ارشاد الطالبين الى نهج المسترشدين

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

ارشاد الطالبين الى نهج المسترشدين

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٦

الذات غير معلوم ، ومراده بعروضها للذات انما هو في الذهن لا في الخارج ، لانه قد تقدم أن صفاته تعالى نفس ماهيته في الخارج وبطلان زيادتها فيه.

وفي هذا الدليل نظر ، فانه لا يلزم من أنا لا نعقل منه تعالى غير هذه الامور أن لا يعقل غيرنا غيرها ، فلا يلزم المدعي الكلي ، وحينئذ لم لا يجوز أن يكون لبعض النفوس ، أو لبعض المجردات من القوة أن يدرك حقيقته تعالى ، اما بالالهام أو تصفية أو غير ذلك.

[استحالة الرؤية على البارى تعالى]

قال : البحث الثامن ـ في أنه تعالى يستحيل عليه الرؤية : لان الضرورة قاضية بأن كل مرئي فهو في جهة ، لانه اما مقابل أو في حكمه. والباري تعالى ليس في جهة ، فلا يكون مرئيا.

ولانه لو صح أن يكون مرئيا لرأيناه الآن ، والتالي باطل ، فالمقدم مثله. والملازمة ظاهرة ، اذ شرائط الادراك موجودة فينا. ولقوله تعالى (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) (١) ، تمدح بنفي الرؤية ، فيكون ثبوتها نقصا ، وهو على الله محال. ولقوله تعالى (لَنْ تَرانِي) (٢) ، و «لن» لنفي الابد.

والاشاعرة خالفوا جميع العقلاء في ذلك ، حيث أثبتوا تجرده تعالى وجوزوا رؤيته.

أقول : خالف الاشاعرة جميع العقلاء في القول بصحة رؤيته تعالى ، فان الفلاسفة والمعتزلة يحيلون ذلك عليه لتجرده عندهم ، والمشبهة وان قالوا بصحة رؤيته ، فانهم قالوا به لكونه جسما عندهم ، واعترفوا بأنه لو كان مجردا

__________________

(١) سورة الانعام : ١٠٣.

(٢) سورة الاعراف : ١٤٣.

٢٤١

لاستحالت الرؤية عليه ، والاشاعرة قالوا بتجرده مع كونه يرى (١).

ولخص فخر الدين الرازي في المحصل مرادهم بالرؤية بأن قالوا (٢) : انا لا نريد بالرؤية الكشف التام ، لانه لا نزاع في جوازه ، لان المعارف تصير يوم القيامة ضرورية ، ولارتسام صورة المرئي في العين ، أو اتصال الشعاع الخارج عنها بالمرئي ، أو حالة تستلزم أحدهما. فان ذلك كله محال عليه تعالى ، بل نريد بالرؤية الحالة الحاصلة له عند رؤية الشيء بعد العلم به.

وهذا فيه نظر : لانه لم لا يجوز أن تكون تلك الحالة راجعة الى تأثير الحاسة [كما تقدم]. سلمنا لكن لم لا يجوز أن تكون عبارة عما حصل للنفس من زيادة اليقين على العلم الاول ، وذلك لكون العلم معقولا بالتشكيك ، لكن ذلك مشروط بالانطباع ، أو اتصال الشعاع بسطح المرئي ، وهما مستحيلان في حقه تعالى.

سلمنا لكن نفتقر في اثبات كون تلك الحالة غير الكشف التام الى دليل.

والمصنف (رحمه‌الله) استدل على استحالة رؤيته تعالى بوجوه أربعة عقليان ونقليان :

الاول : أن الباري تعالى ليس في جهة ، وكل مرئي في جهة ، فالباري تعالى ليس بمرئي أما الصغرى فقد تقدمت ، وأما الكبرى فلان كل مرئي اما مقابل أو في حكمه كالصورة في المرآة ، وهو ضروري. وكل مقابل فهو في جهة ، وهو ضروري أيضا.

الثاني : أنه لو صح أن يرى لرأيناه الآن ، لكن اللازم باطل فالملزوم مثله. أما بطلان اللازم فظاهر. وأما بيان الملازمة : فلان شرائط الادراك حاصلة ، وهي

__________________

(١) فى «ن» : مرئى.

(٢) فى «ن» : قال : بأنا.

٢٤٢

سلامة الحاسة وكون المرئي يصح أن يرى. لان باقي الشرائط التي تقدمت يستحيل تحققها في حقه تعالى ، كالكثافة ووقوع الضوء وغير ذلك ، وكلما حصلت الشرائط وجبت الرؤية ، وبيانه كما تقدم.

وفي هذا الوجه نظر : لجواز أن يكون ادراكه تعالى مشروطا بشرط زائد على شرائط الجواهر والاعراض ، فيتوقف ادراكه على حصوله ، وذلك غير حاصل الآن ، فلذلك لم نره.

الثالث : قوله تعالى (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) والمراد بادراك الابصار هو الرؤية ، لاقتران الادراك بالبصر ، والا لجاز اثبات الرؤية مع عدم الادراك ، وهو باطل بالضرورة.

