ارشاد الطالبين الى نهج المسترشدين

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

ارشاد الطالبين الى نهج المسترشدين

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٦

لعدم المحل وعدم استعداده على المشهور.

وثانيهما : أنه تقابل بحسب القول والعقل. بخلاف البواقي فانها متقابلة بحسب الوجود الخارجي ، وأما التناقض فبحسب القول والاعتقاد ، بمعنى أن القولين متقابلان واعتقادهما أيضا كذلك.

[تعريف تقابل العدم والملكة]

قال : والعدم والملكة ، وهما نقيضان يخصص موضوعهما كالعمى والبصر ، فان العمى عدم البصر ، لا مطلقا بل عن محل يمكن اتصافه به.

أقول : هذا هو القسم الثالث وهو تقابل العدم والملكة ، وعرفه بأنهما نقيضان يخصص موضوعهما كالعمى والبصر ، فان محلهما واحد ، فان العمى عدم البصر لا عن أي شيء كان ، بل عن محل مخصوص يمكن اتصافه بالبصر. بخلاف التناقض كانسان ولا انسان ، فان الا انسان عدم الانسانية عن أي محل كان.

ثم ان هذا القسم ينقسم أيضا [الى] قسمين : أحدهما مشهوري وثانيهما تحقيقي.

أما المشهوري : فالملكة كل موجود في موضوع من شأن ذلك الموضوع أن يتصف به ويمكن أن يعدم عنه ، واما اذا عدم لم يمكن أن يعود.

والعدم هو عدم ذلك الموجود في وقت امكان وجوده فيه. فالملكة كالبصر والسن والشعر في الرأس في وقتها ، والعدم هو العمى والدرد (١) والصلع في وقت البصر والسن والشعر ، فعدم البصر عن الجرو (٢) قبل أن يفتح عينيه ، وعدم السن عن الطفل قبل أن ينبت له السن ، وعدم اللحية عن الصبي ، لا يكون

__________________

(١) درد دردا وهو درد : ذهبت أسنانه.

(٢) الجرو بتثليث الجيم : صغير كل شيء والمراد هنا الطفل الصغير.

١٤١

من عدم الملكة ، لامكان الانتقال الى الوجود. واما عدم البصر عن الجرو بعد فتح عينيه أو عن الانسان ، وعدم السن عن الرجل ، وعدم شعر لحيته عنه ، فمن عدم الملكة.

وأما التحقيقي : فهو أعم ، فالملكة هنا كل موجود في موضوع أعم من أن يكون الموضوع من شأن شخصه أن يكون له ذلك الموجود (١) في وقته كما تقدم ، أو من شأن شخصه في غير وقته كعدم اللحية عن الامرد ، أو من شأن نوعه كعدم اللحية عن المرأة ، أو من شأن جنسه كعدم الذكورة عن المرأة ، أو كعدم البصر عن شخص (٢) من الخلد (٣) ، فان طبيعته الشخصية والنوعية غير قابلة للبصر ، لكن طبيعته الجنسية كالحيوان قابلة له ، فالقسم الاول أخص من الثاني.

[تعريف المتضايفان وأحكامهما]

قال : والمتضايفان وهما اللذان لا يعقل أحدهما الا بالقياس الى الاخر ، كالابوة والبنوة ، والحق أن الاضافات لا وجود لها في الخارج ، والا لزم التسلسل.

وكما يستحيل الجمع بين المتقابلين يستحيل الجمع بين المثلين ، اذ لا مائز حينئذ ، لان الذات ولوازمها متفقة ، والعوارض متساوية النسبة إليها. وانما يجتمع المختلفان غير المثلين والمتقابلين.

أقول : هذا هو القسم الرابع من أقسام التقابل. واعلم أن الاشياء باعتبار تعقلها على ضربين : أحدهما : ما لا يتوقف تعقله على تعقل أمر آخر ، وهو ما عدا المضاف من الماهيات الاخر. وثانيهما : ما يتوقف تعقله على تعقل غيره وهو

__________________

(١) فى «ن» : الوجود.

(٢) فى «ن» : بالنسبة الى شخص.

(٣) نوع من القواضم يعيش تحت الارض ، وهو ليس له عينان ولا أذنان.

١٤٢

المضاف. ولهذا عرف المصنف المتضايفين بقوله : وهما اللذان لا يعقل أحدهما الا بالقياس الى الاخر.

ثم ان هذا القسم أيضا ينقسم الى قسمين : أحدهما مشهوري والاخر حقيقي. وذلك لان المضاف : اما أن يكون له وجود غير اعتبار كونه مقيسا الى الاخر ، أو لا يكون له وجود غير اعتبار كونه مقيسا الى الاخر.

فالاول هو المشهوري ، كالاب والابن مثلا من حيث هما أب وابن ، فان كل واحد منهما لا يعقل الا مقيسا الى الاخر ، ولهما وجودان آخران وهما ذات كل واحد منهما.

والثاني هو الحقيقي ، كأبوة الأب وبنوة الابن ، فانه ليس لهما وجود خارج عن كل منهما مقيسا الى الاخر.

قوله «والحق ان الاضافات لا وجود لها في الخارج» الخ.

