ارشاد الطالبين الى نهج المسترشدين

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

ارشاد الطالبين الى نهج المسترشدين

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٦

بيان الملازمة : أن الواجبات العقلية عامة على كل من تحقق فيه وجه وجوبها ولما كان الامر بالمعروف هو الحمل عليه والنهي عن المنكر هو المنع منه ، فلو وجبا بالعقل لوجبا عليه تعالى ، فان فعلهما لزم ارتفاع المنكر ووقوع المعروف ، والوجدان بخلافه. وان لم يفعلهما كان الله تعالى مخلا بالواجب ، وهو باطل بما تقدم.

وانما يجب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بشروط :

الاول : علم الامر والناهي بكون المعروف معروفا والمنكر منكرا.

الثاني : تجويز تأثير الامر والنهي.

الثالث : انتفاء المفسدة عليه وعلى غيره ممن لا يستحق.

ووجوبه على الكفاية ، لان الغرض تحصيل المعروف وارتفاع المنكر.

أقول : في هذا الفصل مباحث :

الاول : في تعريف الامر والنهي والمعروف والمنكر ، أما الامر فقد عرفه المصنف بأنه طلب الفعل بالقول على جهة الاستعلاء. فالطلب جنس شامل للامر والنهي.

قوله «طلب الفعل» خرج النهي ، فانه طلب الترك ، وقيده بالقول احترازا من طلب الفعل ، لانه كطلب الفعل بفعل واجب التأسي به ، لكن يرجع الى القول أيضا.

وقوله «على جهة الاستعلاء» ليخرج بذلك السؤال والالتماس ، فان الاول على جهة التسفل ، والثاني على جهة التساوى. واعتبر الاستعلاء كما هو رأي أبي الحسين [البصري] ، ولم يعتبر العلو كما هو رأي أكثر المعتزلة ، ليدخل قول فرعون (فَما ذا تَأْمُرُونَ) (١) فانه أطلق الامر على طلبهم الفعل منه ، مع أنه

__________________

(١) سورة الاعراف : ١١٠ وسورة الشعراء : ٣٥.

٣٨١

لا علو لهم عليه ، وتمام الحد (١) مذكور في أصول الفقه.

وفي هذا التعريف نظر : فان الطلب مرادف للارادة ، كما هو رأي المحققين والامر لفظ ، فاحدهما غير الاخر ، فالتعريف به تعريف بالمباين.

فان قلت : الامر في هذا الباب غير الامر الاصطلاحي ، فانه يكون تارة بالقلب وتارة باليد ، وتارة باللسان ، فلا يكون لفظا مطلقا.

قلت : على تقدير التسليم لا فائدة حينئذ في تقييده بالقول ، لانه يخرج به القلبي والجوارحي ، وأيضا الطلب غير شامل للاقسام التي ذكراها ، بل هو حقيقة في [الطلب] القلبي ، واستعماله في غيره مجاز ، والتعريف يأباه قوله.

والامر هنا يريد به في هذا الباب تارة يكون قولا ، كقولك افعل كذا ، وتارة يكون فعلا : اما قلبيا كالكراهة لتارك المعروف التي يدل عليها الاعراض عنه والتقبض في وجهه وعدم الانبساط له ، أو جوارحيا كما اذا افتقر الى الضرب والجرح وغير ذلك.

وبالجملة يرجع حاصل الامر بالمعروف الى الحمل عليه ، لكن الامر القلبي يجب مطلقا من غير شرط. وأما اللساني والجوارحي فانما يجب عند شرائطه الآتية.

وأما النهي فهو ضد الامر ، تعريفه ضد تعريفه فيكون على ما قاله هنا ، النهي هو طلب الترك بالقول على جهة الاستعلاء ، وبيانه في الاحتراز والنقص كما مر في الامر ، وهو أيضا ينقسم الى القلبي واللساني والجوارحي ، ويرجع حاصله الى المنع من المنكر.

وأما المعروف فهو الفعل الحسن المختص بوصف زائد على حسنه ، اذا عرف فاعله ذلك ، أو دل عليه ، فالفعل جنس وب «الحسن» خرج القبيح ،

__________________

(١) فى «ن» : البحث.

٣٨٢

وبقولنا «المختص بوصف زائد على حسنه» خرج المباح ، وقولنا «اذا عرف فاعله ذلك» احتراز عن الغافل فانه غير مكلف ، وقولنا «أو دل عليه» ليدخل فيه ما [اذا] لم يعرفه [تفصيلا ، لكن عرفه] اجمالا وقام الدليل عليه.

وأما المنكر فهو القبيح.

الثاني : في لمية وجوبهما فنقول : انهما لطفان في فعل المعروف وترك المنكر ، وكل لطف واجب. أما الكبرى فقد تقدمت. وأما الصغرى فلان المكلف اذا عرف أنه متى فعل المنكر وترك المعروف ، منع منه أو استخف به أو عوقب عليه ، كان ذلك صارفا له عن الاقدام. ولا نعني باللطف الا ذلك ، فيكونان واجبين لذلك ، وهو المطلوب. ولما كان المعروف منقسما الى واجب وندب كان الامر بالواجب لطفا فيه ، فيكون واجبا كوجوبه لما بيناه ، والامر بالندب (١) لطفا فيه ، فيكون مندوبا كندبه.

