ارشاد الطالبين الى نهج المسترشدين

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

ارشاد الطالبين الى نهج المسترشدين

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٦

نسخ ذلك لانه جاء فيها بعد ذلك : انه يستخدم خمسين سنة ثم ينعتق في تلك السنة.

وعن الثالث : أنا نختار أنه بين انقطاع شرعه ، لكنه لم ينقل لانقطاع تواترهم بالواقعة المذكورة ، سلمنا لكنا نختار أن موسى عليه‌السلام لم يبين دوام شرعه ولا استمراره الى أمد معين ولا أطلق اطلاقا ، بل قرنه بقرائن محتملة للدوام والانقطاع الى أمد غير معين ، ولم يحتج الى التصريح بتعيين ذلك الامد ، استغناء بما يأتي من شرع عيسى عليه‌السلام ، لان ثبوت شرعه يستلزم انقطاع شرع موسى عليه‌السلام ، على أن في التوراة ما فيه تنبيه على شرع عيسى ومحمدعليهما‌السلام ، فانه جاء فيها : ان قدرة الله أقبلت من طور سيناء وأشرقت من طور ساعير وأطلعت من جبل فاران. وطور سيناء هو جبل موسى عليه‌السلام ، وجبل ساعير هو الجبل الذي كان فيه مقام عيسى عليه‌السلام ، وجباران فاران هو جبل مكة ، لان فاران هو مكة بدليل أنه جاء في التوراة ان ابراهيم عليه‌السلام أسكن ولده اسماعيل عليه‌السلام بقرية فاران.

[اثبات ان الأنبياء أشرف من الملائكة]

قال : البحث الخامس ـ في أن الأنبياء أشرف من الملائكة : لقوله تعالى (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) (١) ولانهم يعبدون الله مع معارضة القوى الشهوية لهم.

احتجت المعتزلة بقوله تعالى (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) (٢) وقوله تعالى (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣١.

(٢) سورة الاعراف : ٢١.

٣٢١

الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) (١).

والجواب : المراد الا أن تكونا ملكين أي لا تغتذيان ، ولان تفضيل الملائكة وقت مخاطبة ابليس لا يقتضي تفضيلهم وقت الاجتباء [ولانه حكاية عن قول ابليس] (٢) وذكر الملائكة عقيب المسيح لا يدل على أنهم أفضل ، لان بعضهم ذهب الى أن المسيح ابن الله ، وبعضهم ذهب الى أن الملائكة بنات الله فنفى الله تعالى عنهم الاستنكاف عن العبودية.

أقول : اختلف الناس في هذا المقام : فقال أصحابنا الامامية والاشاعرة : ان الأنبياءعليهم‌السلام أشرف من الملائكة.

وقالت المعتزلة والقاضي أبو بكر والاوائل : ان نوع الملائكة أفضل من نوع البشر ، والملائكة المقربون أفضل من الأنبياء ، وليس كل ملك بالإطلاق أفضل من محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بل بعض المقربين.

احتج المصنف للمذهب الاول بوجهين :

الاول ـ قوله تعالى (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) (٣) وهذا عام في كل من يطلق عليه اسم العالم ، اذ اللام [فيه] للاستغراق ، فيشمل عالم الانس والجن والملائكة وغيرهم. والاصطفاء المراد به هاهنا الفضيلة ، وكل من قال بأفضلية المذكورين في الآية قال بأفضلية الكل فالقول بأفضلية المذكورين خاصة خارق للاجماع.

الثاني ـ ان تكليف الأنبياء عليهم‌السلام أشق من تكليف الملائكة ، وكلما كان كذلك كانوا أفضل من الملائكة ، أما الاول : فلانهم يعبدون الله تعالى مع

__________________

(١) سورة النساء : ١٧٢.

(٢) هذه الزيادة لم تثبت في المطبوع من المتن.

(٣) سورة آل عمران : ٣١.

٣٢٢

كثرة الصوارف والموانع الداخلة والخارجة ، كالشهوة والغضب والاشتغال بالاهل والولد ، وأما الملائكة فلانهم مبرءون عن الشهوات والغضب وغير ذلك من الموانع عماهم بصدده ، ولا شك أن العبادة مع العائق أشق منها مع عدم العائق. وأما الثاني : فلقوله عليه‌السلام «أفضل العبادة أحمزها» أي أشقها فيكون القائم بها أفضل ، وهو المطلوب.

احتجت المعتزلة بوجهين : الاول ـ قوله تعالى (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) (١) ووجه الاستدلال أن ابليس رغب آدم عليه‌السلام من الاكل من الشجرة رجاء حصول الملائكة له بقوله (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) أو (تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) أي لو أكلتما لحصل لكما أحد هاتين المرتبتين فنها كما كراهة حصولها لكما ، وهذا يدل على أن الملائكة أعلى مرتبة من الأنبياء.

