ارشاد الطالبين الى نهج المسترشدين

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

ارشاد الطالبين الى نهج المسترشدين

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٦

صفات النبي ، وهو المسمى بمطلب «كيف» أي كيف النبي؟ وهو البحث عن الصفات التي تتم بها النبوة ، فقال : البحث الثاني ـ في وجوب العصمة.

وقبل الخوض في الاستدلال نقرر معنى العصمة فنقول : ذهب بعضهم الى أن المعصوم لا يمكنه الاتيان بالمعاصي ، فقيل : سببه اختصاص بدنه أو نفسه بخاصية تقتضي امتناع المعاصي منه. وقال أبو الحسن : هو مساوي لغيره لكن ليس له قدرة على المعاصي. وقال أكثر : الناس بامكانها منه ، فقال بعضهم : ان سبب العصمة أمور أربعة.

الاول : اختصاص نفسه وبدنه بملكة تمنعه من الاقدام على المعاصي.

الثاني : أن يكون عالما بالمدح على الطاعة والذم على المعصية.

الثالث : تأكيد تلك العلوم بتواتر الوحي.

الرابع : أن يكون بحيث اذا ترك ما هو أولى عوتب عليه.

وكلا القولين باطل : أما الاول : فلانه لو كانت المعاصي ممتنعة منه لما استحق ثوابا ولا مدحا ، ولامتنع تكليفه بتركها ، اذ لا قدرة له عليها ، واللوازم بأجمعها باطلة فكذا الملزوم ، والملازمة ظاهرة.

وأما الثاني : فلوجوه : الاول : أن الاول هو نفس العصمة لا سببها.

الثاني : أن الثالث مختص بالانبياء لا بكل معصوم ، والمعصوم أعم من ذلك ، فان الائمة الاثنا عشر والملائكة وفاطمة عليها‌السلام ومريم معصومون من غير وحي.

الثالث : أن الرابع لازم للعصمة لا سببها.

والحق أن العصمة عبارة عن لطف يفعله الله بالمكلف ، بحيث لا يكون له [مع ذلك] داع الى ترك الطاعة ولا الى فعل المعصية ، مع قدرته على

٣٠١

ذلك (١) ، ويحصل انتظام ذلك اللطف بأن يحصل له ملكة مانعة من الفجور والاقدام على المعاصي ، مضافا الى العلم بما في الطاعة من الثواب والمعصية من العقاب ، مع خوف المؤاخذة على ترك الاولى وفعل المنسي.

اذا عرفت هذا فاعلم أن المصنف استدل على وجوب عصمة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مطلقا بوجوه :

الاول : لو لم يكن معصوما لزم انتفاء فائدة البعثة ، واللازم باطل فالملزوم مثله. بيان الملازمة : أنه اذا لم يكن معصوما كان فعل المعصية منه جائزا ، فلنفرضه واقعا ، اذا الممكن لا يلزم من فرض وقوعه محال ، واذا وقعت المعصية فاما أن يجب اتباعه أولا ، والاول باطل لاستحالة التكليف بالقبيح منه تعالى. والثاني موجب لانتفاء فائدة بعثته ، اذ الغرض من بعثته اتباعه.

وأما بطلان اللازم فظاهر ، لاستلزامه الحرص على تحصيل أمر والسعي في ابطاله ، وذلك سفه قبيح يستحيل صدوره منه تعالى.

الثاني : أن مع وقوع المعصية منه اما أن يجب الانكار عليه أولا ، والثاني باطل ، لعموم وجوب النهي عن المنكر ، فلو لم ينكر عليه لزم ابطال هذه الوظيفة ، وهو باطل اجماعا ، فيتعين الاول ، لكن ذلك موجب لسقوط محله من القلوب ، فلا يصار الى ما يأمر به وينهي عنه ، فتنتفي فائدة البعثة.

الثالث : لو جاز عليه فعل المعصية لجاز أن لا يؤدي بعض ما أمر به بأدائه ، فيجوز أن يكون قد أمر بصلاة سادسة ، أو بصوم شهر آخر ، أو أن الشرع سينسخ ولم يؤدي ذلك الى أمته ، لكن ذلك يرفع الوثوق باخباراته ، ويجوز عدم استمرار حكم الشرع.

وفي الوجهين نظر : اذ المحال فيهما نشأ من فرض وقوع المعصية عنه ،

__________________

(١) فى «ن» : عليهما.

٣٠٢

وجاز أن تكون المعصية ممكنة غير واقعة ، لان الممكن لا يجب وقوعه ، لان استمرار عدم الشيء لا ينال امكانه. ويمكن أن يجاب عنه بان اعتقاد المكلفين جواز صدور المعصية عنه يخطر لهم المحالات المذكورة ، فيحصل التنفير عن متابعته والانقياد التام لامتثال أوامره ونواهيه.

[وجوب تنزه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن المعاصى عمدا وسهوا]

قال : ومن هذا علم أنه لا يجوز ان يقع منه الصغائر ولا الكبائر ، عمدا ولا سهوا ولا غلطا في التأويل. ويجب أن يكون منزها عن ذلك من أول عمره الى آخره.

