ينابيع النصيحة في العقائد الصحيحة

السيد الأمير الحسين بن بدر الدين

ينابيع النصيحة في العقائد الصحيحة

المؤلف:

السيد الأمير الحسين بن بدر الدين


المحقق: د. المرتضى بن زيد المحطوري الحسني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة بدر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٩٩

بحاله ، وقد أعدّ الله فيه جميع ما يصلح دينه ودنياه قبل حاجته إليه ، من الجوارح والقدرة ، وجعل كلّ جارحة تصلح لما لا تصلح له الجارحة الأخرى ، فركّب فيه للسماع أذنين ، وللبصر عينين ، وللشم أنفا ، وجعل الفم مشتملا على اللسان والأسنان. وجعل له آلة الذّوق ، والطعام ، والانبعاق (١) في جميع أنواع الكلام ، وسبيلين لإخراج الأذى ، ويدين للبطش واللمس ، ورجلين للمشي ، مع اشتمال جسمه على عروق كثيرة مختلفة المنافع.

وعن جعفر الصادق عليه‌السلام (٢) أنه قال : «جعل الله المرارة في الأذنين ؛ لئلا تدخل الهوامّ في خروقهما إلى الدماغ ، وجعل الملوحة في العينين ؛ لأنهما شحمتان فأمسكهما بالملوحة ؛ لئلا تذوبا ، وجعل الرطوبة في المنخرين ؛ لأن يجد بهما الإنسان ريح الأشياء ، فلو لا رطوبتهما كانا كسائر جسده ، وجعل الحلاوة في اللسان والشفتين ؛ لأن يجد به الإنسان طعم الأشياء ، وجعل بطن الراحة لا شعر فيه ؛ ليحسّ اللمس» (٣) ، ثم قال الصادق : أخبرني بهذا أبي عن أبيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فانظر إلى هذه الحكمة البالغة.

__________________

(١) بعق في الحديث انصبّ فيه بشدة. وفي الحديث : «إنّ الله يكره الانبعاق في الكلام ، فرحم الله عبدا. أوجز في كلامه» ، [مختار الصحاح ص ٥٨].

(٢) جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين السبط بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ، ولد سنة ٨٠ ه‍ وقيل ٨٣ ه‍ وتوفي ١٤٨ ه‍ ، سادس الأئمة الاثني عشر عند الإمامية ، وإليه ينتسب المذهب الجعفري الإمامي ، وله منزلة رفيعة في العلم. أخذ عنه أبو حنيفة ومالك ، وقال فيه : ما رأت عيني أفضل منه فضلا وعلما وورعا. وهو أشهر من نار على علم. ينظر أعيان الشيعة ج ١ ص ٦٦٠.

(٣) ربما ذكر هذا في كتابه : خلق الإنسان وتركيبه.

٤١

وكذلك من نظر في خلق الطاوس وحده اكتفى ، وقد وصفها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام في بعض خطبه (١) بما فيه كفاية ، ومن جملته قوله فيها : «فإذا تصفحت شعرة من شعره أرتك حمرة وردية ، وتارة خضرة زبرجدية ، وأحيانا تريك (٢) صفرة عسجدية».

وعلى الجملة فمن نظر في أقل قليل من خلق العالم علم أنّه محكم غاية الإحكام ، ومتقن نهاية الإتقان ، على حدّ يعجز عنه الخلق كلّهم. فثبت أنه قد صح منه الفعل المحكم. ولا شبهة في كونه ابتداء ؛ لأنه خالق الفاعلين ، وإله الأوّلين والآخرين.

وإنما قلنا : بأن الفعل المحكم لا يصح ابتداء إلا من عالم ؛ بدليل أنّ من صح منه ذلك لا بد أن يفارق من تعذّر عليه بمفارقة لو لا ها لما صح منه ما تعذر على الآخر ، على نحو ما تقدم. وتلك المفارقة هي التي عبّر عنها أهل اللغة بكونه عالما ، وقد بيّنا أنه تعالى أوجد العالم على نهاية الإحكام ؛ فوجب وصفه بأنه عالم ، لأنّ الدليل يطّرد شاهدا وغائبا.

