ارشاد الطالبين الى نهج المسترشدين

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

ارشاد الطالبين الى نهج المسترشدين

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٦

أصحابنا والمعتزلة ، خلافا للاشاعرة.

وتنقيح مناط الخلاف هنا هو : أنه لما كان عند الاشاعرة أن الافعال في حدّ أنفسها ليست حسنة ولا قبيحة ، بل ذلك متعلق بالشرع ، ذهبوا الى جواز صدور الافعال التي هي قبيحة عند المعتزلة عنه تعالى ، وحينئذ تكون حسنة ، لانه تعالى لا يقبح أفعال نفسه.

قالت المعتزلة : ان استدللنا على قبحها في نفسها فلا يجوز صدورها عنه ، لما يلزم من المحال.

واستدل المصنف على مذهب المعتزلة بما تقريره : ان الصارف عن فعل القبيح موجود ، والداعي مفقود ، وكلما وجد الصارف وانتفى الداعي امتنع الفعل.

أما المقدمة الاولى : فلان الصارف عن فعل القبيح هو العلم بقبحه والغنى عنه ، وقد تقدم بيان كونه تعالى عالما بكل المعلومات التي من جملتها القبائح وغنيا في ذاته وصفاته ، والمستغني عن الشيء العالم بقبحه وبغناه عنه لا يفعله اذا كان حكيما. وأما انتفاء الداعي فلانه أما داعي الحاجة ـ أي داعي الطبع ـ وهو مستحيل عليه تعالى : لما ثبت من كونه غنيا وليس له طبع. وأما داعي الحكمة ـ أي داعي العقل ـ وهو مفقود ، لان القبيح لا حكمة فيه.

وأما المقدمة الثانية : فلان الفعل في حد ذاته ممكن وواقع بالنظر الى علته وكل ممكن مستند الى قادر ، فان عليته انما تتم بواسطة القدرة والداعي ، فاذا وجدا فقد تمت العلية ، وعند تمامها يجب الفعل ، وان لم يوجدا بقي الفعل على امكانه فلا يقع. وأما الاخلال بالواجب فلان الاخلال به قبيح ، فقد بان امتناع صدوره عنه.

٢٦١

[احتجاج الاشاعرة على صدور القبيح منه تعالى]

قال : احتجوا بأنه تعالى كلف الكافر ، ولا وجه له في الحسن.

والجواب المنع من انتفاء الحسن ، فان تعريض المكلف للمنافع أمر مطلوب حسن ، وهو كما يثبت في حق المسلم يثبت في حق الكافر.

أقول : احتجت الاشاعرة على كونه فاعلا للقبيح بما تقريره : انه تعالى كلف الكافر الذي علم أنه يموت على كفره بالايمان ، وتكليفه به قبيح ، فيكون الله تعالى فاعلا للقبيح ، وهو المطلوب. أما الاول فظاهر.

وأما أن تكليفه قبيح فلوجهين :

الاول : أن من جملة القبائح عندكم هو أن يفعل الشخص بآخر ما فيه هلاكه مع علمه بذلك ، وهذا المعنى موجود هنا. فانه بتكليفه له بالايمان مع علمه بعدم صدوره منه موجب له عليه ، ومعاقب له على تركه وعقابه فيه هلاكه ، فقد فعل [به] ما فيه هلاكه ، وهو قبيح ، فيكون فاعلا للقبيح.

الثاني : أن تكليفه اما لفائدة أو لا ، والثاني عبث مستحيل عليه عندكم ، والاول اما أن يكون الفائدة النفع أو الضرر ، والثاني قبيح ، والاول اما أن يعود الى الله تعالى ، وهو محال ، أو الى الكافر وهو باطل ، لانه يعلم عدم وصوله إليه ، فيكون عبثا وهو قبيح ، أو الى غيره وهو قبيح أيضا ، لان ايلام زيد لنفع عمرو قبيح ، فقد بان أن تكليفه قبيح على كل تقدير.

والجواب : بالمنع من كون تكليفه قبيحا ، وما ألزمتموه غير لازم :

أما الوجه الاول : فهو أن تكليف الكافر تعريضه بما يوجب له الثواب ، وذلك حسن ، فمع مخالفته واستحقاقه للعذاب لا يصير ذلك الحسن قبيحا ، كما أن الطبيب اذا أشعر الانسان بما هو سم ومفني لحياته وما هو ملائم ومبقي

٢٦٢

لحياته ، وأمره باجتناب الاول وفعل الثاني ، فانه يكون محسنا في حقه بذلك فاذا خالف المريض وفعل العكس من قوله لا يكون الطبيب مهلكا له.

وأما الثاني فنقول : ليس الغرض من التكليف حصول النفع ، بل التعريض لايصال الثواب ليتمكن من استحقاق الثواب بالفعل ، ولا يكون له عليه حجة ، وأما حصول الثواب بالفعل فهو غرض آخر مشروط باكتساب موجب الاستحقاق الذي هو الايمان والعمل الصالح ، وكفره من قبل نفسه لا من قبل الله تعالى.

[مسألة خلق الاعمال]

قال : البحث الرابع ـ في خلق الاعمال : ذهبت المعتزلة الى أن للعبد قدرة مؤثرة في الفعل الصادر عنه.

