ارشاد الطالبين الى نهج المسترشدين

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

ارشاد الطالبين الى نهج المسترشدين

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٦

لذلك المعلوم ليشاهدها ويطلع عليها ، فتحصل له العلم بذلك المعلوم ، أما العالم بذاته فالعالم والمعلوم شيء واحد ، فهو يعلم ذاته بذاته لا بصورة مغايرة لذاته ، فلا يلزم اجتماع الامثال.

وأما على تقدير الاضافة فقد أجاب الرئيس ابن سينا : بأن الاضافة لا تستدعي المغايرة الخارجية بل الذهنية ، وهي هنا حاصلة ، فان الذات من حيث أنها عالمة مغايرة لها من حيث أنها معلومة ، فان المغايرة ولو بوجه ما كافية.

واعترض فخر الدين الرازي : بأنه يلزم منه الدور ، فان هذه المغايرة تتوقف على قيام العلم بالذات حتى تصير الذات عالمة ومعلومة باعتبارين ، والفرض أن العلم اضافة تستدعي المغايرة السابقة على قيامه بالذات ، فلو كانت المغايرة الاولى هي هذه لزم الدور.

أجاب المحققون : بأن مراد الرئيس أن الذات من حيث يمكن أن تكون عالمة مغايرة لها من حيث يمكن أن تكون معلومة ، وبهذا القيد لا تتوقف المغايرة على العلم بالفعل ، بل على امكان العلم ، فلا يلزم الدور.

وفيه نظر : فانه تعالى ليس له صفة كمالية بالامكان والقوة ، بل كمالاته تعالى كلها بالفعل ، وكلما صح له شيء وجب له ، وحينئذ يعود الجواب (١) من أصله.

[اثبات الحى لله تعالى]

قال : البحث الرابع ـ في أنه تعالى حي : ذهب قوم الى أن معنى كونه تعالى حيا هو أنه لا يستحيل أن يقدر ويعلم. واثبات هذه الصفة ظاهر ، لانا قد بينا كونه قادرا عالما ، فلا يستحيلان عليه بالضرورة ، فيكون حيا بهذا المعنى.

__________________

(١) فى «ن» السؤال.

٢٠١

وذهب آخرون الى أنه صفة ، لان اختصاص ذاته تعالى بصحة القدرة والعلم دون غيرها من الذوات لا بد له من مخصص ، وهو الحياة.

وقد بينا ضعف هذا القول في كتاب «نهاية المرام».

أقول : اتفق العقلاء على وصفه تعالى بالحياة ، واختلفوا في معنى ذلك فذهب الذين يقولون بزيادة الصفات على ذاته ـ وهم جمهور المعتزلة والاشاعرة ـ الى أن له تعالى صفة ثبوتية زائدة على ذاته هي الحياة ، لاجلها يصح أن يقدر ويعلم.

وذهب نفاة زيادة الصفات ـ وهم الحكماء وأبو الحسين البصري والمحققون ـ الى أنها صفة سلبية ، ومعناها أنه لا يستحيل أن يقدر ويعلم ولا شك أن هذا الوصف ثابت له تعالى ضرورة بعد ثبوت كونه تعالى قادرا وعالما. والحكماء فسروا الحي بأنه الدراك الفعال ، وهو قريب مما ذكرناه.

احتج الاولون بأنه لو لا اختصاص ذاته بما لاجله صح أن يقدر ويعلم لزم التخصيص من غير مخصص ، واللازم باطل فالملزوم مثله. بيان الملازمة : أن الذوات متساوية في الذاتية ، فاختصاص بعضها بصحة القدرة والعلم دون بعض تستدعي ذلك.

والجواب من وجوه : الاول : سلمنا أنه لا بد من مخصص ، لكن لم قلتم أنه زائد ، ولم لا يجوز أن يكون لخصوصية ذاته تعالى.

الثاني : سلمنا ذلك لكن ما ذكرتموه مبني على تساوي الذوات ، وهو ممنوع ، بل ذاته تعالى مخالفة لسائر الذوات كما يجيء بيانه.

الثالث : سلمنا تساوي الذوات ، لكن اختصاص ذاته تعالى بتلك الصفة دون باقي الذوات (١) ان لم يكن لمخصص لزم التخصيص من غير مخصص وهو

__________________

(١) فى «ن» الصفات.

٢٠٢

محال ، وان كان لمخصص نقلنا الكلام إليه وهلم جرا.

[اثبات الإرادة لله تعالى]

قال : البحث الخامس ـ في أنه تعالى مريد : وخالف في ذلك جمهور الفلاسفة.

لنا : أن العالم محدث على ما تقدم ، فتخصيص ايجاده بوقت وجوده دون ما قبله وما بعده لا بد له من مرجح ، وهو الإرادة ، تساوي نسبة القدرة الى الطرفين. والعلم تابع ، فلا يكون هو المتقدم بالذات.

وهل الإرادة في حقه تعالى نفس العلم بما يشتمل عليه الفعل من المصلحة أو مغايرة له؟ أبو الحسين على الاول ، والاشعرية وأبو هاشم على الثاني.

وقد بينا توجيه الكلامين والاعتراض عليهما في كتاب «النهاية».