وأما المنكر فلا ينقسم ، فالنهي عنه واجب مطلقا.

الثالث : في طريق وجوبهما هل هو السمع لا غير أو العقل والسمع معا؟ قال شيخنا أبو جعفر الطوسي (رحمه‌الله) بالثاني ، لانهما لطفان كما تقدم وكل لطف واجب.

وقال السيد المرتضى وأبو الصلاح وسالم بن عزيزة بالاول ، واختاره المحقق في تجريده والمصنف (رحمه‌الله) في أكثر كتبه ، واستدل عليه بما تقريره أن نقول : لو وجبا عقلا لزم : اما كون الباري تعالى مخلا بالواجب ، أو وقوع كل معروف وارتفاع كل منكر ، واللازم باطل بقسميه فالملزوم مثله.

بيان الملازمة : أن الواجب العقلي عام لا يختلف باختلاف الفاعلين ، لانه يجب لوجه وجوبه ، ووجه وجوبه عام ، فيكونان واجبين عليه تعالى ، كوجوبهما

__________________

(١) فى «ن» : بالمندوب.

٣٨٣

علينا ، فاما أن لا يفعلهما فيلزم اخلاله بالواجب ، أو يفعلهما فيلزم وقوع كل معروف وارتفاع كل منكر ، لان الامر بالمعروف هو الحمل عليه ، والنهي عن المنكر هو المنع منه ، لكن الوجدان يكذبه وللشيخ أن يقول : أي شيء نعني بالحمل؟ والمنع ما كان مؤديا الى الالجاء ، فهو باطل ، لانه مناف للتكليف أو غير المؤدي الى الالجاء ، وذلك لا يلزم منه ما ذكرتم ، لانهما حينئذ يكونان مقربين كالحدود والتعزيرات ، [فيجوز حينئذ وقوع المنكر وعدم المعروف كما جاز مع الحدود والتعزيرات].

الرابع : في شرائطهما وقد ذكر المصنف منها ثلاثة :

الاول : علم الامر والناهي بكون ما يأمر به أو ينهى عنه معروفا أو منكرا.

والا لجاز العكس فيقع المنكر ويرتفع المعروف ، وهو باطل.

الثاني : تجويز التأثير والا لزم العبث بالامر والنهي ، وهو قبيح.

الثالث : عدم حصول مفسدة بالنسبة الى الامر والناهي ، أو غيره ممن لا يستحق ذلك ، والا لزم حصول مفسدة أعظم من ذلك ، أي من ترك المعروف وفعل المنكر.

الخامس : في محل وجوبهما ، واختلف في ذلك : فقال شيخنا أبو جعفر (رحمه‌الله تعالى): أنه على الاعيان. وقال السيد والمصنف : أنه على الكفاية.

واستدل الشيخ بوجوه.

الاول : أن جهة الوجوب عامة بالنسبة الى كل مكلف ، فيكونان واجبين على الاعيان.

الثاني : أنهما واجبان عليه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بقوله تعالى (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) (١) ودليل التأسي به (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

__________________

(١) سورة الاعراف : ١٩٩.

٣٨٤

الثالث : ظاهر قوله تعالى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (١).

الرابع : قوله عليه‌السلام : «لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم ويدعو خياركم فلا يستجاب لهم» (٢).

واستدل السيد والمصنف : بأن الغرض وقوع المعروف وارتفاع المنكر فبعد حصولهما من واحد فوجوبهما على غيره عبث.

وفيه نظر : فان للشيخ أن يقول : لا نسلم أن الغرض هو ذلك لا غير ، لجواز أن يكون الغرض مع ما ذكرتم حصول الثواب للامر والناهي بالقصد الى وقوعهما ، سلمنا لكن ليس الكلام في وجوبهما بعد الوقوع ، اذ من شرطهما كونهما مما يتوقعان في المستقبل ، لان الامر بالماضي والنهي عنه عبث ، بل الكلام فيما قبل الوقوع ، وعلى هذا لا يلزم العبث.

[مباحث المعاد]

قال : الفصل الثالث عشر ـ في المعاد : وفيه مباحث.

أقول : لما فرغ من المباحث المتعلقة بالاعتقاد ، شرع في أحوال المكلفين بعد موتهم ، وفي حصول أثر ذلك الاعتقاد وجودا وعدما ، فان الدنيا دار اكتساب والآخرة دار الجزاء.

و «المعاد» مفعل من العود ، وهو اسم لزمان العود أو مكانه ، والمراد [هنا] الوجود الثاني للاشخاص الانسانية بعد موتها لاخذ الحق منها أو ايفائه

__________________

(١) سورة آل عمران : ١١٠.

(٢) وسائل الشيعة. ١١ / ٣٩٤ ح ٤.

٣٨٥

ولما توقف ذلك على معرفة الاشخاص الانسانية ـ اذ الحكم على الشيء بدون تصوره محال ـ قدم البحث عن ماهية الانسان ما هي؟.