وذهبت الاشعرية الى أن المؤثر هو الله تعالى ، وأنه تعالى يخلق القدرة والفعل معا ، وليس للعبد فيه أثر البتة ، وانما للعبد الكسب لا غير.

لنا : أنا نعلم بالضرورة الفرق بين أفعالنا الاختيارية والاضطرارية ، ولا فارق الا القدرة. ولانه يحسن منا مدح المطيع وذم العاصي ، وذلك يتوقف على استناد الافعال إليهما. وهذا دليل على كون العلم باستناد الفعل إلينا ضروريا لا على العلم بالاستناد.

أقول : اختلف المتكلمون في الافعال التي تحدث عند قصودنا ودواعينا هل هي صادرة عن قدرتنا أو عن قدرة الله تعالى؟ فذهب جهم (١) بن صفوان الى أن لا مؤثر في الوجود الا الله ، وأن العبد ليس له فعل أصلا لا احداثا ولا كسبا وذهبت الاشاعرة والنجارية الى أن الافعال صادرة عنه تعالى ، وليس لاحد احداث فعل سواه ، وجعلوا للعبد الكسب ، واختلفوا في الكسب.

__________________

(١) الجهم : الكريه الوجه «منه».

٢٦٣

فقال أبو الحسن الاشعري : ان معناه أن الله تعالى أجرى العادة أن العبد متى اختار الطاعة أو المعصية فعلها الله تعالى فيه ، وفعل فيه القدرة عليها ، والعبد له الاختيار ، وليس لتلك القدرة في ذلك الفعل أثر ، بل القدرة والمقدور واقعان بقدرة الله تعالى (١).

وقال القاضي أبو بكر : ذات الفعل من الله ، وكونه طاعة أو معصية أو عبثا من العبد ، وذلك هو مناط التكليف ، وعليه يستحق الثواب أو العقاب ، كلطمة اليتيم فانها تقع تاديبا وتقع ظلما ، فذات اللطمة من الله ، وكونها تأديبا أو ظلما من العبد.

وقال قوم : ان ذلك الكسب غير معلوم.

وقال أبو اسحاق الأسفرائيني : ان الفعل واقع بقدرة الله وقدرة العبد معا.

وذهب أهل العدل الى أن العبد فاعل لافعاله الصادرة عنه ، وأن له قدرة مستقلة في ايقاع الفعل ، واختلفوا : فقال أكثرهم : ان العلم بذلك كسبي. وقال أبو الحسين البصري : أنه ضروري ، واختاره المصنف ، وهو الحق ، ونبه عليه بوجوه :

الاول : أن الضرورة قاضية بالفرق بين حركاتنا الاختيارية ، كالقيام والقعود والاكل وأمثالها. والاضطرارية كحركة النبض ووقوع الانسان من علو مع القاسر ، فانه يتمكن من ترك الاولى دون الثانية ، ولا فارق الا القدرة ، فيكون لنا قدرة ، اذ على تقدير عدمهما لم يقع فرق.

قال : أبو الهذيل : حمار بشر أعقل من بشر ، لان حمار بشر اذا أتيت به الى جدول صغير وضربته فانه يطفره ، واذا أتيت به الى جدول كبير وضربته

__________________

(١) فيلزم الدور ، فلا يختار حتى يكون قادرا على الاختيار ، ولا يكون قادرا على الاختيار حتى يفعل فيه القدرة «منه».

٢٦٤

بأشد الضرب فانه لا يطفره ، فانه فرق بين ما يقدر عليه وبين ما لا يقدر عليه ، وبشر لا يفرق.

الثاني : أنه يحسن منا ذم العاصي على عصيانه ومدح المطيع على طاعته ، ولا يحسن منا ذمه على سواد لونه أو قصره أو عماه ، ولا مدحه على حسن صورته وطوله ، وكون الكواكب مشرقة والفاكهة حلوة وغير ذلك ، وانما حصل ذلك للعلم باستناد الفعل الى المطيع والعاصي دون باقي المذكورات.

قوله «وهذا دليل» الى آخره ، اشارة الى جواب سؤال مقدر تقريره بوجهين :

الاول : أنك قلت أن العلم باستناد الفعل إلينا ضروري ، واستدللت على ذلك بما ذكرت من الوجهين ، فالضروريات لا يستدل عليها.

الثاني : أن يقال الدليل الثاني يلزم منه الدور ، فيكون باطلا ، بيان اللزوم ان العقلاء انما يمدحون العبد أو يذمونه اذا علموا أنه فاعل ، فلو استدللنا على العلم بأنه فاعل بذلك ، لزم الدور.

والجواب : أما عن الاول : فهو أن العلم حاصل بالمطلوب ضرورة ، لكن ضروريته غير ظاهرة ، وهذا دليل على ضروريته لا عليه ، وجاز أن تكون الشيء بديهيا والعلم ببداهته كسبي.

وأما عن الثاني : فانّا نستدل على أن علمنا بأنه فاعل ضروري ، لا على ثبوت العلم ، فلا دور.