الثاني ـ قوله تعالى (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) (٢) ووجه الاستدلال أن العرب قد جرت عادتهم بأنهم اذا أرادوا تعظيم شخص بنفي فعل من الغير يقدموا الادنى ويتبعونه بالاعظم ، كما يقال فلان لا يرد الوزير ، قوله «بل ولا السلطان» وتأخير النفي في الآية يدل على ما قلناه.

والجواب عن الاول : أن المراد ما نهاكما الا إرادة أن تتشبها بالملك في عدم الاغتذاء ، فتكونا مجردين ، فتحصل لكما الكمالات النفسانية ، وهو كاره أن تكونا من الخالدين ، ويحصل لكما الكمالات البدنية ، وهو ليس بناصح فيما أراد حصوله لكما وأنا أدلكما على ما يحصل لكما الكمالات النفسية (٣) والبدنية

__________________

(١) سورة الاعراف : ٢١.

(٢) سورة النساء : ١٧٢.

(٣) فى «ن» : النفسانية.

٣٢٣

فيبقى بدنكم ، فيحصل لكما الكمالات البدنية ، والنفس متعلقة ببدنكما وبواسطتها يحصل لكما الكمالات النفسانية ، وهذا لا يدلّ على أفضلية الملائكة.

هذا ان جعلنا أو فاصلة للترديد ، مع أنه يحتمل أن تكون واصلة (١) بمعنى الواو ، فلا يكون فيها حجّة على مطلوبكم حينئذ ، لدلالتها على أن هاتين المرتبتين معا أشرف ، وأما على أشرفية كل واحد منهما على الانفراد فلا ، سلمنا لكن الآية تدل على أفضلية الملائكة في وقت خطاب ابليس لآدم ، وأما وقت الاجتباء فلا ، فلم لا يجوز أن [يكون] الأنبياء قد صاروا أشرف بعد الاصطفاء.

وعن الثاني ـ انه ليس كلاما واحدا وقع فيه تقديم وتأخير ليدل على أشرفية أحدهما على الاخر ، بل كلامين مستقلين خاطب بأحدهما طائفة من النصارى ردا عليهم في قولهم «المسيح ابن الله» وبالاخرى طائفة من مشركي العرب ، ردا عليهم في قولهم «الملائكة بنات الله» ومضمونها «أن المسيح والملائكة عباد مربوبون».

__________________

(١) فى «ن» : فاصلة.

٣٢٤

 [مباحث الامامة]

[من هو الامام]

قال : الفصل الحادي عشر ـ في الامامة : وفيه مباحث : الاول. الامامة رئاسة عامة لشخص من الاشخاص في أمور الدين والدنيا.

أقول : لما فرغ من النبوة شرع في الخلافة المعبر عنها بالامامة ، ولما كان البحث عن الشيء مسبوق بتصوره أولا أفتقر الى تعريف الامامة ، فعرفها بقوله «رئاسة الى آخره».

فالرئاسة جنس قريب لها ، [والجنس] البعيد هو النسبة والرئاسة تدل عليه بالتضمن. وقوله «عامة» تخرج به الخاصة ، كولاية قرية وقضاء بلد.

وقوله «لشخص من الاشخاص» التنوين فيه للوحدة ، ويحترز به عن وجود امامين فما زاد ، اذ لا يجوز أن يكون في زمان واحد أكثر من امام واحد.

وقوله «في أمور الدين» يخرج [به] الرئاسة في أمور الدنيا لا غير ، كرئاسة الملوك. وقوله : «والدنيا» يخرج [به] الرئاسة في أمور الدين لا غير ، كرئاسة القاضي اذا كانت عامة.

وهاهنا ايرادات يجاب عنها :

٣٢٥

الاول : أن الشخص المذكور في التعريف أعم من أن يكون ملكا أو جنيا او انسانا ، والمراد هو الثالث ، وهو غير مشعر به.

الثاني : أنه ينتقض برئاسة نائب الامام ، كما اذا فوض الى نائب عموم الرئاسة ، فكان ينبغي أن يزاد في التعريف كونها بالاصالة.

الثالث : أن التعريف ينطبق على النبوة ، فلا يكون مانعا ، لدخول ما ليس منه فيه.

والجواب عن الاول : أن في العرف خص استعمال الشخص في الانسان ، اذ لا يقال عرفا امام لغير الانسان.

وعن الثاني : أن رئاسة النائب المذكور خرجت بقيد «عامة» اذ النائب لا رئاسة له على امامه ، فلا حاجة الى الزيادة كما زاد بعض الفضلاء.

وعن الثالث : بان النبوة إمامة أيضا بقوله تعالى (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) (١) فيكون داخلة في التعريف ، فيكون جامعا لا مانعا.

