ارشاد الطالبين الى نهج المسترشدين

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

ارشاد الطالبين الى نهج المسترشدين

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٦

ونقول فيه كما قلنا في الوجود الاول ، ويلزم وجود الماهية مرات غير متناهية متسلسلا ، وهو محال.

فقد بان أنه لو كان وجوده زائدا على حقيقته لزم أحد هذه اللوازم الستة أو اثنان منها ، وكل واحد واحد منها محال على حدته ، فملزومها كذلك ، وهو المطلوب.

احتج القائلون بالزيادة على حقيقته : بأن ماهيته غير معلومة ووجوده معلوم فماهيته غير وجوده ، لان المعلوم مغاير لما هو غير معلوم ، أما أن ماهيته غير معلومة فلما يأتي ، وأما أن وجوده معلوم ، فلان وجوده هو الوجود المشترك العام ، وهو من المعلومات البديهية كما تقدم ، فيكون زائدا عليها وهو المطلوب.

والجواب : أن الوجود المعلوم هو الوجود المشترك المقول بالتشكيك على وجوده الخاص وعلى وجود الممكنات ، وهو خارج عن وجوده الخاص ووجود الممكنات ، لان القول بالتشكيك على الجزئيات يكون خارجا عنها ، لعدم كونه نفسها أو جزؤها ، لاستحالة التفاوت في الماهية وأجزائها ، والوجود المدعى كونه عين حقيقته التي هي غير معلومة هو وجوده الخاص به القائم بذاته الذي يستحيل حمله على غيره.

ولا يلزم من مغايرة الوجود العام الحقيقية مغايرة الوجود الخاص الذي هو معروض له ، والحاصل أن للواجب تعالى وجودين ، كما أشرنا إليه في أول هذا الشرح : أحدهما شامل له ولغيره من الموجودات ، وذلك هو المعلوم والثاني مختص به ، وذلك غير معلوم.

[كونه تعالى أزلى أبدى]

قال : وهو أزلي أبدي ، لاستحالة تطرق العدم إليه ، والا لكان ممكنا.

١٨١

اقول : الازلي هو الذي لا أول لوجوده ، والابدي هو الذي لا آخر لوجوده.

اذا تقرر هذا فنقول : لو لم يكن الباري أزليا أبديا لتطرق العدم إليه ، اما قبل وجوده على تقدير نفي الازلية ، أو بعد وجوده على تقرير نفي الابدية ، وكلما تطرق العدم إليه يكون ممكنا ، فلو لم يكن الباري أزليا وأبديا لكان ممكنا ، لكن ثبت أنه واجب الوجود ، هذا خلف.

[اثبات القدرة للبارى تعالى]

قال : البحث الثاني ـ في أنه تعالى قادر خلافا للفلاسفة :

لنا أنه لو كان موجبا لزم قدم العالم ، والتالي باطل فالمقدم مثله. بيان الشرطية : أنه ان كان موجبا لذاته استحال تأخر معلوله عنه على ما تقدم ، وان كان بشرط فذلك الشرط ان كان قديما لزم قدم العالم ، لان عند حصول العلة وشرطها يجب المعلول ، وان كان حادثا نقلنا الكلام إليه ويتسلسل ، وهو محال.

أقول : لما فرغ من اثبات الذات شرع في اثبات الصفات ، وابتدأ بالصفات الثبوتية لكونها وجودات والسلبية أعداما ، والوجود أشرف من العدم ، والاشرف مقدم على غيره ، وليس مرادنا بكونها وجودات كونها ثابتة في الخارج ، بل المراد [بها] ما تقابل السلبية ، أعم من أن تكون ثابتة في الخارج أو في الذهن.

وابتدأ بالقدرة لتوقف أصل الايجاد عليها ، فاما العلم فيتوقف بعد ايجاد الفعل على أحكامه ، ولذلك ذكر العلم بعد القدرة ، وقد عرفت من قبل تعريف القادر المختار والفاعل الموجب.

ونقول في بسطه هنا أن الفاعل اذا صدر عنه الفعل : فاما مع جواز أن لا

١٨٢

يصدر عنه ذلك الفعل بعينه وله داع الى الطرفين ، أو مع امتناع أن لا يصدر عنه ذلك الفعل أيضا بعينه ولا داعي له الى الطرفين. فالاول هو الفاعل المختار كالانسان في حركاته المنسوبة إليه من قيامه وقعوده وأمثالهما.

والثاني هو الموجب ، كالنار في احراقها والشمس في اشراقها. فظهر الفرق بين المختار والموجب من وجوه :

الاول : ان المختار يمكنه الفعل والترك بالنسبة الى فعل واحد ، والموجب بالنسبة الى فعلين.

الثاني : ان المختار يجوز تأخر فعله عنه ، والموجب يمتنع تأخر فعله عنه.

الثالث : وجوب كون المختار عالما بفعله ، بخلاف الموجب.

واعلم أنه قد اشتهر بين القوم ـ أعني المتكلمين ـ أن الفلاسفة قائلين بايجاب الله تعالى بالمعنى المذكور ، والمحققون ينفون صحة هذا النقل عنهم ويقولون بأنهم يقولون باختياره تعالى.

