ارشاد الطالبين الى نهج المسترشدين

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

ارشاد الطالبين الى نهج المسترشدين

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٦

بين قولنا فعل العدم ، وبين قولنا لم يفعل ، واذا كان وجودا فاما أن يستلزم عدم الجوهر أولا ، والاول هو الاعدام بالضد وقد تقدم بطلانه. والثاني لم يكن أعداما بل ايجادا ولا نزاع فيه.

قلنا : معنى الاعدام عدم التأثير في الوجود أو بقائه ، لا التأثير في العدم ، لان انقطاع تأثير الوجود مستلزم للعدم. وقولكم «لا فرق بين فعل العدم وبين لم يفعل» قلنا : ممنوع ، بل الفرق حاصل ، وذلك لان مفهوم فعل العدم تجدد العدم بعد الوجود ، ومفهوم لم يفعل بقاء العدم على ما كان ، فظهر الفرق.

[جواز انخراق الافلاك وانتثار الكواكب]

قال : ويجوز انخراق الافلاك وانتثار الكواكب ، لانهما ممكنة محدثة ، وهو واقع لاخبار الصادق عليه‌السلام به.

اقول : خرق الافلاك وانتثار الكواكب جائزان واقعان ، خلافا للفلاسفة.

لنا على الجواز : أنها ممكنة فيجوز عليها العدم وزوال الصورة التركيبية وهو المطلوب ، ولانها محدثة فيكون تأليفها حاصلا بعد العدم ، فتكون ماهيتها قابلة للوجود والعدم ، ولا نعني بالانخراق وانتثار إلا زوال التأليف الحاصل بين هذه الاجزاء المركبة. وأما الوقوع فالنقل متواتر به كقوله تعالى (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) (١) (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) (٢) وغير ذلك من الآيات ، وهو كثير.

__________________

(١) سورة الانشقاق : ١.

(٢) سورة الانفطار : ١ ـ ٢.

٤٠١

[امكان خلق عالم آخر]

قال : البحث الرابع ـ في امكان خلق عالم آخر : والخلاف مع الفلاسفة والدليل (١) عليه انه لو امتنع لما وجد هذا العالم ، لوجوب تساوي الامثال في الاحكام. وللاجماع (٢). ولقوله تعالى (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) (٣) الآية.

واحتجاج الفلاسفة ـ بامكان الخلاء حينئذ ـ ضعيف ، لما تقدم من جوازه وتخصيص العناصر بأمكنتها باختياره تعالى.

أقول : يمكن أن يخلق الله تعالى عالما آخر مماثلا لهذا العالم من (٤) فلكياته وعنصرياته ، بل عوالم آخر. خلافا للفلاسفة. ويدل على ما قلناه وجوه :

الاول : أنه لو امتنع وجود عالم آخر لامتنع وجود هذا العالم ، واللازم باطل قطعا فكذا الملزوم. بيان الملازمة : أن ذلك الامتناع اما أن يكون لذاته أو لعارض ، ان كان الاول لزم امتناع هذا العالم أيضا ، لانه مماثلا له ، وحكم المثلين في الصحة والامتناع واحد ، وان كان الثاني حصل المطلوب ، لانه بتقدير زوال ذلك العارض يزول الامتناع ، فيمكن وجود عالم آخر.

الثاني : اجماع المسلمين على ذلك ، وهو ظاهر.

الثالث : تواتر النقل به كقوله تعالى (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ

__________________

(١) فى المطبوع من المتن : لانه لو امتنع الخ.

(٢) فى المطبوع من المتن : الاجماع.

(٣) سورة يس : ٨١.

(٤) فى «ن» : فى.

٤٠٢

وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) (١) وغير ذلك من الآيات. وجاز الاستدلال في هذه المسألة بالنقل ، لعدم توقف صحة (٢) النقل عليها.

احتجت الفلاسفة بوجهين :

الاول : أنه لو أمكن خلق عالم آخر لزم امكان الخلاء ، واللازم باطل فكذا الملزوم. بيان الملازمة : أن العالم كرة ، لان الكرية هي الشكل الذي تقتضيه الطبيعة البسيطة ، وذلك لان فعل القوة الواحدة في المادة الواحدة فعل متساوي ، واذا كان كرة فاذا وجد مثله يكون كرة أيضا ، فتتلاقى الكرتان فيحصل بينهما خلاء ، وهو محال لما تقدم.

الثاني : لو أمكن خلق عالم آخر لزم أن يكون لجسم واحد مكانان طبيعيان وهو باطل.

أما الملازمة : فلانا لو فرضنا أرضا أخرى وسط عالم آخر لزم أن تكون مساوية لهذه الارض في الحقيقة ، فيكون لها ميل الى مكانها الطبيعي ، والا لما كانت مساوية ، وحيث فرضت جزءا من ذلك العالم الاخر تكون خارجة عن هذا العالم وطالبة لذلك العالم طبعا ، فيكون لها مكانان طبيعيان. وأما بطلان اللازم : فلانه اذا حصل (٣) الجسم في أحد المكانين طبعا يكون تاركا للآخر ، فلا يكون المكانان طبيعيان ، هذا خلف.