[تحقيق حول حقيقة الانسان]

قال : البحث الاول ـ في حقيقة الانسان : اختلف الناس في ذلك اختلافا عظيما ، وتعددت مذاهبهم واضطربت آراؤهم في ذلك. وقد بينا أكثر حججهم في كتاب «المناهج» ، واستقصينا ما بلغنا من أقاويل العلماء في ذلك في كتاب «النهاية». ولنقتصر في هذا المختصر على المشهور ، وهو مذهبان :

الاول : ما ذهب إليه أكثر المتكلمين : من أن الانسان عبارة عن أجزاء أصلية في البدن من أول العمر الى آخره ، لا يتطرق إليها الزيادة والنقصان.

والثاني : مذهب الاوائل : وهو أن الانسان عبارة عن جوهر مجرد متعلق بهذا البدن تعلق العاشق بمعشوقه.

واستدل الاولون : بأن كل عاقل يحكم على ذاته بالعقل والاتصاف بالعوارض النفسانية من غير أن يشعر بذلك المجرد.

واحتج الآخرون : بأن هاهنا معلومات غير منقسمة ، فالعلم بها غير منقسم فمحل العلم غير منقسم ، وكل جسم و [كل] (١) جسماني منقسم. ينتج : أن محل العلم ليس جسما ولا جسمانيا.

فههنا أربع مقدمات :

الاولى : ثبوت المعلوم غير منقسم (٢) ، وهو ظاهر فانا نعلم واجب الوجود تعالى ، وهو غير منقسم. ولان المعلوم ان كان بسيطا فهو غير منقسم [فقد ثبت

__________________

(١) لم تثبت فى «ن».

(٢) فى المطبوع من المتن : المنقسم.

٣٨٦

المطلوب] (١) وان كان مركبا استحال معرفته الا بعد معرفة البسائط ، ولانّ النقطة والوحدة والآن معلومات وغير منقسمة ، فقد ثبت المطلوب.

الثانية : أن العلم بهذه المعلومات غير منقسم ، لانه لو انقسم لكان جزؤه اما أن لا يكون علما ، أو يكون علما بذلك المعلوم ، أو بجزء ذلك المعلوم ، والاقسام الثلاثة باطلة :

أما الاول : فلان عند اجتماع الاجزاء ان لم يحصل أمر زائد لم يكن العلم علما ، وان حصل كان التركيب في قابل العلم أو فاعله لا فيه.

وأما الثاني : فلاستلزامه المساواة بين الجزء والكل ، وهو محال.

وأما الثالث : فلاستلزامه انقسام المعلوم ، وقد فرض غير منقسم.

الثالثة : أن محل العلم غير منقسم ، لانه لو انقسم فان كان حالا في جزء منه نقلنا الكلام إليه ، وان حل في كل جزء لزم انقسام العلم ، وقد فرض غير منقسم ، أو حلول العرض الواحد في محال متعددة ، وهو محال.

الرابعة : أن كل جسم و [كل] جسماني منقسم ، وهو بناء على نفي الجزء الذي لا يتجزى.

والاعتراض : أما المقدمة الاولى فمسلمة. وأما الثانية فممنوعة ، لاستلزامه نفي الماهيات المركبة ، ونمنع كون التركيب في القابل والفاعل خاصة على تقدير حصول الزائد ، ونمنع المساواة في الحقيقة على تقدير المساواة في التعلق. والثالثة أيضا ، لانتقاضها بالوحدة والاضافة. والرابعة أيضا ، وقد تقدم بيانها.

أقول : اختلف الناس في ماهية الانسان اختلافا عظيما ، واضطربت آراؤهم في ذلك اضطرابا جسيما ، ويرجع اختلافهم الى أن الانسان اما جسم أو جسماني ، أولا جسم ولا جسماني على سبيل المنع من الخلو.

__________________

(١) لم تثبت فى المطبوع من المتن.

٣٨٧

القسم الاول : أن يكون جسما ، واختلف في ذلك الجسم ما هو؟ :

فقال جماعة من المعتزلة كأبي على وابنه أبي هاشم وغيرهما : انه هذا الهيكل المحسوس المشاهد المشار إليه المخبر عنه وبه قال السيد المرتضى.

وقال قوم : انه الجزء الناري.

وقال قوم : انه الجزء الهوائي. وقال قوم : انه الجزء المائي. وقيل : انه الدم. وقيل : انه الاخلاط الاربعة.

وقيل : هو الروح ، وهو مركب من بخارية الاخلاط ولطيفها ، مسكنه الاعضاء الرئيسية التي هي القلب والدماغ والكبد ، ومنها ينفذ في العروق والاعصاب الى سائر الاعضاء. وقيل : انه النفس التي في الانسان.

وقال النظام : هو جسم لطيف في داخل البدن [سار في أعضائه ، فاذا قطع منه عضو تقلص الى داخل البدن] فان قطع (١) بحيث ينقطع ذلك الجسم اللطيف مات الانسان ، وهو قريب من مذهب المتكلمين.