أقول : اعلم أنه لما استدل على مطلوبه أشار الى خلاف الناس هنا ، ومحصل الاقوال هنا أن نقول : أفعال الأنبياء لا تخلو من أقسام أربعة :

الاول : الاعتقاد الديني.

الثاني : الفعل الصادر عنهم من الافعال الدينية.

الثالث : تبليغ الاحكام ونقل الشريعة.

الرابع : الافعال المتعلقة باحوال معاشهم في الدنيا مما ليس بديني.

فالقسم الاول : اتفق اكثر الناس على عصمتهم فيه ، خلافا للخوارج حيث جوزوا عليهم الكفر ، لاعتقادهم أن كل ذنب صدر عمدا (١) فهو كفر ، وجوّز صدور الذنب عنهم ، فقد جوزوا عليهم الكفر. وخلافا لابن فورك حيث جوز بعثه من كان كافرا ، لكنه قال : هذا الجائز لا يقع (٢). وبعض الحشوية قال بوقوعه وبعضهم جوزوا عليهم كلمة الكفر للتقية. وهذا باطل لانه يفضي الى اخفاء

__________________

(١) فى «ن» عنهم :

(٢) فى «ن» : لم يقع.

٣٠٣

الدين بالكلية ، لان أولى الازمان بالتقية حين اظهار الدعوة ، لان الاكثر من الناس يكون منكرا.

وأما القسم الثاني : فقال ما عدا الامامية : انه يجوز عليهم قبل البعثة فعل جميع المعاصي ، كبائر كانت أو صغائر. واختلفوا في زمان البعثة : فقالت الاشعرية لا تجوز الكبائر عليهم مطلقا ، وأما الصغائر فتجوز سهوا. وقالت المعتزلة : بامتناع الكبائر مطلقا ، وأما الصغائر فاختلفوا فيها : فقال بعضهم : انما تجوز على سبيل السهو لا العمد ، ولعلو درجتهم لا يؤاخذون بها.

وقال بعضهم : انها (١) تجوز على سبيل التأويل ، كما يقال : ان آدم أوّل النهي عن الشجرة بالنهي عن الشخص وكان المراد النوع ، فان الاشارة قد تكون الى النوع ، كقوله عليه‌السلام : «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة الا به». وقال بعضهم على سبيل القصد ، لكنها تقع محيطة لكثرة ثوابهم. والحشوية جوّزوا الاقدام على الكبائر ، ومنهم من منع تعمدها وجوز تعمد الصغائر.

وأما القسم الثالث : فأجمع الكل على عدم جواز الخطأ فيه.

وأما القسم الرابع : فجوز أكثر الناس السهو. وأصحابنا حكموا بعصمتهم مطلقا قبل النبوة وبعدها عن الصغائر والكبائر عمدا وسهوا ، بل وعن السهو مطلقا ولو في القسم الرابع ، ويدل عليه ما تقدم.

[وجوب تنزه الأنبياء عن كل ما ينفر عنهم]

قال : ويجب (٢) أن يكون منزها عن دناءة الاباء وعهر الامهات ، لئلا يقع التنفر عنه فيسقط فائدة البعثة.

__________________

(١) فى «ن» : انما.

(٢) لم تثبت فى المطبوع من المتن.

٣٠٤

أقول : حيث أن المقصود من البعثة انقياد الناس للرسل انقيادا تاما وجب أن يكونوا منزهين عن كل ما ينفر عنهم ليتم الغرض من بعثتهم ، والا لزم نقض الغرض وهو سفه وذلك أقسام :

الاول في نسبه وهو : أن يكون منزها عن دناءة الاباء ، أي لا يكون فيهم دني الحال ، بأن يكون كافرا ، أو مشتهرا بالفسق ، أو زبالا ، أو نفاطا وغير ذلك. وعهر الامهات أي لا يكون فيهن زانية.

الثاني في طباعه وهو : أن لا يكون فظا غليظا ، ولا مأبونا ، (١) ولا أجذم ولا أبرص ، أو سلس الريح ، أو غير ذلك من المنفرات.

الثالث في أخلاقه وهو : أن لا يكون حسودا ، ولا حريصا على الدنيا ، ولا حقودا ، وأن يكون كامل العقل فطنا ذكيا قوي الرأي غير متردد في الامر (٢).

الرابع في أحواله وهو : أن لا يكون حائكا ، ولا حجاما ، ولا زبالا ، ولا معاشرا للارذال وأرباب الهزال ، ولا أكلا على الطريق وغير ذلك مما لا يليق بأفعال العقلاء.

[عدم جواز السهو على النبي]

قال : ولا يجوز عليه السهو مطلقا في الشرع وغيره لذلك.

اقول : لا يجوز على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) السهو مطلقا ، أي في الشرع وغيره ، اما في الشرع فلجواز أن لا يؤدي جميع ما أمر به ، فلا يحصل المقصود من البعثة ، وأما في غيره فانه ينفر عنه.

__________________

(١) المأبون الّذي يؤتى في دبره.

(٢) فى «ن» : الامور.

٣٠٥

[تعريف المعجز وما يعتبر فيه]

قال : البحث الثالث ـ في طريق معرفته : وهو خلق المعجز على يده عقيب الدعوى.