[احتجاج المخالفين في خلق الاعمال]

قال : احتجوا بأن ما علم الله تعالى وقوعه وجب ، وما علم عدمه امتنع ، فلا قدرة. ولان الفعل حال استواء الداعي محال ، وحال الترجيح يجب الراجح ويمتنع المرجوح ، فلا قدرة. ولان العبد لو كان قادرا لكان ترجيحه لاحد الطرفين :

٢٦٥

ان كان لا لمرجح انسد باب اثبات الصانع تعالى ، وان كان لمرجح فان كان من العبد تسلسل ، وان كان من الله تعالى فعند حصول ذلك المرجح يجب الفعل ، وعند عدمه يمتنع ، فلا يكون مقدورا.

والجواب عن الاول : أن الوجوب والامتناع لاحقان ، فلا يؤثران في الامكان الذاتي.

وعن الثاني : أن امكان الفعل من حيث هو هو ، لا باعتبار تساوي الطرفين ولا باعتبار الرجحان.

وعن الثالث : أن القادر يرجح أحد مقدوريه لا لمرجح.

ومع ذلك فهذه الوجوه عائدة في حقه تعالى ، وواردة على ما يعلم بطلانه بالضرورة.

أقول : لما فرغ من التنبيه على المذهب الحق شرع في ذكر شبهة المخالف والجواب عنها [وهي] من وجوه :

الاول : أن فعل العبد واجب الوقوع أو ممتنع ، ولا شيء من الواجب والممتنع بمقدور عليهما ، ينتج أن فعل العبد غير مقدور عليه. أما الصغرى فلانه اما معلوم الوقوع لله تعالى فيجب أن يقع ، والا لانقلب علمه تعالى جهلا ، أو معلوم الا وقوع فيمتنع أن يقع ، والا لزم انقلاب علمه تعالى جهلا ، فهو اما واجب أو ممتنع. وأما الكبرى فقد تقدمت.

الثاني : أن فعل العبد ممكن ، وكل ممكن حال استواء الداعي الى طرفيه يستحيل وقوع أحدهما ، فيفتقر الى مرجح ، فمع حصوله يجب الراجح ، ومع عدمه يمتنع ، ولا قدرة على الواجب ولا على الممتنع.

الثالث : أن العبد لو كان قادرا لكان ترجيحه لاحد الطرفين ـ أعني الايجاد أو الترك ـ على الاخر : اما أن يكون لمرجح أولا ، فان كان الثاني لزم الترجيح

٢٦٦

بلا مرجح ، وهو باطل كما تقدم.

وأيضا لو جوزناه لزم انسداد باب اثبات الصانع تعالى ، اذ يجوز على ذلك التقدير ترجيح أحد طرفي الممكن على الاخر لا لمرجح ، فلا يفتقر الى فاعل. وان كان الاول فذلك المرجح اما من فعل العبد أو من فعل الله ، والاول محال ، لانا ننقل الكلام إليه ونقول : اما أن يكون لمرجح أولا ، ويلزم التسلسل أو الانتهاء الى مرجح هو فعل الله تعالى ، لكن التسلسل محال ، فيلزم الانتهاء الى مرجح من فعل الله ، وهو القسم الثاني.

وحينئذ نقول : عند حصول ذلك المرجح : اما أن يمكن أن لا يحصل ذلك الفعل أولا ، فان كان الاول كان متساوي بالنسبة الى الطرفين ، فاختصاص أحد الطرفين بالوقوع في وقت دون آخر اما أن يكون لمرجح آخر أولا ، فان كان الاول لم يكن ما فرضناه مرجحا [مرجحا] ، والفرض أنه مرجح هذا خلف ، وان كان الثاني لزم الترجيح بلا مرجح وهو محال. وان كان الثاني وهو أنه يمتنع أن لا يحصل الفعل فيكون واجبا ، وقد تقدم أن لا قدرة على الواجب.

والجواب عن الاول : أن الواجب والامتناع المذكورين لاحقان لماهية الممكن ، من فرض تعلق العلم بأحد طرفيه ، وذلك لا يخرجه عن امكان الذاتي الذي هو متعلق القدرة. وأيضا العلم تابع للوقوع وعدمه ، فلا يكون مؤثرا فيهما وجوبا وامتناعا ، والّا دار.

بيان ذلك : أن الفعل ان وقع يكون الحاصل في الاول هو العلم بوقوعه ، وان لم يقع كان الحاصل هو العلم بعدم الوقوع ، ففرض أحدهما بدلا عن الاخر لا يقتضي تغير العلم ، بل يقتضي أن يكون الحاصل في الاول هو العلم بذلك الطرف.

وعن الثاني : أن امكان الفعل انما هو بالنظر الى ماهيته من غير التفات الى

٢٦٧

تساوي الطرفين ، أو ترجيح أحدهما على الاخر ، وذلك متعلق القدرة ، وما ذكرتم من الوجوب لا يخرجه عن امكانه الذاتي.

وعن الثالث : أن المختار يرجح أحد مقدوريه على الاخر لا لمرجح ، كالهارب من السبع يعرض له طريقان متساويان ، والجائع يحضره رغيفان متساويان ، ولا ينسد باب اثبات الصانع ، فان المرجح موجود ، وهو الفاعل والواقع بلا مرجح هو تعيين أحد المتساويين دون الاخر ، ولا يلزم من ذلك ترجيح وجود الممكن على عدمه بلا مرجح.

