ارشاد الطالبين الى نهج المسترشدين

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

ارشاد الطالبين الى نهج المسترشدين

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٦

عشر عدد أهل بدر. والكل فاسد ، اذ ليس له تأثير في افادة اليقين ، بل اذا حصل اليقين علم حينئذ العدد الذي يفيده [دون غيره] ورب عدد مفيد للعلم في صورة دون أخرى.

السادس : قضايا يحكم بها العقل لوسط (١) ملازم لها لا ينفك عنها ، ويسمى قضايا قياساتها معها ، أي أدلتها معها ، كالحكم بأن الاثنين نصف الاربعة ، لانه عدد انقسمت الاربعة إليه والى ما يساويه ، وكل عدد كذلك فهو نصف لذلك العدد ، ينتج أن الاثنين نصف الاربعة.

[العلم وغناه عن التعريف]

قال : والعلم لا يحد ، لانه من الصفات الوجدانية.

أقول : اختلف الناس في أن العلم هل هو من المعلومات الغنية عن التعريف أم ليس كذلك؟ فذهب قوم الى أنه لا يستغني عن التعريف ، بل يحد ويرسم كغيره من الحقائق.

فعرفه بعضهم : بأنه معرفة المعلوم على ما هو به. وهو غير مانع لدخول الظن والتقليد المطابقين ، وتعريف بالاخص أيضا ، فان المعرفة يراد بها التصور وهو أخص من العلم. وان أريد بها معنى العلم حتى يكون التعريف لفظيا ففاسد أيضا ، اذ التعريف اللفظي تعريف بالاشهر ، والمعرفة ليست بأشهر من العلم. ومع ذلك فهو دوري ، اذ المعلوم يعرف بأنه شيء يتعلق به العلم ، فتعريف العلم به دور.

وقيل : هو ما يقتضي سكون النفس. وينتقض بالجهل المركب والتقليد الجازم.

__________________

(١) فى «ن» : بواسطة.

١٠١

ومنهم من جمع بينهما فقال : هو معرفة المعلوم على ما هو به [يليق] ومع اقتضاء سكون النفس ، يخرج الجهل المركب بالاول والظن بالثاني. وفيه نظر لانتقاضه بالتقليد المطابق الجازم ، ومع ذلك فهو تعريف بالاخص ودوري.

والحق أنه غني عن التعريف لوجهين : الاول : انه لو عرف بشيء فذلك المعرف اما أن يكون علما أولا ، فان كان الثاني كان تعريفا بالمباين ، وهو فاسد لما بين (١) في المنطق ، وان كان الاول فذلك العلم اما تصور أو تصديق ، وكل منهما أخص من العلم ، فيكون تعريفا بالاخص وهو فاسد أيضا.

الثاني : انه من الصفات الوجدانية ، فلا يفتقر الى تعريف ، أما أولا فلان الانسان الذي لم تكن المسألة ظاهرة له ثم تنكشف له ، فانه يجد من نفسه حالة لم تكن حاصلة له من قبل ، وتلك [الحالة] هي العلم بالمسألة ، وأما ثانيا فلما عرفت أن الوجدانيات من الضروريات ، فلا يفتقر الى نظر وكسب.

قال جدي ـ رحمة الله عليه ـ : [ان] الحق عندي أن العلم ضروري وجوده وامتيازه ، وأما ماهيته فلا تعلم بالرسم لاستغنائه ، ولا بالحد لامتناعه.

قلت : اما استغناؤه عن الرسم فلان الرسم يفيد الامتياز ، وقد بان لك ان امتياز العلم ضروري ، وأما امتناع تحديده فلبساطته ، فلا جزء له يحمل عليه.

[نسبة العالم الى المعلوم]

قال : وهل هو صورة مساوية للمعلوم في العالم ، أو اضافة بين العالم والمعلوم؟ فيه خلاف. والاقرب عندي أنه صفة يلزمها الاضافة الى المعلوم.

أقول : ذهب الحكماء الى أن العلم صورة منتزعة من المعلوم مساوية له ، بحيث

__________________

(١) فى «ن» : كما تبين.

١٠٢

لو خرجت (١) الى الخارج لكانت بعينها هي المعلوم. واحتجوا عليه بأنا نحكم على أشياء لا وجود لها في الخارج ، فلو لم تكن قائمة بالذهن لكانت عدما محضا فيستحيل الاضافة إليها.

اعترض عليهم بأنه لو كان العلم حصول صورة المعلوم في العالم لزم أن يكون الجدار الموصوف بالسواد عالما به ، لحصول صورته له ، واللازم ظاهر الفساد ، فكذا الملزوم ، والملازمة ظاهرة. أجاب بعض المحققين بأن ليس كل من قام به الصورة المثالية يكون عالما بها ، بل اذا كان قابلا لصفة العالمية ، والجدار ليس كذلك.

وقال قوم : انه اضافة بين العالم والمعلوم. واعترض عليهم بعلم العالم بنفسه ، وسيأتي الجواب عنه.