أقول : اختلف الناس في وجود الاضافات في الاعيان. فقال الحكماء : انها موجودة في الاعيان. وقال المتكلمون : انها موجودة في الاذهان.

احتجت الحكماء : بأن العقل يحكم بفوقية السماء [مثلا] حكما صادقا مطابقا للواقع ، فالفوقية لا يجوز أن يكون أمرا عدميا ، لانها نقيض الافوقيّة الصادقية على المعدوم فتكون عدمية ، لاستحالة كون صفة المعدوم ثبوتية ، والا لزم ثبوته ، واذا كان الافوقيّة عدمية تكون الفوقية ثبوتية ، وهو المطلوب.

احتجت المتكلمون : بأنها لو كانت موجودة في الخارج لزم التسلسل ، واللازم باطل فكذا الملزوم ، بيان الملازمة : ان الاضافة لو كانت موجودة في الخارج لكانت صفة قائمة بمحل ، فيكون لها اضافة الى ذلك المحل ، وتلك الاضافة أيضا تكون موجودة في الخارج ، [فتكون] قائمة بمحل آخر. وننقل الكلام إليه ، ويلزم التسلسل وهو محال ، وهو لازم على تقدير وجود الاضافات

١٤٣

في الخارج ، فلا تكون موجودة [في الخارج] وهو المطلوب.

قال شيخنا : في هذا نظر ، لان القائل بعدم الاضافات يدعي سالبة كلية ، وهو لا شيء من الاضافات بموجود في الخارج ، وحينئذ لا يتم الدليل.

لانه اذا قال : لو كانت الاضافات موجودة في الخارج لكانت صفة قائمة بالمحل ، فيكون لها اضافة الى ذلك المحل ، وتلك الاضافة تكون أيضا موجودة.

قلنا : ممنوع ، لان القائل بوجود الاضافات لا يقول بوجود كل اضافة ، بل بوجود بعض الاضافات [دون بعض] فجاز حينئذ أن تكون اضافة الاضافة من الاضافات التي لا وجود لها في الخارج.

قوله «وكما يستحيل الجمع بين المتقابلين» الخ.

أقول : قد عرفت انقسام كل معقولين الى المثلين والمختلفين والمتقابلين ، وعرفت أن المتقابلين لا يجتمعان ، والمختلفين غير المتقابلين يجتمعان.

بقي البحث في المثلين فقال رحمه‌الله تعالى : انهما لا يجتمعان أيضا كالمتقابلين ، وهو مذهب الاشاعرة والاوائل ، خلافا للمعتزلة.

احتج الاولون : بانهما لو وجدا في محل واحد لم يكن بينهما ما يرفع كونهما (١) اثنين وذلك محال ، لان التعدد يقتضي التمييز ، وانما قلنا انه لم يكن بينهما مائز حينئذ ، لان التمايز انما يكون بأحد أمور ثلاثة : اما بالذات أو اللوازم أو العوارض ، والاقسام الثلاثة هنا منفية.

أما الذات واللوازم فانها (٢) حاصلة لكل منهما ، والا لما كانا مثلين.

وأما العوارض فلانها انما يكون بحسب المحل ، فاذا كانا معافي محل واحد

__________________

(١) فى «ن» : لم يكن بينهما مائز مع كونها.

(٢) فى «ن» : فانهما.

١٤٤

فكلما يحصل أي يعرض لاحدهما بحسب ذلك المحل يعرض للآخر أيضا بحسبه فلا تمايز حينئذ.

فقد بان أنه لو اجتمعا لما امتازا ، وعدم امتيازهما محال ، والا لما كانا اثنين ، والفرض انهما اثنين ، هذا خلف.

[انقسام المعقول الى الوحدة والكثرة وكيفيتهما]

قال : الثاني ـ المعقول : اما أن يكون واحدا أو كثيرا ، والواحد اما بالذات أو بالعرض ، والاول قد يكون بالشخص كزيد [وقد يكون بالنوع كزيد] (١) وعمرو ، وقد يكون بالجنس كالانسان والفرس.

ثم الاجناس تتصاعد ، فيكون الواحد بالجنس واحدا ، اما بالجنس القريب كما قلناه ، أو بالمتوسط كالانسان والحجر ، أو البعيد كالانسان والعقل.

والواحد بالنوع كثير بالشخص ، والواحد بالجنس كثير بالنوع. والواحد بالشخص قد يصح عليه الانقسام لذاته كالمقدار ولغيره (٢) كالجسم الطبيعي (٣) ، وقد لا يصح ويكون ذا وضع كالنقطة ، وغير ذي وضع كالنفس. ومن جملة أقسام الواحد الوحدة.

أقول : انقسام المعقول الى الواحد والكثير من الامور العامة الشاملة للجواهر والاعراض. فالمعقول أما أن يكون منقسما أو لا يكون منقسما ، فالاول هو الكثير ، والثاني هو الواحد. وهو اما أن يكون واحدا بالذات أو بالعرض لان عدم قبول القسمة اما أن يكون لغيره وهو الواحد بالعرض كالعرض الحال

__________________

(١) ما بين المعوقتين غير موجودة فى المطبوع من المتن.