والمعجز هو : الاتيان بما يخرق العادة مطابقا للدعوى. فالاتيان بما يخرق العادة يتناول الثبوت والعدم :

أما الثبوت : فكقلب العصا حية ، وانشقاق القمر. واما العدم : فكمنع القادر من حمل الكثير على حمل اليسير ، وكمنع العرب عن الاتيان بمثل القرآن العزيز.

والفعل الخارق للعادة قد يكون متعذرا في جنسه كخلق الحياة ، وقد يكون في صفته كقلع مدينة ، وكلاهما معجز.

أقول : لما فرغ من صفات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، شرع في بيان الطريق الى معرفته فقال : هو خلق المعجز ، والمعجز هو الاتيان بأمر خارق للعادة مطابق للدعوى مقرون بالتحدي ، يتعذر على الخلق الاتيان بمثله في جنسه أو صفته ، فقد اعتبرنا فيه أمورا :

الاول : قولنا «أمر خارق» ولم نقل فعلا ، لان الفعل يختص بالاثبات (١) والمعجز أعم ، فانه يكون اثباتا ، كقلب العصا حية ، وانشقاق القمر ، ونبوع الماء ويكون نفيا كمنع القادر على حمل الكثير عن حمل القليل ، وكمنع العرب عن المعارضة ، والشامل لهما وهو الامر.

الثاني : كونه خارقا للعادة ، فانه لو لم يكن خارقا للعادة ـ كطلوع الشمس من المشرق ـ لم يكن معجزا ، لكونه معتادا وان كان متعذرا على الخلق.

__________________

(١) فى «ن» : بالاتيان.

٣٠٦

الثالث : كونه مطابقا للدعوى ، فانه لو لم يكن مطابقا للدعوى لم يكن دليلا مثل أن يدعو غزارة ماء البئر فيغور ماءها ، وكلاهما خارق للعادة لكنه غير مطابق كما اتفق لمسيلمة.

الرابع : كونه مقرونا بالتحدي ، والتحدي هو المماراة والمنازعة ، يقال : تحديت فلانا اذا ماريته ونازعته في الغلبة ، والمراد به هنا هو أن يقول لامته : ان لم تتبعوني فأتوا بمثل ما أتيت به. وذلك يخرج به الارهاص ، وهو الاتيان بخارق العادة انذارا بقرب بعثة نبي تمهيدا لقاعدته ، فانه غير مقرون بالتحدي ، وكذلك الكرامات فانها غير مقرونة بالتحدي ، وكذا من يدعي معجزة غيره كاذبا.

الخامس : كونه يتعذر على الخلق الاتيان بمثله ، وذلك لانه لو لم يتعذر عليهم لم يعلم أنه فعل الله ، فلا يكون دالا على التصديق ، وذلك كالشعبذة والسحر.

ثم التعذر : تارة يكون في جنسه ، أي في كل جزء من جزئياته ، اذا أخذ لا يكون مقدورا للبشر ، كخلق الحياة فان خلقها لا يمكن الا لله سبحانه ، وتارة يكون في صفته ، كقلع مدينة ، فان القلع ممكن بحسب جنسه ، اذ من جزئياته ما هو مقدور للبشر كقلع شجرة وخشبة ، وأما القلع بهذه الصفة وهو كونه قلع مدينة لا يمكن الا لله تعالى ، وكذلك الحركة الى السماء ، فان جنس الحركة مقدور أما كونه الى السماء فغير مقدور.

ثم المعجز له شروط :

الاول ـ أن يعجز عنه أو عما يقاربه الامة المبعوث إليها.

الثاني ـ أن يكون من قبل الله تعالى أو بأمره.

الثالث ـ أن يكون في زمان التكليف ، لان العوائد تنتقض عند اشتراط

٣٠٧

الساعة.

الرابع ـ أن يحدث عقيب دعوى النبوة أو جاريا مجرى ذلك ، ونعني بالجاري مجراه ان تظهر دعوى النبوة في زمانه وأنه لا يدعي النبوة غيره ، ثم يظهر المعجز بعد أن ظهر معجز آخر عقيب دعواه ، فيكون [ظهور] الثاني كالمتعقب لدعواه ، لانه يعلم تعلقه بدعواه فانه لاجله ظهر.

[جهة اعجاز القرآن]

قال : واختلف الناس في جهة اعجاز القرآن :

فقال السيد المرتضى : انه (الصرفة) بمعنى : أن الله تعالى صرف العرب عن معارضته ، بأن سلبهم العلوم التي كانوا يتمكنون بها من معارضة القرآن ، لانه لو كان معجزا لا باعتبار الصرفة لكان اعجازه (١) اما من جهة ألفاظه المفردة ، أو التركيب أو هما معا. والاقسام بأسرها باطلة ، لان العرب كانوا قادرين على المفردات وعلى التركيب ، ومن قدر على المفرد والتركيب قدر عليهما بالضرورة.

وقال الجبائيان : ان جهة الاعجاز (الفصاحة) ، اذ لو كان جهة الاعجاز الصرفة لوجدوا ذلك من أنفسهم ، ولوجدوه لتحدثوا به مع أصحابهم ، لانه لو كان ركيكا في الغاية لكان الاعجاز أظهر.