أقول : اتفق المتكلمون على وصفه تعالى بالارادة ، وخالف الفلاسفة في ذلك ولم يثبتوا له تعالى هذه الصفة ، بناء منهم على أن القاصد الى ايجاد شيء يكون مستكملا بذلك الشيء من حيث أنه اذا فعله حصل ما هو أولى به أن يفعله فان القاصد لايجاد شيء لو لم يكن ذلك الشيء أولى به لما توجه القصد نحوه فلو كان تعالى مريدا لكان مستكملا ، فيكون ناقصا تعالى الله عنه.

وفيه نظر : فانه يجوز أن يقصد الى ايجاد شيء لكون ذلك الشيء حسنا في نفسه ، فانه يقع الغير حسنا في نفسه.

واحتج المتكلمون على ثبوت الإرادة بما ذكره المصنف وتقريره : أن الله تعالى أوجد العالم في وقت وجوده دون ما قبله وما بعده ، مع تساوي الاوقات بالنسبة الى الفاعل والقابل ، وأوجده على شكل دون شكل ، فانه جاز أن تكون مثليا أو مربعا أو مخمسا ، أو غير ذلك من الاشكال الممكنة للاجسام ، فاختصاص

٢٠٣

وجوده بوقته وشكله بما هو عليه يفتقر الى مخصص ، لما عرفت من استحالة التخصيص من غير مخصص ، فذلك المخصص لا جائز (١) أن يكون هو القدرة ، لان شأنها الايجاد من غير تخصيص بوقت أو وصف ، والا لما صح الفعل في غير ذلك الوقت ، أو على غير ذلك الوصف. ولا العلم ، والا لما صح الفعل في غير ذلك الوقت ، أو على غير ذلك الوصف. ولا العلم ، لان العلم تابع للمعلوم بمعنى أنه يستفاد منه ، فان كون الناطق مأخوذ من علمنا بالانسان لاجل أنه في الواقع كذلك ، لا أنه كذلك لاجل علمنا به.

واذا كان تابعا لا يكون مخصصا ، لان المخصص متقدم والتابع متأخر. ولا باقي الصفات ، وذلك ظاهر فبقي أن يكون المخصص أمر آخر وهو الإرادة.

وهنا نظر : فان كون العلم تابع انما يتم في العلم الانفعالى المستفاد من الاعيان الخارجية لا العلم الفعلي ، وعلم الله من القسم الثاني ، وحينئذ يكون متقدما ، فجاز أن يكون مخصصا ، وهو العلم باشتمال الفعل على المصلحة.

قوله «وهل الإرادة في حقه تعالى» الخ ، قد تقدم في باب الاعراض تحقيق هذا المقام ونقول هنا : ذهب أبو الحسين [البصري] الى أن ارادته تعالى هي علمه بالمصلحة ، لان هذا المعنى صالح للتخصيص ، وكلما صلح للتخصيص فهو إرادة لها.

أما الصغرى فلان العلم بالفعل المشتمل على المصلحة أو المفسدة المعينة مخصص ومميز له عن باقي الافعال وذلك ظاهر.

وأما الكبرى فلانا انما احتجنا الى اثبات الإرادة لاجل تخصيص الافعال وتميزها ، بحيث يوقعها الفاعل على حال دون حال ، وقد صلح العلم المذكور للتخصيص ، فيكون هو الإرادة.

__________________

(١) فى «ن» : لا يجوز.

٢٠٤

والاعتراض عليه من وجوه : الاول : لم لا يجوز أن يكون المخصص هو الميل المترتب على هذا العلم كما تقدم بيانه ، وقولهم أنه من توابع القوى الحيوانية ممنوع ، لجواز أن يكون عقليا كما تقدم.

الثاني : أن العلم تابع فلا يصلح للتخصيص ، ويرد على هذا ما تقدم من انقسام العلم الى قسمين ، والتابع أحدهما لا غير.

الثالث : قوله «انه صالح للتخصيص» قلنا : هذا لا يمنع من أن يكون هناك مخصصات أخر ، فان ذلك جائز ، ومع جوازه لا يكفي ذلك في بيان المدعي.

وذهب أبو القاسم البلخي الى أن ارادته في أفعاله علمه بها ، وفي أفعال غيره أمره بها. ويرد عليه ما ورد على أبي الحسين في العلم ، وأما الامر فهو معلل بالارادة فهو مغاير لها.

وذهب النجار الى أن معنى كونه مريدا هو أنه غير مغلوب ولا مكره ، فهي اذن سلبية. مع أن ما ذكره لازم لافعال المريد ، لا أنه نفس الإرادة.

وذهبت الاشاعرة وبعض المعتزلة الى أن له صفة ثبوتية زائدة على الداعي من شأنها التخصيص ، لكن الاشاعرة قالوا بقدمها ، والمعتزلة بحدوثها ، وسيأتي تمام كلامهم واحتجاجهم والجواب عنه.

[اثبات الادراك للبارى تعالى]

قال : البحث السادس ـ في أنه تعالى مدرك : أجمع المسلمون على ذلك ، واختلفوا في معناه : فأبو الحسين ذهب الى أن معناه أنه تعالى عالم بالمدركات (١) والاشعرية وأكثر المعتزلة على أنه زائد على العلم. ويدل على اتصافه تعالى بذلك القرآن ، وما تقدم من أنه تعالى عالم بجميع المعلومات.

