانها دافعة للضرر ، فان كانت عن ظلم لم تتحق الا بالخروج الى المظلوم أو الى ورثته عن حقه ، أو الاستيهاب ، فان عجز عزم عليه. وان كانت عن اضلال لم تتحقق الا بعد ارشاد الضال. وان كانت عن فعل مختص به

__________________

(١) سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله : ١٩.

(٢) البحار : ٨ / ٣٥.

٤٣٠

 ـ كشرب الخمر ـ كفى الندم والعزم المتقدمان. وان كانت عن ترك واجب كالزكاة لم تتحق الا بفعله. ولو لم يجب القضاء كفى الندم والعزم كالعيدين.

ويصح من قبيح دون قبيح عند أبي علي ، لان الاتيان بواجب دون واجب ممكن ، فكذا التوبة الواجبة عن كل ذنب. ومنع أبو هاشم ، لان التوبة انما تقبل اذا كانت من القبيح لقبحه ، والقبح مشترك في الجميع ، فلو تاب عن قبيح دون غيره كشف ذلك عن كونه تائبا عن القبيح لا لقبحه.

أما الواجب فلانه يجب أن يوقعه لوجوبه ، ولا يجب عموم كل واجب في الفعل ، فان من قال «لا آكل هذه الرمانة لحموضتها» يجب أن يمتنع عن كل رمانة حامضة ، بخلاف من قال «أنا آكل هذه الرمانة لحموضتها».

وهل سقوط العقاب بالتوبة واجب أو تفضل؟ المعتزلة على الاول ، والمرجئة وجماعة على الثاني ، وهو الاقرب.

لنا : أنه لو وجب السقوط لكان اما لوجوب قبولها ، أو لزيادة ثوابها ، والقسمان باطلان : أما الاول : فلانه يلزم أن من أساء الى غيره بأعظم الاساءات ثم اعتذر إليه وجب قبول عذره ، والتالي باطل بالاجماع ، فكذا المقدم. وأما الثاني : فلما مر من بطلان التحابط.

احتجوا : بأنه لو لم يجب السقوط لقبح تكليف العاصي بعد عصيانه ، والتالي باطل بالاجماع ، فالمقدم مثله. بيان الملازمة : أنه لو كلف بعد العصيان لكانت الفائدة اما الثواب أو غيره ، والثاني باطل اجماعا ، والاول محال هنا ، للتنافي بين استحقاق الثواب والعقاب ، ولا مخلص للعاصي من استحقاق العقاب حينئذ ، وكان يقبح تكليفه.

والجواب : المنع من دوام عقاب الفاسق وقد سبق ، والمنع من عدم المخلص ، لجواز العفو ، أو كثرة الطاعات وزيادتها على العقاب.

٤٣١

أقول : في هذا البحث مسائل :

الاولى : في بيان حقيقة التوبة ، اذ التصديق مسبوق بالتصور ، فيتوقف البحث فيها على تصور حقيقتها فنقول :

ذهب أبو هاشم الى أن التوبة عبارة عن الندم على فعل المعصية الماضية (١) والعزم على تركها مستقبلا ، فحقيقتها مركبة من ندم خاص وعزم خاص.

وقال قوم : ان حقيقتها هو الندم الخاص ، أي على فعل المعصية الماضية وأما العزم فغير داخل في حقيقتها. ثم اختلفوا في العزم حيث أنه غير داخل هل هو شرط أم لا؟ فقال بعضهم : انه شرط. وقال محمود الخوارزمي : انه غير شرط ، ويمكن أن يكون لازما ، فتحصل من هذا الكلام أن النادم غير العازم ليس بتائب اتفاقا ، وانما الخلاف في أن عدم توبته لزوال جزء التوبة ، أو لزوال شرطها ، أو لزوال لازمها. وقد عرفت الاقوال كما حكيتها ، ولذلك وقع الاجماع على أن العازم غير نادم ليس بتائب ، وحينئذ الخلاف لا يجدي نفعا طائلا.