أو نقول : انه يفتقر الى مرجح هو الداعي الى الفعل ، ومع حصوله يجب ، كما قرّره أبو الحسين البصري ، فانه قال : ان القدرة والإرادة من فعل الله تعالى بتوسطهما [يفعل] ، فنسبه الفعل الى القدرة وحدها نسبة الامكان ، وإليها والى الإرادة معا نسبة الوجوب ، ولا ينافي ذلك الاختيار ، لان مرادنا بالاختيار انما هو بالنسبة الى القدرة وحدها.

قوله «ومع ذلك» الى آخره ، لما أجاب عن كل واحد بجواب يختص به من حيث المنع التفصيلي ، شرع يبحث من حيث النقض الاجمالي ، وهو من وجهين :

الاول : أن ما ذكرتموه عائد في حقه تعالى من غير فرق ، أما في الاول فيقال : فعله اما معلوم الوقوع أولا ، والاول واجب ، والثاني ممتنع ، ولا قدرة عليهما وأما في الثاني فهو أن فعله تعالى ممكن ، وكل ممكن حال استواء الداعي محال ، ومع المرجح فالراجح واجب والمرجوح ممتنع.

وأما في الثالث فان ترجيح الباري تعالى لاحد الطرفين اما لمرجح أولا الى آخر الكلام ، فيلزم أن لا يكون له تعالى قدرة واختيار ، وهو باطل بالاجماع ، وهذا الزام لا محيص لهم عنه.

٢٦٨

الثاني : أنها واردة على ما علم بطلانه بالضرورة ، فانا نعلم ضرورة أن لنا حركة اختيارية فتكون باطلة ، اذ لا فائدة فيها.

[كونه تعالى مريدا للطاعات ومكره للمعاصى]

قال : البحث الخامس ـ في أنه تعالى يريد الطاعات ويكره المعاصي : خلافا للاشعرية.

لنا : أن له تعالى داعيا الى الطاعات وصارفا عن المعاصي ، لانه تعالى حكيم ، والطاعة حسنة والمعصية قبيحة ، فيكون مريدا للحسن وكارها للقبيح لحكمته. ولانه أمر بالطاعة ونهى عن المعصية ، والامر يستلزم الإرادة والنهي الكراهة.

أقول : ذهبت الاشعرية الى أنه تعالى مريد لجميع الكائنات ، حسنة كانت أو قبيحة ، طاعة كانت أو معصية ، لانه فاعل لكلها فيكون مريدا لها.

وذهبت المعتزلة والامامية الى أنه تعالى يريد أفعال نفسه ، ضرورة كونه مختارا ، فهو انما يفعل بالقدرة والإرادة. وأما أفعال العباد فهي تنقسم الى طاعة ومعصية ، فالطاعة مرادة له تعالى ، لا بمعنى الإرادة المخصصة للفعل ، فان الفعل انما يقع بإرادة العبد عندهم ، بل الله يريده بمعنى أنه يطلب منه ايقاعه على وجه الاختيار والمعصية غير مراده له ، أي له صارف عن طلبها.

واستدل المصنف على هذا المطلوب بوجهين :

الاول : أن له تعالى داعيا الى الطاعات وصارفا عن المعاصي ، وكلما كان كذلك ثبت المطلوب. أما الصغرى : فلانه عالم بكل المعلومات ، ومن جملتها الطاعات وما فيها من الحسن والمصلحة ، والمعاصي وما فيها من القبح والمفسدة ومع ذلك هو حكيم ، فيكون له داعي الى الطاعة وصارف عن المعصية.

٢٦٩

وأما الكبرى : فلما مر من تفسير الإرادة والكراهة ، واذا كان كارها للمعصية استحال أن يكون مريدا لها.

الثاني : أنه تعالى أمر بالطاعة ونهى عن المعصية ، فيكون مريدا للاولى وكارها للثانية ، لاستحالة أن يأمر الحكيم بما لا يريد وينهى عما لا يكره ، والا لم يكن حكيما ، هذا خلف ، فلا يكون مريدا للمعاصي ، والا لكان مريدا للنقيضين وكارها للنقيضين ، وهو محال.

[احتجاج الاشعرية على عدم ارادته تعالى للطاعة]

قال : احتجوا بأنه لو كان مريدا للطاعة من الكافر لكان مغلوبا ، اذ الكافر أراد المعصية ، والله تعالى أراد الطاعة ، والواقع مراد الكافر ، فيكون الله تعالى مغلوبا.

والجواب : أنه تعالى أراد صدور الطاعة من الكافر اختيارا لا قهرا.

أقول : احتجت الاشاعرة على مطلوبهم بأنه تعالى لو كان مريدا للطاعة وكارها للمعصية لكان مغلوبا ، واللازم باطل فالملزوم مثله.

أما الملازمة : فلان الكافر أراد الله تعالى منه الايمان على قولكم وكره كفره ، والكافر أراد كفر نفسه وكره ايمانه ، والواقع مراد الكافر لا مراد الله ، فيكون الله تعالى مغلوبا ، لانه لم يقع مراده.