وقال المصنف : الاقرب أنه صفة حقيقية يلزمها الاضافة ، لا أنه نفس الاضافة لانها أمر اعتباري ، والعلم من الصفات المحققة في الخارج القائمة بالنفس ، لكنه لا يعقل الا مضافا الى الغير ، فان العلم علم بالشيء ، لكن لا يكون نفس مفهومه ولا داخل في مفهومه لما عرفت ، بل لازم له. وهنا نظر فان المصنف قرر بأن العلم بديهي التصور فلا يفتقر الى تعريف ، فتعريفه له بعد ذلك باطل.

[صحة اضافة العلم الى المعدوم]

قال : وكما يصح أضافته الى الموجود كذا يصح الى المعدوم ، فانا نعلم طلوع الشمس غدا من المشرق ، وهو معدوم الآن.

أقول : لا خلاف في تعلق العلم بالامور الوجودية. وأما الامور العدمية فاما أن تكون أعدام ملكات ، أو أعدام مطلقة ، فالاول يجوز تعلق العلم بها أيضا

__________________

(١) فى «ن» : اخرجت.

١٠٣

بلا خلاف. وأما الثاني فقد اختلف فيه ، فذهب قوم الى أنه لا يعلم ، لان العلم اما صورة ، وذلك يتوقف على وجود ذي الصورة. أو اضافة فيتوقف على وجود المضافين ، ولا شيء من المعدوم بموجود ، فلا يتعلق العلم به.

والجواب أنه موجود في الذهن ، فيصح تعلق الاضافة به ، وأيضا فانا نعلم قطعا طلوع الشمس غدا من مشرقها ، وهو معدوم الآن.

[تعريف الظن]

قال : الرابع عشر ـ الظن : وهو ترجيح اعتقاد أحد الطرفين ترجيحا غير مانع من النقيض ، فان كان مطابقا فهو ظن صادق ، والا فهو كاذب.

أقول : قد عرفت من قبل أن (١) الظن نوعا من الاعتقاد. ونازع في ذلك أبو علي وأتباعه ، وذهبوا الى أنه جنس مغاير للاعتقاد ، وخصوا الاعتقاد بالجازم ، ومختار المصنف في المناهج الاول ، وعرفه هنا بأنه ترجيح الى آخره.

وتحريره أنه اعتقاد راجع مع تجويز نقيضه ، كما اذا شاهدنا غيما رطبا ، فانا نعتقد وقوع الغيث اعتقادا راجحا. ويجوز عدم وقوعه ، فان وقع كان ظنا صادقا ، والا كان ظنا كاذبا.

[تعريف النظر]

قال : الخامس عشر ـ النظر : وهو ترتيب أمور ذهنية يتوصل بها الى أمر آخر.

أقول : من الاعراض النفسانية النظر. وعرفه الرازي بأنه ترتيب تصديقات يتوصل بها الى تصديق أمر آخر. وهو غير جامع اذ الترتيب قد يكون في

__________________

(١) فى «ن» : كون.

١٠٤

التصورات أيضا. وعرفه بعضهم بأنه ترتيب علوم يتوصل بها الى علم آخر. وهو فاسد أيضا ، فانه ان عنى [به] العلم بمعنى اليقين لم يكن جامعا أيضا ، لخروج النظر في المقدمات الظنية والجهلية ، وان عنى [به] العلم الاعم ، كان مستعملا للفظ المشترك أو المجاز ، وكلاهما من أغاليط التعريف ، هكذا أورد المصنف على التعريف.

فلذلك عرفه بما يشمل الجميع وهو ترتيب أمور ذهنية يتوصل بها الى أمر آخر ، كقولنا العالم متغير ، وكل متغير محدث ، فالعالم محدث ، هذا في اليقين. وأما في الظن فكقولنا هذا غيم رطب وكل غيم رطب ممطر (١) فهذا ممطر. وأما الجهل فكقولنا العالم مستغن عن المؤثر وكل مستغن عن المؤثر قديم ، فالعالم قديم.

فالترتيب له معنيان : لغوي واصطلاحي ، أما اللغوي فهو جعل كل شيء في مرتبته. أما الاصطلاحي فهو جعل الاشياء المتعددة بحيث يطلق عليها اسم الواحد ، ويكون لبعضها الى بعض نسبة بالتقدم والتأخر.

والمراد بالامور هنا هو ما فوق الامر الواحد ، ليشمل المركب من مقدمتين ومن مقدمات وأجزاء التعريف أيضا ، كالجنس والفضل الذي يحصل من تصورهما الانتقال الى تصور الماهية.

والمراد بالذهنية أن صورها حاصلة في الذهن قوة قائمة بالنفس معدة لاكتساب العلوم.

فالترتيب جنس شامل للنظر وغيره من المركبات ، وبقيد «الذهنية» خرج الترتيب الواقع في الامور الخارجية كالاجسام وبقيد «التوصل الى أمر آخر»

__________________

(١) فى «ن» : وكل رطب فهو ممطر.

١٠٥

خرج ما لا يحصل معه (١) الانتقال الى آخر ككثير من القضايا.

وكل مركب لا بد فيه من علل أربعة وهي : المادية والصورية والفاعلية والغائية ، فالترتيب اشارة الى العلة الصورية للنظر ، ومثاله في الخارج كشكل السرير ، وحيث أن كل ترتيب لا بد له من مرتب استلزم الاشارة الى العلة الفاعلية كالنجار للسرير ، والامور الذهنية اشارة الى العلة المادية ، كاقطاع الخشب للسرير.