وقد حقق المحقق الطوسي ـ قدس الله نفسه ـ موضع الخلاف بين الفريقين في تصانيفه وقال : ان الحكماء يقولون كل فاعل فعل بإرادة مختار ، سواء قارنه فعله في زمانه أو تأخر عنه.

وموضع الخلاف بين الحكماء والمتكلمون في الداعي ، وذلك لان الحكماء يجوّزون تعلق الداعي بالموجود ، ومع انضمامه الى القدرة يجب وقوع الفعل وحيث القدرة والداعي أزليان فالفعل أزلي ، فمن ثم قالوا بقدم العالم.

والمتكلمون يقولون انه لا يدعو الا الى معدوم ليصدر عن الفاعل وجوده بعد الداعي بالزمان أو تقدير الزمان ، ويقولون ان هذا الحكم ضروري ، اذ لو دعى الى الموجود لزم تحصيل الحاصل ، وهو محال.

اذ تقرر هذا فنقول : استدل المصنف على كونه تعالى مختارا بما تقريره :

١٨٣

انه لو لم يكن الباري تعالى مختارا لكان موجبا ، وكلما كان موجبا كان العالم قديما ، لكن ثبت أن العالم ليس بقديم ، فلا يكون الباري تعالى موجبا فيكون مختارا وهو المطلوب.

أما الصغرى : أعني الشرطية الاولى فلعدم الواسطة بين المختار والموجب لما عرفت.

وأما الكبرى : اعني الشرطية الثانية ، أعني كلما كان موجبا كان العالم قديما ، فلانه : اما أن يكون موجبا لذاته أي من غير توقف على شرط ، او لا لذاته بل متوقفا على شرط ، فان كان الاول لزم قدم أثره ويستحيل تأخره عنه ، لما عرفت من وجوب وجود المعلول عند وجود علته التامة ، فيستحيل تأخر العالم عنه ، وحيث قد ثبت قدم الباري لزم كون العالم قديما.

وان كان الثاني : فاما ان يكون ذلك الشرط قديما او حادثا ، فان كان قديما لزم القدم أيضا ، لان عند وجود العلة وشرطها يجب وجود المعلول ، وحيث هما قديمان فالمعلول قديم أيضا.

وان كان حادثا نقلنا الكلام إليه وقلنا حيث هو مستند الى الله تعالى ، فاما أن يكون تأثيره فيه لذاته أو بشرط قديم ، فيلزم قدم العالم أيضا ، أو بشرط حادث وننقل الكلام وهلم جرا ويلزم التسلسل.

[حجة القائلين بالايجاب وجوابهم]

قال : احتجوا : بأن العالم قديم ، فالباري تعالى موجب. والملازمة ظاهرة ، وأما بيان المقدم فلان كل ما يتوقف عليه التأثير ان كان قديما لزم القدم والا لزم الترجيح من غير مرجح ، وان كان حادثا تسلسل.

والجواب : المنع من صدق المقدم ، وقد تقدم. والملازمة الثانية ممنوعة

١٨٤

لانها انما تتم في حق الموجب ، أما في حق المختار فلا.

أقول : لما ذكر الدليل على نفي كونه تعالى موجبا أشار الى حجة القائلين بالايجاب ، وهم الفلاسفة على ما هو المشهور والجواب عنها ، وتقرير حجتهم : أنه كلما كان العالم قديما كان المؤثر فيه ، وهو الله تعالى موجبا ، لكن المقدم حق فالتالي مثله.

أما الملازمة فظاهرة. لاستحالة كون القديم أثر المختار ، لما قررتموه من أن الداعي لا يتوجه الا الى المعدوم ، فيكون المؤثر فيه موجبا ، وهو المطلوب ، اذ لا واسطة بينهما.

وأما حقيقة المقدم فلان كلما يتوقف عليه التأثير في وجود العالم اما أن يكون قديما أو حادثا ، فان كان قديما لزم قدم العالم ، لان عند وجود العلة التامة يجب وجود المعلول ، اذ لو جاز عدمه حينئذ فلنفرض عدمه في ذلك الوقت ووجوه في وقت آخر ، فاختصاص أحد الوقتين بالوجود والاخر بالعدم ، اما أن يفتقر الى مرجح غير الاول أو لا ، فان أفتقر الى مرجح لم يكن كلما لا بد منه في التأثير حاصلا أزلا ، والفرض أنه حاصل ، هذا خلف.

وان كان الثاني أي لا يفتقر الى مرجح لزم الترجيح بغير مرجح ، وهو محال ، اذ لو جوزنا ذلك لزم استغناء العالم عن المؤثر لجواز ترجيح أحد طرفي الممكن على الاخر لا لمرجح ، ولانسد باب اثبات الإرادة له تعالى ، اذ مبنى دليلكم في اثباتها على امتناع الترجيح بلا مرجح ، وان كان حادثا أفتقر الى مؤثر ، فان كان قديما لزم قدم الحادث ، والا لزم الترجيح بلا مرجح كما بيناه ، وان كان حادثا أفتقر الى مؤثر ويلزم التسلسل.

والجواب : المنع من صدق المقدم أعني كون العالم قديما ، وسند المنع ما تقدم من الدلالة على حدوثه.