__________________

(١) فى المطبوع من المتن : بالمدرك.

٢٠٥

واحتجاج النفاة بافتقار الابصار الى الشعاع والسماع الى وصول التموج. ضعيف ، لما تقدم ، ولان ذلك انما يصح في حقنا ، أما في حقه تعالى فلا.

أقول : اتفق المسلمون على وصفه بالادراك ، لورود ذلك في القرآن العزيز واختلفوا في تفسيره : فقال أبو الحسين البصري والكعبي : معناه علمه بالمدركات وقالت الاشاعرة وأكثر المعتزلة : أنه زائد على العلم.

احتج أبو الحسين على مذهبه : بأن الادراك في حقه تعالى اما أن يكون هو العلم أو الاحساس أو غيرهما ، والاخيران منفيان فتعين الاول ، وهو المطلوب أما بطلان الاحساس فظاهر ، لاستحالة الحواس عليه تعالى ، وأما كونه غير العلم والاحساس فلانه غير معقول ، فلا يصح الحكم به ، لان الحكم على الشيء أو به لا بد فيه من تصوره أولا ، لان اثبات ما ليس بمعقول جهالة.

وفيه نظر : لان قوله ان الثالث غير معقول ، اما أن يعني بعدم المعقولية استحالة اتصافه تعالى به ، كما يقال كون الجسم مجردا غير معقول ، فهو نفس المتنازع فيه ، فيكون مصادرا به على المطلوب. أو يعني أنه غير متعقل فنقول : لا يلزم من عدم تعقل الشيء نفيه ، فان عدم العلم بالشيء لا يوجب العلم بعدم ذلك الشيء.

واحتجت الاشاعرة ومن قال بالزيادة بوجهين :

الاول : أنه زائد على العلم في الشاهد ، فيكون كذلك في الغائب.

الثاني : أنه لو لم يكن موصوفا بالادراك لا تصف بضده وهو باطل ، لان ضده نقص ، والله تعالى منزه عن النقص. وبيان الاول أنه تعالى حي وكل حي يصح أن يدرك ، فلو لم يكن الباري تعالى مدركا لزم اتصافه بعدم الادراك.

والجواب عن الاول أن الزيادة في الشاهد مسلمة ، لكنها راجعة الى تأثير الحاسة ، والحاسة مستحيلة عليه تعالى ، فيستحيل ذلك الزائد. وعن الثاني بأنا

٢٠٦

لا نسلم أنه لو لم يكن موصوفا به لا تصف بضده ، لجواز خلو المحل عن الضدين كالهواء ، فانه لكونه جسما يصح اتصافه بالسواد والبياض ، ولا يلزم من عدم اتصافه بأحدهما اتصافه بالآخر ، نعم يلزم من عدم اتصافه به اتصافه بعدمه ، لكن لم قلتم [ان] عدم الادراك نقص في حقه تعالى.

والقياس على الشاهد لم يتم ، فان حسن الصورة في الشاهد من صفات الكمال ، وليست في الغائب كذلك ، ولا يلزم من عدم اتصافه به نقص.

وأيضا فانا نمنع كبرى القياس ، أعني كل حي يصح أن يدرك ، فان كثير من الاحياء قد انتفى عنه الادراك ، فان السمك وكثير من الهوام لا سمع لها ، والعقرب والخلد لا بصر لهما ، والديدان لا سمع لها ولا بصر ، فلا يتم المدعى.

والاولى أن نقول : لما دل الدليل النقلي على اتصافه بالادراك آمنا بذلك ورأينا أن حقيقته اللغوية يفتقر الى الآلات الجسمانية ، وهي مستحيلة عليه تعالى فعلمنا أن المراد ليس حقيقته اللغوية ، فتعين حمله على المجاز ، وهو العلم. لانه أقرب المجازات إليه ، لانه اطلاق اسم السبب على المسبب ، فيكون المراد به كونه عالما بالمدركات ، ويدل على ثبوت هذا الوصف له ما تقدم من كونه عالما بكل المعلومات ومن جملتها المدركات.

قوله «واحتجاج النفاة» الخ اشارة الى حجة الفلاسفة المانعين من وصفه تعالى بالادراك وتقريرها : انه لو كان الباري تعالى موصوفا بالادراك لزم اتصافه بالآلات الحسية ، واللازم باطل فالملزوم مثله.

بيان الملازمة : ان الادراك البصري اما بخروج الشعاع أو الانطباع ، وكلاهما مفتقر الى الآلة. وكذا الادراك السمعي يتوقف على حصول التموج الى الصماخ ، وكذا باقي الادراكات وهو ظاهر. فلو كان تعالى موصوفا بالادراك لكان له آلة حسية ، وهو محال.

٢٠٧

والجواب من وجهين : الاول : انا نمنع التوقف على الشعاع والانطباع وقد تقدم.

الثاني : ان ذلك ان سلمنا توقفه فهو في الشاهد ، أما في الغائب فلا ، فجاز أن يكون في الغائب بمعنى آخر.

[تحقيق حول اثبات التكلم للبارى تعالى]

قال : البحث السابع في أنه تعالى متكلم : أجمع المسلمون على واختلفوا في معناه : فالمعتزلة أنه تعالى أوجد حروفا وأصواتا في بعض الاجسام تدل على المعاني المطلوبة يعبر الله تعالى عنها. والاشعرية أثبتوا معنى قائما بذاته تعالى قديما مغايرا للحروف والاصوات ، تدل عليه العبارات.