والجواب عن الاول : بالمنع من الكرية ، قوله «لانه الشكل الطبيعي والقوة الواحدة فعلها متساوي» قلنا : نمنع الطبيعة على تقدير تسليمه ، بل هو

__________________

(١) سورة يس : ٨١.

(٢) فى «ن» : حجة.

(٣) فى «ن» : حل.

٤٠٣

بفعل المختار ، سلمنا ، لكن جاز تعدد آثار القوة الواحدة عند تكثر الآلات والشروط غير ذلك ، سلمنا لكن نمنع استحالة الخلاء ، وقد تقدّم دليل ثبوته.

وعن الثاني : بالمنع من احتياج الجسم الى طبيعة تقتضي تخصيصه بالمكان ، بل بفعل الفاعل المختار ، سلمنا لكن لم لا يجوز اختلاف طبيعتي الارضين في العالمين ، فلا تقتضي احداهما الا مكانها الذي في عالمها. سلمنا تساوي الطبيعتين لكن لم لا يجوز تخصيص بعض طبائع الارض بأحد الامكنة لا لمخصص ، كاختصاص المدرة المعينة بمكانها المعين لا لمرجح مع تساوي الامكنة الجزئية من الارض بالنسبة إليها.

[وجوب انقطاع التكليف]

قال : البحث الخامس ـ في وجوب انقطاع التكليف : لانه ان وجب ايصال الثواب الى مستحقه وجب القول بانقطاعه ، لكن المقدم حق اجماعا ، ولما بيّنا من حكمته تعالى ، فالتالي مثله.

بيان الشرطية : أنه لو لا انقطاعه لزم الالجاء ، وهو ينافي التكليف. والحدود ليست ملجئة ، لتجويز مستحقها عدم الشعور به. وتخيير النبي الاعرابي بين القتل والاسلام الجاء ، وحسن في ابتداء التكليف لفائدة دخوله في الاسلام بعد الاستبصار ، وامكان سماعه للادلة ، بخلاف ما لو بقي على كفره فانه يجوز أن لا يسمع أدلة الحق فلا يحصل له الاستبصار ، واسلامه حينئذ لا يستحق به ثوابا.

أقول : أجمع المسلمون على وجوب انقطاع التكليف ، بمعنى أنه ينتهي الى زمان لا يكون فيه أمر ولا نهي ، بل فيه جزاء الطاعة والمعصية ، وهو المعبر عنه ب «يوم القيامة» و «يوم الحشر والجزاء» ، والدليل على ذلك هو أن نقول :

٤٠٤

كلما وجب ايصال الثواب الى مستحقه وجب القول بانقطاع التكليف ، لكن المقدم حق فالتالي مثله. بيان حقية المقدم وجهان :

الاول : الاجماع.

الثاني : ما تقدم من كونه تعالى حكيما لا يفعل قبيحا ولا يخل بواجب. وأما بيان الشرطية : أنه لو لا انقطاعه على ذلك التقدير لزم الالجاء وهو باطل لانه مناف للتكليف. بيان لزوم الالجاء : أن المكلف اذا علم حصول جزاء الطاعة لو فعلها في تلك الحال ، وحصول جزاء المعصية أو ترك الطاعة لو صدر منه ذلك في تلك الحال يكون مجبرا على ايقاع الطاعة وترك المعصية وهو باطل ، اذ شرط استحقاق الثواب صدور الفعل عنه مختارا ، والا لا فرق بين صدوره منه ومن غيره ، فكان يجوز حينئذ ايصال الثواب الى غير المطيع والعقاب الى غير العاصي وهو باطل ، فيكون التكليف منقطعا وهو المطلوب.

ان قيل : لا نسلم أن الالجاء مناف للتكليف ، والا لما وقع في الشريعة لكنه واقع ، فلا يكون منافيا وهو المطلوب. وبيان وقوعه : أن المكلف اذا علم أنه اذا ترك الصلاة قتل ، واذا منع الزكاة قوتل ، واذا شرب جلد ، واذا زنى رجم ، كان ذلك حاملا له على ايقاع الطاعة وترك المعصية ، وهو عين الجاء الذي منعتموه.

قلنا : ليس حال الحدود والتعزيرات في هذه الدار كحال الثواب والعقاب في تلك الدار ، وذلك لان المكلف يجوز عدم شعور النبي والامام به اذا ترك الطاعة أو فعل المعصية ، بخلاف الحال يوم القيامة ، فان هذا التجويز غير حاصل لما تقرر من كونه تعالى عالما بكل المعلومات ، وهو المتولي لجزاء المكتسبات.

ان قيل : هذا الجواب باطل بما تقرر من سيرته عليه‌السلام ، وهو أنه كان

٤٠٥

يخير الاعرابي بين الاسلام والقتل ، وهو محض الالجاء ، ولا يمكن أن يقال هنا أنه يجوز عدم الشعور.