١٨٥

قوله «وكلما يتوقف عليه التأثير في وجود العالم ان كان قديما لزم التقدم» قلنا : ممنوع ، وإليه أشار بقوله «والملازمة الثانية ممنوعة ، لان ذلك انما يتم في حق الموجب ، أما في حق المختار فلا» اذ لا يلزم من وجود القادر المختار وجود أثره معه ، لجواز أن يخصصه بوقت دون وقت لا لامر ، بخلاف العلة الموجبة التي لا يجوز تخلف أثرها عنها.

قوله «يلزم استغناء العالم عن المؤثر الخ» قلنا : ممنوع ، فان ترجيح أحد الطرفين المتساويين على الاخر من غير مرجح محال ، وذلك يلزم من تجويزه انسداد باب اثبات الصانع ، أما ترجيح الفاعل المختار أحد طرفي فعله على الاخر لا لمرجح فلا نسلم أنه محال ، وسنده الا مثلة التي توردها المشايخ ، وهي الجائع الذي يحضره رغيفان متساويان ، والعطشان الذي يحضر اناء آن متساويان ، والهارب الذي يحضره طريقان متساويان ، فانه يختار أحدهما على الاخر ، مع أنه لا تخصيص (١) هناك ، لان المخصص هو العلم بمزية أحدهما على الاخر ، والعلم منتف ، فالمخصص منتف ، والمزية في نفس الامر لا يصلح للمخصصية ، هذا تقرير ما ذكره المصنف من الجواب ، وهو جواب البصريين من المعتزلة.

وفيه نظر ، لان الضرورة قاضية ببطلان الترجيح من غير مرجح مطلقا ، والامثلة المذكورة لا تنفع هنا ، اذ عدم العلم بالمخصص لا ينفي المخصص مطلقا ، مع أنا نمنع عدم المخصص في تلك المواضع ، اذ ميل الفاعل فيما ذكروه الى أحدهما صالح للتخصيص.

وحينئذ نقول في الجواب عن أصل الشبهة : انا نختار افتقاره الى المخصص وهو العلم الازلي باشتمال الفعل على مصلحة لا تحصل الا في ذلك الوقت ،

__________________

(١) فى «ن» : مخصص.

١٨٦

وحينئذ لم يحصل العالم أزلا وان كانت شرائط المؤثرية أزلية ، مع أنا نقول : ان دليلكم هذا معارض بالحادث اليومي.

وتقريره أن نقول : الحادث اليومي موجود محدث ، فلا بد له من مؤثر ، فكل ما لا بد له منه في وجوده : اما أن يكون قديما أو حادثا ، فان كان قديما لزم قدم الحادث اليومي وهو محال ، وان كان حادثا لزم التسلسل ، فما هو جوابكم عن الحادث اليومي فهو جوابنا عن العالم.

[تعلق قدرته تعالى بجميع المقدورات]

قال : تنبيه : قدرته تعالى يصح تعلقها بجميع المقدورات ، خلافا لاكثر الناس. لان المقتضي لتعلق القدرة بالمقدور انما هو الامكان ، وهو ثابت في كل ما سوى الله تعالى ، فيصح قدرته تعالى بالجميع.

أقول : لما بين وجوب كونه تعالى قادرا ، شرع في حكم قدرته ، فقال : قدرته تتعلق بجميع المقدورات ، وهو مذهب الاشاعرة وجماعة من المعتزلة والامامية ، وخالف كثير من الناس [في ذلك].

فان الحكماء منعوا من قدرته على أكثر من الواحد ، وحكموا بأنه لا يصدر عنه بذاته الا شيء واحد ، وهو العقل ، وقد تقدم حجتهم على ذلك والجواب عنها.

وجماعة من المتكلمين ذهبوا الى سلب قدرته عن أشياء سيأتي ذكرها وذكر حججهم والجواب عنها مفصلة.

والدليل على ما ذكره المصنف من عموم قدرته هو أن نقول : ان ثبت كونه قادرا على بعض المقدورات وجب أن يكون قادرا على كل المقدورات ، لكن المقدم ثابت باعتراف الخصم ، فالتالي مثله في الثبوت.

١٨٧

بيان الشرطية : هو أن ما لأجله صح أن يكون ذلك البعض مقدورا هو الامكان ، لاستحالة كون الواجب والممتنع مقدورا عليهما ، والامكان وصف مشترك بين ما عدا ذاته المقدسة لما سيأتي من دليل ، وحده الواجب ، فيكون الكل مشتركا في صحة المقدورية ، فلو كان قادرا على البعض دون البعض لكان المخصص :

اما ذات المقدور وهو باطل ، لما بينا من أن المقتضي للمقدورية مشترك ، فتكون المقدورية مشتركة ، أو ذات الواجب تعالى وهو باطل أيضا ، لكونها مجردة متساوية [بالنسبة] الى الجميع ، فاذا انتفى المخصص بالنسبة الى المقدور وبالنسبة الى ذاته تعالى وجب أن يكون قادرا على الكل ، والا لزم التخصيص من غير مخصص وهو محال.

[مذهب النظام على عدم قدرته تعالى على القبيح وجوابه]

قال : وخالف النظام في ذلك ، حيث منع من قدرته تعالى على القبيح ، لانه يستلزم الجهل أو الحاجة ، وهما منتفيان في حقه تعالى.