وحينئذ نقول : تمدح بنفي الادراك البصري له ، فيكون اثباته له من شخص أو في وقت من الاوقات محالا.

أما المقدمة الاولى فلانه وقع بين مدحين ، لان قبله (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) وبعده (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١) ووقوع ما ليس بمدح بين مدحين ركيك ، تمتنع على الحكيم التكلم به ، كما يقال : فلان زاهد عابد عالم طويل شجاع كريم جواد.

وأما المقدمة الثانية فلان التمدح انما يكون بصفات الكمال ، فيكون نقيضه نقضا بالنسبة الى كل الاشخاص وفي كل الاوقات ، فلو ثبت لشخص أو في وقت لكان النقض متوجها إليه تعالى ، وهو محال. فظهر أن هذه الآية سالبة كلية دائمة ، فلا يصح أن يرى أبدا في الدنيا ولا في الآخرة.

الرابع : قوله تعالى (لَنْ تَرانِي) (٢) ووجه ذلك أن موسى عليه‌السلام لما سأل

__________________

(١) سورة الانعام : ١٠٣.

(٢) سورة الاعراف : ١٤٣.

٢٤٣

الرؤية أجيب ب (لَنْ تَرانِي) و «لن» لنفي التأبيد. واذا استحال أن يراه موسى عليه‌السلام أبدا ، استحال ذلك في حق غيره من متحشفة الاشاعرة بطريق الاولى. وأما قوله تعالى (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) (١) مع قوله (لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) (٢) فهو مجاز بدليل سبق الذهن الى التأبيد حين سماع هذه اللفظة.

[دليل الاشاعرة على الرؤية]

قال : واستدلوا بأن الله تعالى موجود ، فيصح أن يكون مرئيا ، لان علة صحة الرؤية هو الوجود ، لان الجوهر والعرض مرئيان ، والحكم المشترك يستدعي علة مشتركة ، ولا مشترك بينهما سوى الحدوث أو الوجود والحدوث لا يصلح للعلية ، لانه أمر عدمي ، فبقي الوجود.

وهذه حجة ضعيفة جدا ، وقد بينا ضعفها في كتاب «النهاية» والسمع متأول.

أقول : استدل الاشاعرة على مذهبهم بالعقل والنقل. أمّا العقل فتقرير دليله أن نقول: ان الله تعالى موجود ، وكل موجود يصح رؤيته ، فالله تعالى يصح رؤيته. أما الصغرى فظاهرة.

وأما الكبرى فلان الجوهر والعرض مرئيان ، فيكون حكم الرؤية مشتركا بينهما ، وكل حكم مشترك لا بد له من علة ، لاستحالة تعليل الحكم المتماثل بعلل مختلفة.

ولا مشترك بين الجوهر والعرض الا الوجود أو الحدوث ، والحدوث لا يصلح للعلية ، لانه أمر عدمي ، لانه عبارة عن الوجود المسبوق بالعدم ، فيكون العدم جزء مفهومه ، وما جزء مفهومه عدم فهو عدمي ، فالحدوث عدمي ، فلا يصلح

__________________

(١) سورة البقرة : ٩٥.

(٢) سورة الزخرف : ٧٧.

٢٤٤

للعلية ، فيكون الوجود هو العلة ، فكل موجود مرئي.

وأما النقلي فمن وجوه : الاول : أن موسى عليه‌السلام سأل الرؤية ، فتكون جائزة ، أما الاول فلقوله (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) (١) وأما الثاني فلانها لو كانت ممتنعة لما سألها موسىعليه‌السلام ، والا لكان بعض حثالة المعتزلة أعلم منه بصفات الله تعالى ، هذا خلف.

الثاني أنه علق الرؤية على استقرار الجبل فتكون ممكنة ، أما الاول فلقوله تعالى (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) (٢) وأما الثاني فلان استقرار الجبل ممكن والمعلق على الممكن ممكن ، فالرؤية ممكنة.

الثالث : قوله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (٣) ووجه الاستدلال أن المراد بالنظر : اما معناه الحقيقي ، وهو تقليب الحدقة نحو المرئي طلبا لرؤيته ، وهو محال ، لانه انما يلزم (٤) لذي الجهة ، والله تعالى ليس في جهة أو الانتظار ، وهو باطل ، لانه يتعدى بحرف «الى». والنظر بمعنى الانتظار لا يتعدى ب «الى» لقوله تعالى (فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) (٥).

وأيضا الآية في سياق بيان النعم ، فتكون النعم حاصلة لا منتظرة ، مع أن الانتظار تكون نقمة ، فبقي أن تكون موجب للغم.

ولهذا قيل : الانتظار موت أحمر ، الانتظار تورث الصغار ، فلا يكون نعمة فبقي أن يكون المراد بذلك الرؤية على سبيل المجاز اطلاقا لاسم السبب على

__________________

(١) سورة الاعراف : ١٤٣.

(٢) سورة الاعراف : ١٤٣.

(٣) سورة القيامة : ٢٣.

(٤) فى «ن» يكون.

(٥) سورة النمل : ٣٥ وفي القرآن المجيد «بم».