(٢) فى المطبوع من المتن : وبغيره.

(٣) غير موجودة فى المطبوع من المتن.

١٤٥

في الجوهر الفرد ، أو يكون لذاته وهو الواحد بالذات كالجوهر الفرد.

ثم الواحد بالذات قد يكون واحدا بالشخص ، أي يكون مانعا من الشركة كزيد فان شخصه واحد لا اشتراك فيه ، وقد يكون واحدا لا بالشخص ، فلا جرم يكون له جهتان : احداهما تقتضي الكثرة ، والاخرى تقتضي الوحدة.

فجهة الكثرة ان كانت متفقة ، فهو الواحد بالنوع كزيد وعمرو ، فان نوعهما واحد وهو الانسان. وان كانت مختلفة فهو الواحد بالجنس كالانسان والفرس ، فانهما واحد بالحيوان الذي هو جنس لها وهو واحد.

ثم الجنس قد يكون بعيدا وقريبا ومتوسطا ، والواحد بالجنس اما بالجنس القريب ، كما قلناه في الانسان والفرس ، فان الحيوان جنس قريب لها. أو بالمتوسط اما بمرتبة واحدة كالانسان والشجر ، فانهما واحد (١) بالجنس المتوسط وهو الجسم النامي ، أو بمرتبتين كالانسان والحجر ، فانهما واحد (٢) بالجسم المطلق. أو البعيد كالانسان والعقل ، فانهما واحد بالجوهر ، وهو جنس بعيد لهما.

فالواحد مقول بالتشكيك على هذه الاقسام بالاولوية وعدمها ، فان الواحد بالذات أولى بالوحدة من الواحد بالعرض ، والواحد بالشخص أولى من الواحد بالنوع ، والواحد بالنوع أولى من الواحد بالجنس ، وهو بالقريب أولى منه بالمتوسط والبعيد.

فالاتحاد في النوع يسمى «مماثلة» وفي الجنس يسمى «مجانسة» وفي العرض ان كان في الكم سمى «مساواة» وفي الكيف سمى «مشابهة» وفي المضاف سمى «مناسبة» وفي الشكل سمى «مشاكلة» وفي الوضع يسمى «موازاة» وفي الاطراف يسمى «مطابقة».

__________________

(١) فى «ن» واحدان.

(٢) فى «ن» واحدان.

١٤٦

قوله «والواحد بالنوع كثير بالشخص» الخ ، لان النوع لا بد له من أشخاص ، لانه المقول على كثيرين متفقين بالحقيقة.

ثم تلك الاشخاص قد تكون ذهنية لا غير كالعنقاء (١) ، وقد تكون خارجية وذهنية ، فالخارجية قد تكون واحدا لا غير كالشمس ، فان نوعه منحصر في شخصه خارجا ، وقد تكون أكثر كالانسان وغيره من الانواع. والواحد بالجنس كثير بالنوع ، لان الجنس لا بد له من أنواع ، لانه المقول على كثيرين مختلفين بالحقيقة.

قوله «والواحد بالشخص» الخ اعلم أن الواحد بالشخص اما أن يصح عليه الانقسام أو لا ، فان كان الاول فاما أن يصح الانقسام لذاته وهو المقدار ، وهو عرض يقبل القسمة لذاته.

والقسمة هي امكان أن نفرض فيه شيء غير شيء آخر كالابعاد الثلاثة ، فانه يمكن أن نفرض مع كل واحد منها طرف غير طرف آخر ، ويصح عليه الانقسام لغيره كالجسم الطبيعي ، فانه ينقسم لانقسام الابعاد القائمة به.

فالجسم على قسمين : تعليمي وطبيعي. فالتعليمي هو نفس المقادير الثلاثة أعني الطول والعرض والعمق ، وانما سمي تعليميا لانه انما يبحث عنه أهل التعاليم ، أعني أصحاب العلوم الرياضي. والطبيعي هو محل هذه المقادير ، وسمي طبيعيا لان جسميته بالنظر الى طبيعته.

وان كان الثاني : فأما أن يكون ذا وضع ، أي يمكن أن يشار إليه اشارة حسية أو لا يكون. فالاول كالنقطة ، فانها طرف الخط الموجود المشار إليه ، فتكون موجودة مشار إليها. والثاني كالنفس الناطقة عند من يثبت تجردها.

ومن جملة أقسام الواحد الوحدة ، فان الواحد هو ما لا ينقسم ، فاما أن لا

__________________

(١) العنقاء : طير عظيم معروف الاسم مجهول الجسم.

١٤٧

يكون له مفهوم غير ذلك فهو الوحدة ، أو يكون وهو ينقسم الى الاقسام المتقدمة.

[كون الوحدة والكثرة من الامور الاعتبارية]

قال : والحق أن الوحدة والكثرة من الامور الاعتبارية ، فان الوحدة لو كانت موجودة لزم التسلسل ، ولو كانت الكثرة موجودة لكان محلها اما بعض أجزائها أو كل واحد من أجزائها ، فيكون الواحد كثيرا باعتبار واحد.