والجواب : أنهما لازمان للوقوع لا القدرة ، فالامتناع من حيث الحكمة.

أقول : لما أثبت عموم قدرته شرع في بيان المذاهب الباطلة في هذا الباب وذكر حججها ونسخها ، فمنها مذهب النظام وهو : أن الله تعالى لا قدرة (١) له على القبيح ، واستدل عليه بأنه لو كان قادرا على القبيح لزم كونه جاهلا أو محتاجا ، واللازم محال بقسميه فكذا الملزوم.

بيان الملازمة : أنه لو صح قدرته عليه لكان ممكنا بالنسبة إليه ، والممكن لا يلزم من فرض وقوعه محال. فلنفرض ذلك القبيح واقعا ، فاما أن يكون عالما بقبحه أولا.

__________________

(١) فى «ن» : لا يقدر.

١٨٨

فان كان الثاني يلزم كونه تعالى جاهلا.

وان كان الاول لزم احتياجه تعالى إليه ، اذ لو لم يكن محتاجا إليه لما صدر عنه ، لان الغني عن الشيء العالم بقبحه لا يفعله اذا كان حكيما ، والباري تعالى حكيم فلو وقع منه لما كان ذلك الا لحاجة إليه ، فقد بانت الملازمة.

وأما بطلان محالية اللازم فلما يأتي من الدلالة على كونه تعالى عالما بكل المعلومات غني عما عداه.

والجواب : لا يلزم من كون الشيء مقدورا أن يكون واقعا ، لجواز كون الشيء ممكنا لذاته غير واقع ، والجهل والحاجة المذكوران لا زمان لوقوع القبيح لا لمقدوريته ، فان الواحد منا قادرا على القبيح ولا يقع منه ، لعدم الداعي إليه ، نعم يمتنع وقوع القبيح منه تعالى ، لاستلزامه الجهل أو الحاجة المستحيلان عليه.

قوله «والامتناع من حيث الحكمة» اشارة الى جواب سؤال مقدر تقريره : ان صدور القبيح اذا كان ممتنعا منه تعالى كما ذكرتم لا يكون قادرا عليه ، اذ لا شيء من الممتنع بمقدور.

أجاب بأن القبيح له اعتباران : أحدهما بالنظر الى ذاته ، وثانيهما بالنظر الى حكمته تعالى ، فالاول هو ممكن ، وبهذا الاعتبار يكون مقدورا ، وبالثاني هو ممتنع وامتناعه من حيث الحكمة لا من حيث كونه ممتنعا في نفسه.

[مذهب العباد في عدم قدرته تعالى على خلاف معلومه]

قال : وخالف عباد ، حيث حكم بأن ما علم الله تعالى بوقوعه فهو واجب ، وما علم بعدمه فهو ممتنع ، ولا قدرة على الواجب والممتنع.

والجواب : أن العلم بالوقوع تابع للوقوع ، فلا يؤثر في امكانه الذاتي.

١٨٩

وقد أوضحنا هذا الكلام في كتاب «النهاية».

اقول : من المذاهب الباطلة مذهب عباد بن سليمان الصيمري ، وهو أن الله تعالى لا يقدر على خلاف معلومه.

وتقرير حجته : أن ما علم الله وقوعه وجب وقوعه ، وما علم عدمه امتنع وقوعه ، اذ لو يقع ما علم وقوعه أو وقع ما علم عدمه لزم انقلاب علمه تعالى جهلا ، وانقلاب علمه تعالى جهلا محال ، فيكون خلاف ما علم وقوعه ممتنعا ، وخلاف ما علم عدمه واجبا ، فيصدق قياس هكذا : خلاف معلومه واجب أو ممتنع ، ولا شيء من الواجب والممتنع مقدورا عليهما ، فلا شيء من خلاف معلومه مقدورا عليه.

أمّا الصغرى فلما قررناه ، وأما الكبرى فلان متعلق القدرة يصح وجوده ويصح عدمه ، والواجب لا يصحّ عدمه والممتنع لا يصح وجوده ، فلا قدرة عليهما.

والجواب (١) من وجوه : الاول : انه يلزم من دليلكم هذا أن لا يكون له تعالى مقدورا أصلا فضلا عن غير الله ، لان الشيء اما معلوم الوجود أو معلوم العدم ، ونقيض الاول ممتنع ، فيكون هو واجب ، ونقيض الثاني واجب فيكون هو ممتنعا ، والواجب والممتنع لا يقدر عليهما ، فلا قدرة حينئذ.

الثاني : ان أوسط القياس غير متحد في المقدمتين ، فان الواجب والممتنع في الصغرى هما الحاصلان بالغير ، وهو متعلق العلم بنقيضهما وفي الكبرى الذاتيان ، فان المنافي للقدرة هو الوجوب الذاتي والامتناع الذاتي ، فاذا لم يتحد أوسط القياس لم يحصل الانتاج.

__________________

(١) فى تقويم اللسان : الجواب لا يجمع ولا يثنى ، فلذلك قال : الجواب من وجوه.

كذا في هامش نسخة الاصل.