٢٤٥

المسبب ، وهو أحسن وجوه المجاز.

الرابع : قوله عليه‌السلام انكم سترون ربكم يوم القيامة ، كما ترون القمر ليلة البدر ، لا تضامون في رؤيته (١).

والجواب عن الاول من وجوه :

الاول : المنع من رؤية الجوهر ، بل المرئي اللون والضوء.

الثاني : نمنع كون مطلق العرض يصح رؤيته ، فان القدرة والعلوم والظنون والطعوم والروائح وغيرها لا ترى وان كانت أعراضا موجودة.

الثالث : نمنع اشتراكهما في الرؤية ، فان رؤية الجوهر مخالفة لرؤية العرض.

الرابع : لا نسلم أن الصحة ثبوتية ، بل هي عدمية ، لان جنسها الامكان وهو عدمي ، فلا يفتقر الى علة.

الخامس : لا نسلم أن الحكم المشترك يستدعي علة مشتركة ، فان الماء الحار بالشمس والحار بالنار ، اشتركا في الحرارة مع اختلاف علتهما.

السادس : نمنع الحصر في الوجود أو الحدوث ، وتكون العلة غيرهما كالامكان ، وهو وان كان أمرا اعتباريا الا أن الصحة أيضا اعتبارية ، ويصح تعليل بعض الاعتباريات ببعض.

السابع : لم لا يجوز أن تكون العلة هي الحدوث؟ لانه وان كان أمرا عدميا لكن الصحة أيضا عدمية ، ويجوز تعليل العدمي بالعدمي.

الثامن : لم لا يجوز أن تكون العلة هي الوجود بشرط الحدوث أو بشرط الامكان؟ والشرط جاز أن يكون عدميا (٢).

التاسع : لم قلتم أنه اذا كان الوجود علة لصحة رؤية الجوهر والعرض ،

__________________

(١) صحيح مسلم : ١ / ٤٢٩ باب فضل صلاتى الصبح والعصر والمحافظة عليهما.

(٢) فان عدم الدسومة شرطا في صبغ الثوب «منه».

٢٤٦

وجب أن يكون في الباري تعالى كذلك ، وذلك لان وجود الباري تعالى عين ماهيته ، ووجود الممكنات زائد عليها ، فيكونان مختلفان ، فلا يجب اشتراكهما في الحكم.

العاشر : لم لا يجوز أن تكون حقيقة ذاته تعالى مانعة؟ بأن لا تكون صالحة للرؤية أو خصوصية الجوهر والعرض شرطا ، فلا يمكن الرؤية : اما لحصول المانع ، أو لعدم الشرط وان كانت العلة موجودة.

الحادي عشر : يلزم من دليلكم صحة رؤية جميع الموجودات من الصفات والذوات ، وهو محال ضرورة.

الثاني عشر : يلزم من دليلكم أن يكون تعالى ملموسا ، لان الجوهر والعرض ملموسان ، فصحة الملموسية حكم مشترك ، فلا بد له من علة مشتركة هي الوجود فتكون صحة الملموسية ثابتة في حقه تعالى ، وهو عكس.

وعن الثاني من وجهين :

الاول : أن السؤال وقع لقومه لا له. حيث قالوا (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) لانهم لما سألوه الرؤية وأجابهم باستحالتها سألها اقامة لعذره ، وانما اضافه الى نفسه لانهم قالوا له لا تسأله لنا بل لنفسك ، ليكون أقرب الى الاجابة ، فاذا رأيته رأيناه أو نقول : انما أضافه الى نفسه لانه اذا منع هو من الاجابة كان أحسم لمادة سؤالهم.

الثاني : أنه كان عالما باستحالة الرؤية عقلا ، فأراد الاستدلال عليها نقلا ، كما في سؤال ابراهيم عليه‌السلام.

وعن الثالث : بالمنع من تعليقها على أمر ممكن. قولكم : استقرار الجبل ممكن ، قلنا : متى يكون ممكنا بالنظر الى ذاته ، أو بالنظر إليه والى تجلى الرب له ، الاول مسلم أنه ممكن ، لكن الرؤية ليست معلقة عليه بذلك الاعتبار

٢٤٧

بل باعتبار تجليه له ، لانه كان عالما بتجليه له ، وحال تجليه له يمتنع استقراره لانه حال التجلي صار متحركا ، ولا استقرار حال الحركة ، لامتناع اجتماع الحركة والسكون في حال واحد ، فتكون الرؤية معلقة على المحال ، فتكون محالا.

وعن الرابع : لم لا يجوز أن يكون المراد بالنظر هو معناه الحقيقي؟ اذ لا يلزم من طلب الشيء حصوله ولا امكانه ، أو يكون في الكلام اضمار هو ثواب ربها ، ويتعين هذا الاضمار ، لان النظر المقرون ب «الى» كما مر معناه انما يصح في المتحيزات. والاضمار وان كان خلاف الاصل ، لكن المجاز الذي ذكرتموه أيضا خلاف الاصل ، وقد ثبت في الاصول أنهما في مرتبة واحدة سلمنا لكن لم لا يجوز أن يكون بمعنى الانتظار ، ولا يكون «الى» حرف جر بل واحد الآلاء ، كما حكاه السيد المرتضى (رحمه‌الله) وحكاه ابن دريد والازهري. قال الشاعر :

أبيض لا يرهب الهزال ولا

يقطع رحما ولا يخون الى (١)

أراد أن لا يخون نعمه. وحينئذ يكون معناه : منتظرة رحمة ربها.