وهو واحد ، ليس بأمر ولا نهي ولا خبر ولا نداء ، ويسمى «الكلام النفساني».

ويدل على ثبوت الكلام بالمعنى الاول ما تقدم من أنه تعالى قادر على كل مقدور ، والقرآن ولا دور ، ولا مكان الاستدلال على النبوة بغير القرآن من المعجزات ، أو به لا من حيث أنه مستند الى الله تعالى.

والمعتزلة بالغوا في انكار ما ذهب إليه الاشاعرة ومنعوا من تعقله أولا ، ثم من وحدته. ثم من مغايرته للامر والنهي والخبر ، وغير ذلك من أساليب الكلام.

أقول : هذه الصفة أيضا ممّا خالف فيها الحكماء ، لتوقفها على الآلة الجسمانية ، وعدم دليل عقلي يدل على غير ذلك. واتفق المسلمون على اتصافه تعالى بها ، لورود ذلك في النقل ، ثم اختلفوا في تفسير ذلك :

فقالت المعتزلة : معنى كونه متكلما أنه أو جد حروفا وأصواتا في أجسام

٢٠٨

مخصوصة ، لتدل على المعاني التي يريد الله تعالى التعبير عنها.

وقالت الحنابلة : كلامه عبارة عن الحروف والاصوات المسموعة ، لكنه عندهم قديم.

وقالت الاشاعرة : ان كلامه تعالى معنى واحد قائم بذاته تعالى قديم ، ليس بأمر ولا نهي ولا خبر ولا استفهام ولا غير ذلك من أساليب الكلام (١) ، وليس بحرف ولا صوت ، تدل عليه العبارات. وسيأتي تمام كلامهم في هذا المقام.

واختار المصنف مذهب المعتزلة وهو الحق ، واستدل على ثبوت الكلام له تعالى بهذا المعنى بوجهين : عقلي ونقلي.

أما العقلي : فلان ايجاد حروف وأصوات في جسم من الاجسام أمر ممكن وكل ممكن فهو مقدور لله تعالى ، فثبوت الكلام بهذا المعنى مقدور لله. أما الصغرى فظاهرة ، وأما الكبرى فلما تقدم من كونه قادرا على الممكنات.

وأما النقلي فقوله تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) (٢) ولان كلامه مسموع ولا شيء من غير الحروف والاصوات بمسموع ، فلا شيء من غيرهما بكلام الله تعالى ، أما الصغرى فلقوله تعالى (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) ، (٣) ، وأما الكبرى فظاهرة.

لا يقال : استدللتم على ثبوت الكلام بالكلام فيلزم الدور ، بيانه : أن كون القرآن حجة يتوقف على كونه كلام الله ، وكونه كلام الله يتوقف على ثبوت كونه تعالى متكلما ، وقد أثبت كونه تعالى متكلما بالقرآن ، فيلزم الدور.

__________________

(١) كالاستخبار والنداء والقسم والطلب ، والعرض والتمنى والتعجب «منه».

(٢) سورة النساء : ١٦٤.

(٣) سورة التوبة : ٦.

٢٠٩

لانا نجيب عنه : بأنا لا نسلم أن كون القرآن حجة يتوقف على كونه تعالى متكلما ، بل يتوقف على صدق الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وصدق الرسول يتوقف على المعجزة ، وهو أعم من القرآن ، لحصوله في غير القرآن من انشقاق القمر وغيره.

ثم نستدل على كونه تعالى متكلما بالقرآن ، لا من حيث أنه كلام الله تعالى بل من حيث هو اخبار الرسول الصادق في كلما أخبر به. أو يستدل بالقرآن على صدق الرسول ، لا من حيث أنه كلام الله تعالى ، بل من حيث اعجازه الحاصل في فصاحته وأسلوبه وتركيبه.

قوله «بالغوا» الخ. اعلم أن هذه المسألة من جملة المعارك العظيمة بين المعتزلة والاشاعرة ، وقد طول الفريقان في تقرير الكلام ، ونحن نذكر حاصل ما ذكره الاشاعرة وما أورد عليه المعتزلة فنقول :

ذهبت الاشاعرة الى أنه تعالى متكلم ، لدلالة العقل والنقل عليه ، وأن كلامه تعالى قائم بذاته ، وأنه واحد ليس بأمر ولا نهي ولا غير ذلك وأنه قديم.

والمعتزلة بالغوا في انكار جميع هذه المدعيات. فلنورد كلام الفريقين ملخصين له بأوجز عبارة وذلك في مسائل :

الاولى ـ قالت الاشاعرة : الباري تعالى حي ، وكل حي يصح أن يكون متكلما ، فلو لم يكن تعالى متكلما لكان موصوفا بضده ، وضده نقص ، تعالى الله عنه.

قالت المعتزلة : لا نسلم أن كل حي يصح أن يكون متكلما ، ولا نسلم أنه لو لم يكن موصوفا به لوصف بضده ، ولا نسلم أن ضده نقص ، وقد تقدم بيان ذلك كله في مسألة الادراك.