١٩٠

الثالث : ان العلم تابع ، ولا شيء من التابع بمؤثر ، فلا شيء من العلم بمؤثر ، واذا لم يكن العلم مؤثرا لم يتغير الشيء عن امكانه الذاتي الى الوجوب أو الامتناع.

أما الصغرى فلانه مثال للمعلوم وحكاية عنه ومطابق له ، والاصل في المطابقة هو المعلوم ، فيكون العلم تابعا لوقوعه ووقوعه تابع للقدرة عليه.

وأمّا الكبرى فلان التابع متأخر ولا شيء من المؤثر بمتأخر ، فلو فرض مؤثرا لزم كونه متقدما متأخرا معا وهو محال.

وفي صغرى هذا الجواب نظر ، فانه انما يتم في العلم الانفعالي لا في غيره وعلم الله تعالى فعلي.

[مذهب الكعبى في عدم قدرته تعالى على

مثل مقدور العبد]

قال : وخالف الكعبي ، حيث زعم (١) أن الله تعالى لا يقدر على مثل مقدور العبد ، لانه اما طاعة أو سفه ، وهما مستحيلان عليه تعالى.

والجواب : أن الطاعة والسفه وصفان عارضان للفعل لا يوجبان له المخالفة الذاتية.

اقول : من المذاهب الباطلة مذهب أبي القاسم الكعبي ، ويقال له البلخي أيضا ، وهو أنه لا يقدر على مثل مقدور العبد ، واستدل على ذلك : بأن فعل العبد اما طاعة أو سفه أو عبث ، لانه اما أن يقع لغرض أولا ، والثاني عبث ، والاول اما أن يقع موافقا للاوامر الشرعية أولا ، والاول طاعة ، والثاني سفه ، ففعل العبد

__________________

(١) فى «ن» : حكم.

١٩١

لا يخلو عن أحد هذه الثلاثة ، فلو قدر الله تعالى على مثله لوصف فعله بالطاعة والسفه والعبث.

والاول يستلزم أن يكون له تعالى أمر وهو محال ، والاخيران قبيحان والقبيح مستحيل عليه ، فلا يقدر على مثل مقدور العبد ، وهو المطلوب.

والجواب : ان المثلين كما عرفت من قبل ، هما المتحدان في الحقيقة ، كحركة الحبل وحركة اليد ، فان حقيقة الحركة فيهما واحدة ، فالفعلان متوافقان في الحقيقة ، ولا يلزم من ذلك توافقهما في العوارض ، والطاعة والسفه والعبث أوصاف عارضة للفعل لا توجب له مخالفة ذاتية.

واعترض المحقق العلّامة نصير الدين القاشي (قدس الله تعالى روحه) على هذا الجواب ، بأنه لو كان مراد المستدل أنه لا يقدر على مثل فعل العبد مع صفاته التي لا يمكن وقوعه منه بدونها لا ينهض الجواب المذكور ، بل الجواب أنه ان أراد بالعبث ما ليس بطاعة منعنا عدم جوازه من الله تعالى ، فان أفعاله كلها كذلك ، وان أراد الفعل الذي ليس له غاية صحيحة شرعا وعقلا فالحصر ممنوع ، فان المباحات كلها ليست طاعة ، ولا عبثا ولا سفها بهذا التفسير ، سلمنا الحصر لكن لا نسلم أنه لا يقدر على الطاعة والسفه والعبث فانها ممكنة ، وكل ممكن مقدور له ، لكن الصارف يصرفه عن ذلك ، ولا يلزم من ذلك عدم القدرة.

[مذهب الجبائيان في عدم قدرته تعالى

على عين مقدور العبد]

قال : وخالف الجبائيان ، حيث حكما بأن الله تعالى لا يقدر على عين

١٩٢

مقدور العبد ، والا لزم اجتماع النقيضين اذا أراده الله تعالى وكرهه العبد أو بالعكس.

والجواب : اذا أضيف الفعل الى أحدهما استحال ـ من تلك الحيثية ـ اضافته الى الاخر ، وهو قبل اعتبار الاضافة يمكن استناده الى كل منهما على البدل.

اقول : من المذاهب الباطلة مذهب الجبائيين أبو علي وابنه أبو هاشم وجماعة من المعتزلة ، وهو أنه تعالى لا يقدر على عين مقدور العبد وان قدر على مثله ، وتابعهما في ذلك السيد المرتضى والشيخ أبو جعفر الطوسي.

واستدلوا على ذلك : بأنه لو قدر على عين مقدور العبد اجتمع قادران على مقدور واحد ، وهو باطل.

أما الشرطية فظاهرة ، وأما بطلان التالي فلانه لو اجتمع على مقدور واحد قادران اجتمع النقيضان ، واللازم باطل فكذا الملزوم.

بيان الملازمة : ان المقدور من شأنه الوقوع عند داعي القادر عليه والبقاء على العدم عند وجود صارفه ، فلو كان مقدور واحد واقعا من قادرين وفرضنا وجود داعي أحدهما ووجود صارف الاخر في وقت واحد ، لزم أن يوجد بالنظر الى الداعي وأن يبقى على عدمه بالنظر الى الصارف ، فيكون موجودا غير موجود ، وهما متناقضان ، هذا خلف.