قوله : والانتظار يوجب الغم ، والآية سيقت لبيان النعم ، فتكون حاصلة لا منتظرة.

قلنا : ممنوع ، فان سياق الآية حكاية أحوال الناس قبل استقرار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار ، بدليل قوله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) (٢)» ومن في النار قد فعل بها الفاقرة ، فلا تظن أن يفعل بها الفاقرة.

وقوله «الانتظار موجب للغم» قلنا : ذلك في وعد من يجوز منه خلف

__________________

(١) جمهرة اللغة لابن دريد : ١ / ٢٠ والشعر من الاعشى.

(٢) سورة القيامة : ٢٤.

٢٤٨

الوعد ، أما اذا كان وعد من لا يخلف الوعد مع علم الموعود بذلك فانه لا يوجب الغم ، بل هو سبب للفرح والسرور ونضارة الوجه ، كمن ينتظر خلعة الملك ويعلم وصولها إليه يقينا ، فانه يسر بذلك وان لم يحضر الوقت ، كما أن انتظار العقاب بعد الانذار موجب للغم.

وعن الخامس : بالمنع من صحة النقل ، وعلى تقدير التسليم فالمراد بالرؤية المعرفة الحقيقية التي لا يغادرها شك ، فانه يستحيل حمله على ظاهره ، والّا لكان الله تعالى جسما.

[اثبات وحدة واجب الوجود]

قال : البحث التاسع ـ في أنه تعالى واحد : لو كان في الوجود واجبا الوجود لوجب أن يتمايزا بعد اشتراكهما في مفهوم واجب الوجود (١) ، فيكون كل واحد منهما مركبا ، فيكون ممكنا.

ولانه لو أراد أحدهما حركة جسم وأراد الاخر تسكينه ، ان وقع مرادهما لزم اجتماع النقيضين ، وهو باطل ، وكذا اذا انتفيا. وان وقع مراد أحدهما دون الاخر كان من وقع هو الاله. وللسمع.

أقول : ذكر مسألة التوحيد في التنزيهات ، لان معناه سلب الشريك عنه ، وقد استدل عليه بوجوه :

الاول : دليل الحكماء وهو يقرر بأربعة أوجه :

أحدها ما ذكره المصنف وتقريره : أنه لو كان في الوجود واجبا الوجود لاشتركا في مفهوم واجب الوجود ، وامتاز كل [واحد] بأمر مغاير لما فيه اشتراكهما ، والا لما كانا اثنين بل واحدا ، وحينئذ يكون كل واحد منهما مركبا

__________________

(١) فى المطبوع من المتن : الواجب.

٢٤٩

مما به الاشتراك ومما به الامتياز ، وكل مركب ممكن فيكونان ممكنين ، والفرض أنهما واجبان ، هذا خلف.

وفيه نظر : فان مفهوم واجب الوجود شيء ماله وجوب الوجود والوجوب أمر عدمي ، وما جزؤه عدمي فهو عدمي ، فلا يوجب الاشتراك فيه التركيب. ولان سلمنا أن الوجوب ثبوتي ، لكن الشيئية والوجوب من المعقولات الثانية (١) اللاحقة للمعقولات الاولى ، والاشتراك فيهما لا يوجب الاشتراك في الذوات ، كما أنه لا يلزم من اشتراك ممكنين في حمل هذا المعنى عليهما تركيبهما من هذا المفهوم ومن فصل آخر.

الثاني : دليل المتكلمين ، ويسمى «دليل التمانع» وهو لا يثبت الا وحدة الصانع القادر المريد ، ولهذا أخره عن اثبات الصفات المذكورة وتقريره : أنه لو كان في الوجود إلهان قادران عالمان مريدان ، فلا يخلو اما أن يمكن أن يريد أحدهما خلاف مراد الاخر أولا ، وكلاهما محال :

أما الثاني فلان كل واحد منهما قادر على كل المقدورات ، فأحدهما قادر على الفعل لو لا الاخر ، وكذلك الاخر قادر ، فاذا فرضنا توجه قصد كل واحد منهما الى أحد الضدين دفعة ، استحال أن يدفع أحدهما الاخر ، لان ليس أحد القصدين أولى بالتقدم من الاخر.

وأما الاول فلانه لو أمكن فلنفرض إرادة أحدهما ايجاد جسم متحركا في وقت بعينه ومكان بعينه ، وإرادة الاخر ايجاد ذلك الجسم بعينه ساكنا في ذلك الوقت وذلك المكان ، فاما أن يقع مرادهما ، أو لا يقع مرادهما ، أو يقع مراد أحدهما دون الاخر. ان كان الاول لزم اجتماع النقيضين ، وان كان الثاني قال : يلزم اجتماع النقيضين ، لقوله وكذا اذا انتفيا. والذي ينبغي أن يقال يلزم ارتفاع النقيضين ،

__________________

(١) المعقولات الثانية لا توجد الا في العقل «منه».