وهنا نظر : فان موضوع البحث هنا ليس هو الرئاسة الشاملة للنبوة ، بل الرئاسة التي هي نيابة عنها والتعريف غير مشعر به ، فالاولى أن يزاد في التعريف نيابة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[كون الامامة واجبة على البارى تعالى]

قال : وهي واجبة على الله تعالى ، لانها لطف ، وكل لطف واجب ، فالامامة واجبة.

أما الصغرى فضرورية ، لانا نعلم بالضرورة أن الناس متى كان لهم رئيس

__________________

(١) سورة البقرة : ١٢٤.

٣٢٦

يردعهم عن المعاصي ويحرضهم على فعل الطاعة ، فان الناس يصيرون الى الصلاح أقرب ومن الفساد أبعد. وأما الكبرى فقد تقدمت.

أقول : لما فرغ من بيان مفهوم الامامة الذي هو مطلب «ما» شرع في مطلب «هل» أي هل الامامة واجبة أم لا؟ فنقول : اختلف الناس في مقامات ثلاثة :

الاول : هل هي واجبة أم لا؟ فذهب الجمهور من الناس الى وجوبها خلافا للنجدات من الخوارج والاصم وهشام الفوطي من المعتزلة ، الا أن النجدات والاصم قالا يجوز نصب الامام حال الاضطراب وعدم التناصف ، ليردعهم عن مفاسدهم ، وهشاما عكس وقال : لا يجوز نصبه حال الاضطراب ، لان ذلك قد يؤدي الى زيادة الشر وقيام الفتنة.

الثاني : هل هي واجبة عقلا أم سمعا؟ فذهب أصحابنا الامامية وأبو الحسين البصري والجاحظ ومعتزلة بغداد الى الاول ، وذهب الجبائيان والاشاعرة وأصحاب الحديث والحشوية الى الثاني.

الثالث : هل هي واجبة على الله أم على الخلق؟ أي يجب عليهم أن ينصبوا لهم رئيسا دفعا للضرر عن أنفسهم؟ فذهب أبو الحسين البصري والجاحظ والكعبي الى الثاني ، وذهب أصحابنا والاسماعيلية الى الاول.

فقالت الاسماعيلية : يجب نصبه على الله ليعلمنا معرفته ويرشدنا الى وجوه الادلة والمطالب. وأصحابنا يجب نصبه ليكون لطفا لنا في أداء الواجبات العقلية والشرعية واجتناب المقبحات ، ويكون مبنيا للشريعة حافظا لها ، وهو الحق.

وقد استدل المصنف على ذلك : بأنها لطف واللطف واجب على الله تعالى.

٣٢٧

أما الصغرى فلان العلم الضروري التجربي حاصل بأن الناس اذا كان لهم رئيس مطاع فيهم يخافون سطوته يمنعهم من المعاصي ويتوعدهم عليها ويحملهم على الطاعات ويعدهم عليها ، كانوا الى الطاعات أقرب ومن الفساد أبعد ، وذلك معنى اللطف ، فتكون الامامة لطفا. وأما الكبرى فقد تقدمت بيانها.

ان قلت : ان الكبرى هنا ممنوعة ، وذلك لان اللطف على قسمين : من فعل الله تعالى ، ومن فعل المكلف ، فالذي يجب فعله على الله هو الاول لا الثاني ، فلم قلت ان الامامة من القسم الاول؟ ولم لا يجوز أن تكون من القسم الثاني؟ [بمعنى أن المكلفين يختارون لهم إماما بالمعنى المذكور ، فيكون نصبه واجبا عليهم لا عليه تعالى].

قلت : الجواب من وجهين : الاول : انا سنبين أن العصمة شرط في الامام ، وهي أمر خفي لا اطلاع (١) لاحد عليه الّا لعلّام الغيوب ، فلا يكون نصب الامام الّا منه.

الثاني : أن الامامة لو كانت بالاختيار والتفويض الى الامة لزم وقوع الفساد والهرج والمرج.

[الجواب عن القائلين بعدم وجوب نصب الامام]

قال : لا يقال : اللطف انما يجب اذا لم يقم غيره مقامه ، أما مع قيام غيره مقامه فلا يجب ، فلم قلتم أن الامامة من قبيل القسم الاول؟ أو نقول : انما يجب اللطف اذا لم يشتمل على وجه قبح ، فلم لا يجوز استعمال الامامة على وجه قبح لا يعلمونه؟ ولان الامامة انما تكون لطفا اذا كان الامام ظاهرا مبسوط اليد

__________________

(١) فى «ن» : لا يطلع عليه غير علام الغيوب.

٣٢٨

ليحصل منه منفعة الامامة ، وهو انزجار المعاصي (١). أما مع غيبة الامام وكف يده فلا يجب ، لانتفاء الفائدة.