وقال المحققون كأبي الحسين البصري وغيره : انه عبارة عن أجزاء أصلية في البدن باقية من أول العمر الى آخره ، لا يتطرق إليها الزيادة والنقصان ، واختاره المصنف في بعض تصانيفه ، والفاضل كمال الدين ميثم البحراني وغيرهما ، وهو أقوى ما قيل في هذا الباب.

القسم الثاني : أن يكون جسمانيا ، واختلف فيه : فقال ابن الراوندي : انه جزء لا يتجزى في القلب. وقيل : هو المزاج المعتدل الانساني ، وهو كيفيّة متوسطة تحصل من تفاعل الكيفيات البسيطة المتضادة. وقال قوم : انه الحياة.

وقيل : هو تخاطيط الاعضاء وتشكل الانسان الذي لا يقصر (٢) من أول عمره

__________________

(١) فى «ن» : انقطع.

(٢) فى «ن» : لا يتغبر.

٣٨٨

الى آخره.

القسم الثالث : أن لا يكون جسما ولا جسمانيا ، بل جوهر مجرد غير متحيز ولا حال في المتحيز ، متعلق بهذا البدن ليس تعلق الحول فيه ، بل تعلق التدبير له ، كتعلق العاشق بمعشوقه والملك بمدينته. وهو مذهب جمهور الفلاسفة ، ومن المتكلمين أبو القاسم الراغب ومعمر (١) بن عباد السلمي من المعتزلة والغزالي من الاشاعرة وأبو سهل بن نوبخت والمفيد محمد بن محمد بن النعمان من الامامية والمحقق الطوسي (رحمهم‌الله).

والمشهور هو هذا المذهب ومذهب الاجزاء الاصلية ، اذ ما عدا هذين المذهبين منها ما هو غير مشهور ومنها ما هو ظاهر البطلان ، فلنذكر ما احتج به أهل هذين المذهبين فنقول :

احتج القائلون بالاجزاء : بأنه لو كان الانسان عبارة عن المجرد لما أمكن الحكم عليه بدون معرفة المجرد ، واللازم باطل فالملزوم مثله. أما الملازمة : فلاستحالة الحكم على الشيء مع الجهل به.

وأما بطلان اللازم : فلانا نحكم على ذواتنا بالافعال ، كالمجيء والذهاب [والتأثير] والتأثر وغير ذلك ، ونحكم عليها بالصفات النفسانية كالقدرة والعلم والادراك والذكاء والشجاعة والسخاء وغير ذلك من الصفات أحكاما صادقة مع عدم شعورنا بالمجرد ، فلو كان الانسان عبارة عن المجرد لما أمكن حصول تلك الاحكام حال الجهل به وهو ظاهر.

وهذا الدليل على تقدير تمامه يدل على نفي المجرد لا غير ، ولا يدل على نفي باقي الاقوال فيفتقر الى تتميم.

فنقول : أما ما عدا القول بالهيكل فيدل على بطلانها قياس هكذا من الشكل

__________________

(١) فى «ن» : عمر.

٣٨٩

الثاني : لا شيء مما ذكروه يرجع إليه شيء مما ذكرنا من الاحكام ، وكل انسان يرجع إليه تلك الاحكام ، ينتج : لا شيء مما ذكروه بانسان ، وهو المطلوب ، والمقدمتان ظاهرتان.

واما الهيكل المحسوس فيدل على بطلانه هو أنه يتغير ويتبدل ويزيد وينقص ، والانسان في جميع الاحوال واحد ، فلا يكون هذا الهيكل بأجمعه. ثم هذا الهيكل يشتمل على أجزاء تتبدل وتتغير وأجزاء لا يتبدل ولا يتغير ، فليس الانسان عبارة عن الاول ، لما قلناه في الهيكل ، فيكون عبارة عن الثاني ، وهو المطلوب.

واحتج الفلاسفة ومن قال بمقالتهم : بأن الانسان يعلم معلومات غير منقسمة ، فيكون علمه بها غير منقسم ، فمحل علمه غير منقسم ، وكلّ جسم وجسماني منقسم ، ينتج : أن محل العلم الذي هو الانسان ليس جسما ولا جسمانيا ، وهو المطلوب.

فقد اشتمل هذا الدليل على أربع مقدمات لا بد من بيانها بالبرهان :

المقدمة الاولى : أن هاهنا معلوما غير منقسم وهو ظاهر لوجوه :

الاول : أن واجب الوجود معلوم ، وهو غير منقسم.

الثاني : المعلوم اما أن يكون له جزء أولا ، فان كان الثاني فهو بسيط ، فيكون غير منقسم ، وان كان الاول فيستحيل معرفته الا بعد معرفة أجزاءه ، اذ الجزء سابق على الكل في الوجودين ، وذلك الجزء غير منقسم ، فيكون هناك معلوم غير منقسم.

الثالث : أن الخط موجود بالاتفاق ، والنقطة طرفه وهي غير منقسمة بالاتفاق ، وهي معلومة فيكون هناك معلوم غير منقسم.