وأما بطلان اللازم : فلان قدرته تعالى ذاتية أو قديمة ، وقدرة الكافر زائدة أو محدثة ، فتكون الاولى أقوى ، والاقوى يكون غالبا.

والجواب : قد تقدم أن ارادته تعالى على قسمين : إرادة جازمة موجبة للفعل ، وأخرى متعلقة بأن يصدر الفعل من المكلف باختياره وارادته ، والمغلوبية انما تلزم لو أراد الطاعة من العبد بالوجه الاول ولم يقع مراده ، لكنه ممنوع

٢٧٠

بل هو مراد منه على وجه الاختيار ، والا لما استحق به ثوابا ، كما قال تعالى (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) (١) أي على وجه الجبر.

[تعريف التكليف]

قال : الفصل التاسع ـ في فروع العدل : وفيه مباحث : الاول ـ التكليف إرادة من تجب طاعته ما فيه مشقة ابتداءً بشرط الاعلام.

أقول : من فروع العدل التكليف ، وهو لغة مشتق من كلفة أعني المشقة واصطلاحا يطلق على معنيين : مجازي وهو الافعال الصادرة عن المكلف. وحقيقي وهو إرادة من تجب طاعته ما فيه مشقة ابتداءً بشرط الاعلام.

فالإرادة شاملة للاحكام الخمسة ، عقلية كانت أو نقلية. وقوله «من تجب طاعته» يخرج من لم يجب طاعته ، ويدخل فيمن تجب طاعته ، الله تعالى والنبي والامام والوالد والسيد والمنعم.

وبقيد كونه «ابتداءً» خرج الجميع الا الله تعالى ، لان ارادتهم للواجبات وغيرها ليس تكليفا ، لسبق إرادة الله تعالى على ارادتهم.

وبقيد «المشقة» خرج ارادته تعالى منا ما لا مشقة فيه ، كالمأكول والمشروب والمنكوح. و «بشرط الاعلام» لان المكلف اذا لم يعلم بما طلب منه لا يكون مكلفا ، والاعلام اما بتكميل عقله فيستدل به ، أو ارسال الرسل ، والعقل غريزة في القلب يلزمها العلم بالضروريات مع سلامة الآلات.

وهنا نظر من وجوه :

الاول : الإرادة سبب التكليف لا نفسه ، لانه يقال : أراد الله الطاعة فكلف بها ، فجعلها نفسه منظور فيه.

__________________

(١) سورة يونس : ٩٩.

٢٧١

الثاني : أنه ينقض عكسا بالمنهيات ، فانها مكروهة لا مرادة ، واستعمال الإرادة في الترك خلاف الاصطلاح.

الثالث : أن نكاح الحليلة وأكل لحم الهدي والاضحية مشتهى طبعا وليس فيه مشقة ، فيخرج ، وكذلك ما لا مشقة فيه أصلا كتسبيحة واحدة.

الرابع : أن الاعلام شرط لحسن التكليف لا قيد في ماهيته ، فلا وجه لذكره واهمال باقي شرائطه.

فالاولى أن يقال : هو بعث واجب الطاعة ابتداءً على من شأنه المشقة جنسا من حيث هو مشقة كذلك ، فاعتبرنا المشقة في جنسه ليدخل التسبيحة الواحدة واعتبرنا الحيثية ليدخل الهدي ونكاح الحليلة.

[كون التكليف حسنا]

قال : وهو حسن ، لانه من فعله تعالى. ووجه حسنه ليس نفعا عائدا إليه تعالى ولا الى غيره ، لقبح تكليف شخص لنفع غيره ، ولا دفع ضرر عن المكلف ولا جلب نفع إليه لتحققه في حق الكافر مع انتفاء الغرض. فتعين أن يكون للتعريض لحصول النفع الذي لا يمكن الابتداء به.

أقول : لما بحث (١) عن ماهية التكليف شرع في أحكامه فقال : انه حسن لانه فعل الله تعالى ، وكل أفعاله حسنة. أما الصغرى فلانه الفرض ، والكبرى تقدمت وهو مذهب المعتزلة خلافا للبراهمة.

وأما وجه حسنه فنقول : التكليف فعل الله تعالى ، وكل أفعاله لا بد لها من غرض ، فالتكليف لا بد له من غرض. والصغرى ظاهرة ، وأما الكبرى فلانه لو لم يكن فعله تعالى لغرض لكان عبثا ، والعبث قبيح.

__________________

(١) فى «ن» فرغ.

٢٧٢

وحينئذ نقول : الغرض من التكليف اما أن يكون عائدا إليه تعالى أو الى غيره ، والاول محال ، لانه اما جلب نفع أو دفع ضرر ، وكلاهما مستحيل في حقه تعالى ، والثاني اما أن يعود الى المكلف أو غيره ، والثاني محال ، لان تعذيب شخص لنفع غيره قبيح ، والاول اما أن يكون جلب نفع أو دفع ضرر أو أمر آخر هو التعريض ، والاول والثاني باطلان ، فان الكافر الذي يموت على كفره مكلف ، مع أن تكليفه لا يجلب نفعا ولا يدفع ضررا ، فتعين الثالث وهو التعريض للنفع.