لانا نقول : التجاء العقلاء في جميع الاصقاع والازمنة الى نصب الرؤساء في حفظ نظامهم ، يدل على انتفاء طريق آخر سوى الامامة. وجهة (٢) القبح [معلومة] (٣) محصورة ، لانا مكلفون باجتنابها ، فلا بد وأن تكون معلومة والا لزم تكليف ما لا يطاق. ولا شيء من تلك الوجوه بمتحقق (٤) في الامامة. والفائدة موجودة وان كان الامام غائبا ، لان تجويز ظهوره في كل وقت لطف في حق المكلف.

أقول : لما قرر الدليل على مطلوبه ، شرع في الاعتراض عليه والجواب عنه ، وأورد منع الكبرى أولا ثم منع (٥) الصغرى ، والمناسب للترتيب البحثي هو العكس ، وتوجيه الاعتراض: هو أن دليلكم ممنوع بكلتا مقدمتيه ، فلا تصدق نتيجته التي هي عين مطلوبكم.

أما منع كبراه فلوجهين :

الاول : أن لطفية الامامة انما يتعين للوجوب اذا لم يقم غيرها مقامها ، وهو ممنوع لجواز أن يقوم غيرها مقامها ، كوعظ الواعظ فانه قد يقوم غيره مقامه مع كونه لطفا ، فلا يكون متعينة للوجوب ، كالواحدة من خصال الكفارة ، وهو المطلوب.

__________________

(١) فى المطبوع من المتن : العاصى.

(٢) فى المطبوع من المتن : ووجوه.

(٣) الزيادة من المطبوع من المتن.

(٤) فى المطبوع من المتن : متحققا.

(٥) فى «ن» : اتبع.

٣٢٩

الثاني : أن الواجب لا يكفي في وجوبه وجه وجوبه ، بل لا بد مع ذلك من انتفاء سائر وجوه القبيح والمفاسد عنه ، لاستحالة وجوب ما يشتمل على مفسدة وان اشتمل على مصلحة ، والا لكان الله تعالى فاعلا للمفسدة ، وهو قبيح.

وحينئذ نقول : الامامة على تقدير تسليم لطفيتها لا يكفي ذلك في وجوبها ، بل لا بد مع ذلك من انتفاء وجوه المفاسد منها ، فلم قلتم بانتفائها؟ ولم لا يجوز اشتمالها على نوع مفسدة لا نعلمها؟ وحينئذ لا يمكن الجزم بوجوبها عليه تعالى.

وأما صغراه : فلانا نمنع كون الامام لطفا مطلقا ، بل اذا كان ظاهرا مبسوط اليد جاز الانزجار عن المعاصي ، والانبعاث على الطاعات انما يحصل (١) بظهوره وانبساط يده وانتشار أوامره ، لا مع كونه خائفا مستورا.

والجواب عن الاول : انا نختار أن الامام لطف لا يقوم غيره مقامه ، كالمعرفة بالله تعالى فانها لا يقوم غيرها مقامها ، والدليل على ما قلناه أن العقلاء في سائر البلدان والازمان يلتجئون في دفع المفاسد الى نصب الرؤساء دون غيره ، ولو كان له بدل لالتجئوا إليه في وقت من الاوقات أو بلد من البلدان.

وعن الثاني : أن وجوه القبح والمفاسد معلومة محصورة لنا ، وذلك لانا مكلفون باجتنابها ، والتكليف بالشيء من دون العلم به محال ، والا لزم تكليف ما لا يطاق ، ولا شيء من تلك المفاسد موجود في الامامة.

وفي هذا الجواب نظر : فانه انما يصلح جوابا لمن قال بوجوبها على الخلق كأبي الحسين ، لا لمن قال بوجوبها على الله تعالى كاصحابنا ، فانه انما يجب عليه تعالى أن يعرفنا المفاسد اذا كانت من أفعالنا [أو من لوازم أفعالنا] ، لئلا يلزم ما لا يطاق كما ذكرتم ، أما اذا لم تكن من أفعالنا بل من فعله فلا يجب أن يعرفنا المفسدة اللازمة لو كانت [ثابتة] وحينئذ يجوز أن لا يكون نصب الامام

__________________

(١) فى «ن» : وهما انما يحصلان.

٣٣٠

واجبا عليه تعالى ، لاستلزامه مفسدة لا نعلمها.

والاجود في الجواب أن نقول : لو كان هناك مفسدة لكانت اما لازمة للامامة ، وهو باطل ، والا لما فعلها الله تعالى ، لكنه فعلها بقوله تعالى (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) ، ولاستحال تكليفنا باتباعه ، لكنا مكلفون باتباعه أو مفارقه وحينئذ يجوز انفكاكها عنه ، فيكون واجبة على تقدير الانفكاك ، وأيضا هذا السؤال وارد على كل ما يوجبه (١) المعتزلة على الله تعالى ، فكلما أجاب به فهو جوابنا.