الرابع : أن الوحدة متصورة ، وهي غير منقسمة ، فيكون هناك معلوم غير منقسم.

المقدمة الثانية : أن العلم بغير المنقسم يجب أن يكون غير منقسم ، وذلك

٣٩٠

لانه لو انقسم لكان كل جزء من أجزاءه ، اما أن يكون علما بذلك المعلوم ، أو بشيء من أجزائه ، أولا يكون علما بذلك المعلوم ولا بشيء من أجزائه ، والاقسام الثلاثة [بأسرها] باطلة ، وهي لازمة على تقدير كونه منقسما ، فلا يكون منقسما ، وهو المطلوب.

أما بطلان القسم الاول : وهو أن يكون ذلك الجزء علما بذلك المعلوم ، فلانّه يلزم منه مساواة الجزء للكل ، وهو محال ، اذ الجزء مغاير لكله ، وهو ظاهر.

وأما الثاني : فلاستلزامه ثبوت الجزء لذلك المعلوم الذي فرضناه غير منقسم ، وهو محال.

وأما الثالث : فلانه اذا لم يكن علما بذلك المعلوم ولا بشيء منه ، فعند اجتماع الاجزاء اما أن يحصل أمر باعتباره يحصل العلم بذلك المعلوم أولا ، فان كان الثاني لم يكن ما فرضناه علما بذلك المعلوم علما به ، لان أجزاءه ليست علما به ولم يحصل أمر آخر يقتضي العلم به ، فلم يكن حينئذ علما به أصلا ، والفرض أنّه علم ، هذا خلف. وان كان الاول كان ذلك الحاصل هو العلم بالحقيقة ، اذ الوقوف على المعلوم انما يحصل (١) به والتركيب الذي فرض يكون اما من قابل العلم ان كان ذلك الزائد قائما بالاجزاء ، أو فاعله ان كان حاصلا من الاجزاء ، والفرض أن التركيب في العلم ، هذا خلف.

المقدمة الثالثة : أن محل ذلك العلم الغير المنقسم يجب أن يكون غير منقسم ، لانه لو انقسم لكان العلم اما أن لا يكون حالا في شيء من أجزاءه ، وهو خلاف الفرض ، أو يكون حالا في واحد من أجزاءه وننقل الكلام إليه ونقول كما قلنا في الاول ويتسلسل ، أو يكون حالا بتمامه في كل واحد واحد من

__________________

(١) فى «ن» : حصل.

٣٩١

أجزاءه ، فيلزم حلول العرض الواحد في المحال المتعددة ، أو يكون بعضه حالا في بعض أجزاء محله والبعض الاخر في باقي أجزاء محله ، فيلزم انقسام ما فرض غير منقسم ، هذا خلف.

والحاصل أنه لو لم يكن محل العلم غير منقسم ، لزم اما خلاف الفرض ، أو التسلسل ، أو كون العرض الواحد في محال متعددة ، أو فرض ما ليس بمنقسم منقسما ، والاقسام الاربعة باطلة ، وهي لازمة على تقدير انقسام المحل ، فلا يكون منقسما ، فيكون غير منقسم ، وهو المطلوب.

المقدمة الرابعة : أن كل جسم وجسماني فهو منقسم ، وهو بناء على نفي الجزء الذي لا يتجزى ، وقد تقدم الاستدلال عليه.

والاعتراض على هذا الدليل هو أن نقول : أما المقدمة الاولى فمسلمة.

وأما الثانية فممنوعة ، أما أولا فلانا نختار أن ذلك الجزء يكون علما بذلك المعلوم. وقوله «يلزم مساواة الجزء للكل» قلنا : أي شيء يعنى بلزوم المساواة؟ المساواة في الحقيقة أو في التعلق؟ ان أردت الاول فممنوع ، وان أردت الثاني فمسلم ، لكن لا يلزم منه المحال ، اذ لا يلزم من المساواة في التعلق المساواة في كل وجه لا بد له من دليل.

وأما ثانيا فلانا نختار أن كل واحد من أجزاءه ليس علما بذلك المعلوم ، لكن عند اجتماع الاجزاء يحصل العلم ، وما ذكرتموه من دليل ابطاله باطل بالضرورة ، اذ يلزم منه نفي الماهيات المركبة بأسرها.

وبيانه أن نقول : لا شيء من الحيوان بمركب ، لانه لو كان مركبا لكان كل واحد من أجزاءه اما أن يكون حيوانا أولا ، فان كان الاول لزم مساواة الجزء للكل ، وان كان الثاني فاما أن يحصل عند الاجتماع أمر باعتباره يكون أولا ، ان كان الاول لزم أن يكون التركيب في قابل الحيوان أو فاعله لا فيه ، وان كان

٣٩٢

الثاني لم يكن ما فرضناه حيوانا حيوانا هذا خلف ، فيلزم انتفاء ماهية الحيوان من البين ، وهو باطل ضرورة (١) ، على أن قوله «يلزم التركيب في القابل والفاعل لا غير» ممنوع ، بل التركيب في الماهية المركبة الحاصلة عند اجتماع الاجزاء.