وقوله «يتوصل بها الى أمر آخر» اشارة الى العلة الغائية ، فانه الغرض من الترتيب المذكور ، وذلك كالجلوس على السرير ، فانه الغرض من صنعة السرير ، فثلاثة منها بالمطابقة وواحد بالالتزام.

[تقسيم النظر الى الصحيح والفاسد]

قال : فان صحت المتقدمتان والترتيب فالنظر صحيح ، وإلا ففاسد.

أقول : لما كان ثبوت محمول المطلوب النظري لموضوعه غير بين بنفسه والا لما احتيج فيه الى النظر ، افتقرنا الى وجود علة لذلك الثبوت ، فيحصل من انضمامها الى موضوع المطلوب مقدمة [صغرى] ومن انضمامها الى محمول اخرى [مقدمة كبرى] فلا جرم يترتب (٢) النظر من مقدمتين.

ثم المقدمتان قد يكونان صحيحتين ، أى مطابقة لما عليه الامر في نفسه ، كقولنا الانسان حيوان ، وقد لا يكونان كقولنا الانسان جماد. وترتيب المقدمات قد يكون بحيث يؤدي الى المطلوب ، وذلك بأن يكون على هيئة شكل من الاشكال الاربعة من أحد ضروبها ، وقد يكون بحيث لا يؤدي ، كغير ذلك من أنواع التركيب (٣).

__________________

(١) فى «ن» : منه.

(٢) فى «ن» : يتركب.

(٣) فى «ن» : التراكيب.

١٠٦

اذا عرفت هذا فاعلم : أنه اذا كانت المقدمتان والترتيب صحيحتين بالمعنى المذكور كان النظر صحيحا ، كقولنا العالم ممكن ، وكل ممكن مفتقر الى المؤثر ، فالعالم مفتقر الى المؤثر ، والا لكان فاسدا ، أعم من أن يكون عدم الصحة من جهة المادة ، أعنى المقدمات(١) ، أو من جهة الصورة أعني الترتيب ، أو من جهتهما معا.

وهل ذلك الفاسد يستلزم الجهل أم لا؟ قيل : لا يستلزمه مطلقا وقيل : يستلزمه مطلقا. قال المصنف في المعارج : ان فسد [من جهة] المادة استلزمه والا فلا. وفيه نظر ، فانه جاز أن تكون الصورة صحيحة والمادة فاسدة ويكون النظر صحيحا ، كقولنا كل انسان حجر وكل حجر حيوان ، فانه يلزم أن كل انسان حيوان وذلك ليس بجهل.

[كيفية انتاج النتيجة العلمية والظنية]

قال : ثم المقدمتان ان كانتا علميتين فالنتيجة علمية والا فظنية.

أقول : المقدمة هي قضية جعلت جزء قياس. والنتيجة هي القول اللازم عن الدليل ، وهي قد تكون علمية أي يقينية ، وقد تكون ظنية ، وذلك باعتبار المقدمتين ، فانهما ان كانتا علميتين فالنتيجة علمية ، والا فظنية أعم من أن يكونا ظنيين أو إحداهما ظنية والاخرى علمية ، كقولنا زيد يطوف بالليل ، وكل من يطوف بالليل فهو سارق ، ينتج أن زيدا سارق ، وذلك مظنون.

[افادة النظر الصحيح العلم]

قال : والنظر الصحيح يفيد العلم ، لان من علم أن العالم حادث ، وأن كل حادث مفتقر الى المؤثر ، فانه يعلم بالضرورة أن العالم مفتقر الى المؤثر.

__________________

(١) فى «ن» : المقدمتان.

١٠٧

واحتج من أنكر افادته العلم بأن المطلوب ان كان معلوما استحال طلبه ، لاستحالة تحصيل الحاصل ، وان كان مجهولا فكذلك ، لان ما لا يعلم لا يطلب.

والجواب : انه معلوم من وجه دون وجه ، وليس المطلوب هو الوجهان حتى يرد الاشكال ، بل الماهية المتصفة بالوجهين.

اقول : قد عرفت أن صحة النظر انما تكون بصحة المقدمات والترتيب ، فاعلم الآن أن الناس اختلفوا في أن النظر الصحيح هل يفيد العلم أم لا؟ فذهب السمنية ـ وهم حكماء الهند ـ الى أن النظر لا يفيد العلم أصلا ، وان المفيد ليس الا الحس.

وذهب قوم من المهندسين الى أنه غير مفيد في اللاهيات ، وزعموا أن الغاية فيها القول بالاولى والاحسن ، لا على الجزم فانه غير ممكن فيها ، وقصروا افادة العلم في الرياضيات ، كالحساب والهندسة لا غير.