والجواب : أن كون المقدور مشتركا انما يمكن اذا أخذ غير مضاف الى أحدهما ، أما بعد الاضافة الى أحدهما ، فيمتنع فيه الاشتراك من حيث تلك الاضافة ، فالمقدور غير المضاف يمكن اضافته الى كل واحد منهما على سبيل البدل ، وهو المراد من كون مقدور أحدهما مقدورا للآخر ، وحينئذ لا يلزم اجتماع النقيضين ، لان بقاء المقدور على العدم عند وجود صارف قادر معين

١٩٣

ممنوع ، بل عند ارتفاع مطلق الداعي ووجوب الصوارف كلها ، وليس الامر كذلك فيما نحن فيه.

وفي هذا نظر : أما أولا فلان الفعل قبل الانضياف الى أحدهما لا يكون عين مقدور أحدهما ، بل كما يصح اضافته الى أحدهما يصح اضافته الى الاخر وحينئذ تتعلق قدرة كل واحد منهما بمثل مقدور الاخر لا بعين مقدوره ، وليس هو موضوع المسألة.

وأما ثانيا : فان الصارف ليس هو عدم الداعي ، بل كما أن الداعي معنى موجود في القادر بانضيافه الى القدرة ، يصير القادر سببا تاما لوجود المراد ، وكذلك الصارف معنى موجود في القادر بانضيافه الى القدرة ، يصير القادر سببا تاما لانعدام المكروه ، وعدم الداعي لازم له. ولما كان الحال كذلك فجعل أحدهما موجبا لما يتعلق به من دون الاخر تحكم.

بل الجواب : انه يقع فعل أقوى القادرين ، كما اذ أراد الله تعالى فعلا وكرهه العبد ، ومنع قوة القادر القوي القادر الاخر لا يخرجه عن قادريته ، اذ فعل القادر مشروط بعدم المانع.

[الدليل على أنه تعالى عالم]

قال : البحث الثالث ـ في أنه تعالى عالم : ويدل عليه أنه تعالى فعل الافعال المحكمة المتقنة ، وكل من كان كذلك فهو عالم. والمقدمتان ضروريتان.

ولانه تعالى مختار ، وكل مختار عالم ، اذ المختار انما يفعل بواسطة القصد والاختيار ، وهو مسبوق بالعلم بالضرورة.

أقول : لما فرغ من بحث القدرة شرع في بحث العلم ، واتفق العقلاء على كونه تعالى عالما ، وخالف في ذلك جماعة من الفلاسفة سيأتى البحث معهم وقبل الخوض في الدلالة على هذا المطلوب نبين المراد من كونه عالما.

١٩٤

فنقول : ان الانسان الذي لم يكن عالما بالمسألة ثم ظهرت له ، يحصل له حالة لم تكن حاصلة من قبل ، وهي ظهور المسألة له. فالعلم عبارة عن ظهور الاشياء وانكشافها للنفس ، وعلم الله تعالى بالاشياء عبارة عن ظهورها له وانكشافها لا بمعنى أنها لم تكن ظاهرة ثم ظهرت وانكشفت ، بل بمعنى أنها ظاهرة لذاته غير غائبة أزلا وأبدا. ولا يتغير ذلك الانكشاف والظهور ، فيعلم الثابت ثابتا والمتغير حاصلا في حينه غير حاصل في غيره من الاحيان ، «فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الارض ولا في السماء» (١) ، من غير أن يحصل لذاته المقدسة حلول صفة فيها ، أو تغير من حال الى حال.

اذا عرفت هذا فاعلم أن المصنف استدل على كونه عالما بوجهين :

الاول : أنه فعل أفعالا محكمة متقنة ، وكل من كان كذلك فهو عالم ، فالله تعالى عالم ، والمتقدمتان ضروريتان.

أما الصغرى : فالحس يدل عليها ، لان المراد بالاحكام هو الترتيب العجيب والتأليف اللطيف المستجمع لخواص كثيرة ، المشتمل على منافع (٢) عظيمة وذلك ظاهر في العالم فانه اما فلكي أو عنصري ، والاحكام ظاهر في القسمين.

أما الفلكي فبين لمن تأمل خلق الافلاك ونضدها وترتيبها ، وما يترتب على حركاتها من وجود الليل والنهار ، وما يحصل فيهما من الافعال العجيبة.

وأما العنصري فلانه اما بسائط أو مركبات ، والاحكام أيضا ظاهر في القسمين ، خصوصا في بنية الانسان ، كما قال الله تعالى (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (٣) وذلك بين لمن نظر في علم التشريح.

__________________

(١) اقتباس من سورة يونس : ٦١.

(٢) فى «ن» فوائد.

(٣) سورة الذاريات : ٢١.

١٩٥

وأما الكبرى : فبديهية ، لان بديهة العقل حاكمة بأن أمثال ذلك لم يصدر الا عمن له علم ، وان صدر فلا يمكن أن يتكرر منه مرة بعد أخرى ، فان من يكتب مرارا خطا حسنا لا يمكن أن يتصور أنه أمي جاهل بالخط ، مع أنه لا نسبة لما في ذلك الخط من الاحكام والاتقان الى ما في أقل شيء من أفعال الله تعالى فاذا كان العلم الضروري حاصل هناك فهنا أولى.