وأما المقدمة الثالثة فلانا نختار أنه قائم بمجموع الاجزاء ، ولا يلزم انقسامه الا اذا حل فيه على سبيل السريان ، وهو ممنوع فعليكم بيانه ، على أنا نقول : هو قائم به كقيام النقطة والوحدة والاضافة بمحالها المركبة عندهم.

وأما المقدمة الرابعة فممنوعة أيضا ، لانها مبنية على نفي الجزء ، وقد تقدم دليلنا على اثباته.

[تحقيق حول اعادة المعدوم]

قال : البحث الثاني ـ في اعادة المعدوم : اختلف الناس هنا ، فمنعه المحققون ، وأثبته الآخرون :

أما الاولون : فقد احتجوا بأن ما عدم لم يبق له هوية حتى يصح الحكم عليها بالامكان ، ولانه لو أعيد لا عيد مع وقته فيكون مبتدأ معادا [معا] (٢) ولانتفاء امتيازه عن مثله لو وجد.

وأما الآخرون : فقد احتجوا بأنه ممكن الوجود والعدم ، لاتصاف ماهيته بهما ، فيكون قابلا لهما. ومع عدمه لا يخرج عن الامكان ، لاستحالة انتقال الشيء من الامكان الى الامتناع.

وقد بحثنا عن كلام الفريقين في كتاب «النهاية». والمعتمد ادعاء الضرورة على الحكم الاول.

__________________

(١) فى «ن» : بالضرورة.

(٢) لم تثبت فى المطبوع من المتن.

٣٩٣

أقول : اختلف الناس في أن الشيء اذا عدم عدما محضا بحيث لم يبق له هوية في الخارج أصلا هل يمكن اعادته بعينه مع جميع عوارضه ومشخصاته التي كان بها شخصا معينا أم لا؟

فذهب مشايخ المعتزلة القائلون بثبوت المعدوم الى أن ذلك ممكن ، بناء منهم على أن ماهيته ثابتة حالة العدم ، فاذا وجد حصل له صفة الوجود ، فاذا عدم مرة أخرى لم تبطل ذاته المخصوصة ، وانما زالت عنه صفة الوجود لا غير ، وذاته باقية له في الحالين.

وقالت الاشاعرة : بعدمه ، لانه قد بطلت ذاته وصار نفيا محضا ، لكنه يمكن اعادته بعينه لما يأتي من دليلهم.

وقالت الحكماء والمحققون من المتكلمين كأبي الحسين البصري ومحمود الخوارزمي وغيرهما : بامتناع اعادته بعينه ، واختاره المحقق الطوسي والمصنف واستدلوا بوجوه :

الاول : أن ما عدم فقد انتفت هويته ، بحيث لم يبق له ما [يمكن أن] يشار إليه ويحكم عليه بصحة العود ، وتحقق ماهية الشيء شرط في امكان الحكم عليه وصحة الاشارة إليه.

وفيه نظر : فان الحكم عليه بامتناع العود حكم عليه ، فيلزم التناقض.

الثاني : أنه لو صح اعادة المعدوم لزم اجتماع المتقابلين ، واللازم باطل فالملزوم مثله بيان الملازمة : أنه لو أعيد لا عيد مع جميع مشخصاته وعوارضه التي من جملتها زمانه الذي كان عليه قبل العدم ، ولو كان كذلك لكان مبتدأ بذلك الاعتبار ومعادا باعتبار آخر ، وهو وجوده بعد اعادته ثانيا ، فيكون مبتدأ معادا [معا] فيلزم الجمع بين المتقابلين ، وهو محال بالضرورة.

وفيه نظر : فانه انما يكون مبتدأ لو وجد مع الوقت في ذلك الوقت ، وذلك محال.

٣٩٤

الثالث : أنه لو أعيد لما حصل امتيازه عن مثله ، واللازم باطل لان عدم الامتياز بين الاثنين محال ، فالملزوم وهو اعادته بعينه محال أيضا وهو المطلوب.

بيان الملازمة : أنا اذا فرضنا سوادين أحدهما معادا والاخر مبتدأ ووجدا معا ، لم يقع بينهما فرق في الماهية ولا المحل ولا غير ذلك من المميزات ، إلا كون أحدهما كان موجودا ثم عدم والاخر لم يسبق عدمه وجوده ، لكن هذا الفرق باطل ، لامتناع تحقق الماهية في العدم ، فلا يمكن الحكم عليها بانها هي حالة للعدم.

وفيه نظر : فان التمييز في الخارج لا يستدعي التميز عندنا ، والتميز الخارجي في نفس الامر حاصل ، وهو كاف في تحقق الاثنينية.

احتجت الاشاعرة على امكان اعادته : بأنه لو لا ذلك لزم انقلاب الحقيقة وهو محال ، وبيان اللزوم (١) : أن ماهيته قبل العدم قابلة للوجود والعدم ، لاتصافها بالوجود تارة وبالعدم أخرى ، فيجب أن يكون كذلك بعدم العدم ، والا لزم انتقاله (٢) من الامكان الذاتي الى الامتناع الذاتي ، وهو انقلاب الحقيقة.