أقول : لما اعتني المتكلمون (٢) بنقل القرآن [من] بين سائر المعجزات المحمدية ، بحثوا عن كيفية اعجاز ، وقد اختلف في ذلك :

فقال قوم : جهة اعجازه اشتماله على الاخبار بالغيوب.

وقال قوم : هو خلوه عن التناقض.

__________________

(١) فى المطبوع من المتن : من حيث.

(٢) فى «ن» : المسلمون.

٣٠٨

وقال أبو القاسم البلخي : ان جنس القرآن غير مقدور.

وقال بعضهم : [ان] جهة اعجازه من حيث الاسلوب ، وعنوا بالاسلوب الفن والضرب.

وقال الجويني من الاشاعرة : ان معجزته فصاحته وأسلوبه معا ، لان كل واحد منهما غير متعذر على العرب ، لانه وجد في كلامهم ما هو كفصاحته [وليس] مثل أسلوبه ، وكلام مسيلمة كاسلوبه وليس كفصاحته ، وأما مجموعهما فغير مقدور للخلق ، فهو جهة اعجازه.

وبه قال كمال الدين ميثم ، الا أنه أضاف اشتماله على العلوم الشريفة ، فجهة اعجازه [عنده] ثلاثة : الاسلوب ، والفصاحة ، والاشتمال على العلوم الشريفة ، من علم التوحيد ، والسلوك الى الله تعالى ، وتهذيب الاخلاق. فان الفصاحة خاصة في كلام العرب قد وجدت ، والاسلوب وان أمكن عند التكلف لكن اجتماعه مع الفصاحة نادر ، لان تكلف الاسلوب يذهب بالفصاحة.

وأما العلوم الشريفة فلم يوجد في كلامهم لها عين ولا أثر الا ما يوجد في كلام قيس وأمثاله ممن وقف على الكتب الالهية نقلا عن غيره ، فالحاصل أن كلامهم قد يوجد فيه ما يناسب بعض القرآن في الفصاحة ، وهو في مناسبته له في الاسلوب أبعد ، وأما في العلوم المذكورة فأشد بعدا (١).

وقال الجبائيان وفخر الدين الرازي واختاره المصنف في المناهج : ان جهة اعجازه هو فصاحته البالغة ، ولهذا كانت العرب تستعظم فصاحته ، ولما أراد النابغة الاسلام لما سمع القرآن وعرف فصاحته ، قال له أبو جهل ، انه يحرم عليك الاطيبين. وأخبر الله تعالى بذلك عن الوليد بن المغيرة في قوله (فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ) (٢) الآية.

__________________

(١) قواعد المرام : ١٣٢ ـ ١٣٣ مع تغييرات في الالفاظ.

(٢) سورة المدثر : ٢٢.

٣٠٩

وقال النظام والسيد المرتضى : انه (الصرفة) بمعنى أن الله تعالى صرف العرب عن معارضته ، وهذا يحتمل ثلاثة أمور الاول : انه سلبهم القدرة. الثاني : أنه سلبهم الداعية. الثالث : أنه سلبهم العلوم التي كانوا يتمكنون بها من المعارضة. وهذا الاخير اختاره السيد كما نقل عنه ، وتوقف سديد الدين سالم بن عزيزة في هذا المقام.

وقال المحقق في تجريده : الكل محتمل.

واعلم أن المصنف ذكر هنا دليل من قال بالصرفة ومن قال بالفصاحة فلنقررهما :

فنقول : احتج السيد ومن قال بقوله : بأنه لو لم يكن الاعجاز للصرفة بل للفصاحة ، لكان اعجازه اما من حيث ألفاظه المفردة ، أو من حيث الهيئة التركيبية أو من حيث ألفاظه والهيئة التركيبية معا.

والاقسام الثلاثة بأسرها باطلة. فاعجازه بسبب الفصاحة باطل ، فيكون للصرفة ، اذ ما عداها من الاقوال ضعيف جدا.

وانما قلنا ذلك لان العرب كانوا قادرين على المفردات وعلى التركيب ، ومن كان قادرا على المفردات وعلى التركيب كان قادرا عليهما معا ضرورة ، فثبت حينئذ أن العرب كانوا قادرين على المعارضة ، وانما منعوا منها ، فيكون [المنع] هو المعجز.

وفي هذا نظر : لانا نمنع أن من قدر على المفردات على حدة ، أو على التركيب على حدة يكون قادرا على الجمع بينهما ، لجواز أن يكون الجمع بينهما مشتملا على حالة ليست للافراد ، وذلك هو محل النزاع.

احتج القائلون بالفصاحة ، على فساد القول بالصرفة بوجهين :

الاول : أن الاعجاز لو كان للصرفة لكانوا قادرين على الاتيان بمثله قبل

٣١٠

الصرفة ، فاذا وجدت الصرفة وحصل المنع وجب أن يجدوا ذلك من أنفسهم ضرورة ، وأن يحصل لهم فرق بين حالتي القدرة والمنع ، لانا نعلم ضرورة أن [كل] من كان له علم أو قدرة حاصلان فانه يكون عالما بحصولهما ، فاذا سلبا عنه وجد ذلك من نفسه ، ولو وجدوا ذلك من أنفسهم وجب أن يتحدثوا به (١) في مجالسهم ومع أصحابهم ، ولو تحدثوا به لاشتهر ذلك وذاع وتواتر لانه من الامور العجيبة التي تتواتر (٢) الدواعي على نقلها ، وكل واحدة من هذه المقدمات ضرورية لمن عرف العوائد وجربها ، ولما لم يقع شيء من ذلك كان القول بالصرفة باطلا.