ان قلت : الكبرى منقوضة بالنحل فانه يبني بيتا مسدسا تعجز عنه الحذاق في الهندسة ، والعنكبوت فانه يبني بيتا في غاية الاحكام ، والنمل فانه يصدر عنه أفعال محكمة ، وسائر الحيوانات فانه يصدر عنه أفعال عجيبة لطيفة ، مع أنه لا شيء منها بعالم. وينتقض أيضا بالمحتدي (١) لفعل غيره ، كمن ينقش نقشا محكما محتديا بنقش النقاش ، فانه يفعل فعلا محكما مع أنه غير عالم بالنقش.

قلت : الجواب عن الاول من وجوه الاول : نمنع كون تلك الحيوانات فاعلة لما ذكرت ، بل الفاعل في الحقيقة هو الله كما يقوله الاشعري ، أو أن الفاعل بالطبع ليس فاعلا بالحقيقة ، بل هو فعل الله لانه فاعل السبب ، فيكون فاعلا للمسبب.

الثاني : سلمنا كونها فاعلة ، لكن نمنع كونها غير عالمة بما يصدر عنها ، بل هي شاعرة بأفعالها كلها ، لا بد لنفي ذلك من دليل.

الثالث : سلمنا أنها غير عالمة ، لكن خلق مثل هذه الحيوانات محكم ، والهامها فعل هذه الأفعال أحكم من ايجادها من غير توسط.

وعن الثاني لا نسلم أن المحتدي فاعل حقيقة ، اذ هو ليس مستقلا في فعله المحكم بل بمشاركة المحتدي ، ولذلك لو انفرد لم يأت بشيء يعبأ به ، فالنقض به غير وارد ، سلمنا لكنه صادر منه على وجه الندرة ، ومرادنا بكون كل من صدر

__________________

(١) أى المتابع لفعل غيره.

١٩٦

عنه فعل محكم هو عالم (١) على سبيل الدوام والاستمرار ، والمحتدي ليس كلما رام الاحتداء أمكنه ذلك ، سلمنا لكن المحتدي عالم بفعله حال ايقاعه وان لم يكن عالما به مطلقا ، وحينئذ يصدق كل من فعل محكما فهو عالم به.

الثاني : أنه تعالى مختار ، وكل مختار عالم. أما الصغرى فقد تقدمت. وأما الكبرى فلان المختار انما يفعل بواسطة القصد ، والداعي والقصد الى الشيء مسبوق بتصوره أولا. والا لكان توجه اختياره إليه دون غيره من الاشياء ترجيحا من غير مرجح ، وهو محال بالضرورة.

[اثبات عموم العلم له تعالى]

قال : وهو عالم بكل المعلومات ، لانه ان صح أن يعلم كل المعلومات وجب له ذلك ، والمقدم حق ، فالتالي مثله.

بيان الشرطية : أن صفاته تعالى نفسية يستحيل استنادها الى غيره ، والصفة النفسية متى صحت وجبت. ولان اختصاص بعض المعلومات بتعلق علمه به دون ما عداه ترجيح من غير مرجح.

وأما صدق المقدم فلانه تعالى حي ، وكل حي يصح أن يعلم كل معلوم.

أقول : الباري تعالى عالم بكل ما يصح أن يكون معلوما ، واجبا كان أو ممكنا أو ممتنعا ، قديما كان أو حادثا ، كليا كان أو جزئيا ، متناهيا كان أو غير متناه. خلافا لجماعة من الفلاسفة ستأتي أقوالهم.

والدليل على ما ادعيناه هو أن نقول : ان صح أن يعلم كل معلوم وجب أن يعلم كل معلوم ، لكن المقدم حق فالتالي مثله. أما الملازمة فلوجهين :

الاول : ان صفاته تعالى نفسية ، والصفة النفسية كلما صحت وجبت ، أما

__________________

(١) فى «ن» عالما هو.

١٩٧

أن صفاته نفسية ، فلما يأتي من كونها نفس ذاته ومعلولة (١) لذاته ، وأما أنها كلما صحت وجبت ، فلانها لو لم تكن كذلك لتوقف على الغير ، فلا تكون ذاتية.

الثاني : انه اذا صح أن يعلم كل معلوم لو لم يجب أن يعلم كل معلوم لكان اختصاص علمه بالبعض دون البعض الاخر ترجيحا من غير مرجح وهو محال. وأما حقيقة المقدم فلانه تعالى حي ، وكل حي يصح أن يعلم كل معلوم. أما الصغرى فستأتي ، وأما الكبرى فلان معنى الحي هو الذي لا يستحيل أن يقدر ويعلم ، ونسبة هذا الحكم الى كل ما يصح أن يعلم واحدة.

[دليل اثبات العلم بالجزئيات]

قال : واعلم أن اضافة العلم الى المعلوم كاضافة القدرة الى المقدور ، فكما لا تعدم القدرة بعدم المقدور المعين كذلك العلم. وانما الذي يعدم الاضافة إليهما ، وتلك أمر اعتباري لا صفة حقيقية.

اقول : هذا اشارة الى جواب حجة من منع من علمه تعالى بالجزئيات ، وتحرير البحث هنا أن نقول : العلم بالجزئي يقع على وجهين :

أحدهما أن يعلم أنه وقع أو سيقع أو هو واقع الآن.