قلنا : لا شك أن هذه الصورة الجزئية الجاء وهو حسن لا مطلقا ، بل في ابتداء التكليف ، لاشتماله على مصلحة لا تحصل بدونه ، وهو وقوف المكلف على أدلة الحق ومحاسن الاسلام ، فيكون ذلك داعيا له الى دخوله في الايمان مختارا اذ لو لم يدخل في الاسلام ولم يعاشر المسلمين لا لأمكن أن لا يسمع أدلة الحق ، فيبقى على كفره ، فحسن الالجاء حينئذ لاشتماله على هذه المصلحة لا مطلقا ، وهو لطف من الشارع في حق الكافر. ولما كان ذلك الاسلام معه الجاء لم يستحق به ثوابا ، ولهذا قال تعالى (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) (١) اذ الثواب مشروط بالايمان المستند الى العرفان.

[تحقيق حول اثبات المعاد البدنى ونقض أدلة المخالف]

قال : البحث السادس ـ في اثبات المعاد البدني : والخلاف فيه مع الفلاسفة.

اعلم أن صحة المعاد البدني يتوقف على أمرين : أحدهما : أنه تعالى قادر على كل مقدور. والثاني : أنه تعالى عالم بكل معلوم ، ولهذا كان الكتاب العزيز قد اشتمل على اثبات المعاد البدني في عدة مواضع ، وكل موضع حكم فيه باثباته قررها بين هاتين المقدمتين.

أما افتقاره الى القدرة فظاهر ، اذ الفعل الاختياري انما يصح بها.

وأما افتقاره الى العلم ، فلان الابدان اذا تفرقت وأراد الله تعالى جمعها وجب أن يرد كل جزء الى صاحبه ، وانما يتم ذلك بعلمه تعالى بالاجزاء وتناسبها بحيث لا يؤلف جزءا من بدن زيد مع جزء من بدن عمرو. وكذا ان جوزنا

__________________

(١) سورة الحجرات : ١٤.

٤٠٦

اعادة المعدوم وقلنا أنه تعالى يعدم العالم بجملته.

وأما امكان الاعادة بعد هاتين المقدمتين فظاهر ، لان جميع الاجزاء بعد تفريقها لا شك في امكانه ، كالابتداء ، وكذا ان جوزنا اعادة المعدوم.

وأما الوقوع : فيدل عليه السمع ، فانا نعلم من دين محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وقوع المعاد البدني ولا ناقد بينا أنه تعالى حكيم يوصل كل مستحق الى مستحقه ، ولا بد من الاعادة.

احتجوا : بأن الاعادة ان وقعت في هذا العالم لزم التداخل ، وان وقعت في عالم آخر لزم الخلاء. ولان الانسان لو أكل مثله ، فان أعيد المأكول الى بدن الاول ضاع الثاني ، وبالعكس.

والجواب عن الاول : أن التداخل انما يلزم لو بقي هذا العالم وكان ملاء ، أما على تقدير عدمه أو ثبوت الخلاء فلا.

وعن الثاني : أن المأكول بالنسبة الى الاكل ليس من أجزائه الاصلية ، فيعاد الى الثاني ولا يضيع أحدهما.

اذا ثبت هذا فاعلم أنه يجب عقلا اعادة من يستحق ثوابا عوضا على الله تعالى أو على غيره ، لوجوب الانتصاف ممن يستحق عليه العوض. وسمعا اعادة الكفار وأطفال المؤمنين. ومن عدا هؤلاء لا يجب اعادته.

أقول : لما فرغ من الامور التي هي كالمقدمات لثبوت المعاد ، شرع في بيانه (١) واختلف فيه : فانكره الدهرية والطبيعيون ، وأثبته معظم الحكماء والمليون ، لكن اختلفوا في ماهيته :

فعند الفلاسفة القائلين بتجرد النفس كافلاطون وأرسطو وأتباعهم كأبي نصر الفارابي وابن سينا أنه نفساني لا غير ، وان كان ابن سينا في الشفاء جوز البدني ،

__________________

(١) فى «ن» : اثباته.

٤٠٧

وحكم بأن تفاصيله مستفاد من الشرع ، لكنه منع منه فى غيره من كتبه. وعند المتكلمين أنه البدني.

وجماعة من المحققين راموا الجمع بين الحكمة والشريعة ، وقالوا هو نفساني وبدني معا ، وهو غير بعيد من الصواب. وأما جالينوس فانه توقف فيه ، وذلك لان الانسان عنده عبارة عن المزاج ، وهو مما يعدم بالموت والمعدوم لا يعاد ، وعلى تقدير أن يكون الانسان أمر (١) غير المزاج يجوزا عادته ، فلذلك توقف.

اذا تقرر هذا فاعلم أن المعاد البدني جائز واقع ، أما جوازه فمبني على مقدمات :

الاول : ثبوت الجوهر [الفرد] ، وقد تقدم برهانه ، وذلك لان الانسان لما كان عبارة عن الاجزاء الاصلية يكون اعادتها تجمعها بعد تفرقها وتشتتها.