وأطبق المحققون من الحكماء وغيرهم على بطلان قول الفريقين معا ، فانا اذا علمنا أن العالم حادث ، وأن كل حادث مفتقر الى المؤثر ، فانا نعلم قطعا أن العالم مفتقر الى المؤثر ، لان كبرى هذا القياس دلت على أن الافتقار ثابت لكل حادث ، وصغراه دلت على أن الحادث ثابت للعالم ، فيكون الافتقار ثابتا للعالم ، لان الثابت للثابت للشيء ثابت لذلك الشيء قطعا ، وهذه مسألة الإلهية. وقد بان كون النظر فيها مفيدا للعلم ، فيبطل بها قول الفريقين معا.

احتجت السمنية على مذهبهم بأن النظر لو أفاد العلم للزم اما تحصيل الحاصل أو استعلام المجهول المطلق ، وهما محالان. بيان الملازمة : أن المطلوب بالنظر اما أن يكون معلوما أو مجهولا ، فان كان معلوما [كان تحصيل الحاصل] والفرض أن الحاصل من النظر هو ذلك المعلوم ، فيكون تحصيلا للحاصل ، وان كان مجهولا كان طلبا للمجهول المطلق وهو محال ، لانه لا يعلم هو

١٠٨

اذا وجده أنه هو الذي كان مطلوبا له.

أجاب المحققون عن ذلك بأنه معلوم من وجه دون وجه ، قوله «وليس المطلوب هو الوجهان» اشارة الى سؤال أورده (١) فخر الدين الرازي على الجواب المذكور وتقريره : أن يقال الوجه المعلوم معلوم فلا يطلب لحصوله والوجه المجهول لا تتوجه النفس إليه فلا تطلبه أيضا ، فلا يتم المطلوب حينئذ.

وأجاب المحقق العلّامة خواجه نصير الدين الطوسي قدس الله روحه : بان المطلوب الماهية المتصفة بالوجهين ، وهي ليست معلومة من جميع الوجوه ، ولا مجهولة من جميع الوجوه ، بل معلومة من وجه دون وجه. وبيان ذلك : أن المطلوب ان كان تصوريا يكون معلوما ببعض اعتباراته ، ومجهولا من حيث عدم كمال تصوره ، وان كان تصديقيا يكون معلوما من جهة تصوره ومجهولا من جهة الحكم.

واحتج المهندسون : بأن أهل الكلام قد خبطوا فى مسائله واضطربوا فيها نحو اختلافهم فى أقرب الاشياء إليهم ، وهو النفس كما يجيء بيانه ، ولو كان النظر مفيدا فى علومهم لما حصل هذا الاختلاف.

أجيب : بأن ذلك لا يدل على امتناع العلم ، بل على الصعوبة وذلك مسلم ، ثم انا نقول للفريقين معا : الحكم بكون النظر غير مفيد اما أن يكون ضروريا أو نظريا ، لا سبيل الى الاول لوجود الخلاف فيه ، فتعين الثاني وهو أن يكون النظر نظريا ، فيكون اعترافا بأن بعض النظر مفيد [للعلم] وهو مناقض لقولهم لا شيء من النظر بمفيد.

[وجوب النظر فى معرفة الله]

قال : والنظر واجب ، لان معرفة الله تعالى واجبة ، لكونها دافعة للخوف ،

__________________

(١) وقيل أورده بعض تلامذة سقراط ، ذكره فى الاسرار «منه».

١٠٩

ولا يتم الا بالنظر ، وما لا يتم الواجب المطلق الا به فهو واجب ، والّا خرج الواجب عن كونه واجبا مطلقا ويلزم تكليف ما لا يطاق ، والقسمان باطلان.

أقول : اتفق المحققون على ذلك ، خلافا للحشوية ، والدليل على وجوبه هو أن النظر يتوقف عليه الواجب المطلق ، وهو مقدور ، وكل ما يتوقف عليه الواجب المطلق وكان مقدورا فهو واجب ، فالنظر واجب.

بيان الصغرى : أن معرفة الله تعالى واجبة مطلقا ، ولا تتم الا بالنظر ، أما أنه واجبة فلانها دافعة للخوف ، ودفع الخوف واجب. أما أنها دافعة للخوف ، فلان المكلف الجاهل بالله تعالى يجوز أن يكون له صانع أراد منه معرفته وكلفه بها ، وأنه ان لم يعرفه عاقبه على تركها ، سواء كان ذلك التجويز بخاطر خطر له ، أو بحسب سماعه اختلاف الناس فى العقائد [الحقية] الالهية ، وحينئذ يجد من نفسه خوف عقاب مظنون ، لعله يلحقه بسبب تركه المعرفة ، فلا يزول ذلك الا بالمعرفة ، فتكون دافعة للخوف.

وأما أن دفع الخوف عن النفس واجب ، فلانه ألم نفساني ، وكل ألم نفساني يتمكن المكلف من دفعه ولم يفعل فانه يستحق الذم لعدم دفعه ، أما انها لا تتم الا بالنظر فلأنها ليست ضرورية ، والا لما وقع فيها خلاف بين العقلاء ، لكن الاختلاف واقع وهو ظاهر ، فلا تكون ضرورية ، فتعين أن تكون نظرية ، لانحصار العلم في الضروري والنظري.