وعن الثالث : أنا نختار أن الامام لطف مطلقا ، أما مع ظهوره وانبساط يده فظاهر ، وأما مع غيبته فلان نفس وجوده لطف ، لان اعتقاد المكلفين لوجود الامام وتجويز ظهوره وانفاذ أحكامه في كل وقت سبب لردعهم عن المفاسد ولقربهم الى الصلاح ، وهو ظاهر.

وتحقيق هذا المقام : هو أن لطفية الامام تتم بأمور ثلاثة :

الاول : ما هو واجب عليه تعالى ، وهو خلق الامام وتمكينه بالقدرة والعلم ، والنص عليه باسمه ، ونصبه (٢) ، وهذا قد فعله الله تعالى.

الثاني : ما هو واجب على الامام ، وهو تحمله الامامة وقبولها ، وهذا قد فعله الامام.

الثالث : ما هو واجب على الرعية ، وهو أن ينصروه ويطيعوه ، ويذبوا عنه ويقبلوا أوامره ، وهذا لم يفعله أكثر الرعية.

فمجموع هذه الامور هو السبب التام للطيفة ، وعدم السبب التام ليس من الله ولا من الامام لما قلناه ، فيكون من الرعية.

ان قلت : ان الله تعالى قادر على أن يكثر أوليائه ويحملهم على طاعته ، ويقلل

__________________

(١) فى «ن» : ما يورده المعتزلى.

(٢) فى «ن» : ونسبه.

٣٣١

أعداءه ويقهرهم على طاعته ، فحيث لم يفعل كان مخلا بالواجب.

قلت : لما كان [فعل] ذلك مؤديا الى الجبر المنافي للتكليف لم يفعله تعالى فقد ظهر أن نفس وجود الامام لطف وتصرفه لطف آخر ، وعدم الثاني لا يلزم منه عدم الاول ، فتكون الامامة لطفا مطلقا. وهو المطلوب.

[وجوب عصمة الامام عليه‌السلام]

قال : البحث الثاني ـ فى صفات الامام : يجب أن يكون معصوما ، والا لزم التسلسل ، والتالي باطل فالمقدم مثله.

بيان الشرطية : أن العلة المقتضية لوجوب نصب الامام جواز الخطأ على المكلف ، فلو جاز عليه الخطأ لوجب افتقاره الى امام آخر ليكون لطفا له وللامة أيضا ، ويتسلسل. ولانه الحافظ للشرع ، لقصور الكتاب والسنة على تفاصيل الاحكام. والاجماع لا بد له من دليل ، اذ صدوره عن غير دليل ولا أمارة يستلزم القول في الدين بمجرد التشهي ، والامارة يمتنع الاشتراك فيها بين العقلاء ، ولا نحيط بالاحكام ، اذ أكثرها مختلف فيها.

والقياس ليس حجة : أما أولا : فلانه يفيد الظن الذي قد يخطئ غالبا. وأما ثانيا : فلان مبنى شرعنا على جمع المختلفات وتفريق المتماثلات ، وحينئذ لا يتم القياس.

والبراءة الاصلية ترفع جميع الاحكام. فلو جاز عليه الخطأ لم يؤمن حفظه للشرع.

أقول : لما فرغ من بيان وجوب وجود الامام ، شرع في بيان صفاته وهو بيان مطلب «كيف» أي كيف يكون الامام؟ وقد ذكر المصنف في هذا البحث أوصافا ثلاثة :

٣٣٢

الاول : كونه معصوما ، وقد تقدم بيان العصمة ، وهذا لم يقل به أحد في الامام سوى أصحابنا [والاسماعيلية] ، وقد استدل عليه المصنف بوجهين :

الاول : أنه لو لم يكن معصوما للزم وجود ما لا يتناهى من الائمة واللازم باطل فالملزوم مثله. أما بيان اللازم فظاهر. وأما بيان الملازمة : فلان العلة المحوجة (١) لاحتياج المكلفين الى الامام هو كونهم جائزي الخطأ ، اذ على تقدير فرض عصمتهم لا حاجة لهم الى امام ، فلو فرض الامام جائز الخطأ مع كونه مكلفا لكان مفتقرا الى امام آخر ، وننقل الكلام على الثاني ، ونقول كما قلنا أولا ، ويلزم التسلسل.

الثاني : أنه حافظ للشرع ، وكل من كان كذلك وجب كونه معصوما. أما المقدمة الاولى : فلانا مكلفون بالشرع ، فلا بد له من حافظ ينقله إلينا ، وذلك الحافظ اما الكتاب ، أو السنة ، أو الاجماع ، أو القياس ، أو البراءة الاصلية ، أو الامام ، وكل واحد من المذكورات غير الامام لا يصلح حافظا ، فيكون هو لامام ، وهو المطلوب.

أما الكتاب والسنة فلوجوه :

الاول : الاجماع الدال على ذلك.

الثاني : أنهما غير وافيين بالاحاطة بمجموع الاحكام ، مع أن لله في كل واقعة حكما ، فلا يكونا حافظين.