وتحقيق الحال أنه لا بد في التوبة من ندم في الحال وترك في الحال وعزم على عدم العود في الاستقبال ، وحينئذ يجوز أن يجعل العزم جزءا أو شرطا أو لازما. ولا يضر ذلك من حيث المعنى ، ويظهر من كلام المصنف اختيار قول أبي هاشم ، ولكل قوم حجة على مدعاهم هي بالمطولات أشبه.

الثانية : هل التوبة واجبة من جميع الذنوب كبائر أو صغائر أو عن الكبائر لا غير؟ ذهب أصحابنا وأبو علي الجباني الى الاول ، وذهب أبو هاشم الى الثاني.

__________________

(١) فى «ن» : ماضيا.

٤٣٢

احتج أصحابنا : بأن التوبة دافعة لضرر معلوم أو مظنون ، وكلما كان كذلك فهو واجب ، ولانها اما عن فعل محرم أو ترك واجب ، وهما قبيحان ، وكل قبيح يجب تركه ، ولعموم قوله تعالى (تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) (١) والامر للوجوب ، وهو المطلوب.

حجة أبي هاشم : أن التوبة انما تجب لدفع الضرر ، وهو غير حاصل في الصغائر.

والجواب : المنع من عدم حصول الضرر بها.

الثالثة : في أقسام التوبة اعلم أن التوبة اما عن ذنب في حق الله تعالى ، أو عن حق آدمي ، فان كان الثاني فاما أن يكون ذلك الذنب ظلما أو اضلالا ، فان كان الاول فاما أن يكون حقا ماليا أو دما أو عرضا ، فان كان الاولين لم يتحقق التوبة الا بالخروج الى المستحق ، أو ورثته من ذلك المال ، أو تسليم نفسه للقصاص ، أو الاستيهاب والعفو والعزم على ذلك مع تعذره.

وان كان الثالث فان كان قد بلغ المغتاب أنه ثلب عرضه أولا ، فان كان الاول فلا بد من العذر إليه والاتهاب منه ، وان كان الثاني كفى الندم على ذلك وروي أنه يستغفر له كلما ذكره. وان كان الثاني وهو أن يكون اضلالا فلا تصح التوبة الا بعد أن يبين له أن قوله ذلك باطل.

وان كان في حق الله تعالى فاما أن يكون عن فعل القبيح كشرب الخمر مثلا فيكفي فيه الندم والعزم المتقدمان ، أو ترك واجب فاما أن يكون وقته باقيا فالتوبة منه فعله كالزكاة والحج ، أو خرج وقته فاما أن يجب قضاؤه كالصلاة اليومية فالتوبة الاشتغال بالقضاء ، أو لا يجب كصلاة العيدين فالتوبة الندم المتقدم.

الرابعة : هل يصح التوبة من قبيح دون قبيح أم لا؟ ذهب أبو علي الجبائي

__________________

(١) فى «ن» : اشتراك.

٤٣٣

الى الاول ، وذهب ابنه أبو هاشم الى الثاني ، ونقل هذا القول قاضي القضاة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام وأولاده كعلي بن موسى الرضا عليهم‌السلام. احتج أبو علي : بأنه لو لم يصح التوبة من قبيح دون قبيح لم يصح الاتيان بواجب دون واجب ، واللازم باطل بالاجماع ، فان من صام ولم يصل يصح [صومه] بلا خلاف. بيان الملازمة : أن القبيح كما يترك لقبحه كذا الواجب يفعل لوجوبه ، واذا لزم من اشتراك القبائح فى العلة أن لا يصح التوبة من بعضها دون بعض لزم من استعمال (٢) الواجبات ذلك أيضا.