وفي هذا [أيضا] نظر : وذلك لان الحكم بامتناع وجوده انما هو حكم بامتناع الوجود المقيد بكونه بعد العدم ، وليس ذلك الامتناع للذات ولا لامر عارض يفارقها ، بل ذلك لامر لازم للذات ، وهو كونه بعد العدم ، ولا يلزم من ذلك انتقالها من الامكان الى الامتناع.

قال المصنف (رحمه‌الله): وقد بحثنا عن كلام الفريقين في كتاب النهاية ونحن لم يتفق لنا الوقوف على ذلك الكتاب ، لكنا ذكرنا على أدلة الفريقين ما اتفق لنا العثور عليه من فوائده في غير ذلك الكتاب. ثم انه (رحمه‌الله وجزاه

__________________

(١) فى «ن» : الملازمة.

(٢) فى «ن» : انقلابه.

٣٩٥

عن طلبة العلم خيرا) قال : المعتمد ادعاء الضرورة على الحكم الاول ، أعني امتناع اعادته بجميع عوارضه ومشخصاته التي بها صار شخصا بعينه ، وهو ظاهر.

[صحة عدم العالم]

قال : البحث الثالث ـ في صحة عدم العالم : خلافا للفلاسفة والكرامية ، لانه محدث فيكون ماهيته قابلة للوجود والعدم بالضرورة. ولان استحالة العدم لو كان لذاته كان واجبا لذاته ، هذا خلف ، والا ثبت المطلوب.

أقول : اختلف الناس في صحة عدم العالم : فقال طائفة من الحكماء : انه يمتنع (١) عدمه لذاته ، لانه واجب الوجود عندهم.

وقال قوم : انه يصح عدمه بالنظر الى ذاته ، لكنه يمتنع نظرا الى غيره ، وهو أنه مستند الى علة واجبة قديمة ، ودوام العلة تستلزم دوام المعلول.

وقد تقدم بيان بطلان هذين القولين.

وقال الكرامية : يمتنع عدمه لما يأتي من دليلهم.

وقال جمهور المسلمين : انه يصح عدمه لذاته ، وهو الحق. واستدل المصنف عليه بوجهين.

الاول : ان العالم محدث ، وكل محدث يجوز عدمه. أما الصغرى فقد تقدمت وأما الكبرى فلان المحدث هو الموجود المسبوق بالعدم ، فتكون ماهيته متصفة بهما ، فيصح تواردهما عليها ، وهو المطلوب.

الثاني : لو امتنع عدمه لكان ذلك الامتناع اما لذاته ، فيكون واجبا لذاته ،

__________________

(١) فى «ن» : ممتنع لذاته.

٣٩٦

فيلزم انقلاب الحقيقة من الامكان الى الوجوب وهو محال ، أو لا لذاته فيكون جائز العدم بالنظر الى ذاته وهو المطلوب.

[لا يلزم من جواز عدم العالم وقوع عدمه]

قال : وهل يعدم أم لا؟ منع منه أبو الحسين وأتباعه ، والا لم يعد ، لاستحالة اعادة المعدوم عنده ، بل انما تتفرق أجزاؤه. ومن جوّز اعادة المعدوم حكم بعدمه ، لقوله تعالى (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (١). وتأوله أبو الحسين بالخروج عن الانتفاع.

أقول : لا يلزم من جواز عدم العالم وقوع عدمه ، لان جواز عدم الشيء لا ينافي دوام وجوده ، ولذلك اختلف القائلون بجواز عدم العالم في أن ذلك الجائز هل يقع أم لا؟ فقال أبو الحسين البصري ومن تابعه في القول بعدم صحة اعادة المعدوم : ان ذلك الجائز لا يقع. وقال المجوّزون : ان ذلك يقع.

احتج أبو الحسين بأنه لو عدم لامتنع اعادته ، واللازم باطل فالملزوم مثله أما الملازمة : فلامتناع اعادة المعدوم ، وأما بطلان اللازم : فللاجماع على وجوب المعاد ولذلك فسّر أبو الحسين الاعدام الوارد بلسان الشرع بتفرق الاجزاء وخروجها عن الانتفاع.

واحتج المجوزون بوجوه :

الاول : قوله تعالى (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) ولا يكون هالكا اذا عدم.

الثاني : قوله تعالى (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) (٢) وانما يكون أولا اذا كان

__________________

(١) سورة القصص : ٨٨.

(٢) سورة الحديد : ٣.

٣٩٧

موجودا ولا موجود غيره ، وانما يكون آخرا اذا كان موجودا ولا موجود معه.

الثالث : قوله تعالى (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) (١) أي معدوم ، وليس المراد الاخبار عن الماضي ، لانه معلوم من دليل حدوثها فيراد المستقبل.

الرابع : قوله تعالى : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) (٢) ولما كان الابتداء عن عدم محض فكذا الاعادة ، والا لما صح التشبيه.