٢٥٠

ويمكن توجيهه بوجهين :

الاول : أنه يلزم اجتماع النقيضين على تقدير انتفاء كل واحد منهما ، لانه اذا انتفى مراداهما أعنى الحركة والسكون ، ثبت نقيضاهما أعني سلب الحركة الذي هو السكون وسلب السكون الذي هو الحركة فالحركة والسكون متناقضان.

الثاني : أنه اذا انتفى مراداهما ، والفرض أن مراديهما متناقضان فقد اجتمع النقيضان في الانتفاء. وان كان الثالث لزم منه فسادان :

الاول : الترجيح من غير مرجح ، لان كل واحد منهما قادر عالم مريد.

الثاني : يلزم عجز من لم يقع مراده وهو محال ، لان كل واحد منهما قادر على ما لا يتناهى ، فلا أولوية في عجز أحدهما دون الاخر وأيضا العاجز لا يصلح للالهية.

وفي هذا الدليل نظر : لانا لا نسلم أنه يمكن تعلق إرادة أحدهما بخلاف ما تعلق به إرادة الاخر ، لانهما حكيمان فيمتنع عليهما المخالفة.

ان قلت : يجوز أن تكون المصلحة في الطرفين ، فأمكن حينئذ أن يتوجه كل واحد منهما الى طرف.

قلنا : المصلحتان اما أن يترجح أحدهما أولا ، فان ترجحت تعين ذلك الطرف للارادة ، فلم لا يجوز أن يكون علم أحدهما بإرادة الاخر اياه يصرفه عن ارادته. وان لم يترجح فلم قلتم يتحقق الداعي حتى يتحقق التمانع ، لا بد له من دليل.

الثالث : الادلة السمعية ، كقوله تعالى (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (١) و (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) (٢) الى غير ذلك من الآيات ، وهو حجة هنا لعدم توقف السمع على الوحدة ، وهو أقوى الادلة في هذا الباب.

__________________

(١) سورة الاخلاص : ١.

(٢) سورة النساء : ١٧١.

٢٥١

[مباحث العدل

انقسام الفعل الى الاحكام الخمسة]

قال : الفصل الثامن : في العدل وفيه مباحث : الاول ـ في أقسام الفعل : الفعل : اما أن لا يكون له صفة زائدة على حدوثه كحركة الساهي والنائم ، واما أن يكون. وهو اما حسن أو قبيح.

والاول : اما أن لا يكون له صفة زائدة على حسنه ، وهو المباح ، ورسموه بأنه «ما لا مدح في فعله ولا تركه ولا ذم فيهما». واما أن يكون له صفة زائدة على حسنه ، وهو : اما واجب ، وهو ما يستحق المدح بفعله والذم على تركه مع العلم والتمكن من التحرز ، أو ندب وهو ما يستحق المدح بفعله ولا يستحق الذم بتركه ، اذا علم فاعله أو دل عليه.

أقول : لما فرغ المصنف (رحمه‌الله تعالى) من باب التوحيد الذي هو عبارة عن اثبات الواجب تعالى وصفاته ، شرع في باب العدل الذي هو البحث عن أفعاله ، والمراد بالعدل في أصل الباب هو كونه تعالى حكيما لا يفعل قبيحا ولا يخل بواجب ، ثم أطلق في عرف هذا العلم على ذلك ، وعلى ما يتقدم عليه من تقسيم الفعل وغير ذلك ، أو يتفرع عليه من الالم والعوض والتكليف وغيرها

٢٥٢

مما يتوقف عليه المطلوب.

هذا البحث الذي نحن بصدد شرحه ، وهو تقسيم الفعل :

فقد عرف أبو الحسين البصري الفعل : بأنه ما حدث عن قادر. وعرف القادر : بأنه الذي يصح أن يفعل وأن لا يفعل ، فلزمه الدور. ومع ذلك فالفعل أعم من الصادر عن قادر وغيره.

والحق أنه بديهي التصور غني عن التعريف. اذا تقرر هذا فنقول :

الفعل اما أن يكون للعقل أن يحكم فيه بأن لنا أن نفعله ، أو ليس لنا أن نفعله أولا ، والثاني كحركة النائم والساهي ، وان كان الاول فان حكم بأن ليس لنا أن نفعله فهو القبيح ، والا فهو الحسن وهو : اما أن لا يكون له صفة تزيد على حسنه ، أو يكون.

والاول المباح ورسموه «بأنه ما لا مدح ولا ذم في فعله ولا تركه».

والثاني : اما أن يستحق المدح على فعله والذم على تركه ، وهو الواجب. أو يستحق المدح على فعله ولا ذمّ في تركه ، وهو المندوب. أو يستحق المدح على تركه ولا ذم في فعله ، وهو المكروه. ويشترط في الاستحقاقات المذكورة كلها العلم بوجه الفعل أو التمكن من العلم.