الثانية : ثبوت الخلاء ، لان العالم لو كان كله ملاء لما صحت حركة بعض الاجزاء الى بعض عند التأليف والاعادة ، وقد تقدم دليله. وهاتان المقدمتان لم يذكرهما المصنف هنا ، لكنه ذكرهما غيره كفخر الدين الرازي وكمال الدين ميثم وغيرهما.

الثالثة : كونه تعالى قادر على كل الممكنات ، وقد تقدم دليله. وبيان توقفه على القدرة لان الفعل الاختياري انما يقع بالقدرة.

الرابعة : كونه عالما بكل المعلومات الكلية والجزئية ، وقد تقدم أيضا برهانه ، ووجه توقفه عليه أنه لا بد فيه من تمييز أجزاء بدن كل شخص عن أجزاء بدن شخص آخر ليعاد الى كل شخص أجزاؤه ، فتوقفه عليه بين ، وكذا ان جوزنا اعادة المعدوم لا بد أن يكون عالما بأجزاء بدن كل شخص بما هي عليه

__________________

(١) فى «ن» : عبارة عن أجزاء.

٤٠٨

حتى يعيدها على ذلك الوجه. ولتوقف المعاد على هاتين المقدمتين توقفا ظاهرا فانه سبحانه حيث ما تقرر المعاد البدني في القرآن بعدها (١) بين المقدمتين كقوله (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (٢) فقوله (الَّذِي أَنْشَأَها) اشارة الى القدرة ، لاستلزام الانشاء ذلك ، الى غير ذلك من الآيات ، وهو معلوم لمن تدبر الكتاب العزيز واستقراء آياته.

اذا تقررت هذه المقدمات فنقول : اما أن نقول بأن [جميع] الاجزاء لم تعدم بل تفرقت الاجزاء فامكان اعادتها بعد ثبوت هذه المقدمات ظاهر ، لان جمعها بعد تشتتها وتفرقها لا شك في امكانه كابتداء خلقها ، فيكون تعالى قادرا عليه. واما أن نقول بعدمها وامكان اعادة المعدوم فظاهر أيضا ، فالامكان حاصل على التقديرين.

وأما وقوعه فلوجهين.

الاول : دلالة السمع المتواتر عليه ، فانه معلوم بالضرورة من دين محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

الثاني : لما تقدم من حكمته تعالى وكونه لا يخل بواجب ، فيجب عليه ايصال كل حق الى مستحقه ، وذلك انما يكون بالمعاد ، فالمعاد واجب.

احتجت الفلاسفة المنكرون للمعاد البدني بوجهين :

الاول : أنه لو صح اعادة الاجسام لزم اما التداخل أو الخلاء ، واللازم باطل بقسميه فكذا المقدم (٣). بيان الشرطية : ان الاعادة اما تحصل في هذا

__________________

(١) فى «ن» : بعد هاتين.

(٢) سورة يس : ٧٨.

(٣) فى «ن» : الملزوم.

٤٠٩

العالم أو غيره ، ان كان الاول لزم التداخل لانه ملاء وان كان في غيره لزم شكلة كرة ، لما تقدم من أن الشكل الطبيعي هو الكرة ، فلو وجد كرة أخرى ، فيكون بينهما خلاء.

الثاني : لو صحت الاعادة لانتفت الاعادة ، واللازم باطل فكذا الملزوم. بيان الملازمة: لو أكل انسان انسانا آخر بحيث صارت أجزاء المأكول أجزاء الاخر (١) ، فيوم القيامة اما يعاد تلك الاجزاء الى الاكل فيضيع المأكول ، أو المأكول فيضيع الاكل ، لكن تخصيص أحدهما بالاعادة ترجيح من غير مرجح وهو محال ، فيكون المعاد محالا ، وهو المطلوب.

والجواب عن الاول : أنا نختار أنها في هذا العالم ، والتداخل انما يلزم لو بقي هذا العالم على حاله وكان ملاء ، أما على تقدير عدمه كقوله تعالى (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) (٢) ، أو على تقدير وجوده ويكون خلاء ، كما قد دللنا عليه ، فلا يلزم ذلك.

وعن الثاني : أنا قد بينا أن الانسان عبارة عن الاجزاء الاصلية التي هي داخل هذا البدن ، فالاجزاء المأكولة فضلية بالنسبة الى الاكل ، وأصلية بالنسبة الى المأكول ، فتعاد الى المأكول ولا يلزم ضياع الاكل ، لانها فضلية بالنسبة إليه فكلاهما يعاد ، وهو المطلوب.

أما تقرير هذا فنقول : الاعادة واجبة اما عقلا وسمعا معا أو سمعا لا غير. فالاول كل من له ثواب ، فانه يجب اعادته لوجوب وصول حقه إليه ، أو عوض اما عليه تعالى فلئلا يلزم الظلم المنفي عنه تعالى ، أو على غيره فلوجوب الانتصاف.

__________________

(١) فى «ن» للآكل.

(٢) سورة ابراهيم : ٤٨.