فصل فيما يوافق ذلك ويؤكده من الشرع :

قال الله تعالى : (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [التغابن : ١١] ، وهذا يقتضي أنه تعالى عالم بجميع المعلومات ، لأنّ الخطاب عامّ لا تخصيص فيه ، وقال تعالى في صفة نفسه : (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) [طه : ٧] ، وقال تعالى : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر : ١٩] ، وقوله تعالى : (إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ

__________________

(١) رقم الخطبة : ١٦٣. ص ٣٩٨. من نهج البلاغة. وبعض النسخ رقم ١٦٥.

(٢) لا توجد (تريك) في لفظ النهج.

٤٢

وَلا فِي السَّماءِ) [إبراهيم : ٣٨] إلى غير ذلك من الآيات. وقد قدّمنا طرفا من السنة في ذلك.

المسألة الرابعة

ونعتقد أنه تعالى حي. وفيه فصلان :

أحدهما في معنى الحي : وهو المختصّ بصفة ؛ لاختصاصه بها يصحّ أن يقدر ويعلم. والثاني في الدلالة على أنه حي : والذي يدلّ على ذلك أنه قادر عالم. والقادر العالم لا يكون إلا حيّا. وإنما قلنا : بأنه قادر عالم لما تقدم بيانه من الدلالة.

وإنما قلنا : بأنّ القادر العالم لا يكون إلا حيّا ، لأنّ من صح أن يقدر ويعلم لا بد أن يفارق من استحال عليه ذلك ـ كالميت والجماد ـ بمفارقة لولاها لما صح منه ما استحال على غيره ، وتلك المفارقة هي التي عبّر عنها أهل اللغة بكونه حيّا.

فصل فيما يؤكّد ذلك من جهة الشرع :

قال الله تعالى : (هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [غافر : ٦٥] إلى غير ذلك. وذلك ظاهر من جهة السّنة ، وبه كان يدين النبي الأمين صلوات الله عليه وعلى آله الأكرمين.

المسألة الخامسة

ونعتقد أنّه تعالى قديم. وفيه فصلان :

أحدهما في معنى القديم : وله معنيان : لغويّ واصطلاحي. أما اللّغوي : فهو ما تقادم وجوده. يقال : بناء قديم ، ورسم قديم. وعليه يحمل قوله تعالى : (حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) [يس : ٣٩] والعرجون هو شماريخ

٤٣

النخل ؛ لأنه إذا يبس قوّس. وأما الاصطلاحي : فهو في اصطلاح المتكلمين : الموجود الذي لا أوّل لوجوده (١).

الفصل الثاني في الدلالة على أنه تعالى قديم :

والذي يدل على ذلك : إما أنّه تعالى موجود وهو جنس الحد (٢).

فالذي يدل على ذلك أنّ عدم القدرة على الفعل تمنع من وجود الفعل من الواحد منّا مع وجود ذاته (٣) ، وثبوت علمه وحياته على ما تقدم. وعدم ذات الفاعل أولى بالمنع من ذلك (٤) ؛ من حيث إن حاجتها (٥) إليه هي حاجة الأثر إلى مؤثّره ، وهو أقوى من حاجتها إلى القدرة ، ولأنّ الفعل يدلّ بنفسه على وجود فاعله ؛ لأنه لا بد من تعلّق بين الفعل وفاعله على ما هو ظاهر عند العقلاء ، والتعلّق يحيل العدم ، وقد دللنا على أنّ الأفعال قد وجدت منه تعالى ، ووجودها فرع على وجود ذاته عزوجل ؛ فثبت أنه تعالى موجود.

وإمّا أنّه لا أوّل لوجوده وهو فصل الحد ؛ فلأنه لو كان لوجوده أوّل لكان محدثا ، فإن ذلك هو معنى المحدث ، ولو كان محدثا لاحتاج إلى محدث ، لأنّ المحدث متعلق في العقل بمحدثه كما كانت الكتابة متعلقة بكاتبها ، والنظم بناظمه ، والبناء ببانيه ؛ إذ لا يجوز في العقل وجود أثر لا مؤثّر له ، ولا وجود كتابة لا كاتب لها ، ولا نظم لا ناظم له ، ولا بناء لا باني له. فثبت أنّه لو كان

__________________

(١) شرح الأصول الخمسة ١٨١.