٢١٠

الثانية : قالت الاشاعرة : الكلام عندنا مقول على قسمين : الاول الكلام الحسي ، وهو ايجاد الحروف والاصوات الدالة على المعاني كما ذكرتم. والثاني المعنى التي تعبر عنه بتلك الحروف والاصوات ، وهو الكلام النفسي كما أشار إليه الشاعر :

ان الكلام لفي الفؤاد وانما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا

أما القسم الاول فلا نزاع فيه. وأما الثاني فيدل على ثبوته أنه ثبت أن الالفاظ موضوعة بإزاء الصور الذهنية ، فاذا نطق أحدنا بخبر فذلك المدلول عليه ليس هو الاعتقاد ، لانه قد يخبر بما لم يعتقده ، وليس هو القدرة ولا العلم وهو ظاهر ، ولا الإرادة لان الشخص قد يأمر بما لا يريد ، كما في قصة الامر لعبده اقامة لعذره عند السلطان حين يوعده على ضربه ، فانه طالب غير مريد لطاعته ، فان طاعته مستلزمة لعقوبة السلطان له ، والعاقل لا يريد ضرر نفسه ، وظاهر أن غير ذلك من الصفات ليست مما وضع له اللفظ ، فبقي أن يكون لمعنى آخر ، وهو «الكلام النفساني» ويدل على تسميته كلاما البيت المذكور.

وحينئذ نقول : لما دل الدليل على كونه متكلما ، فلا جائز أن يكون كلامه هو القسم الحسي ، لان كلامه صفته ، وصفة الشيء تقوم به ، لكن الحسي لا يقوم به ، فلا يكون صفته ، فبقي أن يكون هو القسم النفسي وهو المطلوب ، والله تعالى متكلم بمعنى أنه قائم به ذلك المعنى النفسي.

قالت المعتزلة : لا شك أن المتبادر الى الاذهان من قولنا تكلم فلان ليس الا ايجاد الحروف والاصوات ، وذلك مما لا شك فيه ، ولهذا لو قال شخص عن الاخرس والساكت أنهما متكلمان كذبه العقلاء في ذلك ، ولو كان الكلام ما ذكروه لما ساغ لهم تكذيبه ، لان الساكت والاخرس لهما ذلك المعنى ، والمراد من البيت المذكور تخيل الكلام ، والا لكان الاخرس متكلما ، مع أنه كلام

٢١١

شعري غير مفيد في المباحث العلمية.

وقولهم في الاستدلال على القسم الثاني ب «أن اللفظ موضوع للصور الذهنية» مسلم ، لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك المعنى من قبيل العلوم؟ فان صور الذهنية اما تصورات أو كيفيات تلحقها بحيث تصير تصديقات ، وكلاهما من أقسام العلوم. ولا نسلم اطلاق لفظ الكلام عليها الا باصطلاحكم ، وهو ممنوع.

سلمنا لكن قولكم «ليس بإرادة لانه قد يأمر بما لا يريد» ممنوع ، فانه كما لا يريد العاقل ضرر نفسه كذلك لا يطلبه ، بل يوجد صورة الامر وليس بأمر حقيقة ، لان الإرادة شرط في الامر عند بعضهم وليس له إرادة.

ثم انا نقول : ان الحكم بالشيء مسبوق بالعلم به ، وما ذكرتموه غير معلوم لا ضرورة ولا نظرا ، فاثباته جهالة. وحيث قد بان بطلان ما أثبته الاشاعرة.

فلم يكن كلامه تعالى الا الحروف والاصوات ، وذلك هو المطلوب. وقولهم «أنه صفته وصفة الشيء تقوم به» مبني على كون المتكلم من قام به الكلام ، وهو ممنوع كما يجيء.

الثالثة : قالت الاشاعرة ذلك المعنى واحد ليس بأمر ولا نهي ولا خبر ولا استخبار ولا غير ذلك من أساليب الكلام ، فان المرجع فيها كلها الى شيء واحد ، فان حاصل الامر هو الاخبار عن حصول العقاب على الترك ، والنهي عن حصول العقاب على الفعل ، وكذا غير ذلك. والكل ترجع الى الاخبار وهو واحد ، فيكون الكلام واحد ، وهو المطلوب.

قالت المعتزلة : الحكم بكون الامر والنهي والخبر والاستفهام والتمني والترجي وغير ذلك من الاساليب حقائق مختلفة ضروري ، فدعوى اتحادها مكابرة صريحة ، نعم قد يتصور اشتراك الامر والنهي في استلزم الخبر كما قلتم لكن ذلك لا يوجب الاتحاد ، ثم انه كيف يتصور الاتحاد في سائر الإنشاءات

٢١٢

والفاظ العقود وأمثال ذلك.

الرابعة : قالت الاشاعرة : حيث تقرر أن كلامه تعالى هو المعنى ، فاما أن يكون قائما بغيره ، وهو محال. لان قيام صفة الشيء بغيره غير معقول ، أولا به ولا بغيره وهو محال أيضا ، لاستحالة حلول عرض لا في محل ، فبقي أن يكون قائما به تعالى ، لا جائز أن يكون حادثا ، لاستحالة كونه محلا للحوادث ، فيكون قديما ، وهو المطلوب.