احتج أبو هاشم : بأنه يجب التوبة عن القبيح لقبحه ، وكلما كان كذلك لم تصح من البعض ، أما الصغرى : فلان جهة القبح هي جهة المنع منه ، والصرف عن فعله ، فيكون ذلك هو المقصود بالندم والترك ، ولان من ترك شرب الخمر لاضراره به لا يعد تائبا ، وكذلك من تاب عن القبيح خوفا من النار ، ولو لا خوفه لم يتب لم يعد تائبا. وأما الكبرى فلان القبيح مشترك في الجميع ، واذا كانت العلة مشتركة ، فلو تاب عن البعض خاصة ، لكشف ذلك عن كونه تائبا للقبيح لا لقبحه وهو باطل لما تقدم.

وأجاب عن حجة أبيه : بأن الفرق حاصل بين الفعل والترك ، وذلك لان من أكل الرمانة لحموضتها لا يجب أن يأكل كل رمانة ، بخلاف من قال لا آكل الرمانة لحموضتها فإنه يجب عليه ترك جميع الرمانات الحامضة ، والا لكشف عن أنه لم يترك الرمانة لحموضتها.

واعلم أن التحقيق هنا أن نقول : ان القبائح مقولة بالشدة والضعف ، فهي مختلفة لجهات قبحها وان كانت مشتركة في مطلق القبح ، وحينئذ نقول : اذا تاب العبد عن قبيح له مشاركة في جهة قبحه وجب توبته عن ذلك القبيح

__________________

(٢) فى «ن» : اشتراك.

٤٣٤

الاخر ، ولا يلزم توبته عن غيره من القبائح التي ليست مشاركة له في تلك الجهة لاختلاف الدواعي والاغراض ، ولهذا لو أسلم يهودي مصر على صغيرة وندم على كفره خاصة ، فان توبته مقبولة اجماعا ، وبهذا يتأول كلام أمير المؤمنين وأولاده عليهم‌السلام.

الخامسة : لا خلاف في أن التوبة مقبولة لقوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) (١) ولا خلاف أن العقاب يسقط مع قبولها ، لقوله تعالى (وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ)(٢). واختلف في أن سقوط العقاب عندها هل هو واجب أو تفضل من الله تعالى؟ قالت المعتزلة بالاول ، والمرجئة وأصحابنا الامامية بالثاني ، وقال الاوائل : ان التعلق بالجسمانيات مما يوجب التعذيب ، لاشتغال النفس بها عن المعقولات الملائمة لها ، فالتوبة ندم على ذلك التعلق واقلاع عنه فهو مسقط للعقاب ، لانه لا يدل على التفات النفس الى المعقولات.

احتج المصنف على مذهب الاصحاب : بأنه لو وجب سقوط العقاب [بها] لكان اما لوجوب قبولها أو لكثرة ثوابها ، والتالي باطل فالمقدم مثله ، أما الشرطية فظاهرة.

وأما بطلان الاول من قسمي التالي فلانه لو وجب قبولها لكان أساء الى غيره بأنواع الاساءات ، مثل أن قتل ولده وأذهب أمواله ، ثم اعتذر إليه من تلك الاساءات العظيمة ، وجب قبول عذره ، ولو لم يقبل عذره كان مذموما عند العقلاء وهو باطل ، بل يحسن قبول عذره ويحسن الاعراض عنه ، فلا يكون قبولها واجبا.

وأما الثاني فلانه لو كان كثرة ثوابها مسقطا لعقا بها لزم الاحباط ، وهو باطل

__________________

(١) سورة الشورى : ٢٥.

(٢) نفس الآية القبل.

٤٣٥

لما تقدم.

احتجت المعتزلة : بأنه لو لم يجب سقوط العقاب لم يحسن تكليف العاصي بعد عصيانه ، واللازم باطل بالاجماع فكذا الملزوم. بيان الملازمة : أنه لو كلف لكان تكليفه اما لفائدة أولا لفائدة ، والثاني باطل اجماعا ، لما تقدم من كونه تعالى يفعل لغرض ، والاول اما أن يكون تلك الفائدة حصول الثواب أو غيره ، والثاني باطل اجماعا أيضا ، ولما تقدم من كون الغرض من التكليف التعرض للثواب ، والاول باطل ، والا لزم اجتماع المتنافيين ، وذلك لانه على تقدير عدم وجوب سقوط العقاب يكون ممكن الحصول ، فلنفرضه واقعا وهو دائم ، فلو وصل إليه الثواب الدائم أيضا لزم اجتماع المتنافيين وهو محال.