وأما بيان الكبرى : فلانه لو لم يجب ما يتوقف عليه الواجب المطلق لزم أما خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا ، أو تكليف ما لا يطاق. بيان الملازمة : أن ذلك الواجب المتوقف على هذا التقدير ان بقي وجوبه لزم التكليف بالمشروط مع عدم شرطه ، وهو تكليف ما لا يطاق وهو محال كما يأتي وان لم يبق وجوبه بل يزول لزم الامر الاول ، فيصير واجبا مقيدا ، والفرض

١١٠

أنه مطلق. هذا خلف وفائدة قولنا «الواجب المطلق» احتراز عن الواجب المقيد ، كالزكاة فان وجوبها مقيد بحصول النصاب ، واذا لم يحصل النصاب لم يجب وقولنا «وكان مقدورا» احتراز عما لا يكون مقدورا للمكلف ، فانه لا يجب تحصيله ، وذلك كالقدرة والآلات (١).

[كون وجوب النظر عقلى]

قال : ووجوبه عقلي ، لانه لو وجب بالسمع لزم افحام الأنبياء.

أقول : اختلف القائلون بوجوب النظر في أن الحاكم بوجوبه ما هو؟ فقال الاشعري: انه السمع ، لقوله تعالى (انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٢). ونحوه. وقالت المعتزلة والمحققون : انه العقل ، واختاره المصنف.

واستدل عليه : بأنه لو لم يكن عقليا لزم افحام الأنبياء عليهم‌السلام ، أي انقطاعهم عن الجواب ، واللازم باطل فالملزوم مثله. بيان الملازمة : ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله اذا قال للمكلف : اتبعني ، يقول : لا أتبعك الا بعد أن أعرف صدقك ، ولا أعرف صدقك الا بالنظر ، لانه ليس ضروريا ، ولا أنظر لاني لم أعرف وجوبه الا بقولك ، وقولك ليس بحجة ، لان كونه حجة يتوقف على صدقه فيدور ، فحينئذ ينقطع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. وأما اذا قلنا بوجوبه عقلا فلا يلزم ذلك ، لان المكلف اذا قال لا يجب عليّ النظر الا بقولك يقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : يجب عليك عقلا ، لانه دافع الخوف المظنون ، وكلما كان دافعا للخوف فهو واجب.

وأما بطلان اللازم : فلان الأنبياء عليهم‌السلام انما أرسلوا حججا على

__________________

(١) فى «ن» : والآلة.

(٢) سورة يونس : ١٠١.

١١١

الخلق ، فلا يجوز أن يمكن الله تعالى المعاند من الزامهم وافحامهم ، واذا بطل اللازم بطل الملزوم وهو كون وجوبه سمعيا ، فيكون عقليا وهو المطلوب.

احتجت الاشاعرة : بأن لازم الوجوب العقلي منفي ، فيكون الوجوب العقلي منفيا ، أما الاول : فلان لازم الوجوب العقلي هو التعذيب على تركه ، وهو منفي بقوله تعالى (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١) فنفي التعذيب قبل البعثة ، فلا يكون الوجوب حاصلا قبلها. وأما الثاني : فلان انتفاء اللازم موجب لانتفاء الملزوم ، والا لبطلت الملازمة بينهما.

أجابت المعتزلة عن ذلك بوجهين : الاول : ان المراد بالرسول هو العقل أي لا يعذب حتى يكمل عقله.

الثاني : المراد وما كنا معذبين بالاوامر السمعية الا بعد البعثة.

وهذان الجوابان ضعيفان ، أما الاول فلانه مجاز ، واللفظ اذا أطلق حمل على حقيقته ، وأما الثاني فلانه مخصص والاصل عدمه.

والاولى في الجواب أن يقال : نمنع كون اللازم للوجوب التعذيب لجواز العفو ، بل لازمه هو استحقاق التعذيب وهو أعم من التعذيب وعدمه (٢) ، ونفي الاخص لا يستلزم نفي الاعم ، سلمنا ذلك لكن المنفي هو التعذيب المقيد بما قبل البعثة ، وذلك لا يستلزم نفي مطلق التعذيب ، واللازم هو المطلق لا المقيد. والمراد من الآية انا لا نعذب على ترك الواجبات وفعل المحرمات الا بعد بعثة الرسل ، لان العقل لا يستقل بالشرعيات. وأما العقليات [فانه] وان استقل بها ، الا انه يستعين بالرسل ، فتفضلنا (٣) عليه بعدم التعذيب.

__________________

(١) سورة الاسراء : ١٥.

(٢) فى «ن» : وغيره.

(٣) فى «ن» : فتوصلنا.

١١٢

[كون النظر أول الواجبات]

قال : والقصد إليه أول الواجبات أو المعرفة بالله.

اقول : اختلف الناس في أول الواجبات على المكلف ، فقال أبو هاشم : انه الشك ، لان النظر عنده يجب أن يكون مسبوقا بالشك. وقال معتزلة البصرة وأبو اسحاق الأسفرائيني والسيد المرتضى وابن نوبخت أنه النظر. وقالت الاشعرية ومعتزلة بغداد : أنه المعرفة بالله ، وورد ذلك في كلام أمير المؤمنين في قوله «أول الدين معرفته (١)» وقال امام الحرمين : انه القصد الى النظر.