قالت المعتزلة : هذا الكلام ممنوع ، أما أولا فلابتنائه على ثبوت المعنى وقد بان بطلانه. وأما ثانيا فلان قولكم «اما أن يكون قائما بغيره» وهو ممنوع فان المتكلم من فعل الكلام لا من قام به الكلام ، فان هذا بحث لفظي لغوي ولا شك أن أهل اللغة لا يسمون بالمتكلم الا من فعل الكلام ، ولهذا يقولون تكلم الجني على لسان المصروع ، ولا يقولون تكلم المصروع ، لاعتقادهم أن الكلام المسموع من المصروع فاعله الجني ، وان كان الذي قام هو المصروع وكذا الصدى لا يوصف بانه متكلم وان كان الكلام قائما به ، واذا بطل كون المتكلم من قام به الكلام بطل تقسيمهم الى أنه اما أن يكون حادثا أو قديما الخ.

[كيفية بقائه تعالى]

قال : الفصل السادس ـ في أحكام هذه الصفات ـ وفيه مباحث : الاول ـ في أنه تعالى باق لذاته : ذهب الاشعري الى أنه تعالى باق ببقاء يقوم به تعالي. والحق نفيه ، وإلا لزم افتقاره الى غيره ، فيكون ممكنا. ولان البقاء لو كان زائدا على الذات لزم التسلسل.

ولان البقاء ان لم يكن باقيا لم يكن الذات الباقية [به] (١) باقية ، هذا خلف

__________________

(١) هذه الزيادة في المطبوع من المتن.

٢١٣

وان كان باقيا : فان كان لذاته كان أولى بالذاتية من الذات ، والذات أولى بكونها صفة منه ، لافتقار الذات إليه واستغنائه عنها. وان كان لبقاء آخر لزم الدور أو التسلسل.

أقول : اتفق العقلاء على أنه تعالى باق ، لكن اختلفوا في كيفية بقائه ، فذهب أبو الحسن الاشعري الى أنه باق ببقاء يقوم بذاته. وذهب القاضي وامام الحرمين وفخر الدين الرازي والمعتزلة وأصحابنا الى نفي ذلك البقاء خارجا ، وحكموا بكونه تعالى باقيا لذاته لا لامر يقوم به وهو الحق.

واستدل المصنف عليه بوجوه :

الاول : لو كان الله تعالى باقيا ببقاء زائد على ذاته لزم كونه ممكنا ، واللازم باطل فالملزوم مثله. بيان الملازمة : أن ذلك الزائد على الذات مغاير لها ، والفرض افتقارها إليه ، وكل مفتقر الى الغير ممكن ، فلو كان تعالى باقيا ببقاء لكان ممكنا.

الثاني : لو كان باقيا ببقاء زائد على ذاته لزم التسلسل ، واللازم كالملزوم في البطلان. بيان الملازمة : أن ذلك الزائد يستحيل أن لا يكون باقيا ، والا لم تكن الذات باقية ، هذا خلف. واذا كان باقيا كان له بقاء وبقاؤه [باق] أيضا له ببقاء ، ويلزم التسلسل.

الثالث : لو كان الله تعالى باقيا ببقاء لزم : اما عدم بقاء الذات ، أو الدور أو التسلسل ، أو كون الذات صفة وبالعكس ، واللوازم بأسرها باطلة فكذا الملزوم. بيان الشرطية : ان البقاء اما أن يكون باقيا أولا ، فان كان الثاني لزم الامر الاول ، لان الذات انما هي باقية بهذا البقاء وقد فرض غير باق ، فتكون هي غير باقية.

وان كان الاول فاما أن يكون باقيا ببقاء أو لذاته ، فان كان الاول فذلك

٢١٤

البقاء اما أن يكون باقيا بالبقاء الاول أو ببقاء آخر ، فان كان الاول لزم الدور وهو محال ، وهو اللازم الثاني.

وان كان باقيا ببقاء آخر نقلنا الكلام إليه ويلزم التسلسل ، وهو اللازم الثالث.

وان كان باقيا لذاته لزم كون البقاء ذاتا ، لان ذاته كافية في استمرار وجودها والذات ليست كافية في استمرار وجودها ، فتكون الذات أولى بالوصفية ، والوصفية أولى بالذاتية ، فيلزم انقلاب الحقيقة ، وهو اللازم الرابع.

[مسألة نفى المعانى والاحوال]

قال : البحث الثاني ـ في نفي المعاني والاحوال : ذهبت الاشعرية الى أنه تعالى عالم بالعلم ، قادر بالقدرة ، حي بالحياة ، الى غير ذلك من الصفات.

والمعتزلة أنكروا ذلك ، وزعموا أنه تعالى عالم لذاته لا بمعنى قائم بذاته وكذا باقي الصفات ، وهو الحق.

لنا : أنه لا قديم سواه تعالى ، لان كل موجود فهو مستند إليه تعالى ، وقد بينا أنه مختار ، وفعل المختار محدث. ولانه لو افتقر في كونه عالما وغيره الى معان قائمة بذاته ، كان مفتقرا الى الغير منفعلا عنه ، لان هذه المعاني ـ وان قامت بذاته تعالى ـ فهي مغايرة له والله تعالى لا ينفعل عن غيره. ولان صدور العلم عنه يستدعي كونه عالما ، [لانه مشروط] (١) فيكون الشيء مشروطا بنفسه أو يتسلسل.