٤١٠

والثاني هم الكفار وأطفال المؤمنين ، فان السمع متواتر باعادتهم ، ولا خلاف بين المسلمين فيه ، ولكن لا دليل عقلي على وجوب اعادتهم. أما الكفار فلان استحقاق العقاب على المعصية سمعي. وأما الاطفال فلعدم اشتراط الثواب بالنسبة إليه ، لكنه تعالى وعد ببعثهم لقوله (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) (١) وكذا من عدا هؤلاء كاطفال الكفار والوحوش لقوله (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (٢) لكن أطفال الكفار لا يجوز معاقبتهم ، ويجوز الانعام عليهم لعموم (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) (٣).

[مباحث الوعد والوعيد]

قال : البحث السابع ـ في استحقاق المطيع للثواب والمعاصي للعقاب : والثواب هو : النفع المستحق المقارن للتعظيم والاجلال. وقد اختلف في استحقاقه بالطاعة ، فالذي عليه المعتزلة ذلك ، ونازع فيه الاشاعرة والكعبي والبلخي.

لنا : أن التكليف مشقة ، فان لم يستلزم عوضا كان قبيحا ، فذلك العوض ان صح الابتداء به كان توسط التكليف عبثا ، فتعين الثاني.

احتجت الاشاعرة : بأنه تعالى هو الحاكم ، فلا يستحق عليه شيء. وبأن المرتد ان وصل إليه الثواب تضاد الاستحقاقان ، وإلا خلت طاعته عن عوض.

واحتج البلخي : بأن نعم الله تعالى لا تحصى ، فالشكر عليها يكون أبلغ

__________________

(١) سورة الطور : ٢١.

(٢) سورة الانعام : ٣٨.

(٣) سورة الاعراف : ١٥٦.

٤١١

ما يمكن ، وهو العبادة والتذلل ، فلا يستعقب ثوابا ، فان المؤدي لما وجب عليه لا يستحق به عوضا.

والجواب : أن الوجوب ليس هو الشرعي ، بل هو متعلق المدح. والمرتد لا يستحق ثوابا ، لان شرط استحقاق الثواب الموافاة ولم تحصل.

لا يقال : الموافاة لو كانت شرطا لزم أن تكون العلة انما تؤثر حال عدمها لا حال وجودها.

لانا نقول : الاستمرار على الطاعة هو الشرط ، وهو المراد بالموافاة ، لا عدم الحياة.

وقول البلخي ضعيف ، فان الشكر هو الاعتراف بنعمة المنعم مع ضرب من التعظيم ، وهو ضروري للعقلاء ، اذ يحكم كل عاقل بوجوب شكر المنعم بهذا المعنى أما كيفية الشرائع فلا.

وأما استحقاق العاصي للعقاب بالمعصية ، فقد اتفق أهل العدل عليه ، خلافا للاشاعرة. لكنهم اختلفوا : فالمعتزلة على أنه عقلي ، والمرجئة والامامية على أنه سمعي.

احتجت المعتزلة : بأن فعل العقاب لطف فيكون واجبا ، أما المقدمة الاولى فلان المكلف اذا علم أنه متى عصي عوقب كان ذلك زاجرا له. وأما الثانية فقد سلفت.

أقول : لما فرغ من بحث المعاد وبيان صحته شرع في [بيان] الامور المرتبة على العود ، وهي مباحث الوعد والوعيد. والوعد هو : الاخبار بوصول نفع ، أو دفع ضرر الى الغير ، أو عنه من جهة المخبر. والوعيد هو : الاخبار بوصول ضرر ، أو فوت نفع الى الغير من جهة المخبر ، وذلك النفع هو الثواب والضرر هو العقاب.

٤١٢

والثواب هو : النفع المستحق المقارن للتعظيم والاجلال. فبقيد «الاستحقاق» خرج التفضل ، وبقيد «اقتران التعظيم» خرج العوض.

والعقاب هو : الضرر المستحق المقارن للاستخفاف والاهانة. فبقيد «الاستحقاق» خرج الآلام الغير المستحقة كالمبتدإ بها ، وبقيد «مقارنة الاستخفاف» خرج به ضرر مستحق لا يقارنه ذلك كالقصاص.

اذا تقرر هذا فاعلم أن في هذا البحث مسألتين :

الاولى : أن الثواب هل علة استحقاقه صدور الطاعة من العبد أم لا؟ فقالت المعتزلة الا البلخي : نعم ، وهو مذهب أصحابنا الامامية. وقالت الاشاعرة والبلخي : لا ، بل ذلك فضل منه تعالى يتفضل به على عباده ، ان شاء فعله وان شاء تركه.

احتج أصحابنا والمعتزلة : بأن التكليف مشقة وكل مشقة لا عوض في مقابلتها تكون قبيحة غير جائزة من الحكيم ، ينتج : أن التكليف من غير عوض قبيح غير جائز من الحكيم ، والمقدمتان ضروريتان.

ثم ذلك العوض اما أن يمكن الابتداء به أولا ، فان كان الاول كان توسط التكليف عبثا ، والعبث قبيح غير جائز من الحكيم ، وان كان الثاني فهو المطلوب.