والحق أن يقال : ان أريد بالاولية ما كان أول بالذات وبالقصد الاول ، فلا شك أنه هو المعرفة بالله ، فان النظر انما يطلب لاجلها ، وان أريد به ما كان أولا كيف كان ، فهو القصد الى النظر ، لانه شرط ، والشرط مقدم على المشروط.

وقال شيخنا ـ دام شرفه ـ ان النظر فعل اختياري للمكلف ، وكل فعل اختياري يضطر فيه الى القصد إليه ، والامور الاجبارية (٢) لا يقع بها تكليف ، فلا يكون القصد حينئذ مكلفا به ، فلا يكون هو أول الواجبات ، بل يكون النظر هو أول الواجبات.

[كيفية حصول العلم عقيب النظر]

قال : وحصول العلم عقيب النظر على سبيل اللزوم لا العادة ، للعلم الضروري بالوجوب ، كما في غيره من الاسباب ، خلافا للاشاعرة.

__________________

(١) ونظيره ما روى فى البحار عن الفقه الرضا : ان أول ما افترض الله على عباده وأوجب على خلقه معرفة الوحدانية. بحار الانوار : ٣ / ١٣.

(٢) فى «ن» : الاضطرارية.

١١٣

اقول : اختلف العلماء في كيفية حصول العلم عقيب النظر الصحيح. فقالت الاشاعرة : انه من الله تعالى ، لانه ممكن ، وكل ممكن فهو من فعل الله وأنه بمجرى العادة بمعنى أن الله تعالى أجرى عادته أن يخلق العلم عقيب النظر الصحيح ، لانه متكرر وأكثري الوجود ، وكل متكرر وأكثري الوجود فهو بمجرى العادة. وأما ما لا يتكرر أو يتكرر قليلا فهو خارق للعادة كالمعجزات وقالوا : أنه ليس بواجب أن يخلقه الله تعالى [لانه فعل الله ولا شيء من الافعال بواجب أن يخلقه الله تعالى]. وهذا مبني على أصلهم الفاسد ، وسيأتيك بيان فساده.

وقالت المعتزلة : انه من فعل العبد تولدا (١) ، وذلك لان فعل العبد [عندهم] وجهين : الاول يسمى مباشرة ، وهو ما كان في محل القدرة كالاعتماد الحاصل في البدن. الثاني يسمى توليدا ، كالمتولد عن الاعتماد الحاصل في محل القدرة كحركة المفتاح المتولدة عن حركة اليد وحصول العلم عندهم من القبيل الثاني ، لانه يتولد عن النظر ، والنظر فعله ، لان فاعل السبب فاعل للمسبب ، وانما قلنا انه فاعل السبب ، لان السبب هو النظر ، وهو فعل العبد ، لانه يحصل بسبب (٢) قصده وداعيه ، وأنه واجب الوقوع ، كوجوب وقوع المسبب عند وقوع سببه ، كما في حرارة النار الواجب حصولها عند حصول النار وغير ذلك من المسببات الواجب وقوعها عند (٣) أسبابها.

واختاره المصنف وقال : انه على سبيل اللزوم ، فانا نعلم ضرورة أن من علم أن العالم متغير ، وأن كل متغيّر حادث ، فانه يلزم عنهما علم ثالث ، وهو

__________________

(١) فى «ن» : توليدا.

(٢) فى «ن» : بحسب.

(٣) فى «ن» : عن.

١١٤

أن العالم حادث.

وقالت الحكماء : ان النظر الصحيح يعد الذهن ، والنتيجة تفاض عليه من المبادي العالية وجوبا ، والفرق بين قولهم وقول الاشاعرة أنه عندهم من الله تعالى بواسطة (١) ، وعند الاشاعرة بلا واسطة ، وأنه واجب عند الحكماء ، وجائز عند الاشاعرة ، الا امام الحرمين منهم وفخر الدين الرازي والقاضي ، فانهم أوجبوه.

[تعريف الدليل وأقسامه]

قال : والدليل هو الذي يلزم من العلم به العلم بشيء آخر ، وهو قد يكون عقليا محضا ، وقد يكون مركبا من العقلي والنقلي ، فلا يتركب من النقليات المحضة دليل.

اقول : الدليل لغة هو المرشد ، والدال أعنى الناصب للدليل والذاكر للدليل. وأما في اصطلاح العلماء فعرفه المصنف : بأنه الذي يلزم من العلم به العلم بشيء آخر ، كما اذا شاهدنا دخانا ، فانا نستدل بوجوده على وجود النار والعلم بالدخان هو الدليل ، والعلم بوجود النار هو المدلول ، والنسبة بينهما هي الدلالة.

وهو قد يكون استدلالا بالوجود على الوجود ، كما مثلناه به ، وكالاستدلال بالحياة على العلم (٢). وبالعدم على العدم ، كالاستدلال بعدم الحياة على عدم العلم. وبالوجود على العدم ، كالاستدلال بوجود أحد الضدين على عدم الضد الاخر. وبالعكس ، كالاستدلال بعدم النقيضين على وجود النقيض الاخر.

__________________

(١) فى «ن» : بوسائط.

(٢) فى «ن» : بالعلم على الحياة.