الثالث : أن كل واحد منهما غير مستقل بالدلالة على المراد ، لكون أكثر ألفاظها ذا وجهين أو وجوه.

وأما الاجماع فلوجوه :

الاول : ان الاجماع اما أن يشتمل على معصوم أولا ، فان كان الاول كان الحجة

__________________

(١) فى «ن» : الموجبة.

٣٣٣

في قول المعصوم وما عداه هذر ، وان كان الثاني لم يكن حافظا لجواز الخطأ على كل واحد واحد ، فيجوز على المجموع.

الثاني : أنه انما يكون حافظا اذا كان حجة ، والعلم بكونه حجة اما عقلي أو نقلي. وكلاهما منفي : أما الاول فلانه يلزم أن يكون كل اجماع حجة حتى اجماع اليهود والنصارى ، وهو باطل. وأما الثاني فلانه يلزم منه الدور ، وبيانه : أن الادلة النقلية على حجية الاجماع كقوله تعالى (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) (١) وكقوله عليه‌السلام «لا تجتمع أمتي على الخطأ (٢)».

وغير ذلك من الادلة ، انما يكون حجة اذا انتفي عنها احتمال النسخ والاضمار والتخصيص ، وانتفاء ذلك غير معلوم ضرورة ، بل يقال لو كان ذلك لنقل إلينا ، وانما يتم ذلك اذا ثبت أن الامة لا تخل بنقل شيء من الشرائع ، وانّما يعلم ذلك اذا أعلمنا كون الامة معصومة ، فلو استدللنا على كونها معصومة بالنقل لزم الدور.

الثالث : أن الاجماع اما أن يكون عن دليل أو أمارة أولا ، والثاني باطل لانه قول في الدين بمجرد التشهي ، وهو باطل. والاول انما يحصل اذا كان هناك دليل يستدل به أهل الحل والعقد كلهم على ثبوت حكم ويجمعون عليه ، أو بعضهم به وبعضهم بمجاز من مجازات القرآن أو السنة ، أو يكون هناك أمارة لكل حكم ، أو أمارات مختلفة تشترك في افادة الظن بثبوت حكم ، وحصول مثل هذا الاجماع متعسر بل متعذر ، لاستحالة أن يكون في كل حكم دليل قاطع يستدل به الكل أو بعضهم ، ولامتناع اشتراك العقلاء في الامارة الواحدة ، بأن

__________________

(١) سورة النساء : ١١٥.

(٢) راجع كتاب الطرائف : ٥٢٦.

٣٣٤

يسنح للكل أمارة واحدة ، أو أمارات مختلفة تشترك في غلبة الظن بأمر واحد ، فيكونوا مشتركين فيها ، أو فيما يحصل منها ، وأيضا الامارة لا تكون دليلا الّا على حكم لا يكون معارضا وقل ما يتفق مثل ذلك.

الرابع : أن أكثر الاحكام مختلف فيها ، فلا يكون الاجماع محيطا بجميع الاحكام ، فلا يكون حجة.

وأما القياس فلوجهين :

الاول : أنه يفيد الظن الذي هو في الاغلب يكون محيطا.

الثاني : القياس انما يتحقق في صورة يكون فيها أشياء متماثلة يجتمع في حكم صحيح ، فيجتمع [بينهما] في حكم آخر ، وشرعنا كثيرا ما يجمع بين المختلفات في الحكم الواحد ، كالبول والغائط والريح في ايجاب الوضوء ، فانها مختلفة في الحقيقة مع اجتماعها في حكم واحد ، وكايجاب الكفارة بالقتل والظهار.

وكثيرا ما يفرق بين المتماثلات في الحكم ، كآخر يوم من رمضان وأول يوم من شوال وثانية ، فانها متفقة في حقيقة اليومية ومختلفة في الاحكام ، فان صوم الاول واجب والثاني محرم والثالث مندوب.

وأما البراءة الاصلية بأن يقال : الاصل براءة الذمة من كذا. فانها تقتضي رفع جميع الاحكام ، فلا يجب بعثة الأنبياء ، وهو باطل بالاجماع ، فتعين الامام وهو المطلوب ، والا لبقي الشرع ضائعا.

ان قلت : لم لا يجوز أن يكون الحافظ هو المجموع مما ذكرتم بطلانه.

قلت : أن الكتاب والسنة قد وقع التنازع فيهما وفي معناهما ، فلا يجوز أن يكون المجموع حافظا ، لانهما من جملة ذلك المجموع ، وهما قد اشتملا على بعض الشرع ، واذا كان واحد من المجموع قد اجتمع على بعض الشرع

٣٣٥

بطل كونه دليلا على ما تضمنه ذلك الفرد من جملة الشرع ، فقد صار بعض الشرع غير محفوظ ، فلا يكون المجموع محفوظا ، فلم يبق الا الامام.