وفي قول المصنف : الفعل اما أن لا يكون له صفة زائدة على حدوثه كحركة النائم والساهي ، نظر : فانه ما من فعل الا وله صفة [زائدة] تزيد على حدوثه ، من كونه حركة أو سكونا ، والحركة أما دورية أو مستقيمة ، والمستقيمة إما يمنه أو يسره ، الى غير ذلك من الحالات ، وكلها زائدة على الحدوث ، فكان الاولى تقييده بكون ذلك الزائد من الحسن والقبيح.

وأيضا ينتقض تعريف الواجب بالواجب المخير ، فانه لا يستحق الذم بتركه مع أنه واجب ، فكان ينبغي زيادة قيد ، وهو لا الى بدل أو على بعض الوجوه.

٢٥٣

[مسألة الحسن والقبح]

قال : البحث الثاني : ذهب أهل العدل الى أن العلم بحسن بعض الاشياء ـ كالصدق النافع والانصاف وشكر المنعم ونحوها ـ ضروري ، والعلم بقبح بعضها ـ كالظلم والفساد وتكليف ما لا يطاق ـ ضروري.

وذهبت الاشعرية الى المنع من ذلك.

لنا : أن العلم الضروري حاصل بما قلناه ، فالمنازع مكابر ، ولهذا يحكم به من لا يعتقد شرعا. ولان القول بنفي الحسن والقبح العقليين يقتضي رفع الاحكام الشرعية ، لانا لو جوزنا صدور القبيح من الله تعالى لم يبق الوثوق بوعده ووعيده ، ولجاز اظهار المعجزة على يد الكاذب ، ولجاز تعذيب المؤمن على ايمانه واثابة الكافر على كفره. والتوالي باطلة بالاجماع.

أقول : قد يراد بالحسن كونه صفة كمال ، والقبيح كونه صفة نقص. وقد يراد بالحسن كونه ملائما للطبع ، وبالقبيح كونه منافيا للطبع ، وقد اتفق أهل العلم على كونهما عقليين بالمعنيين المذكورين. وقد يراد بالحسن ما يستحق عليه المدح في العاجل والثواب في الاجل ، وبالقبيح ما يستحق عليه الذم في العاجل والعقاب في الاجل.

وقد اختلف في ذلك : فقالت الفلاسفة : ذلك معلوم بالعقل العملي ، لان كمال النوع وانتظام مصالح العالم يتم بذلك ، لا بالعقل النظري ، كالعلم بأن الكل أعظم من الجزء.

وقالت الاشاعرة : ذلك معلوم بالشرع لا غير ، فما حسنه فهو الحسن ، وما قبحه فهو القبيح ، ولا حكم للعقل فيهما بهذا المعنى.

وقال أهل العدل. وهم المعتزلة والامامية : فان العقل يحكم بذلك ، وقسموا الافعال الى ثلاثة أقسام :

٢٥٤

الاول : ما لا يستقل العقل بدركه حسنا ولا قبحا ، وذلك كصوم آخر رمضان وأول شوال ، فانه لا طريق للعقل الى الحكم بحسن صوم الاول وقبح الثاني بل الشرع.

الثاني : ما يستقل العقل بدركه ضرورة ، وذلك كالعلم بحسن الصدق النافع والانصاف وشكر المنعم ، وقبح الظلم والفساد وتكليف ما لا يطاق.

الثالث : ما يستقل العقل بدركه نظرا ، وذلك كالحكم بحسن الصدق الضار ، وقبح الكذب النافع.

وقد احتجوا لذلك بوجوه ذكرها المصنف :

الاول : أن الضرورة قاضية بحسن ما ذكرناه من الامور الحسنة ، وبقبح ما ذكرناه من الامور القبيحة ، من غير شك في ذلك. ولهذا اذا قلنا لشخص ان صدقت فلك دينار وان كذبت فلك دينار واستوى الامران بالنسبة إليه ، فانه يختار الصدق لما تقرر عنده من حسنه ببديهة عقله ، وأيضا لا شك في ذكرنا حسنه وقبح ما ذكرنا قبحه.

فالحاكم بذلك اما العقل أو الشرع ، اذ لا ثالث لهما ، والثاني باطل ، لانا نفرض أنفسنا خالية عن مجموع الشرائع والاديان ثم نعرض عليها هذه الامور فنجدها حاكمة بها ، ولم نجدها حاكمة بقبح الصوم أول شوال وحسنه آخر رمضان الا بسماع الشرع ، فظهر الفرق. فلو كان الحاكم هو الشرع لما صح منها الحكم في الصورتين الا بسماع الشرع.

وأيضا فان من لا يقول بالشرع بل ينكره كالبراهمة والجاهلية ، يحكمون بالحسن والقبح المذكورين ، ولو لم يكونا عقليين لما حكموا بذلك ، وليس حكمهم فيها بملائمة الطبع ومنافرته ، فان الطباع في الناس مختلفة ، فكثير من الامور ينفر منها طبع شخص ويميل إليها طبع آخر ، مع اتفاقهم على الحكم

٢٥٥

هنا ، فتعين أن يكون الحاكم بذلك هو العقل ، وليس ذلك حكما نظريا ، والا لما حصل ذلك لمن ليس له أهلية النظر من النساء والعوام ، فيكون حكما ضروريا ، وهو المطلوب.