وأما الاحوال التي أثبتها أبو هاشم فانها غير معقولة. وقد استقصينا (٢) القول

__________________

(١) لم تثبت هذه الجملة في المطبوع من المتن.

(٢) فى المطبوع من المتن : اشبعنا.

٢١٥

في هذه المسألة في كتاب «نهاية المرام في علم الكلام» وكتاب «المناهج».

أقول : المعاني هي مبادي المحمولات ، كالقدرة. يتفرع (١) منها قادر ويحمل على الذات وكالعلم ينتزع منه عالم فيحمل على الذات الى غير ذلك فهل هذه المبادي أمور موجودة قائمة بالذات مغايرة لها ، أو غير ذلك.

اذا عرفت ذلك فنقول : ذهبت الاشاعرة الى أن الله تعالى يوصف بأنه قادر عالم حي وغيرها من صفاته ، لاجل اختصاص ذاته بالعلم والقدرة والحياة وغيرها ، وهي معان قديمة حالة في ذاته ، والقادرية والعالمية أعني التعلق بالمقدور والمعلوم عند نفاة الاحوال منهم هي نفس القدرة والعلم والحياة ، وعند مثبتي الحال منهم هي أحوال معللة بتلك المعاني.

وذهب أبو هاشم وأتباعه الى أنه تعالى يوصف بأنه قادر عالم حي ، لاجل اختصاص ذاته بأحوال هى القادرية والعالمية والحيية والموجودية ، والحال عندهم قد عرفت أنها صفة لموجود لا يوصف بالوجود ولا بالعدم.

وذهبت نفاة الاحوال من المعتزلة والحكماء الى أنه تعالى قادر لذاته عالم لذاته حي لذاته ، لا لاجل المعاني والاحوال. والعلم والقدرة والحياة هي نفس حقيقته المقدسة في الخارج ، ومغايرة لها بحسب الاعتبار ، ومعنى ذلك أن مقتضيات هذه الصفات ، أعنى التمكن من الايجاد بالنسبة الى القدرة ، والظهور والكشف بالنسبة الى العلم ، صادرة عن ذاته لاقتضاء ذاته إياها ، لا بواسطة قيام تلك الصفات بذاته ، فللذات باعتبار صدور الاشياء عنها قدرة ، وباعتبار ظهور الاشياء لها علم الى غير ذلك. وذلك لان الذوات على قسمين : منها ما يقتضي الامور المذكورة لا لقيام أمر آخر ، ومنها ليس كذلك.

ولنوضح لذلك مثالا محسوسا ، وهو أن النور اذا وقع على الجدار مثلا

__________________

(١) فى «ن» : ينتزع.

٢١٦

ظهر لنا الجدار والنور معا ، لكن ظهور الجدار بواسطة وقوع النور عليه ، وظهور النور لا بواسطة قيام نور آخر [به] بل بذاته ، فكذلك ذات الله تعالى ، وذات غيره بالنسبة الى الصفات ، وهذا هو الحق.

وقد استدل المصنف على حقيقته بوجوه : الاول : أنه لو كانت هذه الصفات موجودة في الخارج لزم اثبات قديم سواه ، واللازم باطل فكذا الملزوم. أما الملازمة فظاهرة. وأما بطلان اللازم فلان كل ما عداه ممكن ، لما يأتي من دلائل التوحيد ، وكل ممكن مستند إليه وهو مختار لما تقدم ، وفعل المختار محدث لما تقدم أيضا ، فكل ما سواه محدث فلا قديم سواه.

الثاني : لو كان له تعالى صفة زائدة على ذاته لزم افتقاره الى الغير ، وهو باطل لما يأتي. وبيان الملازمة ظاهرة ، لان الفرض توقف أفعاله تعالى على تلك الصفات ، وهي وان كانت قائمة به تعالى ، لكنها مغايرة لذاته ، لتعقل كل منهما منفكا عن الاخر ، فيلزم افتقاره الى الغير ، فيكون منفعلا عنه ، هذا خلف.

الثالث : لو كان له صفة زائدة لزم : اما الدور أو التسلسل ، واللازم بقسميه باطل فكذا الملزوم. بيان الشرطية : أن الصفة مفتقرة الى الذات ، والذات غيرها ، وكل مفتقر الى الغير ممكن مستند إليه كما تقدم ، وهو فاعل مختار ، ففعله بواسطة القدرة والعلم ، فتكون تأثيره في القدرة والعلم مشروطا بقدرة وعلم. فاما أن يكون مشروطا بقدرة أخرى وعلم آخر أولا ، فان كان الاول لزم التسلسل ، لانا ننقل الكلام إليهما ونقول كما قلنا في الشروط ، وان كان الثاني لزم الدور ، لانه اشتراط الشيء بنفسه.

وأما مذهب أبي هاشم فيكفي في ابطاله عدم تعقله لما تقدم من نفي الاحوال.

٢١٧

[كيفية اتصافه تعالى بالارادة]

قال : البحث الثالث ـ في أنه تعالى مريد لذاته : ذهب الجبائيان الى أنه تعالى مريد بإرادة محدثة لا في محل. وذهب الاشعرية الى أنه مريد بإرادة قديمة قائمة بذاته.