والنفع الذي لا يجوز الابتداء به هو الثواب والطاعة في استحقاق الثواب وانما قلنا أن الثواب لا يجوز الابتداء به لاشتماله على التعظيم ، والتعظيم لمن لا يستحق قبيح ، فان العقلاء يذمون من تعظيم الصبيان كتعظيم المشايخ ويسفهونه وذلك دليل على قبحه وأيضا فالنقل دل على ذلك كقوله (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١) وأمثاله.

__________________

(١) سورة الواقعة : ٢٤.

٤١٣

احتجت الاشاعرة بوجهين :

الاول : أن الحكم باستحقاق الثواب على الله يستدعي حاكما ، ولا حاكم عليه تعالى ، بل هو الحاكم على كل من عداه ، واذا كان هو الحاكم فالحكم مستفاد منه فيكون شرعيا ، وهو المطلوب.

الثاني : أنه لو كانت الطاعة علة في استحقاق الثواب لزم اجتماع الضدين واللازم باطل فالملزوم مثله. بيان الملازمة : أن المرتد يستحق الثواب بايمانه السابق والعقاب بكفره اللاحق ، ولا يجوز [خلوه] من عقاب الكفر للاجماع عليه ، فان وصل إليه ثواب ايمانه لزم اجتماع الضدين وهو محال ، وان لم يوصل لزم الاحباط وهو باطل كما يجيء ، أو خلو الطاعة عن الثواب وهو المطلوب.

احتج البلخي : بأن الطاعة واجبة على العبد ولا شيء من الواجب يستحق عليه ثواب ، ينتج : لا شيء من الطاعة يستحق عليه ثواب وهو المطلوب ، وأما الكبرى فظاهرة ، لان المؤدي لما وجب عليه لا يستحق به (١) عوضا ، والا لاستحق المديون باداء دينه عوضا على المدين ، وهو باطل ، وأما الصغرى فلان الطاعة شكر وكل شكر واجب ، أما الكبرى فضرورية.

وأما الصغرى فلان نعم الله تعالى هي أحد النعم ظاهرة على العبد من الايجاد والانذار (٢) والحواس الظاهرة والباطنة وغير ذلك ، وهي أكثر من أن تحصى لقوله تعالى (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) (٣) فيجب أن يكون الشكر عليها أبلغ الشكر ، وأعظم مراتب الشكر هو الخضوع والتذلل للمشكور ، وذلك هو

__________________

(١) فى «ن» : عليه.

(٢) فى «ن» : الاقدار.

(٣) سورة ابراهيم : ٣٤.

٤١٤

العبادة والطاعة فتكون الطاعة شكر وهو المطلوب.

والجواب عن الاول : أن الوجوب ليس شرعيا حتى يستدعى حاكما بل هو عقلي ، وهو متعلق المدح والذم اللازمين للافعال الاختيارية ، لكن الاشعري لما نفى الحكم العقلي والفعل الاختياري ذكر ذلك بناء على أصله.

وعن الثاني : أنا نختار أنه لا يصل إليه ثواب ايمانه ، ولا يلزم من ذلك الاحباط ، بل استحقاق الثواب مشروط بالموافاة بالايمان ، وذلك غير حاصل هنا.

لا يقال : نمنع اشتراطه بالموافاة ، والا لزم تأثير المعدوم ، واللازم باطل فكذا الملزوم ، بيان الملازمة : أن الطاعة حال الوفاة تكون معدومة ، فلو أثرت في استحقاق الثواب لزم ما قلناه ، وهو ظاهر.

لانا نقول : الشرط هو الاستمرار على الايمان الى حين (١) الموت ، وذلك موجود في جميع آنات الاستمرار ، لكن علامة ذلك الاستمرار هو الموافاة ولان الموافاة سبب لحصول الاستحقاق.

وعن الثالث : وهو احتجاج البلخي ـ بأن الشكر ضروري ولا شيء من كيفيات العبادة بضروري ، ينتج من الشكل الثاني : لا شيء من كيفيات العبادة بشكر وهو المطلوب ، أما الصغرى فلان الشكر هو الاعتراف بنعمة المنعم بضرب من التعظيم ، وذلك ضروري [للعقلاء] فان كل عاقل يحكم بوجوب الشكر بهذا المعنى ، وأما الكبرى فظاهرة ، والا لما وقع الاختلاف فيها ولما توقفت على النقل.

وفي هذا نظر : فانه جاز أن يكون أصل الشكر معلوما بالضرورة ، وكيفياته وطرقه معلومة من الشرع ، ولهذا ذكر العلماء أن أحد فوائد [بعثة] الأنبياء هو

__________________

(١) فى «ن» آخر الوفاة.

٤١٥

أن يعلمونا كيفية شكر المنعم.

المسألة الثانية : أن المعصية هل هي علة في استحقاق العقاب أم لا؟ فقال أهل العدل بالاول ، والاشاعرة بالثاني. واختلف أهل العدل : فقالت المعتزلة انه عقلي ، وقالت المرجئة والامامية : انه سمعي.