الثاني : لو كان الاعجاز من جهة (٣) الصرفة لوجب أن يكون القرآن في غاية الركاكة ، واللازم باطل فالملزوم مثله ، بيان الملازمة : أن منعهم عن معارضته على تقدير ركاكته أبلغ في الاعجاز مما لو كان بالغا في الفصاحة ، وهو ضروري ، وأما بطلان اللازم فظاهر ، فيبطل الملزوم وهو المطلوب.

[اثبات نبوة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله]

قال : البحث الرابع ـ في اثبات نبوة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله :

ويدل عليه أنه ظهر على يده المعجزة عقيب الدعوى ، فيكون رسولا حقا.

أما ظهور المعجزة على يده : فلانه ظهر على يده القرآن ، وهو معجز لانه تحدى به العرب فعجزوا عن معارضته ، وانقاد بعضهم الى تصديقه ، وبعضهم الى المحاربة والقتل ، مع أن المعارضة ـ لو أمكنت ـ أسهل ، ولانه ظهر

__________________

(١) فى «ن» : بذلك.

(٢) فى «ن» : يتوفر.

(٣) فى «ن» : بسبب.

٣١١

على يده أفعال خارقة للعادة : كانشقاق القمر ، ونبوع الماء.

وكل من ظهر على يده المعجزة فهو نبي ، لان العلم الضروري حاصل بأن من ادعي رسالة ملك ، وطلب من الملك أن يخالف عادته تصديقا له ، فخالف الملك عادته مرة بعد أخرى عقيب طلب رسوله منه ، فانه صادق في دعواه. كذلك النبي عليه‌السلام لما ادعي الرسالة وأظهر المعجزات ـ كالقرآن وانشقاق القمر وغيرهما ـ فانا نعلم بالضرورة صدقه.

أقول : لما فرغ من تعريف النبوة وأحكامها : شرع في تعيين النبي ، وهو المسمى بمطلب «من» أي من النبي؟ فنقول : نبينا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم صلوات الله عليه وآله ، لانه ادعى النبوة ، وظهر المعجز على يده ، وكل من كان كذلك فهو نبي ، ينتج : أن محمدا المذكور نبي.

أما الصغرى : فقد اشتملت على دعويين : الاولى : أنه ادعى النبوة وذلك أمر ضروري لا يسع عاقل (١) انكاره. الثانية : أنه ظهر على يده المعجز وذلك أيضا من وجهين:

الاول : أنه ظهر على يده القرآن ، [والقرآن] ، معجز ، أما أنه ظهر على يده القرآن فظاهر ، خصوصا مع اشتماله على ذكر اسمه في وقائعه وأحواله وغزواته ، وذلك مما لا يرتاب في كونه معجزة له. وأما أن القرآن معجز فلانه تحدى به العرب العرباء ومصاقع الخطباء وأهل البلاغة والفصاحة فعجزوا عن معارضته ، فيكون معجزا.

أما أنه تحداهم فللآيات الدالة على ذلك ، كقوله تعالى (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) (٢) وقوله (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا

__________________

(١) فى «ن» : عاقلا.

(٢) سورة الهود : ١٣.

٣١٢

نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) (١) فلما لم يأتوا بشيء قال (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً)(٢).

وأما أنهم عجزوا عن معارضته فلانه سألهم اما الاسلام أو يأتون بمثله ، فلم يقبلوا الاسلام فألزمهم الاتيان بمثله لا غير ، فعدلوا عن ذلك الى الحرب والمشاققة الذين فيهما ذهاب النفس (٣) وسبي [النساء و] الذراري ونهب الاموال ، وذلك صعب خطر جدا لا ينكره عاقل ، والاتيان بمثله كان أسهل الاشياء عليهم ، فعدولهم عن ذلك الامر الاسهل الى هذا الامر الاصعب مع علمهم بما في الاصعب من الآلام والمكاره ، دليل على عجزهم عن المعارضة ، اذ العاقل لا يختار الاصعب الا مع عدم انجاع الاسهل ، فان غرضهم كان ابطال مقالته ، وكان ذلك يتم بالمعارضة من غير افتقار الى المحاربة التي لا تفيد في ابطال مقالته شيئا ، بل انتجت عليهم ما انتجت.

وأما أنه على ذلك التقدير يكون معجزا ، فلانطباق تعريف المعجز عليه ، فانه خارق لعوائدهم في الكلام المغاير أسلوبه لاساليب كلامهم ، وقد بينا عجزهم عن معارضته ، فيكون معجزا.

الثاني : أنه ظهر عنه أمور خارقة للعادة فمنها : نبوع الماء من بين أصابعه حتى اكتفى الخلق الكثير من الماء القليل ، وذلك بعد رجوعه من غزاة تبوك (٤).