أقول : الوحدة والكثرة من المعلومات البديهية ، فلا يفتقر في تصور هما الى اكتساب تعريف ، وما يقال في التعريف : الوحدة بأنها عبارة عن كون الشيء لا ينقسم ، والكثرة بأنها عبارة عن كونه منقسما ، فهو تعريف لفظي غايته تبدل (١) لفظ خفي بلفظ جلي ، وهما من المعقولات الثانية ، أي الحاصلة في المرتبة الثانية من التعقل ، وليس لهما فى الخارج تحقق بذاتهما ، فاما (٢) أن نعقل الشيء أولا ثم نتعقل كونه واحدا أو كثيرا ، فالكثرة والوحدة عارضتان للمعقول أولا ، ولا يتصور قيامهما بأنفسهما بل بمعروضهما ، فهما أمران اعتباريان ، وقد نازع في ذلك قوم من الاوائل وجعلوا هما عرضين موجودين فى الخارج.

والحق خلافه واستدل المصنف على ذلك بما تقريره أن نقول : لو كانت الوحدة موجودة فى الخارج لزم التسلسل ، واللازم باطل فالملزوم مثله.

بيان الملازمة : أنها لو كانت موجودة في الخارج لكان لا يخلو : اما أن تكون واحدة أو كثيرة لا جائز أن تكون كثيرة ، والا لزم اتصاف الشيء بمنافيه لان الكثرة منافية للوحدة ، فتكون واحدة ، فتكون لها وحدة ، وتلك الوحدة تكون موجودة في الخارج أيضا ، وننقل الكلام إليها ونقول فيها كما قلنا في

__________________

(١) فى «ن» تبديل.

(٢) فى «ن» فانا نتعقل.

١٤٨

الوحدة الاولى ، فيلزم التسلسل.

قال شيخنا : فيه نظر فان الوحدة هى عبارة عن كون الشيء غير منقسم كما قلناه ، ولا شك في أن هذا المعنى موجود متحقق في الوحدة ، سواء اعتبرناه أو لا.

قوله «فيكون لها وحدة أخرى» قلنا : ممنوع ، فان وحدة الوحدة عينها ، وأما الكثرة فانها لو كانت موجودة في الخارج لكانت لا يخلو : اما أن تكون قائمة ببعض أجزاء محلها أو بكل واحد واحد من أجزائه ، لا جائز أن يقوم ببعض أجزاء محلها ، والا لكان الواحد كثيرا ، ولا بكل واحد واحد من أجزاء محلها والا لزم منه فسادان :

الاول : أن يكون الواحد كثيرا أيضا.

الثاني : أن يكون العرض الواحد قائم بمحال متعددة.

والقسمان باطلان ، وهما لازمان من فرض وجود الكثرة خارجا ، فلا يكون موجودة خارجا ، وهو المطلوب. وفيه نظر ، لجواز أن تكون قائمة بالمجموع من حيث هو مجموع.

[تقسيم الموجود الى القديم والحادث]

قال : الثالث ـ الموجود اما أن يكون قديما أو محدثا :

فالقديم ما لا أول لوجوده ، أو الّذي لا يسبقه العدم ، وهو الله تعالى خاصة والمحدث ما لوجوده أول ، أو هو مسبوق بالعدم ، وهو كل ما عدا الله تعالى.

اقول : قسمة الموجود الى القديم والحادث أيضا من الامور العامة ، وهي قسمة حقيقية لا يجتمعان ولا يرتفعان ، فان الموجود : اما أن يكون لوجوده أول أو لا يكون ، فالاول المحدث والثاني القديم.

١٤٩

فالقديم فسره المتكلمون بأمرين متلازمين : أحدهما ما لا أول لوجوده ، وثانيهما ما لا يسبقه العدم ، وكذا المحدث أما الّذي لوجوده أول أو الّذي سبقه العدم.

فالقديم عند أصحابنا والمحققين من المعتزلة كأبي الحسين هو الله تعالى لا غير ، وخالف في ذلك جماعة ، فعند الاشاعرة هو الله تعالى وصفاته ، وعند مثبتي الاحوال هو الله وأحواله الخمسة كما يقوله أبو هاشم ، وعند الفلاسفة هو الله والعالم بجملته.

وعند الحرنانيون خمسة : اثنان حيان فاعلان هما الله تعالى والنفس ، وواحد منفعل غير حي هو الهيولى ، واثنان لا حيان ولا فاعلان ولا منفعلان هما الدهر والخلاء [يق].

والحق خلاف هذا كله ، لما يأتى من دلائل التوحيد والدلالة على كون جميع ما عداه محدثا.

والمحدث هو عندنا ما عدا الله سبحانه ، وعند الاشاعرة والمثبتين ما عدا الله وصفاته ، وعند الحرنانيون ما عدا الخمسة.

أما الحكماء فيفسرون الحدوث بأعم مما فسره المتكلمون وتقرير كلامهم أن نقول : قالوا : تفسير الحدوث كما ذكرتموه انما يتأتى بالنسبة الى بعض أجزاء العالم ، ولا يتأتى بالنسبة الى كل واحد واحد من أجزائه ولا بالنسبة الى كل العالم ، أما الاول فهو أنه لا يتأتى بالنسبة الى كل واحد واحد من أجزاء العالم ، فلان سبق الشيء على الشيء يقال على خمسة معان :

الاول : السبق بالعلية كسبق حركة الاصبع على حركة الخاتم ، فانا نتصور حركة الاصبع أولا ثم تتبعها حركة الخاتم وان وجدا في الزمان معا.