ثم ذلك النفع اما أن يصح الابتداء به أولا ، والاول محال ، والا لكان توسط التكليف عبثا ، فتعين الثاني : وذلك النفع هو الثواب ، أعني النفع المستحق المقارن للتعظيم والتبجيل ، وانما قلنا أنه لا يصح الابتداء به ، لاشتماله على التعظيم الذي لا يحسن الا لمستحقه ، ولهذا يقبح منا تعظيم الاطفال والارذال كتعظيم العلماء. وانما يستحق التعظيم بواسطة الافعال الحسنة وهي الطاعات واجتناب المعاصي ، ومعنى التعريض هو جعل المكلف على الصفات التي يمكنه الوصول الى الثواب [معها] وبعثه على ما به يصل إليه وعلم أنه سيوصله اذا ما كلفه به.

[كون التكليف واجبا على البارى تعالى]

قال : وهو واجب ، خلافا للاشعرية ، والا لكان الله تعالى مغريا بالقبيح والتالي باطل ، لان الاغراء بالقبيح قبيح ، والله لا يفعل القبيح.

وبيان الشرطية : أن المكلف فيه ميل الى فعل القبيح ونفور عن فعل الحسن فلو لم يقرر في عقله وجوب الواجب وتكليفه به وقبح القبيح وتكليفه بتركه ، لزم الاغراء بالقبيح.

أقول : ذهبت الاشعرية الى أن التكليف تفضل منه تعالى ، ان شاء فعله وان

٢٧٣

شاء لم يفعله. وذهبت المعتزلة والامامية الى أنه واجب عليه ، بمعنى أن الحكمة تقتضي ذلك ، لا أن غيره أوجبه عليه ، وكذا الكلام في باقي الواجبات من اللطف وغيره.

واحتج المصنف على الوجوب : بأنه لو لم يكن التكليف واجبا لزم الاغراء بالقبيح ، واللازم باطل فالملزوم مثله. أما بطلان اللازم : فلان الاغراء بالقبيح قبيح ، وقد تقدم كونه تعالى لا يفعل القبيح.

وأما بيان الملازمة : فهو أنه لما خلق الانسان وكمل عقله وركب فيه شهوة وميلا الى القبائح ونفرة عن الطاعات ، فلو لم يقرر عنده وجوب الواجب وتكليفه بفعله ، وحرمة الحرام وتكليفه بتركه ، ويعده ويتوعده والا لكان مغريا له بالقبيح.

والعلم بحسن الحسن وقبح القبيح غير كاف ، لان كثيرا من العقلاء يعرفون ذلك ، ويعلمون حصول المدح على الحسن والذم على القبيح ، ويقضون أوطارهم من اللذات القبيحة استسهالا للذم وعدم الاحتفال بالمدح ، فلا بد من مرجح آخر وهو التكليف.

[شرائط التكليف]

قال : وشرط التكليف : علم المكلف بصفة الفعل ، وبقدر المستحق به من الثواب ، وقدرته على ايصاله ، واستحالة فعل القبيح عليه ، وامكان الفعل ، وكونه مما يستحق به الثواب كالواجب والمندوب ، وترك القبيح ، وقدرة المكلف على الفعل.

أقول : شرائط التكليف تنقسم الى ثلاثة أقسام :

الاول : العائدة الى المكلف وهي أمور :

الاول : أن يكون عالما بصفات الفعل الذي يقع التكليف به ، لئلا يأمر بترك الواجب وفعل القبيح.

٢٧٤

الثاني : أن يكون عالما بقدر ما يستحق على الفعل من الثواب ، والا لم يؤمن أن يوصل إليه بعضه ، فلا يحسن التكليف.

الثالث : أن يكون قادرا على الايصال ، اذ لولاه لما وصل الى المكلف عوضه ، فيكون تكليفه قبيحا.

الرابع : أن يكون القبيح ممتنعا عليه ، اذ لو جاز عليه القبيح لما آمن منه خلف الوعد.

الثاني : العائدة الى الفعل المكلف به ، وهو أمران :

الاول : أن يكون ممكنا ، لاستحالة التكليف بالمحال.

الثاني : أن يكون مما يستحق به الثواب كالواجب والندب وترك القبيح.

الثالث : العائدة الى المكلف وهي أمور :

الاول : كونه قادرا على ما كلف به.

الثاني : كونه مميزا بينه وبين غيره مما لم يكلف به.

الثالث : كونه متمكنا من آلة الفعل.

[الرابع : كونه متمكنا من العلم بما يحتاج إليه.]

فهذه شرائط حسن التكليف وبدونها لا يحسن.

[انقسام المكلف به الى العلم والظن والعمل]

قال : و [هو] ينقسم الى علم وظن وعمل.

أقول : المكلف به اما علم واما ظن واما عمل :

أما العلم : فهو اما عقلي كمعرفة الله تعالى وصفاته ، وعدله ، ونبوة الأنبياء وإمامة الائمة. أو سمعي كالشرعيات من الفقه والحديث والتفسير.

وأما الظن : فنحو كثير من الشرعيات كالقبلة وغيرها.

وأما العمل : فهو عقلي كردّ الوديعة وشكر المنعم والصدق والانصاف

٢٧٥

وترك الظلم والكذب ، وغيرها من فعل الواجبات والتفضل والاحسان وحسن السيرة ، وغيرها من المندوبات. واما سمعي كايقاع الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد ، وغيرها من الاعمال الشرعية الواجبة والمندوبة.