وأما المقدمة الثانية فلانه لو لم يكن معصوما لما بقي لنا وثوق بنقله للشرع ولما آمنا [فيه] الزيادة والنقصان ، وكلاهما مناف للغرض من التكليف.

[وجوب كونه أفضل من كل واحد من رعيته]

قال : ويجب أن يكون أفضل من رعيته ، لقبح تقديم المفضول على الفاضل ولقوله تعالى (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى) (١) ويدخل في ذلك كونه : أزهد ، وأورع ، وأشج ، وأعلم ، وأكرم.

أقول : هذا هو الوصف الثاني من أوصاف الامام ، وهو وجوب كونه أفضل من كل واحد واحد من رعيته ، وهو مذهب أصحابنا الامامية وأكثر المرجئة وقوم من المعتزلة منهم الجاحظ والزيدية ، خلافا لباقي الفرق ، والدليل عليه وجهان :

الاول عقلي : وتقريره أنه لو لم يكن أفضل لكان اما مساويا أو مفضولا ، وكلاهما باطل ، أما الاول فلاستلزامه الترجيح بلا مرجح ، وهو باطل ، اذ ليس أحدهما أولى بأن يكون إماما والاخر بأن يكون مأموما من العكس ، فيلزم حينئذ اما أن يكونا امامين معا ، وهو باطل [بالاجماع] ، أو لا يكونا امامين معا ، وهو باطل أيضا ، لاستحالة خلو الزمان من امام. وأما الثاني فلانه يقبح عقلا تقديم المفضول على الفاضل فيما هو أفضل منه فيه ، وانكاره مكابرة.

الثاني نقلي : وهو كثير من ذلك قوله تعالى (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُ

__________________

(١) سورة يونس : ٣٥.

٣٣٦

أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (١) هذا دليل قاطع على اعتبار الافضلية في الامام.

قوله «فيدخل في ذلك» الى آخره ، يريد أنه حيث بينا وجوب أفضليته (٢) دخل في ذلك وجوب كونه أزهد وأورع وأشجع وأعلم وأكرم ، لانه لو كان أحد أفضل منه في صفة من هذه الصفات للزم تقديم المفضول على الفاضل بالنسبة إليه في تلك الصفة ، وهو قبيح لما تقدم.

[وجوب كونه عليه‌السلام منصوصا عليه]

قال : ويجب أن يكون منصوصا عليه ، لانا شرطنا فيه العصمة ، وهي من الامور الباطنة التي لا يعلمها (٣) الاعلام الغيوب ، فيجب أن يتعين بالنص لا بغيره.

أقول : هذا هو الوصف الثالث ، وهو كونه منصوصا عليه ، ولا خلاف في كون النص طريقا الى تعيين الامام ، وانما الخلاف في أنه هل يحصل طريق غيره يفيد تعيين الامام أم لا؟ فقال الزيدية : القيام والدعوة أيضا طريق آخر وقال أهل السنة : أن اختيار الامة طريق آخر. وقالت الراوندية : الارث طريق آخر. وقال أصحابنا الامامية : لا طريق الا النص ، وهو الحق.

ودليله : كلما وجب كون الامام معصوما وجب كونه منصوصا عليه ، لكن المقدم حق فالتالي مثله. أما حقيقة المقدم فقد تقدم بيانها. وأما بيان الشرطية : فلان العصمة من الامور الخفية التي لا اطلاع عليها الا لعلام (٤) الغيوب ، فلو

__________________

(١) سورة يونس : ٣٥.

(٢) فى «ن» : كونه أفضل.

(٣) وفي المطبوع من المتن : لا يطلع عليها غير الله تعالى.

(٤) فى «ن» : علام.

٣٣٧

لم يجب أن ينص عليه مع أنه كلفنا باتباعه لزم تكليف ما لا يطاق.

وأعلم أن النص لغة : الاظهار والابانة. واصطلاحا : هو اللفظ الذي لا يحتمل غير ما فهم منه ، وحينئذ في حكم المصنف أن الامام يتعين بالنص لا بغيره نظر فانه كما يتعين بالنص يتعين بخلق المعجز على يده ، كما في حق قائم زماننا (صلوات الله عليه وسلامه) وكما في حق من لم يسمع النص ولم ينقل إليه ، فان الامام مطلقا لا يتعين عنده الا بخلق المعجز.

[اثبات إمامة على بن أبى طالب عليه‌السلام]

قال : البحث الثالث ـ في أن الامام بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله هو علي بن أبي طالبعليه‌السلام: ويدل عليه وجوه :

الاول ـ أن الامام يجب أن يكون معصوما ـ على ما بيناه ، ولا شيء من الصحابة والذين ادعي لهم الامامة غيره بمعصوم ، فتعين أن يكون هو الامام. والمقدمة الثانية اجماعية.