والقولان باطلان : أما الاول فلان قيام إرادة بذاتها غير معقول ، ولان حدوثها يستدعي إرادة أخرى ويتسلسل. وأما الثاني فلما تقدم من نفي المعاني ، ولا يلزم من كونه تعالى مريدا لذاته كونه مريدا للمتناقضين ، لجواز تعلق ارادته ببعض المرادات لذاتها.

أقول : اختلف المتكلمون في كيفية اتصافه تعالى بالارادة ، فذهب الجبائيان وأتباعهما الى أنه مريد بإرادة محدثة لا في محل. وذهبت الاشاعرة الى أنه مريد بإرادة قديمة قائمة بذاته.

احتج الجبائيان ، بانه لا جائز أن يكون مريدا لذاته ، والا لكان مريدا لجميع الاشياء ، لان نسبة ذاته الى الجميع بالسوية ، فيلزم أن يكون مريدا للمتناقضات واذا تعلقت ارادته تعالى بشيء وجب وقوعه ، فيجتمع النقيضان ، هذا خلف. ولا جائز أن يكون مريدا بإرادة قديمة ، والا لزم قدم المراد ، وأيضا لا قديم سواه فبقي أن يكون مريدا بإرادة محدثة ، فلا جائز أن تكون قائمة بذاته ، لاستحالة كونه محلا للحوادث ولا بغيره ، والا لزم رجوع حكمها الى الغير ، لوجوب رجوع حكم العرض الى محله ، فبقي أن تكون قائمة بذاتها ، وهو المطلوب.

واحتج الاشاعرة : بأنه ليس مريدا لذاته لما تقدم ، ولا بإرادة محدثة قائمة به أو بغيره لما تقدم أيضا ، ولا في محل لعدم تعقله ، فبقي أن يكون مريدا بإرادة قديمة ، وذلك هو المطلوب.

٢١٨

وذهب المحققون الى بطلان القولين معا ، واستدل على بطلان مذهب الاول بوجهين:

الاول : أن قيام إرادة بذاتها غير معقول ، لانها عرض ولا شيء من العرض يقوم بذاته.

الثاني : أن كل محدث مفتقر الى محدث مختار ، وفعل المختار مشروط بالارادة ، فاما أن تكون مشروطة بإرادة أخرى فيلزم التسلسل ، أولا بإرادة أخرى فيلزم الدور.

وعلى بطلان مذهب الآخرين بما تقدم من نفي المعانى. وأما قولهم «لو كان مريدا لذاته لزم اجتماع النقيضين» ممنوع ، لجواز تعلق ارادته ببعض المرادات دون بعض لذاتها لا بد لنفيه من دليل.

[الدليل على حدوث كلامه تعالى]

قال : البحث الرابع ـ في أن كلامه حادث : الاشاعرة منعوا من ذلك. والحنابلة أيضا ـ مع اعترافهم بأن الكلام هو الحروف والاصوات ـ ذهبوا الى قدمه.

لنا : أنه مركب من حروف متتالية يعدم السابق منها بوجود اللاحق ، والقديم لا يعدم ولا يقع مسبوقا بغيره ، فالسابق واللاحق محدثان. ولان الاخبار بارسال نوح في الازل اخبار عن الماضي ، ولا سابق في الازل. ولان أمر المعدوم عبث. ولقوله تعالى (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) (١).

أقول : قد تقدم البحث في كلامه ، وذكرنا ما أمكن ذكره من جهة الاشاعرة والمعتزلة. وذكر المصنف هنا الاستدلال على كونه تعالى حادثا ، وهو مذهب

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢.

٢١٩

المعتزلة والكرامية ، خلافا للاشاعرة والحنابلة ، لكن ما ذكروه لا يدفع به مذهب الاشاعرة ، لما نقلنا عنهم من أنهم لا ينفون الكلام الحسي ، بل المدعى قدمه عندهم هو المعنى ، وذلك لا يبطل بما قاله ، بل بما تقدم. بل يبطل به مذهب الحنابلة ، وهو من وجوه :

الاول : مركب من الحروف المتتالية التي كل واحد منها يلحقه العدم ، ولا شيء من القديم يجوز عليه العدم ، وأيضا اللاحق مسبوق بالسابق ، ولا شيء من القديم بمسبوق بغيره.

الثاني : لو كان كلامه تعالى قديما لزم كذبه ، واللازم باطل فالملزوم مثله. بيان الملازمة: أنه أخبر عن ارسال نوح عليه‌السلام بقوله تعالى (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً) (١) والاخبار مسبوق بوقوع النسبة في الخارج في زمان سابق على زمان الاخبار ، فلو كانت هذه الصيغة قديمة لوجب أن يكون ثم زمان سابق على الازل ، مع أنه لا سابق على الازل ، فيكون كذبا.

الثالث : من جملة كلامه تعالى صيغ الامر والنهي ، فتكون أزلية ، لكن ذلك محال ، لكونه أمرا ونهيا للمعدوم ، وهو عبث قبيح مستحيل عليه تعالى ، فلو كان كلامه أزليا لكان عابثا ، تعالى الله عن ذلك.

الرابع : أنه تعالى وصف كلامه بالحدوث ، فيكون حادثا. أما الاول فلقوله تعالى (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) (٢) والذكر هو القرآن لقوله تعالى (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) (٣) و (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا

__________________

(١) سورة نوح : ١.

(٢) سورة الأنبياء : ٢.

(٣) سورة الزخرف : ٤٤.

٢٢٠