[تحقيق حول قاعدة اللطف]

قال : البحث الثاني ـ في اللطف : وهو ما يقرب من فعل الطاعة ويبعد عن المعصية، ولم يكن له حظ في التمكين.

وهو واجب ، خلافا للاشعرية ، والا لكان نقضا لغرضه تعالى في التكليف ، لانه تعالى أراد الطاعة من العبد ، فاذا علم أنه لا يختارها أو لا يكون أقرب إليها الا عند فعل اللطف ، فلو لم يفعله تعالى لكان ناقضا لغرضه ، وهو نقص ، تعالى الله عنه.

واللطف ان كان من فعل الله تعالى وجب فعله عليه ، وان كان من فعل المكلف وجب عليه تعالى أن يعرفه اياه وأن يوجبه عليه ، وان كان من فعل غيرهما لم يجز أن يكلفه الله تعالى الفعل الملطوف فيه ، الا بعد أن يعلم أن ذلك الغير يفعله لا محالة ، اذ لا يصح أن يوجبه على ذلك الغير لاجل مصلحة تعود الى غيره الا أن يكون له فيه مصلحة ، كما أوجب على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أداء الرسالة لنفع الغير [ونفعه عليه‌السلام (١)].

أقول : لما فرغ من التكليف ومباحثه شرع في اللطف ، وهنا مسائل :

الاولى في تعريفه : وعرفه بأنه ما يقرب المكلف معه من فعل الطاعة ويبعد عن فعل المعصية ، ولم يكن له حظ في التمكين. فالاول جنس شامل للطف وغيره من القدرة والآلات ، فانها بأجمعها يقرب الى فعل الطاعة ويبعد عن المعصية.

__________________

(١) هذه الزيادة لم تثبت في المطبوع من المتن.

٢٧٦

وبقوله «ولم يكن له حظ في التمكين» خرج القدرة والآلات التي يتمكن بها من ايقاع الفعل ، فان هذه كلها لها حظ في التمكين ، اذ بدونها لا يمكن ايقاع الفعل ، وأما اللطف فليس كذلك ، اذ وقوع الفعل الملطوف فيه بدونه ممكن ، لكن معه يكون الفعل [الى] الوقوع أقرب بعد امكانه الصرف. وزيد في تعريفه «ولا يبلغ الالجاء» اذ الالجاء ينافي التكليف ، فيكون اللطف أيضا منافيا له.

ثم ان اللطف ان كان من فعل الطاعة ، يسمى «توفيقا» ، وان كان في ترك المعصية ، يسمى «عصمة».

الثانية : هل هو واجب أم لا؟ ذهبت الاشاعرة الى أنه غير واجب ، بناء منهم على قاعدتهم من نفي الحكم العقلي. وذهبت المعتزلة والامامية الى أنه واجب ، وهو الحق.

واستدل [المصنف] على وجوبه بما تقريره : أنه لو لم يكن واجبا لهم لزم نقض الغرض ، واللازم باطل فالملزوم مثله.

بيان الملازمة : أنا بينا أنه تعالى مريد للطاعة وكاره للمعصية ، فاذا علم أن المكلف لا يختار الطاعة ، أو لا يترك المعصية ، أو لا يكون أقرب الى ذلك ، الّا عند فعل يفعله فيه (١) ، وذلك الفعل ليس فيه مشقة ولا غضاضة ، فانه يجب في حكمته أن يفعله ، اذ لو لم يفعله لكشف ذلك : اما عن عدم ارادته لذلك الفعل ، وهو باطل لما تقدم ، أو عن نقض غرضه اذا كان مريدا له ، لكن ثبت كونه مريدا له ، فيكون ناقضا لغرضه.

ويجرى ذلك في الشاهد مجرى من أراد حضور شخص الى وليمة ،

__________________

(١) فى «ن» : به.

٢٧٧

وعرف أو غلب على ظنه أن ذلك الشخص لا يحضر الا مع فعل يفعله ، من ارسال رسول أو نوع أدب أو بشاشة أو غير ذلك من الافعال ، ولا غضاضة عليه في فعل ذلك ، فمتى لم يفعل عدّ ناقضا لغرضه.

وأما بطلان اللازم : فلان نقض الغرض نقض ، والنقص عليه تعالى محال ، ولان العقلاء يعدونه سفها وهو ينافي الحكمة.

الثالثة : في أقسامه : اللطف اما من فعل الله تعالى ، أو من فعل غيره فان كان الاول وجب عليه تعالى فعله ، والا لكان مناقضا لغرضه كما تقدم ، وذلك كنصب الادلة وارسال الرسل وخلق المعجزات وغير ذلك.

وان كان الثاني : فاما أن يكون ذلك اللطف لفعل نفسه أو لفعل غيره ، فان كان الاول وجب عليه تعالى أن يعرفه وجوبه عليه ، والا لكان ناقضا لغرضه كما تقدم فان قام به ذلك الغير ففعله فقد حصل المقصود ، والا فقد أتى من قبل نفسه وكان بخسه (١) عليه ، وذلك كمتابعة الرسل والائمة ، والاقتداء بهم والنظر في أدلتهم وغير ذلك ، وان كان الثاني أي يكون لطفا لفعل غيره ، وحينئذ لا يجوز منه تعالى تكليف الملطوف له (٢) الفعل الملطوف فيه ، الا اذا علم أن ذلك الغير يفعل اللطف ، اذ لو علم أنه لا يقع منه فعل اللطف ثم كلفه بالفعل الملطوف لكان مناقضا لغرضه.