أجاب أبو الحسين وأتباعه عن الاولى : بأن المراد هالك بالنظر الى ذاته من حيث امكانه الذاتي ، وهو لا ينافي استمرار وجوده. أو يكون المراد بالهلاك الخروج عن الانتفاع ، والميت لا ينتفع به [وهو الحق].

وعن الثانية : أن الآية ليس فيها شيء من أدوات العموم ، فجاز أن يراد بها أول الاحياء وآخرهم. أو نقول : جاز أن يراد هو الاول بحسب الذات والاستحقاق لا بالزمان ، لان أهل الجنة مؤبدون (٣) قطعا ، فلا يكون آخر بالنسبة إليهم. وقد قيل : ان معنى كونه أولا أي مبدءا لكل شيء ، وآخرا أي غاية لكل شيء.

وعن الثالثة : أن المراد بالفناء الموت.

وعن الرابعة : أن التشبيه أعم من أن يكون من جميع الوجوه أو من بعضها والعام لا يدل على الخاص.

واعلم أن الاجماع انما انعقد على وجوب اعادة من له حق أو عليه حق ،

__________________

(١) سورة الرحمن : ٢٦.

(٢) سورة الأنبياء : ١٠٤.

(٣) فى «ن» مخلدون.

٣٩٨

فجاز أن يقال في حق المكلف بالتفريق وفي غيره بالعدم المحض ، لعدم محذور يلزم من ذلك ، هذا ان قلنا بامتناع اعادة المعدوم.

[كيفية اعدام الاجسام]

قال : والحق جواز استناد الاعدام الى الفاعل لا الى ضد هو الفناء ولا الى نفي فعل البقاء ، لما تقدم من بطلانهما.

أقول : اختلف القائلون بعدم الاجسام في كيفية أعدامها ، ويرجع حاصل الاقوال الى أن الاعدام : اما بالفاعل ، أو بطريان الضد ، أو بانتفاء الشرط. ووجه الحصر أن المعدوم : اما بذاته ، أو بواسطة ، والواسطة اما وجودية أو عدمية.

فالاول هو الاعدام بالفاعل ، وقد قال به القاضي أبو بكر في أحد قوليه ، وقريب منه قول أبي الهذيل ، فانه قال : ان أعدامه بأن يقول له «افن» فيفنى ، كما أن ايجاده بأن قال له «كن» فيكون. وقال النظام : ان الاجسام غير باقية ، فاذا أراد الله عدمها لم يوجدها بعد عدمها.

والثاني هو الاعدام بطريان الضد ، وقال به أبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم ، فانهما قالا : ان كيفية الاعدام هو أن يخلق الله تعالى عرضا يسمى «الفناء» اذا وجد عدمت الجواهر بأجمعها ولا يبقى زمانين ، الا أن أبا علي قال : ان بإزاء كل جوهر فناء. وأبا هاشم قال : ان فناء واحدا يكفي في عدم الجواهر. ثم ان الاعراض تعدم بانتفاء الجواهر ، لانها شرطها ، وقد تقدم القول على هذا الكلام.

والثالث هو الاعدام بانتفاء الشرط ، واختلف القائلون به فيه : فقالت الاشعرية : الاعراض غير باقية ، وأن الله تعالى يجدد خلقها في كل آن ، واذا لم يخلق الاعراض التي هي شرط في الجواهر تعدم الجواهر. وقال القاضي في

٣٩٩

قوله الثاني أن تلك الاعراض هي الاكوان. وقال محمود الخياط وامام الحرمين : ان الجواهر تحتاج الى نوع من كل جنس من اجناس الاعراض ، فاذا لم يخلق أي نوع كان عدم الجواهر. وقال الكعبي وبشر : ان العرض الذي هو شرط في وجود الجوهر هو البقاء ، فاذا لم يخلق الله تعالى البقاء عدم الجوهر ، الا أن بشرا يقول : ان ذلك البقاء قائم لا في محل. والكعبي يقول: قائم في محل.

والمصنف (رحمه‌الله) اختار أن الاعدام بالفاعل المختار ، وأبطل القولين الاخيرين :

أمّا الثاني فلما تقدّم في باب الاعراض من نفي الفناء وما يردّ على القول به.

وأما الثالث فلوجوه :

الاول : ما تقدم من بقاء الاعراض.

الثاني : أن العرض مفتقر الى الجوهر ، فلو افتقر الجوهر في وجوده إليه دار.

الثالث : أن الكلام في عدم الشرط كالكلام في عدم المشروط اما بالفاعل وقد أبطلوه ، أو بالضد وقد أبطلناه ، أو بانتفاء الشرط فيتسلسل ، أو يدور وهما باطلان.

الرابع : أن البقاء أمر عقلي لا عرض وجودي ، وعلى تقدير تسليمه لا يعقل وجوده عاريا عن المحل ، والا لما كان عرضا بل جوهرا ، فوجوده في المحل يستلزم الدور المحال كما تقدم.

قالت الكرامية : والاعدام بالفاعل لا يجوز أيضا ، لان العدم لا يفعل ، لان المؤثر لا بد أن يكون أثره وجودا ، اذ لو كان عدما لم يكن مؤثرا ، لانه لا فرق

٤٠٠