الثاني : السبق بالذات ويقال له السبق بالطبع أيضا ، كسبق الشرط على

١٥٠

المشروط ، والواحد على الاثنين ، والفرق بينه وبين الاول أن السابق الاول يلزم من وجوده وجود المتأخر ، بخلاف هذا فانه لا يلزم من وجود الواحد وجود الاثنين.

الثالث : السبق بالرتبة اما بالحس ، كسبق الامام على المأموم في المحراب أو بالعقل كسبق الجنس على النوع.

الرابع : السبق بالشرف كسبق المعلم على متعلمه والنبي على أمته.

الخامس : السبق بالزمان كسبق الأب على ابنه.

وسبق عدم الشيء على وجوده لا يمكن أن يكون بالوجه الاول ، لان العدم ليس علة للوجود ، ولا بالوجه الثاني لانه يجتمع فيه السابق والمسبوق ، والوجود لا يجامع العدم. ولا بالثالث أي بالرتبة والوضع وهو ظاهر. ولا بالرابع لعدم كون العدم أشرف من الوجود ، فلم يبق الا الخامس. ومعناه حينئذ أن زمان عدمه سابق على زمان وجوده ، والزمان تستلزم الحركة لانه مقدارها والحركة تستلزم الجسم لانه معروضها ، وكل حادث يستلزم سبق حادث آخر فان انتهى الى حادث لا يكون مسبوق بالعدم ، بالتفسير المذكور ثبت أن التفسير المذكور لا يتأتى بالنسبة الى كل واحد واحد من أجزاء العالم ، وان لم ينته ثبت وجود حوادث لا أول لها وقد احلتموه ، فتعين الاول.

فأما الثاني وهو أنه لا يتأتى بالنسبة الى كل العالم فلان الزمان اما أن يكون جزءا من أجزاء العالم أولا والثاني محال ، والا لزم أن يكون نفس واجب الوجود ، لان العالم عندكم كل موجود سوى الله تعالى ، فالمغاير للعالم يكون هو الله تعالى ، والاول أيضا محال لان كون مجموع العالم مسبوقا بالعدم بالزمان يستلزم سبق الزمان على نفسه وهو محال.

واذا لم يكن التفسير المذكور يتأتى بالنسبة الى كل العالم ولا الى كل

١٥١

واحد من أجزائه ، فلا بد أن يفسر بما هو أعم من ذلك ، وهو ما كان مسبوقا بالغير ، فان لم يمكن اجتماع السابق والمسبوق فهو الحادث الذي فسرتموه أعني الزمان ، وان أمكن فهو الحادث الذاتي.

ومعناه : أن الممكن من حيث هو ممكن لا يستحق الوجود لذاته ، وان وجد يكون وجوده من غيره (١) ، فلا استحقاق الوجود سابق على الوجود ، لان ما بالذات سابق على ما بالغير ، وانما قلنا لا يستحق الوجود لذاته ولم نقل يستحق الاوجود ، لانه لو استحق الاوجود لكان ممتنعا وقد فرضناه ممكنا.

وانما قلنا ان لا استحقاق الوجود سابق على الوجود ولم نقل على استحقاق الوجود ، لئلا يلزم أن يكون الممكن الذي استعد للوجود ولم يوجد بعد حادثا فلانه مستحق للوجود بالغير ، وحينئذ لا يكون ممكن من الممكنات قديمها وحادثها الا وهو موصوف بهذا الحدوث.

والفرق اذا بين هذا الحدوث وبين الحدوث الزماني فرق ما بين العام والخاص ، اذ الحادث الزماني لا يجامع القديم الزماني ، والحادث الذاتي يجامع القديم الزماني ، ولهذا قالوا : بأن العالم قديم بالزمان وان كان محدثا بالذات.

وأجاب المتكلمون عن هذا الكلام بأنا لا نسلم حصر السبق فيما ذكرتموه [بل] لا بد له من دليل ، وان تمسكتم بالاستقراء فهو غير مفيد لليقين.

ثم ان هاهنا قسما آخر من السبق ليس من الخمسة ، وهو سبق بعض أجزاء الزمان على بعض ، كالامس على اليوم فانه ليس بالعلية لوجهين :

الاول : لو كان بالعلية لزم تأثير المعدوم في الموجود ، وهو محال وبيانه ظاهر.

__________________

(١) فى «ن» بغيره.

١٥٢

الثاني : ان أجزاء الزمان متساوية في الماهية ، فيستحيل أن يكون بعضها علة لذاته وبعضها معلولا بالذات ، أما أولا فلتساوي الاجزاء كما قلناه ، وأما ثانيا فلامتناع اجتماع المضافين هنا في الوجود وامكانه في التقدم الذاتي ، ولا بالزمان والا لكان للزمان زمان آخر ويتسلسل وهو محال.