ومنها : عود ماء بئر الحديبية لما استقاه أصحابه بالكلية فيبست ، فدفع

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٣.

(٢) سورة الاسراء : ٨٨.

(٣) فى «ن» : الانفس.

(٤) بحار الانوار : ١٨ / ٢٥.

٣١٣

سهمه الى البراء بن عازب وأمره بالنزول وغرزه في البئر ، فغرزه فكثر الماء حتى خيف على البراء من الغرق (١).

ومنها : أنه تفل في بئر قوم شكوا إليه ذهاب مائها في الصيف حتى انفجر الماء الزلال منها ، فبلغ أهل اليمامة ذلك فسألوا (٢) مسيلمة لما قل ماء بئرهم مثل ذلك ، فتفل فيه فذهب الماء أجمع (٣).

ومنها : أنه لما نزل (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (٤) قال لعلي عليه‌السلام : شو فخذ شاة وجيء بعس من لبن ، وادع لي بني أبيك بني هاشم ، ففعل علي عليه‌السلام ذلك ودهاهم وكانوا أربعين رجلا ، فأكلوا حتى شبعوا ما يرى فيه الا أثر أصابعهم ، وشربوا من العس حتى اكتفوا واللبن على حاله.

فلما أراد أن يدعوهم الى الاسلام قال أبو لهب كلاما : سحركم محمد. فقام قبل أن يدعوهم الى الله ، فقال لعلي عليه‌السلام : افعل مثل ما فعلت ، ففعل مثل ذلك في اليوم الثاني ، فلما أراد أن يدعوهم عاد أبو لهب الى كلامه ، فقال لعلي عليه‌السلام : افعل مثله ففعل في الثالث ، فبايع علي عليه‌السلام على الخلافة بعده ومتابعته (٥).

ومنها : كلام الذئب وشهادته له بالرسالة ، وذلك أن وهبان بن أنس كان يرعى غنما له فجاء ذئب فأخذ منه شاة ، فسعى نحوه فقال له الذئب : أتعجب من أخذي شاة وهذا محمد يدعو الى الحق فلا تجيبوه ، فجاء الى النبي صلى

__________________

(١) بحار الانوار : ١٨ / ٣٧.

(٢) فى «ن» : فشكوا.

(٣) بحار الانوار : ١٨ / ٢٨.

(٤) سورة الشعراء : ٢١٤.

(٥) بحار الانوار : ١٨ / ٤٤ والطرائف : ٢٠. وقد أخرجناه عن الطريقين في ذيله.

٣١٤

الله عليه وآله وأسلم على يده ، وكان يدعى مكلم الذئب (١).

ومنها : تسبيح الحصى في يده (٢).

ومنها : أنه تفل في عين علي عليه‌السلام لما رمدت عينه ، فلم ترمد بعد ذلك ، ودعا له بأن يصرف عنه الحر والبرد ، فكان لباسه عليه‌السلام في الصيف والشتاء واحدا (٣).

ومنها انشقاق القمر (٤).

ومنها : مجيء الشجرة لما دعاها فأجابته ، وجاءت تحد الارض من غير جاذب لها ولا دافع ، ثم رجعت الى مكانها (٥).

ومنها : أنه عليه‌السلام كان يخطب عند جذع فاتخذ له منبر ، فانتقل إليه فحن الجذع إليه حنين الناقة الى ولدها ، فالتزمه فسكن (٦).

ومنها : اخباره بالغيب في مواطن كثيرة : كاخباره بقتل الحسين عليه‌السلام وموضع قتله واخباره لعلي عليه‌السلام بقتله ، وأنه يضرب على رأسه فتخضب لحيته من دمه ، وقوله لعليعليه‌السلام: ستقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين. وقوله لعمار : تقتلك الفئة الباغية ، فقتله أصحاب معاوية. واخباره بأن أصحابه يفتحون مصر وأوصاهم [بالقبط] خيرا ، فان لهم ذمة ورحما.

وأخبرهم بادعاء مسيلمة النبوة باليمامة. وادعاء العبسي النبوة بصنعاء ، وانهما سيقتلان ، فقتل قيس بن الديلمي العبسي قرب وفاة النبي صلى الله عليه

__________________

(١) بحار الانوار : ١٧ / ٣٩٣ وفيه «اهبان» مكان «وهبان».

(٢) بحار الانوار : ١٧ / ٣٧٧.

(٣) الطرائف : ٥٥ وبحار الانوار : ١٨ / ٤ و ١٣.

(٤) بحار الانوار : ١٧ / ٣٤٧.

(٥) بحار الانوار : ١٧ / ٣٦٧.

(٦) بحار الانوار : ١٧ / ٣٦٥.

٣١٥

وآله ، وقتل خالد بن الوليد مسيلمة (١).

ومنها استجابة دعائه في مواضع كثيرة : منها لما دعا على عتبة بن أبي لهب لما تلا عليه «والنجم اذ هوى» فقال عتبة : كفرت بالرب والنجم (٢) ، فقال : اللهم سلط عليه كلبا من كلابك ، فخرج عتبة الى الشام ، فخرج عليه الاسد ، فارتعدت فرائض عتبة فقال له أصحابه : من أي شيء ترعد؟ فقال : ان محمدا دعا عليّ والله ما أظلت السماء من ذي لهجة أصدق من محمد ، ثم أحاط القوم بأنفسهم ومتاعهم عليه ، فجاء الاسد يهمش رءوسهم واحدا واحدا حتى ارتقى (٣) إليه فافترسه (٤).