أقول : لما فرغ من ذكر وجوب الامامة وأوصاف الامام ، شرع في تعيينه وهو مطلب «من» أي من الامام؟ وقد اختلف الناس في ذلك بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : فقالت العباسية : هو العباس بن عبد المطلب بالارث وقال أهل السنة : هو أبو بكر بن أبي قحافة بالاختيار. وقالت الشيعة : هو علي بن أبي طالب بالنص وهو الحق لوجوه :

الاول ـ الامام يجب أن يكون معصوما ، ولا شيء من غير علي عليه‌السلام ممن ادعي له الامامة بمعصوم ، ينتج : أنه لا شيء من غيره بامام ، فيكون علي عليه‌السلام هو الامام ، وهو المطلوب. أما الصغرى فقد تقدّم بيانها. وأما الكبرى فلوجهين :

٣٣٨

الاول : الاجماع على ذلك ، فان الناس قائلان : قائل بأن الامام معصوم فهو عليعليه‌السلام ، وقائل بأن الامام غير معصوم فهو غير علي عليه‌السلام فالقول بوجوب العصمة في الامام مع كونه غير علي عليه‌السلام خارق للاجماع فقد بان الاجماع على عدم عصمة غيره.

الثاني : الاجماع حاصل أن العباس وأبا بكر كانا كافرين ، ولا شيء من الكافر بمعصوم ، واذا لم يكن غيره إماما كان هو الامام ، ولما تقدم من وجوب وجود الامام في كل زمان ، فلو لم يكن هو الامام لزم خلو الزمان عن امام ، وهو باطل.

قال : الثاني ـ النقل المتواتر عن الشيعة خلفا عن سلف ـ ونقله المخالف أيضا ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نص على علي عليه‌السلام بامرة المؤمنين وبأنه خليفته من بعده.

أقول : هذا هو الوجه الثاني من دلائل إمامته عليه‌السلام ، وهو أن الشيعة على كثرتهم وانتشارهم في مشارق الارض ومغاربها نقلوا نقلا متواترا النص الجلي من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله على علي عليه‌السلام ، كقوله : «أنت الخليفة من بعدي سلموا عليه بإمرة المؤمنين واسمعوا له وأطيعوا»(١) فيكون هو إماما ، وهو المطلوب.

ان قلت : نمنع صحة هذه الاخبار ، فانها لم يعلم الا من جهتكم ، سلمنا لكن نمنع من كونها متواترة ، والا لافادتنا العلم كما أفادتكم.

قلت : الجواب عن الاول : أنا قد بينا نقل الشيعة على كثرتهم وانتشارهم ،

__________________

(١) حديث متواتر بين الفريقين ، ونقلوه عن طرق مختلفة ، وكتبهم المناقب مشحونة بذلك ، وقد صنف في ذلك السيد ابن طاوس كتابه المعروف ب «اليقين في أمرة أمير المؤمنين على بن أبى طالب عليه‌السلام».

٣٣٩

وعدم نقل غيرنا لها كان لدواع دعتهم الى اخفائها :

منها : المعاندة لعلي عليه‌السلام والبغض له ، فانه لنصرته الاسلام كان قد قتل أنساب أكثرهم.

ومنها : الحسد له عليه‌السلام لكثرة فضائله وخصائصه ، ولا خير في من لا يعرف حاسده.

ومنها : توهم بعضهم أن عليا عليه‌السلام لا يضطلع (١) باعباء الخلافة لصغر سنه ودعابة(٢) فيه ، وتوهم أن الخلافة أمر دنيوي وشيء مصلحي ، ومثل ذلك جاز مخالفة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فيه.

ومنها : غلبة شياطينهم واستحواذه عليهم ، وان كانوا عالمين باضطلاعه بها هذا في زمن الصحابة ، وأما في التابعين لهم فلتقليدهم لهؤلاء وميلهم الى الدنيا الحاصلة في يد من تصدى للخلافة ، ثم قلدهم الاتباع واتباع الاتباع حتى صار ذلك شبهة صارفة لطالب الحق عن النظر في أدلتنا ، أعاذنا الله تعالى من الهوى والمعصية. هذا مع أن المخالف قد نقل ذلك أيضا من طرق متعددة.

منها ما رواه محمد بن جرير الطبري في كتاب المستنير (٣) عن الحسن بن محمد بن (٤) جميل قال : حدثنا جرير عن الاعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن عائشة قالت : سألت رسول الله من الخليفة بعدك؟ قال : انظري فنظرت ، فاذا هو علي بن أبي طالب (٥). وغير ذلك من الاخبار.

__________________

(١) اضطلع : نهض به وقوى عليه.

(٢) المراد منه الرجل الضعيف القصير يهزأ منه.

(٣) فى اثبات الهدى : المستبين.

(٤) فى اثبات الهدى : عن حميد عن جرير.

(٥) أخرجه الحر العاملى عن ارشاد الطالبين [هذا الكتاب] : فى اثبات الهداة ـ

٣٤٠