ولا بالشرف لتساوى الاجزاء في حد ذاتها شرفا.

ولا بالوضع وهو ظاهر ، فيكون نوعا آخر من التقدم وهو السبق بتقدير الزمان ، وحينئذ يكون سبق العدم على الوجود في تفسير الحادث بهذا المعنى فيكون عاما بجملة (١) العالم ولا جزائه.

وكذا الكلام في تقديم الباري تعالى على العالم ، وهو أن لو قدرنا وجود أزمنة لا نهاية لها ، كان الله تعالى موجودا [معها] ولا يشترط وجود زمان مصاحب له تعالى ، والا لزم القدم ويتسلسل الازمنة. ولما كانت هذه المسألة من المسائل المهمة استوفينا فيها الكلام.

[كون الحدوث والقدم من الصفات الاعتبارية]

قال : والحدوث والقدم من الصفات الاعتبارية ، والا لزم التسلسل. وخلاف الكرامية في الاول وبعض الاشعرية في الثاني ضعيف.

اقول : ذهب المحققون الى أن الحدوث والقدم اعتباران عقليان يحصلان في الذهن عند اعتبار الماهية وسبق غيرها ، أو سبق عدمها عليها أو عدم سبق غيرها أو عدمها عليها ، فالاول حدوث والثاني قدم. وليسا من الصفات الحقيقية في الاعيان.

وخالف في ذلك الكرامية ، حيث زعموا أن الحدوث من الامور الخارجية

__________________

(١) فى «ن» : فى جملة.

١٥٣

وبعض الاشاعرة وهو عبد الله بن سعيد حيث حكم أن القدم من الصفات الحقيقية الخارجية.

واستدل المصنف على مذهب المحققين بما تقريره أن نقول : لو لم يكونا ـ أعني القدم والحدوث ـ من الامور الاعتبارية للزم اما التسلسل أو اتصاف الشيء بمنافيه (١) ، واللازم بقسميه باطل فالملزوم مثله.

بيان الملازمة : أنهما لو لم يكونا ذهنيين لكانا خارجين لعدم الواسطة ، وكل موجود في الخارج اما قديم أو حادث ، فلهما حينئذ قدم أو حدث ، فان كان القدم حادثا لزم اتصاف الشيء بمنافيه ، وان كان قديما كان له قدم ونقلنا الكلام إليه ولزم التسلسل.

وكذا نقول في الحدوث ان كان قديما لزم اتصافه بمنافيه ، وان كان حادثا كان له حدوث ويلزم التسلسل.

وفيه نظر : لجواز أن يكون قدم القدم عينه ، وكذا حدوث الحادث (٢) فلا يلزم حينئذ التسلسل ، وأيضا فانهما اذا كانا ذهنيين فهما ثابتان في الذهن ، فأمكن أن يعرض لهما قدم أو حدوث ويعود المحذور.

أجيب عن الثاني بأن ذلك حينئذ تسلسل في الامور الاعتبارية ، والامور الاعتبارية ينقطع بانقطاع الاعتبار ، وليس كذلك الامور الخارجية.

[عدم جواز العدم على القديم]

قال : والقديم لا يجوز عليه العدم ، لانه : اما واجب الوجود لذاته فظاهر أنه لا يجوز عليه العدم ، واما ممكن الوجود فلا بد له من علة واجبة الوجود

__________________

(١) فى «ن» بما ينافيه.

(٢) فى «ن» : الحدوث.

١٥٤

والا لزم التسلسل. ويلزم من امتناع عدم علته امتناع عدمه.

أقول : القديم يمتنع عدمه وتقرير ما ذكره المصنف من الحجة قد ذكرناه في حدوث الاجسام ، فلا وجه لاعادته.

[افتقار المحدث الى المؤثر]

قال : والمحدث لا بد له من مؤثر ، لان ماهيته لما اتصفت بالعدم تارة وبالوجود أخرى كانت من حيث هي هي قابلة لهما ، فتكون ممكنة ، فلا بد في اتصافها بأحد الامرين من مرجح ، والا لزم الترجيح من غير مرجح ، والا لزم الترجيح من غير مرجح ، وهو باطل بالضرورة.

أقول : ذهب أكثر المتكلمين الى أن الحكم بكون كل محدث مفتقر الى محدث ضروري مركوز في جبلة كل ذي ادراك ، فان الحمار اذا أحس بصوت الخشبة أسرع في مشيه وان لم يبصر أحدا وليس ذلك الا لانه مركوز في جبلته أن هذا الصوت الحادث لا يكون إلا من محدث.

ولا حاجة في ذلك الى توسط بيان امكانه ، بناء منهم على أن الحدوث علة الاحتياج ، والمصنف لما كان عنده أن علة الحاجة هي الامكان استدل على كون المحدث مفتقر الى المؤثر بأنه ممكن وكل ممكن مفتقر الى المؤثر.

أما الصغرى : فلان المحدث كما عرفت هو الذي لم يكن ثم كان ، فقد اتصف تارة بالعدم وأخرى بالوجود ، فيكون قابلا لهما ، والا لاستحال اتصافه بهما وكون الماهية تتصف بالوجود والعدم لا لذاتها هو معنى امكانها ، فقد بان أن كل محدث ممكن.