والجواب : أنا نختار أن التكليف لفائدة ، وتلك الفائدة هي الثواب ، واجتماع المتنافيين لازم على تقدير دوام عذاب الفاسق وقد أبطلناه. ثم انه يمكن التخلص على تقدير ثبوت العقاب بأمرين :

الاول حصول العفو عن عقابه لما دللنا عليه.

الثاني : أن يفعل العاصي طاعات كثيرة تزيد معاصيه بحيث تكفرها على قول الخصم ، وحينئذ يحسن تكليفه ، وهو المطلوب.

[بيان الايمان والكفر والفسق والنفاق]

قال : البحث العاشر ـ في الاسماء والاحكام :

الايمان : لغة التصديق ، واصطلاحا هو تصديق الرسول عليه‌السلام في جميع ما علم بالضرورة مجيئه به ، مع الاقرار باللسان. وعند المعتزلة : أنه فعل الطاعات.

لنا : أنه قيد الايمان بنفي الظلم في قوله تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا

٤٣٦

إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) (١). وعطف عليه فعل الطاعات في قوله تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (٢) وكل ذلك يدل على المغايرة.

احتجوا بأن قاطع الطريق يخزى ، والمؤمن لا يخزى ، فقاطع الطريق ليس بمؤمن. أما الصغرى : فلانه تعالى يدخلهم النار لقوله تعالى (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٣) وكل من يدخل النار يخزى لقوله تعالى (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) (٤). وأما الكبرى : فلقوله تعالى (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) (٥).

والجواب : منع انحصار العذاب العظيم في دخول النار سلمنا ، لكن يحتمل تخصيصها بالكافر ، ولان المؤمن لا يحارب الله ورسوله غالبا. سلمنا ، لكن نفي الخزي عن المؤمنين المصاحبين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا يعم غيرهم.

والايمان لما كان لغة هو التصديق لم يقبل الزيادة والنقصان ، خلافا للمعتزلة ولما كان عبارة عن التصديق كان صاحب الكبيرة مؤمنا ، خلافا للمعتزلة ، فانهم لم يسموا الفاسق مؤمنا ولا كافرا ، بل أثبتوا له منزلة بين المنزلتين.

والكفر : هو انكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول به.

والفسق لغة : الخروج عن الشيء ، ولذلك تسمى الفارة «فويسقة» لخروجها من بيتها. وفي الشرع : الخروج عن طاعة الله تعالى فيما دون الكفر.

__________________

(١) سورة الانعام : ٨٢.

(٢) سورة الرعد : ٢٩.

(٣) سورة المائد : ٣٣.

(٤) سورة آل عمران : ١٩٢.

(٥) سورة التحريم : ٨.

٤٣٧

والنفاق : اظهار الايمان وابطال الكفر.

وليكن هذا آخر ما قصدته في هذه المقدمة. ومن أراد التطويل فعليه بكتابنا الكبير المسمى ب «نهاية المرام في علم الكلام». ومن أراد التوسط فعليه بكتابنا «منتهى الوصول» و «المناهج» وغيرهما من كتبنا.

والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على خير خلقه محمد وآله الطاهرين.

أقول : لما ذكر الثواب والعقاب والعقاب منه دائم ومنه منقطع ، شرع في بيان أسباب هذه الاقسام ، وقال : البحث العاشر في الاسماء والاحكام ولم يذكر في هذا البحث سوى الاسماء ، لكن الاحكام يمكن معرفتها ضمنا مما سبق ، وقد ذكر في هذا البحث أربعة أسماء: الايمان ، والكفر ، والفسق ، والنفاق.