الثاني أن يعلم مقرونا بسببه وبالزمان ، لا من حيث أنه وقع أو سيقع ، مثل العلم بأنه اذا وصلت الشمس الى حد معين يقع التوسط بينها وبين القمر للارض ويحصل العلم بالخسوف ، وهذا العلم واقع قبل وجود الخسوف ومعه وبعده ، ولا يعلم أنه وقع الخسوف أو سيقع أو هو واقع الآن ، ولا خلاف أنه تعالى عالم

__________________

(١) المعلولية بالمجاز أى لا يفتقر الى غير الذات ولا يلزم من ذلك افتقارها في وجودها الى الذات ، لامتناع الدور والتسلسل وحلول الحوادث في الذات وخلوها عن الكمال «منه».

١٩٨

بالجزئيات على الوجه الثاني.

وانما الخلاف حصل بين الحكماء والمتكلمين في علمه تعالى بالوجه الاول ، فذهب الحكماء الى منعه محتجين : بأنه لو علم الجزئي على وجه يتغير لزم تغير علمه تعالى وهو محال. بيان الملازمة : أنه اذا علم الخسوف مثلا قد وقع ثم ان الخسوف عدم فهل يبقي علمه بوقوع الخسوف أم لا؟

فان كان الاول لزم الجهل وهو عليه تعالى محال.

وان كان الثاني لزم عدم العلم الاول ووجود غيره ، وذلك تغير في علمه وهو محال.

وأما بطلان اللازم فلان علمه هو نفس ذاته ، فيلزم من تغيره تغير ذاته وهو محال.

أجاب المصنف وجماعة من المحققين بأن العلم من الصفات الحقيقية التي يلزمها الاضافة الى المعلوم ، كالقدرة التي يلزمها الاضافة الى المقدور ، واذا عدم المعلوم عدمت اضافته إليه ، كما [أنه] اذا عدم المقدور عدمت اضافته (١) إليه ، ولا يضر القادر عدم مقدوره ، ولا تعدم عنه صفته الحقيقية بل اضافته إليه ، كذلك العلم اذا تغير معلومه عدمت تلك الاضافة المتعلقة به ، وهي أمر اعتباري ، ووجدت اضافة أخرى ولا يتغير العلم الذي هو صفة حقيقية.

وفيه نظر : اذ يلزم أن يكون له تعالى صفة زائدة على ذاته وهو باطل ، بل الجواب أن جميع الموجودات من الازل الى الابد كل منها على ما هو عليه منكشف له ، وقد تقدم بيانه في أول المسألة.

[علم الله تعالى بذاته]

قال : وهو يعلم ذاته ، خلافا لبعض الفلاسفة ، لان ذاته يصح أن تكون

__________________

(١) فى «ن» : اضافة القدرة ، فلا يصير القادر معدوما بعدم مقدوره الخ.

١٩٩

معلومة ، واحتجاجهم بأن العلم اما صورة مساوية للمعلوم في العالم أو اضافة ، وهما مستحيلان في علم [الباري] العالم بنفسه. ضعيف على تقديري الاضافة والصورة : أما على تقدير الصورة فلانها انما تعتبر في عالم بمعلوم مغاير لذاته.

أما العالم بذاته فان الصورة نفس ذاته ، فهو يعقل ذاته بذاته لا بصورة حالة في ذاته. وأما على تقدير الاضافة فقيل هنا : ان الذات من حيث أنها عاقلة مغايرة لها من حيث هي معقولة ، فصحت الاضافة ، لان المغايرة ـ ولو بوجه ما ـ كافية.

قيل عليه : انه يلزم الدور ، لان العلم مشروط بالمغايرة ، فان كان شرطا لها دار.

والجواب أنا نقول : الذات من حيث يصح أن تكون معلومة مغايرة لها من حيث يصح أن تكون عالمة ، وهذه المغايرة كافية ، ولا تتوقف على العلم.

أقول : الباري تعالى يعلم ذاته ، لانها مفهوم من المفهومات التي يصح أن يعلم ، وكلما يصح أن يعلم يجب أن يكون معلوما له تعالى ، فذاته تعالى معلومة والمقدمتان تقدم بيانهما. وخالف بعض الفلاسفة في ذلك ، ومنع من علمه تعالى بذاته ، واحتج عليه بأن العلم اما صورة أو اضافة ، وكلاهما مستحيلان في حق العالم بنفسه.

أما على تقدير الصورة فلانه يلزم منه اجتماع الامثال ، وذلك لان العلم بالشيء هو حصول صورة مساوية للمعلوم في ذات العالم ، فلو علم ذاته لحل في ذاته صورة مساوية لذاته فيلزم اجتماع المثلين ، وهو محال. وأما على تقدير الاضافة فلانه يلزم [منه] اضافة الشيء الى نفسه ، وهو غير معقول ، لان الاضافة نسبة تستدعي منتسبين متغايرين ، والشيء لا يغاير نفسه.

والجواب أن هذا ضعيف ، أما على تقدير الصورة فلان حصول الصورة انما يفتقر إليها في عالم بمعلوم مغاير لذاته ، فيحتاج الى تحصيل صورة مساوية

٢٠٠