وأما الكبرى : فلان الممكن لما لم يكن وجوده وعدمه من مقتضيات ذاته كانا متساويين بالنسبة الى ذاته ، وكلما كان كذلك افتقرت الذات في اتصافها

١٥٥

بأحدهما الى مرجح ، لاستحالة ترجيح أحد الطرفين المتساويين لا لمرجع ضرورة.

[كون الامكان علة الاحتياج الى الفاعل]

قال : ومن هنا ، ظهر أن علة احتياج الاثر الى المؤثر انما هي الامكان لا الحدوث. وأيضا الحدوث كيفية للوجود ، فتكون متأخرة عنه ، فالوجود متأخر عن الايجاد المتأخر عن الاحتياج المتأخر عن علة الاحتياج ، فلو كان الحدوث علة الاحتياج لزم الدور بمراتب ، وهو محال.

أقول : اختلف العقلاء في [أن] علة الاحتياج الفاعل ما هي؟ فذهب الحكماء الى أن علة الحاجة هي الامكان لا غير ، واختاره بعض المتكلمين والمحقق الطوسي والمصنف.

وذهب متقدموا المتكلمين الى أن علة الحاجة هي الحدوث لا غير.

وذهب أبو الحسين البصري الى أنها الامكان والحدوث معا وكل منهما جزء علة.

وذهب الاشعري الى أنها الامكان بشرط الحدوث.

واستدل المصنف على المذهب الاول بوجهين :

الاول : ما ظهر من دليل أن المحدث ممكن وكل ممكن مفتقر الى المؤثر ، وأيضا فانا متى تصورنا معنى الامكان وهو تساوي الطرفين بالنسبة الى الذات حكمنا بحاجة الممكن في اتصافه بأحد الطرفين الى سبب خارجي ضرورة ، مع ذهولنا عن كونه حادثا أو غير ذلك ، فلو كان علة الحاجة هي الحدوث أو جزؤها أو شرطها لما حصل تصورها بدون تصوره.

الثاني : لو كان علة الحاجة هي الحدوث لزم الدور بمراتب ، واللازم باطل

١٥٦

فالملزوم مثله ، بيان الملازمة : ان الحدوث كيفية الوجود ، لان الحدوث هو كون الوجود مسبوقا بالعدم ، والصفة متأخرة بالطبع عن موصوفها ، ووجود الموصوف متأخر عن ايجاد الموجد بالذات تأخر المعلول عن علته ، وايجاد الموجود متأخر عن احتياج الاثر إليه في الوجود تأخرا بالطبع ، واحتياج الاثر متأخر عن علته بالذات ، فلو كان الحدوث علة الاحتياج لتأخر عن نفسه بمراتب أربع ، اثنان بالذات واثنان بالطبع ، فيكونا متقدما متأخرا معا وهو محال.

أورد جدي ـ رحمه‌الله ـ على هذا الدليل بأن القائل بكون الحدوث علة الاحتياج لم يفسره بما فسروه ، بل يفسره بأنه خروج الماهية من العدم الى الوجود ، وهو بهذا التفسير ليس متأخرا عن الوجود ، لانه ليس صفة له بل للماهية ، وعلى تقدير أن يكون مرادهم ما ذكروه لم يضره (١) تأخره عن علة الاحتياج التي هي فاعلية ، لانهم يريدون بالعلة العلة الغائية.

وفيه نظر : فانه لو كان الحدوث علة غائية للاحتياج لزم الاستغناء بعد الحدوث ، اللهم الا أن يقال : علة الاحتياج هو الحدوث في حالة العدم لا مطلقا.

وحينئذ جاز أن تكون العلة الغائية في حال الوجود شيء آخر غير الحدوث هو استمرار الوجود ، ولا استبعاد في تعدد الغاية في حالتي الوجود والعدم ، والاولى ادعاء الضرورة على كون الامكان علة ، وان كان قد يحصل فيه شك فسبب تصور الاطراف.

[تقسيم الموجود الى العلة والمعلول]

قال : الرابع ـ الموجود : اما أن يكون مؤثرا في غيره ، اما مع امكان أن لا يؤثر وهو الفاعل المختار ، أو مع امتناع أن لا يؤثر وهو العلة الموجبة. واما أن يكون أثرا لغيره وهو المعلول.

__________________

(١) فى «ن» : لم يضرهم تأخيره.

١٥٧

أقول : تقسيم الموجود الى العلة أعني المؤثر والى المعلول أعني الاثر أيضا من الامور العامة فلهذا ذكره هنا ، ولما ذكر أن المحدث مفتقر الى المؤثر أردفه بذكره ، وقسمه الى المختار والموجب وتقريره أن نقول :

الموجود اما أن يكون مؤثرا في غيره ، أي مفيدا لوجود غيره ، أو أثرا لغيره أي مستفيدا للوجود من غيره ، فان كان الاول فاما أن يكون مع امكان أن لا يؤثر ولا يفيد الوجود ، أو مع امتناع أن لا يؤثر ولا يفيد الوجود ، والاول هو الفاعل المختار ، والثاني هو العلة الموجبة كالنار للاحراق ، وان كان الثاني من القسمة الاولى فهو المعلول. وقد اصطلح المتكلمون على تسمية المؤثّر موجدا وأثره موجودا. والحكماء على تسميتها علة ومعلولا.