الثاني : لو لم يكونا عقليين لزم رفع الاحكام الشرعية ، واللازم باطل بالاجماع فكذا الملزوم. بيان الملازمة : أنه على ذلك التقدير يجوز صدور القبيح منه تعالى ومن جملته الكذب ، فيجوز وقوعه منه ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

فاذا أخبرنا بحسن شيء أو قبحه ، أو وجوب شيء أو ندبه ، أو استحقاق ثواب أو عقاب ، لم نحكم بصحته لتجويز الكذب ، فترتفع الاحكام الشرعية والوعد والوعيد وتنتفي فائدة التكليف.

الثالث : أنه لو لم يكونا عقليين لجاز اظهار المعجز على يد الكاذب ، واللازم باطل والا لم يبق لنا طريق الى الفرق بين المحق والمبطل ، وبيان الملازمة ظاهر ، لعدم قبحه حينئذ.

الرابع : أنه لو لم يكونا عقليين لجاز تعذيب المؤمن واثابة الكافر ، ولم يستحق بالايمان ثواب ولا بالكفر عقاب ، واللازم كالملزوم في البطلان ، والملازمة ظاهرة. فقول المصنف «والتوالي باطلة» اشارة الى ما يلزم في هذه الوجوه الثلاثة الناشي كل واحد منها من مقدم هو نقيض المطلوب ، ومن ذلك التالي فهي شرطيات ثلاث.

[احتجاج الاشاعرة على نفى الحسن والقبح العقلى]

قال : احتجت الاشاعرة : بأن الضروريات لا تفاوت بينها ، ونحن نجد تفاوتا بين العلم بحسن الصدق وقبح الكذب ، وبين العلم باستحالة اجتماع

٢٥٦

النقيضين ، ولان الكذب يحسن اذا اشتمل على تخليص النبي ، أو على الصدق كمن يقول «أنا أكذب غدا».

ولانه تعالى كلف الكافر بالايمان مع علمه بعدم صدوره عنه ، ولانه تعالى كلف أبا لهب بالايمان ، وهو تصديق الله تعالى في جميع ما أخبر به ، ومن جملته أنه لا يؤمن.

والجواب بمنع المقدمتين في الاول ، وحسن التخليص لا يقتضي حسن الكذب ، فالاخبار المشتمل على الكذب من حيث أنه كذب قبيح ، ومن حيث اشتماله على التخلص حسن ، فما هو قبيح لا ينقلب حسنا ، وبالعكس. وكذا الوعد بالكذب حسن من حيث اخراج الوعد عن الكذب ، وقبيح من حيث هو كذب. والعلم غير مؤثر في القدرة ، واخباره عن أبي لهب بأنه لا يؤمن وقع بعد موته.

أقول : ذكر الاشاعرة على سبيل المعارضة لادلة أهل العدل ، بأن منعوا المدلول ، واستدلوا على نفيه بوجوه :

الاول : لو كان الحاكم بالحسن والقبح هو العقل ضرورة ، لما حصل التفاوت بين هذه القضايا وغيرها من الضروريات ، واللازم باطل فالملزوم مثله.

أما بيان الملازمة : فلان الضروريات لا تفاوت بينها ، بل الجزم فيها واحد والا لجاز النقيض ، فلا تكون ضرورية ، هذا خلف.

وأما بطلان اللازم : فلانا نجد تفاوتا بين الحكم بحسن الصدق والحكم بكون الكل أعظم من الجزء ، واستحالة اجتماع النقيضين ، فانا نتردد في الاول ونشك فيه دون الثاني. وأيضا لكان يجب على العقلاء الاتفاق فيه ، والخلاف ظاهر.

الثاني : لو كان حسن الحسن وقبح القبيح ذاتيا لهما ، لما جاز أن ينقلب

٢٥٧

الحسن قبيحا والقبيح حسنا ، لكنه ينقلب فلا يكون ذاتيا [لهما] وهو المطلوب.

بيان الملازمة : ان ذاتي الشيء لا يزول عنه ، والا لما كان ذاتيا ، وأما أنه ينقلب فلوجهين :

الاول : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله اذا هرب من ظالم يريد قتله ، فاستتر عند انسان ، فجاء الظالم طالبا له وسأل عنه ذلك الانسان ، فان أخبر بأنه عنده لزم السعي في قتل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو قبيح ، وما لزم منه القبيح فهو قبيح ، فيكون صدقه قبيحا ، فيجب حينئذ أن يخبر بأنه ليس عنده محافظة على حفظ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وذلك كذب ، فقد صار كذبه حسنا.

الثاني : من قال «لا كذبن غدا» يجب عليه الكذب غدا ، والا لزم خلف الوعد ، وهو قبيح.