الاول : الايمان ولا شك أنه في اللغة التصديق قال الله تعالى (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا)(١) أي بمصدّق. وأما في الاصطلاح فقد اختلف في تفسيره على أقوال :

الاول : قالت الكرامية : انه الاقرار بالشهادتين ، لقوله عليه‌السلام «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الا الله محمد رسول الله» (٢).

والجواب : أنه هنا هو الاسلام ، وهو غير الايمان ، اذ هو أعم منه لقوله تعالى (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) (٣) ولذلك أشار عليه‌السلام في تمام الحديث المذكور الى أنه الاسلام لقوله «فاذا قالوا ذلك حقنوا مني دماؤهم وأموالهم الا بحقها وحسابهم على الله» (٤)

__________________

(١) سورة يوسف : ١٧.

(٢) صحيح مسلم : ١ / ٥٢ كتاب الايمان.

(٣) سورة الحجرات : ١٤.

(٤) صحيح مسلم : ١ / ٥٣.

٤٣٨

الثاني : قال جهم بن صفوان وأبو الحسن الاشعري وبعض الامامية : انه المعرفة ، لما ورد «أن أول الدين معرفته».

وفي هذا نظر : لانه لو كان المعرفة فقط لم يقل سبحانه (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) (١) وكذا قوله (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) (٢) وكذلك قول موسى لفرعون (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٣) فأثبت في هذه الآيات [المعرفة] ونفى الايمان ، فلا يكون هي الايمان.

الثالث : قال أبو علي الجبائي وابنه : انه فعل الواجبات وترك المحرمات ، لظواهر آيات وأخبار تدل على ذلك.

الرابع : قال قدماء المعتزلة : انه عمل الجوارح من أنواع الطاعات واحتجوا على ذلك بأن فاعل المحرم (٤) وتارك الواجب يخزى ، ولا شيء من المؤمن يخزى ، ينتج من الشكل الثاني : لا شيء من فاعل المحرم وتارك الواجب بمؤمن ، وهو المطلوب.

وأما الصغرى : فلان أحد أقسام قاطع الطريق هو من يدخل النار لقوله تعالى (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٥) وكل من يدخل النار يخزى لقوله تعالى (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) (٦). وأما الكبرى

__________________

(١) سورة البقرة : ٨٣.

(٢) سورة النمل : ١٤.

(٣) سورة الاسراء : ١٠٢.

(٤) فى «ن» : الحرام.

(٥) سورة المائدة : ٣٣.

(٦) سورة آل عمران : ١٩٢.

٤٣٩

فلقوله تعالى (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) (١).

والجواب : بالمنع من انحصار العذاب العظيم في دخول النار ، لجواز نوع آخر من العذاب. سلمنا لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك مختصا بالكفار؟ لان الآية في شأن من يحارب الله ورسوله ، والمؤمن لا يحارب الله ورسوله غالبا.

سلمنا لكن لا نسلم أن نفي الخزي عن كل المؤمنين ، لانه مقيد في الآية بالمصاحبين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا يعم غيرهم.

ثم الذي يدل على أن الايمان ليس عمل الصالحات واجتناب المقبحات ولا أمر هي داخلة فيه وجهان :

الاول : قوله تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) (٢) قيد الايمان بنفي الظلم ، فلا يكون نفي الظلم نفس الايمان ولا جزءه ، لان قيد الشيء غير ذلك الشيء.

الثاني : قوله تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (٣) عطف عمل الصالحات على الايمان ، فلو كان نفس الايمان ، أو جزؤه لزم عطف الشيء على نفسه ، أو عطف الجزء على كله ، وكلاهما غير معهود في كلامهم.

الخامس : قال أكثر السلف : انه اعتقاد بالجنان واقرار باللسان وعمل بالاركان ، وهو مذهب شيخنا المفيد (رحمه‌الله). وفي هذا نظر يعلم مما تقدم.

السادس : قال صاحب المنهاج شيخنا سالم بن محفوظ ، والمحقق الطوسي

__________________

(١) سورة التحريم : ٨.

(٢) سورة الانعام : ٨٢.

(٣) سورة البقرة : ٢٥.

٤٤٠