الى غير ذلك من معجزاته عليه‌السلام على كثرتها ، والمشهور منها الذي ضبطه المؤرخون ألف معجزة (٥) ، ذكرنا نبذة منها تبركا. وهذه كلها وان نقلت آحادا لكنها تشترك في المعنى الواحد المنقول تواترا ، وهو ظهور المعجزة على يده ، فان جملتها تشترك في كونها أمورا خارقة للعادة يتعذر على الخلق الاتيان بمثلها.

وأما الكبرى : فلوجهين :

الاول : أن كل من كان كذلك لو لم يكن صادقا في دعواه لكان كاذبا ، فيكون الله تعالى مصدقا للكاذب ، لان المعجزة فعله لكن تصديق الكاذب قبيح والله تعالى منزه عن فعل القبيح ، فلا يكون مصدقا للكاذب ، فيكون من ظهرت

__________________

(١) راجع بحار الانوار : ١٨ / ١٠٥ ـ ١٤٤ والطرائف : ١٠٤.

(٢) فى «ن» : كفرت برب النجم.

(٣) فى «ن» : انتهى.

(٤) بحار الانوار : ١٧ / ٤١٢.

(٥) أخرج هذه المعجزات عن هذا الكتاب الحر العاملى في اثبات الهداة ١ / ٤٠٣.

٣١٦

عليه صادقا ، وهو المطلوب.

الثاني : أنا نعلم ضرورة بأنه لو ادعى شخص في حضرة بعض الملوك أنه وكيله أو رسوله ، ثم قال : يا أيها الملك أن الدليل على صدقي أن تفعل فعلا معينا في هذا الوقت أو في غيره من الاوقات المعينة مما لم تجر عادتك به بأن تضع عمامتك عن رأسك أو تنزل عن فراشك (١) ، ثم ان الملك فعل ذلك الفعل الذي طلبه رسوله أو وكيله ، فان الحاضرين يضطرون الى تصديقه في الذي قال ، كذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في ادعاء الرسالة عن الله تعالى ، وفعل الله تعالى له ما فعل من المعجزات ، فيكون صادقا في دعواه ، فيكون نبيا حقا وهو المطلوب.

احتجاج اليهود على عدم نسخ نبوة موسى (ع)

قال : واحتجاج اليهود : بأن النسخ باطل ، لان المكلف به ان كان مصلحة استحال نسخه ، والا استحال الامر به. وبأن موسى عليه‌السلام قال : «تمسكوا بالسبت أبدا» (٢). وبأن موسى عليه‌السلام ان بين دوام شرعه استحال نسخه ، وان بين انقطاعه وجب نقله ، وان لم يبين شيئا اكتفى من شرعه بالمرة.

وهو (٣) باطل ، لان الاوقات مختلفة في المصالح ، فجاز النسخ لتغير (٤) المصلحة. وقول موسى عليه‌السلام غير معلوم ، والتواتر قد انقطع ، لان بخت نصر قتل اليهود الا من شذ. سلمنا ، لكن لفظ «التأبيد» لا ينافي في النسخ ،

__________________

(١) فى «ن» : فرسك.

(٢) هذا المضمون في التوراة ، سفر الخروج ، الاصحاح العشرين ٨ ـ ١٢.

(٣) لم تثبت في المطبوع من المتن.

(٤) فى «ن» : لتغاير.

٣١٧

لوروده في التوراة في أحكام منسوخة عندهم. وبيان الانقطاع لم ينقل لانقطاع تواترهم.

أقول : اليهود (لعنهم الله تعالى) لما قالوا باستحالة النسخ لشريعة موسى عليه‌السلام ولم يحكموا بصحة نبوة عيسى و [نبوة] محمد عليهما‌السلام ، فلذلك ذكر المصنف كلامهم والجواب عنه ، ولا بد من بيان النسخ أولا ، وبيان جوازه عقلا ونقلا ثانيا ، ثم نذكر ما احتجوا به على ابطاله والجواب عنه.

فنقول : النسخ لغة النقل والازالة واصطلاحا هو رفع حكم شرعي بحكم آخر شرعي متراخ عنه على وجه لو لا الثاني لبقي الاول. ومنع أكثر اليهود من جوازه ، فبعضهم منعه عقلا وسمعا ، وبعضهم أجازه عقلا ومنع منه سمعا.

والحق خلاف قولهم ، ويدل عليه عقلا : هو أن الاحكام [الشرعية] تابعة للمصالح ، والمصالح قد تختلف بحسب اختلاف الازمان والاشخاص ، بحيث يصير ما كان مصلحة في وقت مفسدة في آخر ، ففي وقت صيرورته مفسدة يجب أن يتغير الحكم المتعلق به حال مصلحته ، والا لزم من التكليف على تقدير صيرورته مفسدة فعل القبيح ، وهو محال عليه تعالى.