الثالث : أنه لو كان القبائح قبيحة لذاتها ، لما وقع تكليف ما لا يطاق منه تعالى واللازم باطل فالملزوم مثله. أما بيان الملازمة : فلان من جملة ما ذكرتم من القبائح تكليف ما لا يطاق ، فيكون قبيحا ، وكل قبيح لا يجوز على الله تعالى ، وهي مقدمة اتفاقية ، فلا يجوز أن يقع [منه] تكليف ما لا يطاق.

وأما بطلان اللازم فلوجهين :

الاول : أنه كلف الكافر الذي مات على كفره بالايمان ، وهو غير قادر عليه لانه لو كان قادرا لكان ممكنا بالنسبة إليه ، وهو باطل. لان الله تعالى علم أنه لا يؤمن ، فيكون الايمان منه محالا ، والا لزم انقلاب علمه تعالى جهلا ، وهو محال ، وما لزم منه المحال فهو محال ، فايمانه محال مع أنه كلّفه اتفاقا ، فقد كلّفه بما لا يطاق.

الثاني : أنه كلف أبا لهب بالايمان بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، وتصديقه في كل ما أخبر به ، والا لما استحق العقاب بالمخالفة ، ومن جملة ما أخبر النبي

٢٥٨

(صلى‌الله‌عليه‌وآله) به أنه لا يؤمن ، لقوله تعالى (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(١) (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) (٢) ، فقد كلّفه بأن يؤمن بأن لا يؤمن ، وهو جمع بين النقيضين ، والجمع بينهما محال ، فقد كلّفه بالمحال.

والجواب أن المعارضات لا تسمع في المعقولات ، اذ الدليل علة للمدلول فتسليمه يستلزم [منه] تسليم المدلول ، فمنع المدلول على تقدير تسليم الدليل غير موجه ولا مسموع.

فان قيل : ان المعارضة هنا جائزة ، من حيث أنها كالنقص الاجمالي.

أجبنا عنه على سبيل التفصيل : أما الاول فبمنع المقدمتين ، أي لا نسلم أن الضروريات لا تفاوت بينها ، فانها وان لم تكن نظرية لكنها متوقفة على تصور الاطراف ، والتصورات متفاوتة في الجلاء والخفاء (٣).

وأيضا جاز توقفها على حدس أو تجربة أو غير ذلك ، فيكون الخلاف أو التفاوت الحاصلين منهما راجعان الى ذلك. وعلى تقدير التسليم نمنع المقدمة الثانية ، فانا لا نسلم أن بين العلم بحسن الصدق ، وبين اجتماع النقيضين تفاوتا بل الكل واحد ، فان الصبيان والنساء يحكمون بهما على السواء.

وعن الثاني من وجوه :

الاول : ما ذكره المصنف وهو أن الكذب يشتمل على وجهين : أحدهما كونه كذبا ، والاخر كونه يخلص به النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من الظالم ،

__________________

(١) سورة البقرة ٦.

(٢) سورة المسد : ٣.

(٣) كمن يستفهم من نصف ربع العشرين فيقف عن الجواب ، بخلاف ما لو استفهم عن نصف نصف الدرهم وهما واحد «منه».

٢٥٩

ولا تلازم بين الوجهين في الوجود ، فهو قبيح بالاعتبار الاول ، وحسن بالاعتبار الثاني ، فما هو حسن لا ينقلب قبيحا ، وما هو قبيح لا ينقلب حسنا ، وكذا الكلام عن الوعد بالكذب ، فانه من حيث أنه وفاء بالوعد حسن ، ومن أنه كذب قبيح.

الثاني : أن الكذب وان كان قبيحا لكن اسلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الى القتل أقبح ، واذا اجتمع قبيحان ولا محيص عنهما يرتكب (١) أضعفهما.

الثالث : أن الكذب لا نسلم أنه في هذه المادة جائز ، بل يجب التورية ، والتعريض ، فان في المعاريض لمندوحة عن الكذب.

وعن الثالث أن الايمان بالنظر الى ذاته ممكن ، فيتعلق به القدرة من هذا الاعتبار. والعلم غير مؤثر في زوال امكانه ، لانه تابع ولا شيء من التابع بمؤثر والا لزم الدور. والاخبار عن أبي لهب وقع بعد موته لا قبله ، وحينئذ لا يلزم تكليف ما لا يطاق.

[اثبات أن البارى تعالى لا يفعل القبيح]

قال : البحث الثالث ـ في أنه تعالى لا يفعل القبيح ولا يخل بالواجب : خلافا للاشعرية.

لنا : أنه تعالى غني بذاته عن القبيح وعالم به ، وهو حكيم ، فيعلم قطعا انتفاؤه عنه لوجود الصارف ، وهو علمه بقبحه ، وانتفاء الداعي ، وهو داعي الحاجة أو داعي الحكمة.

اقول : لما فرغ من البحثين اللذين هما كالمقدمة للمقصود شرع في المقصود بالذات ، وهو أنه تعالى لا يفعل قبيحا ولا يخل بواجب ، وهو مذهب

__________________

(١) والموجب العقل ، وان أوجبه الله فمع تضمنه المصلحة الزائدة «منه».

٢٦٠