١١٥

وبتقسيم آخر : قد يكون استدلالا بالعلة على المعلول ، كما يستدل بوجود النار على الاحراق ، ويسمى هذا «برهانا لمّيّا» لانه يفيد علية الحكم في نفس الامر وعند المستدل وقد يكون استدلالا بالمعلول على العلة ، كما يستدل بوجود الاحراق في جسم على ملاقاة النار له. وقد يكون استدلالا بوجود أحد المعلولين على وجود المعلول الاخر (١) ، كما يستدل بوجود النهار على اضاءة العالم ، وهما معلولا وجود الشمس (٢) ، ويسمى هذان القسمان «برهانا إنيا» لانه يفيد انية الحكم ، أي النسبة (٣) ، أي وجودها عند المستدل لا في نفس الامر.

وبتقسيم آخر : قد يكون عقليا محضا ، كقولنا العالم ممكن ، وكل ممكن مفتقر الى المؤثر ، فالعالم مفتقر الى المؤثر. ونقليا محضا ، كقولنا شارب الخمر فاعل كبيرة ، وكل فاعل كبيرة مستحق للعقاب ، فشارب الخمر مستحق للعقاب. ومركب من العقلي والنقلي ، كقولنا الجمع بين الاختين حرمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكما حرمه النبي (ص) فهو حرام في نفس الامر فالجمع بين الاختين حرام في نفس الامر.

ومنع المصنف من تركب الدليل من النقليات المحضة ، لانه ما لم يثبت صدق المنقول عنه لا يكون قوله حجة ، وثبوت صدقه انما هو بالمعجز ، والاستدلال بالمعجز انما هو بالعقل لا بالسمع.

وجوّز بعض الفضلاء ذلك واستدل : بأن وجوب انتهائه الى العقل لا يمنع من كونه دليلا يلزم من العلم به العلم بشيء آخر ، كما أن الدليل المركب من

__________________

(١) وهذا القسم مركب من المعلولين الاولين ، لان وجود أحد المعلولين يستلزم وجود علته ، ووجود علته يستلزم وجود المعلول الاخر.

(٢) في «ن» : وهما معا معلول علة واحدة ، وهى وجود الشمس.

(٣) فى «ن» : أى نسبة وجودها.

١١٦

مقدمتين نظريتين يجب انتهاؤه الى الضروريات ، دفعا للدور والتسلسل ، ومع ذلك يسمى دليلا نظريا.

واعلم أنه ذهب فخر الدين الرازي ومن تبعه الى أن الدليل النقلي سواء كان محضا أو مركبا لا يفيد اليقين ، لتوقفه على انتفاء أمور عشرة : الاول : [انتفاء الغلط في] نقل مفردات الالفاظ الثاني : الغلط في إعرابها الثالث : الغلط في تصريفها. الرابع : الاشتراك. الخامس : المجاز. السادس : التخصيص. السابع : النسخ. الثامن : الاضمار. التاسع : التقديم والتأخير. العاشر : المعارض العقلي.

وانتفاء هذه الامور مظنون [والمتوقف على المظنون مظنون] والمتوقف على المظنون أولى بأن يكون مظنونا.

وقال بعض المحققون : الحق افادته لليقين ، وليس الشرط في افادته أن تكون الامور المذكورة حاصلة في ذهن المستفيد ومنتفية عنده ، بل كونها حاصلة في نفس الامر ، فانا قد نتيقن المراد من [اللفظ] المنقول ولم يسبق الى أذهاننا شيء من هذه الشرائط ، كقوله تعالى (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) (١) فانا نعلم منه نفي كونه والدا ومولودا ، لكن اذا حصل في ذهننا هذا اليقين استدللنا به على أن تلك الشرائط كانت حاصلة في نفس الامر.

واعلم أن كل ما يتوقف عليه صدق الرسول لا يستدل عليه بقوله ، وما لا يتوقف يجوز الاستدلال فيه بالعقل خاصة وبالنقل خاصة وبهما معا ، كوحدة الصانع واستحالة رؤيته وغيرهما (٢).

__________________

(١) سورة التوحيد : ٣.

(٢) ككونه متكلما سميعا بصيرا «منه».

١١٧

[تحقيق حول الإرادة والكراهة]

قال : السادس عشر ـ الإرادة والكراهة : وهما كيفيتان نفسانيتان ترجحان الفعل أو الترك. وهل هما زائدتان على الداعي أم لا؟ خلاف. والحق الزيادة في حقنا لا في حقه تعالى ، وإرادة الشيء يستلزم كراهة ضده لا نفسها.

اقول : اعلم ان من الاعراض النفسانية الإرادة والكراهة ، وهما مشروطتان بحياة محلهما ضرورة ، وهما من الامور الوجدانية ، فلا يفتقران الى تعريف ، لكن يرجع حاصل الإرادة الى صفة مرجحة لاحد طرفيه (١) ، وهو جانب الفعل. والكراهة صفة مرجحة لاحد طرفيه أيضا ، وهو جانب الترك.