احتجت المعتزلة : بأن فعل العقاب لطف ، وكل لطف واجب ، أما الصغرى فلان المكلف اذا علم أنه اذا عصى عوقب كان ذلك داعيا له الى فعل الطاعة وترك المعصية ، ولا نعني باللطف الا ذلك ، وأما الكبرى فقد تقدمت.

قالت المرجئة : وجه الوجوب غير كاف في الوجوب ، بل لا بد مع ذلك من انتفاء المفسدة.

قالت المعتزلة : ان عدم العلم بالمفسدة يدل على عدمها ، لانا مكلفون باجتنابها ، فوجب عليه اعلامنا بها ، والا لزم التكليف بالمحال.

ونحن قد أسلفنا في هذا الجواب نظرا ذكرناه في باب الامامة.

[هل العلم بدوام الثواب والعقاب عقلى أم سمعى]

قال : البحث الثامن ـ في بقايا مباحث الثواب والعقاب : وهي سبعة مباحث :

الاول : ذهبت المعتزلة الى أن العلم بدوام الثواب والعقاب عقلي ، لانه أدخل في باب اللطف ، فيكون أدخل في باب الوجوب. ولان علة الثواب والعقاب الطاعة والمعصية ، وهما علتان للمدح والذم الدائمين ، فيلزم دوام العلتين ، فيدوم المعلولان الآخران. ولان الثواب والعقاب يجب خلوصهما عن جميع الشوائب ، فلو كانا منقطعين لكان الثواب مشوبا بالالم ، للعلم بانقطاعه والعقاب بالسرور كذلك.

٤١٦

أقول : اختلفوا في العلم بدوام الثواب والعقاب : فقالت المرجئة : انه سمعي وبه قال ابن نوبخت من أصحابنا. وقالت المعتزلة : انه عقلي ، واختاره المحقق الطوسي في تجريده والمصنف ، واستدلوا [عليه] بوجوه :

الاول : أن دوام الثواب والعقاب لطف ، فكل لطف واجب. أما الصغرى فلان المكلف اذا علم دوام ثوابه ازدادت داعيته وتوفرت على ايقاعها وهو ظاهر ، ولا نعني باللطف الا ما حصلت معه زيادة الداعية الى فعل الطاعة. وكذلك اذا علم دوام عقاب معصيته توفرت داعيته الى تركها ، فيكون العلم بالدوام في الصورتين أدخل في اللطيفة. وأما الكبرى فقد تقدمت.

الثاني : أنه كلما كان المدح على الطاعة والذم على المعصية دائمين كان الثواب والعقاب دائمين ، لكن المقدم حق فالتالي مثله. أما بيان حقية المقدم فاجماعية. وأما بيان الشرطية : فلان المدح والذم معلولا الطاعة والمعصية ، وقد بان دوامهما فتكون علتاهما ـ أعني الطاعة والمعصية ـ دائمين ، فتكون المعلولان الآخران دائمين ، لان دوام أحد المعلولين يستلزم دوام الاخر ، فان وجود النهار واضاءة العالم لما كانا معلولا علة واحدة هي طلوع الشمس لزم من وجود أحدهما وجود الاخر.

الثالث : أنه يجب خلوص الثواب والعقاب من شائبة الضد ، وكلما كان كذلك وجب دوامها. أما الصغرى فلان التفضل والعوض جاز أن يكونا دائمين وخالصين من الشوائب ، اذ لا مانع منه ، فلو لم يكن الثواب خاليا عن الشوائب لكان أنقص حالا منهما وهو باطل. أما العقاب فلان خلوصه من الشوائب أدخل في باب الزجر عن المعصية فيكون واجبا. وأما الكبرى فلانها لو لم يدوما لحصل انقطاعهما ، فيحصل الا لم للمطيع والسرور للعاصي ، فلم يكونا خالصين من الشوائب ، وهو باطل لما تقدم.

٤١٧

وفي هذه الوجوه نظر : أما الاول فلانه بيان الوجه وهو غير كاف ، بل لا بد من بيان انتفاء المفسدة ، على أنا نقول : على تقدير وجوب اللطف لا نسلم وجوب ما هو أشد لطيفة ، والا لزم التسلسل.

وأما الثاني فلانا لا نسلم أن المدح معلول الطاعة ، والا لما وجد بدونها ، لكنه يوجد كما في حق الواجب تعالى ، سلمنا لكن لا نسلم ان استحقاق المدح يوجب دوامه ، فعليكم بيانه. سلمنا لكن لا نسلم أن دوام أحد المعلولين يستلزم دوام الاخر ، لجواز توقف الاخر على شرط لم يحصل.

وأما الثالث فلانه انما يلزم تجدد الا لم والسرور ان لم يكونا معلولين من قبل وهو ممنوع.

[جواز توقف الثواب على شرط]

قال : الثاني : يجوز توقف الثواب على شرط ، والا لاستحق العارف بالله تعالى الجاهل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الثواب ، لان معرفة الله تعالى طاعة مستقلة بنفسها.