وأما نقلا فلوجوه : الاول : حيث ثبت نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بالدليل السالف ، لزم القول بجواز النسخ ، والا لزم بطلان نبوته ، هذا خلف.

الثاني : أنه ورد في التوراة أن الله تعالى قال لآدم ولحواء : أحللت لكما كل ما دب على وجه الارض ، وكانت له نفس حبة. وجاء فيها أيضا أنه قال لنوح عليه‌السلام : خذ معك من الحيوان الحلال كذا ومن الحرام كذا. فقد حرم الله على نوح ما كان حلالا لآدم وحواء ، وهو نسخ صريح ، فان كانت التوراة غير محرفة فهذا برهاني. والا فهذا الزامي.

٣١٨

الثالث : أن الله تعالى أباح نوحا (١) عليه‌السلام تأخير الختان الى وقت الكبر ، وحرمه على غيره من الأنبياء ، وأباح لابراهيم تأخير ختان ولده اسماعيل وحرم على موسى عليه‌السلام تأخير الابناء (٢) عن سبع أيام ، وأباح آدم الجمع بين الاختين ، وحرمه على موسى عليه‌السلام. وكل ذلك نسخ صريح.

احتجت اليهود (أخزاهم الله تعالى) بوجوه :

الاول : أن المأمور اما أن يكون مصلحة أو مفسدة ، ان كان مصلحة استحال نسخه ، والا لكان نسخه مفسدة ، وهو قبيح. وان كان مفسدة استحال الامر به باتفاقكم لكنه أمر به ، فيكون مصلحة ، فلا نسخ.

الثاني : أن موسى عليه‌السلام قال : تمسكوا بالسبت أبدا. وذلك دليل دوام شرعه ، واذا كان شرعه دائما استحال نسخه ، والا لزم كذبه ، وهو محال.

الثالث : أن موسى عليه‌السلام اما أن يكون قد بين دوام شرعه ، أو بين انقطاعه ، أو لم يبين شيئا من الامرين. والقسمان الاخيرين باطلان فتعين الاول وهو أنه بين دوام شرعه ، فيستحيل نسخه.

وأما بطلان القسم الثاني : فلانه لو بين انقطاع شرعه لوجب نقله ، كما نقل باقي جزئيات شرعه خصوصا ، وهو مما تتوفر الدواعي على نقله ، لكنه لم ينقل فلم يبين انقطاعه وهو المطلوب.

وأما القسم الثالث : فلانه أمر بالتمسك بشرعه أمرا مطلقا ، وقد تقرر في الاصول أن الامر المطلق لا يقتضي التكرار ، بل يدل على طبيعة الفعل ، فاذا وقع جزئي من جزئياته حصل المطلوب ، لوجودها في ضمن ذلك الجزء ، فليكف في شرعه المرة الواحدة ، وهو باطل ، فاطلاقه الامر باطل.

__________________

(١) فى «ن» : لنوح.

(٢) فى «ن» الأنبياء.

٣١٩

والجواب عن الاول : بمنع الحصر ، فانه جاز أن يكون مصلحة في وقت ومفسدة في آخر ، أو مصلحة بالنسبة الى شخص ومفسدة بالنسبة الى آخر ، فيأمر به في وقت كونه مصلحة وينهى عنه في وقت كونه مفسدة. وذلك كالمريض فانه يعالج في وقت بما استحال معالجته به قبله ، وحينئذ يكون النسخ جائزا.

وعن الثاني : بالمنع من صحة الخبر ، فانه مختلق اختلقه لهم ابن الراوندي سلمنا لكن نمنع من تواتره ، بل هو من الآحاد المفيدة للظن ، والمسألة علمية وذلك لانهم كانوا مجتمعين في الشام الى أن قتل بختنصر البابلي أكثرهم الا أناسا قليلين ، لا يفيد قولهم التواتر.

وبعث بختنصر الى اصفهان ، ولم يكن وصل منهم أحد الى العجم قبل ذلك ، فبنوا بها المدينة المعروفة باليهودية : والذي يشهد لنا بعدم تواترهم أن التوراة بعد واقعة بختنصر صارت ثلاث نسخ مختلفة : احداها في أيدي القرابين والربانيين. وثانيها في أيدي السامرة. وثالثها النسخة المعروفة بتوراة السبعين الذي اتفق عليها سبعين حبرا من أحبارهم ، وهي التي في أيدي النصارى.

وهذه النسخة مختلفة في التواريخ والاحكام الشرعية ، ولو كان لهم تواتر لما حصل هذا الاختلاف.

سلمنا لكن لفظ «التأبيد» ليس نصا على الدوام ، بل هو محتمل له وللامد الطويل ، ويدل على ذلك ما ورد في التوراة من قصة الفضيح فانه جاء في السفر الثاني من التوراة : قربوا إليّ كل يوم خروفين خروفا غدوة وخروفا عشية بين المغارب قربانا دائما لكم لاحقا لكم.

ثم ان علماؤهم حكموا بان هذا الحكم منقطع. وجاء فيها : يستخدم العبد ست سنين ثم يعرض عليه العتق فان أبى ثقبت أذنه واستخدم أبدا. ثم

٣٢٠