[بيان العلل الاربع]

قال : ولا يمكن أن تكون العلة نفس المعلول ، لان المؤثر متقدم ، ويستحيل أن يتقدم الشيء على نفسه ، بل اما جزؤه أو خارج عنه.

أما الجزء فان كان هو الذي باعتباره يحصل الشيء بالقوة ـ كالخشب للسرير ـ فهو العلة المادية ، وان كان هو الذي باعتباره يحصل الشيء بالفعل فهو العلة الصورية كالشكل في السرير.

وأما الخارج فان كان هو المفيد للوجود فهو العلة الفاعلية كالنجار للسرير ، وان كان [هو الذي] لاجله الوجود فهو العلة الغائية كالاستقرار على السرير ، وكل مركب لا بد له من هذه العلل الاربع.

أقول : العلة اما أن تكون نفس المعلول أو جزؤه أو خارجة عنه ، والاول باطل لان العلة متقدمة على المعلول والشيء لا يتقدم على نفسه ، فبقي أن تكون اما جزؤه أو خارجة عنه.

١٥٨

فان كانت جزؤه : فاما أن تكون مع وجود المعلول معها بالقوة أو بالفعل ، فان كان الاول فهو العلة المادية كقطع الخشب للسرير ، وان كان الثاني فهو العلة الصورية كالشكل للسرير. وان كانت خارجة عنه فاما أن يكون منها وجوده أولا جلها وجوده ، فان كان الاول فهو العلة الفاعلية كالنجار للسرير ، وان كان الثاني فهو العلة الغائية كالجلوس مثلا على السرير. اذا تقرر هذا فهنا فوائد : الاول : أن العلة قد تكون تامة (١) وقد تكون ناقصة ، فالتامة جميع ما يتوقف عليه وجود المعلول ، والناقصة بعضه ، ويدخل في التامة حصول الشرائط وارتفاع الموانع ، وهما راجعان الى تتميم العلة الفاعلية والمادية.

الثاني : أنه ظهر مما قلناه أن كل واحد من العلل الاربع على حدتها علة ناقصة ، لانها بعض ما يتوقف عليه وجود المعلول.

الثالث : أن العلة الغائية علة بماهيتها للمعلول ، لانها علة لعلية العلة الفاعلة ، من حيث أنها حاصلة للفاعل على الفعل ، فيكون بهذا الاعتبار متقدمة ومعلولة في وجودها للمعلول ، لانها يحصل بعد حصوله ، فتكون بهذا الاعتبار متأخرة ، فهي متقدمة ومتأخرة باعتبارين.

الرابع : ان كل مركب لا بد له من هذه العلل الاربع وهو ظاهر ، لان امكانه يستلزم الفاعل والغاية ، وتركبه يستلزم المادة وهي أجزاؤه ، ولا بد له من هيئة اجتماعية وتلك صورية.

__________________

(١) العلة التامة هي التى يلزم من وجودها الوجود ومن عدمها العدم والعلة الناقصة ما ليس كذلك.

والعلة الناقصة في الوجود علة التامة في العدم باعتبار عدمها ، لانه لا يلزم من وجود الجزء وجود المركب ويلزم من عدم الجزء عدم المركب ، لاستحالة وجود المركب بدون جزئه في الوجود «منه».

١٥٩

[بيان العلل الذاتية والعرضية]

قال : والعلة قد تكون بالذات كالسقمونيا في ازالة التسخين ، وقد تكون بالعرض كالسقمونيا في التبريد.

أقول : العلة اما أن تكون مقتضية للمعلول لذاتها أولا.

والاول هو العلة بالذات كالسقمونيا ، أعني المحمودة لازالة التسخين لذاتها.

والثاني هو العلة بالعرض كالسقمونيا أيضا في حصول التبريد ، فانها لما أزالت التسخين لذاتها لزم عنها حصول التبريد ، فهو حاصل بالعرض.

[استحالة اجتماع علتان تامتان في معلول واحد]

قال : ولا يمكن أن يكون لمعلول شخصي علتان تامتان ، لانه يكون واجبا بكل واحدة منهما فيستغني بكل واحدة منهما عن الاخرى ، فيكون حال الحاجة إليها مستغنيا عنهما ، هذا خلف.

أقول : المعلول على قسمين : شخصي ونوعي ، فالشخصي لا يجوز أن يجتمع عليه علتان تامتان ، لان العلة التامة هي جملة ما يتوقف عليه وجود الشيء.

وسيجيء بيان وجوب وجود المعلول عند وجود علته التامة ، والشيء اذا وجب وجوده كان من تلك الحيثية مستغنيا عن العلة.

اذا عرفت هذا فنقول : لو اجتمع على المعلول الشخصي علتان تامتان لزم استغناؤه عنهما حال الحاجة إليهما واللازم باطل فالملزوم مثله.

بيان الملازمة : أن ذلك المعلول بالنظر الى كل واحدة منهما يكون واجبا

١٦٠