أقول : اختلفوا في ذلك : فقال قوم : بعدم التوقف بل الطاعة بنفسها موجبة لاستحقاق الثواب. وقال الاكثرون : يجوز توقفه على شرط ، واختاره المحقق الطوسي والمصنف ، واستدلوا على ذلك : بأنه لو لم يكن متوقفا على شرط لزم اثابة العارف بالله خاصة مع جهله بالنبي عليه‌السلام ، واللازم باطل فالملزوم مثله. بيان الملازمة : أن المعرفة طاعة مستقلة [بذاتها] موجبة للثواب على ذلك التقدير ، فلو لم يتوقف استحقاق الثواب فيها على شرط لزم جواز اثابة من حصل على المعرفة لا غير ولو كان مكذبا بالنبي «ص» ، وهو باطل بالاجماع.

قالوا : لا نسلم أن المعرفة طاعة مستقلة ، بل هي جزء الطاعة ، فان الايمان

٤١٨

هو معرفة الله ومعرفة رسوله ، فالمعرفة أحد أجزاءه ، فلا يلزم أن يستحق عليها الثواب ، لكونه معلقا على السبب التام. سلمنا لكن لو كان الثواب متوقفا على شرط لكان المدح متوقفا على شرط ، واللازم باطل فان العقلاء يمدحون فاعل الطاعة من غير تأخر. وبيان الملازمة : انهما معلولا علة واحدة هي الطاعة كما تقدم ، فاذا لم تكف الطاعة في أحدهما لم تكف في الاخر.

قلنا : الجواب عن الاول : أن الثواب كما يستحق على مجموع الايمان فكذا على أجزاءه ، لان كل واحد من أجزاءه له مدخل في التأثير ، ولهذا كان من عرف الله تعالى ثم مات قبل عرفانه الرسول كان مستحقا للثواب.

وعن الثاني : أنه لا استبعاد في كون أحد المعلولين متوقفا على شرط دون الاخر [وأيضا فانه يجوز أن يحصل أحد المعلولين دون الاخر] فتوقفه على شرط أولى ، فانه تعالى يستحق المدح بفعل الواجب ولا يستحق [بفعله] الثواب.

[كون استحقاق الثواب مشروط بالموافاة]

قال : الثالث : استحقاق الثواب مشروط بالموافاة ، أو ساقط بالعقاب ، لقوله تعالى (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (١) فنقول : العمل لم يقع باطلا في الاصل على تقدير الشرك [المتجدد] ، والا لما علق بطلانه على الشرك المتجدد. واذا ثبت هذا فالاستحقاق ان كان ثابتا كان معنى بطلانه سقوطه بالشرك ، وان لم يكن ثابتا كان معنى بطلانه عدم الاتيان بشرط الاستحقاق الذي هو الموافاة ، فلم يستحق الثواب ، فيكون العمل باطلا.

أقول : اختلف المعتزلة في اشتراط الموافاة في الثواب : فقال بذلك

__________________

(١) سورة الزمر : ٦٥.

٤١٩

البغداديون منهم ، وأنكره الباقون. واختلف الاولون : فقال بعضهم : لا يثبت الاستحقاق الا في الآخرة ، وهو اذا وافى العبد بالطاعة سليمة الى الآخرة. وقال بعضهم : تثبت في حال الموت ، وهو اذا وافى العبد بها الى الموت. وقال بعضهم : بل يستحق الثواب حال الطاعة بشرط الموافاة ، وهو أن يعلم الحكيم أنه لا يحبط الطاعة الى حال الموت ، ولا يندم (١) على المعصية.

والمصنف (رحمه‌الله) قال : ان الثواب مشروط بالموافاة ، واستدل عليه بقوله تعالى (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) ووجه الاستدلال أن العمل الذي يتعقبه الشرك لم يقع باطلا في أصله لوجهين :

الاول : أنه علق بطلانه على الشرك ، فلا يكون باطلا قبله.

الثاني : أن الجملة مركبة من الشرط والجزاء ، وانما يقعان في المستقبل.

واذا لم يكن باطلا في أصله كان صحيحا حينئذ ، وهو علة في استحقاق الثواب [مطلقا] على ذلك التقدير ، فاما أن يكون سقوطه لذاته ، أو للكفر المتعقب ، أو لعدم الموافاة ، والاول باطل والا لما كان معلقا ، وكذا الثاني لما يأتي من بطلان التحابط ، فتعين الثالث وهو المطلوب ، فيكون بطلانه عدم الاتيان بشرط الاستحقاق الذي هو الموافاة.

[مسألة الاحباط والتكفير]

قال : الرابع : في الاحباط والتكفير : أثبتهما جماعة من المعتزلة ، ونفاهما جماعة من المرجئة والامامية والاشعرية.

لنا : لو ثبتتا لزم أن يكون من فعل احسانا واساءة متساويين بمنزلة من لم يفعلهما ، ولو زاد أحدهما بمنزلة من لم يفعل الاخر. وهو باطل قطعا ، لان الثواب

__________________

(١) فى «ن» : يقدم.

٤٢٠