ثم ان الداعي هو العلم باشتمال الشيء على المصلحة الباعثة على ايجاده والصارف هو العلم باشتمال الفعل على المفسدة الموجبة لتركه. فهل الإرادة والكراهة نفس الداعي أو الصارف أم مغايران لهما ، فقيل : بالزيادة مطلقا ، أي في حقنا وحق الواجب تعالى ، وهو قول الاشاعرة. وقيل : بعدم الزيادة مطلقا ، لا في حقنا ولا في حق الله تعالى ، بل هما نفس الداعي والصارف ، وهما نوعان من العلم المطلق الشامل لليقين والظن ، وإليه ذهب المحقق الطوسي رحمه‌الله.

[ومختار المصنف رحمه‌الله] ومذهب أبي الحسين وجماعة من المحققين هو أنهما زائدان في حقنا لا في حق الله تعالى.

أما الاول : فلوجهين : الاول : ما نجد في أنفسنا ضرورة بعد العلم أو الظن بالمصلحة ميلا وشوقا الى تحصيل ما علم أو ظن مصلحته ، ونجد أيضا بعد العلم أو الظن بالمفسدة انصرافا وانقباضا عن الفعل المشتمل على المفسدة المعلومة أو المظنونة ،

__________________

(١) فى «ن» : طرفى المقدور.

١١٨

وباعتبار هذين الزائدين يحصل الترجيح للفعل أو الترك ، فيكونان هما الإرادة والكراهة ، وهو المطلوب.

الثاني : انهما لو كانا نفس الداعي أو الصارف في حقنا ، لما وجد الداعي أو الصارف بدونهما ، والملازمة ظاهرة ، وأما بطلان اللازم فلانا نتصور منفعة الخير ـ وهو الداعي ـ ولا نفعله ، لعدم الإرادة ، ونتصور القبيح ـ وهو الصارف ـ ونفعله ، لعدم الكراهة ، فلا يكونان نفس الداعي والصارف ، وهو المطلوب.

وأما الثاني : وهو عدم الزيادة في حق الله تعالى ، فلانه لما امتنع عليه الظن والوهم ، لم تكن دواعيه وصوارفه الا علوما ، ولما كان الشوق والميل والنفرة من توابع القوى الحيوانية لم يتحقق [الزائد] في حقه تعالى.

وفيه نظر : لان التابع للقوى الحيوانية هو الميل والنفرة الطبيعيان ، والميل والانصراف هنا بحسب العقل ، وفرق بينهما ، لان أحدنا ينفر عن الدواء بطبعه ويميل إليه بعقله ، من حيث أنه علم أنه يزيل مرضه ، فلو كان الميل هنا بحسب الطبع ، لكان مائلا الى الشيء الواحد [و] نافرا عنه بحسب الطبع في الوقت الواحد ، وهو محال.

وكذلك الصائم الشديد العطش في الصيف يميل طبعه الى شرب الماء وينصرف عنه بعقله ، لما علم من حصول العقاب عليه ، فثبت أن الميل والانصراف اللذين نجدهما عند العلم باشتمال الفعل على المصلحة والمفسدة ليستا بحسب الطبع ، وانما هما بحسب العقل ، واذا كان كذلك جاز أن يكون مريدا (١) بهذا المعنى بل الحق انهما انما يكونان زائدين في حقنا ، وأما في حقه تعالى فلا ، لما يجيء من كون صفاته عين ذاته.

وهل إرادة الشيء نفس كراهة ضده أم هي مستلزمة لكراهة ضده؟ المختار

__________________

(١) فى «ن» : زائدا.

١١٩

الثاني ، لانها لو كنت نفس الكراهة للزم من تصور إرادة الشيء تصور كراهة ضده ، لكنه ليس كذلك ، لانا نتصور الشيء ونغفل عن ضده فضلا عن كراهته.

[تعريف الشهوة والنفرة]

قال : السابع عشر ـ الشهوة والنفرة : وهما كيفيتان نفسانيتان مغايرتان للارادة والكراهة ، فانا نريد شرب الدواء وقت الحاجة ولا نشتهيه ، ونشتهي الملاذ المحرمة ولا نريدها.

أقول : هما أيضا من الوجدانيات فلا يفتقران الى تعريف ، ومشروطتان أيضا بحياة محلهما. وحاصل الشهوة هي الميل الطبيعي مع الشعور ، والنفرة هي الاباء الطبيعي مع الشعور.

وهما مغايرتان للارادة والكراهة ، أما مغايرة الإرادة للشهوة فلانا نريد شرب الدواء وقت الحاجة ولا نشتهيه. وأما مغايرة الكراهة للنفرة ، فلانا نشتهي الملاذ المحرمة ولا نريدها بل نكرهها.

[تعريف الالم واللذة]

قال : الثامن عشر ـ الالم واللذة : وهما كيفيتان وجدانيتان. فاللذة ادراك الملائم ، والالم ادراك المنافي (١). وسبب الالم تفرق الاتصال ، أو سوء المزاج المختلف.

أقول : الالم واللذة نوعان من الادراك ، حصل لهما التخصيص بنوع من الاضافة الى المنافي والملائم ، فيشترط حينئذ في محلهما الحياة.

وحيث انهما من الامور الوجدانية لا يفتقران الى التعريف ، لكن يقال فيهما

__________________

(١) وفى المطبوع من المتن : المنافر.

١٢٠