ويجب هنا أيضا أمران :

الاول : ايجاب ذلك اللطف على ذلك الغير ، والا لجاز له تركه فلا يحصل الغرض ، وذلك كتبليغ الرسالة وأداء الشريعة.

الثاني : يجب أن يحصل لذلك الغير بالقيام بهذا اللطف وفائدة ، اذ تكليف

__________________

(١) فى «ن» : يجب.

(٢) فى «ن» : الملطوف به.

٢٧٨

شخص لمصلحة غيره قبيح ، تعالى الله عنه.

[تحقيق حول مسألة الآلام]

قال : البحث الثالث ـ في الالم (١) : وهو ضربان : قبيح ، وحسن.

فالقبيح من فعلنا خاصة ، والعوض فيه علينا. والحسن : اما من فعلنا مع الاباحة كذبح الحيوان ، أو [مع] ندبه كالاضحية ، أو [مع] (٢) وجوبه كالهدى والعوض في ذلك كله على الله تعالى. واما من فعله تعالى ، أما مع الاستحقاق كالعقاب ، أو ابتداءً كالآلام المبتدأة في الدنيا ، اما للمكلف أو لغيره كالاطفال.

ووجه حسنها : العوض الزائد ، بحيث يختاره المكلف مع الالم لو عرض عليه ، واللطف معا اما للمتألم أو لغيره ، فبالعوض الزائد يخرج عن الظلم ، وباللطف يخرج عن العبث.

أقول : لما كانت الآلام قد تكون ألطافا ، اتبع بحث اللطف ببحث الالم ، وقد اختلف الناس في ذلك : فقالت الثنوية : جميع الآلام قبيحة ، وقالت الاشعرية جميعها حسنة. وقالت البكرية والتناسخية : ما كان مستحقا فهو حسن والا فقبيح وقال أبو علي الجبائى : ما كان منها ظلما فهو قبيح والباقي حسن.

والمحققون قسموها الى قبيح وحسن فالقبيح ذكر بعض العلماء له وجوها ثلاثة :

الاول : أن يكون عبثا ، كمن يستأجر شخصا ليستقي من البحر ويصب فيه.

الثاني : أن يكون ظلما كلطمة اليتيم لغير التأديب.

الثالث : أن يكون فيه مفسدة ، كايلام الظالم على ظلمه اذا علم أنه يزداد ظلما بذلك ، فانه قبيح مع أنه ليس بعبث ولا ظلم.

__________________

(١) فى المطبوع من المتن : الآلام.

(٢) لم تثبت كلاهما في المطبوع من المتن.

٢٧٩

والحسن ذكروا له وجوها :

الاول : كونه مستحقا للعقاب ، كضرب السيد عبده على عصيانه.

الثاني : اشتماله على دفع ضرر ، كشرب المريض الدواء المرّ.

الثالث : كونه جالبا للنفع ، كالعوض عنه مع اللطفية.

الرابع : كونه بمجرى العادة ، كاحراق الله تعالى الطفل الملقى في النار.

الخامس : أن يفعل دفعا عن النفس ، كما اذا قتلنا من يقصد قتلنا.

اذا تقرر هذا فالقبيح انما يصدر عنا خاصة ، لاستحالة كونه تعالى فاعلا للقبيح ، والعوض فيه علينا. وأما الحسن : فقد يصدر عنا [وقد يصدر عنه تعالى أما الذي يصدر عنا] فاما مع اباحته كذبح الحيوان للاكل ، أو مع ندبه كذبح الاضحية والعقيقة ، أو مع وجوبه كذبح النذور والكفارات وهدي التمتع.

والعوض في هذه الثلاثة على الله تعالى. أما استحقاقها العوض فلكونها تألمت ألما غير مستحق.

وأما كونه على الله تعالى فلانه مالك لنا وللحيوانات ، وقد أمرنا بايلامها ونحن مأمورون.

وأما الالم الحاصل بمجرى العادة ، فالعوض فيه علينا ، لأنا قصدنا ايلام الطفل الملقى في النار ، والباري تعالى لم يقصد ذلك بخلق النار ، وليست النار وشبهها الا آلة في الايلام كالسيف ، وكما أنه لا عوض على الحداد فكذا هنا ، هذا ان قلنا بالطبيعة ، وأما اذا قلنا أن المحرق هو الله تعالى بمجرى العادة ، فلان اجراء العادة حكمة لا يجوز نقضها ، والله تعالى قد نهانا عن هذا الالقاء ، فصار الملقى كأنه المؤلم في الحقيقة.

وأما الذي يصدر عنه لا بشركة العبد : فاما على وجه الاستحقاق كالعقاب وذلك لا يستحق به عوض ، أو لا على وجه الاستحقاق ، فيكون ألما مبتدأ ،

٢٨٠