(٢) جنس الحد ما يدخل فيه المحدود وغيره مثل موجود يدخل كل الموجودات أما الفصل فهو ما يميز المحدود عن غيره وهو هنا قوله لا أوّل لوجوده الذي ذكره في قوله وإمّا الثانية.

(٣) أي الواحد.

(٤) أي من وجود الفعل.

(٥) أي القدرة.

٤٤

محدثا لاحتاج إلى محدث ، وكذلك يحتاج هذا المحدث الثاني إلى محدث ، ثم كذلك حتى يتسلسل إلى ما لا يتناهى من المحدثين. ومعلوم خلاف ذلك.

فثبت أنه تعالى لا أول لوجوده ، وثبت بذلك أنه تعالى قديم.

فصل فيما يوافق ذلك من جهة الشرع :

قال الله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) [الحديد ٣] ، وقال تعالى : (هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [غافر : ٦٥]. والحي لا يكون إلا موجودا كما بيّنّاه أوّلا. فثبت أنه موجود لا أوّل لوجوده ولا آخر لوجوده ، وذلك ظاهر من جهة السّنة.

فصل : وإذا ثبت أنه تعالى يستحقّ هذه الصفات ؛ فعندنا أنه يستحقها لذاته ، على معنى أنه لا يحتاج في ثبوتها إلى غيره من فاعل أو علّة (١).

والذي يبطل ثبوتها له بالفاعل : أنّه تعالى قديم ، والقديم لا فاعل له. ولأنّ القديم لو استحقها بالفاعل لكان الكلام في ذلك الفاعل كالكلام في الله تعالى ، فيحتاج في ثبوتها له إلى فاعل ، والفاعل إلى فاعل ، حتى يؤدي ذلك إلى القول بما لا يتناهى من الفاعلين ، وذلك محال ، فبطل أن يستحقّ القديم هذه الصفات بالفاعل ، ولا يجوز أن يستحقّها لعلة واحدة ولا لعلل ؛ لأنها لا تخلو إما (٢) أن تكون موجودة أو معدومة ، ومحال ثبوتها لعلل معدومة ؛ لأنّ

__________________

(١) والكون مفعول للفاعل وليس معلول للعلة كالضوء معلول للشمس التي هي علته ؛ لأن العلة يصدر عنها معلول واحد كالحرارة والضوء من الشمس فلو كان الله علة لما تنوعت الكائنات.

(٢) إمّا ساقطة في (ب) ، وغيرها ما عدا الأصل.

٤٥

العدم مقطعة الاختصاص (١) ، والعلة (٢) لا توجب [المعلول] إلا بشرط الاختصاص ؛ ولأنّ في تصحيحها إبطالها ، وكلّ ما كان في تصحيحه إبطاله فهو باطل ، ولأنّه لو استحقها لعل معدومة لوجب في جميع الذوات أن تكون مستحقّة لمثل ما استحقه من هذه الصفات ؛ لأنّ العدم لا اختصاص له ببعض الذوات دون البعض الآخر ، بل هو مع الكل منها على سواء. وفي علمنا باختصاص بعض الذوات بذلك دون بعض دلالة على أنه لا يجوز ثبوتها له لعلل معدومة ، ولا يجوز ثبوتها له تعالى لعلل قديمة كما تقوله الصفاتية من الأشعرية (٣) ، فإنهم ذهبوا إلى أنه تعالى حي بحياة ، وقادر بقدرة ، وعالم بعلم ،

__________________

(١) أي أن العدم لا يوصف بشيء. والاختصاصات عندهم خمسة أنواع : الأول : اختصاص الشيء بالشيء ، بأن يحله فيوجب له ؛ كاختصاص الكون بالجوهر. الثاني : اختصاص الشيء بالشيء ، بأن يحل محل بعضه ؛ فيوجب لجملته كاختصاص القدرة والعلم ونحوهما بالواحد منا. الثالث : اختصاص الشيء بالشيء ، بأن يوجد على حد وجوده ؛ فيوجب له أو ينفيه ، كاختصاص الإرادة بالباري تعالى ، واختصاص الفناء بالجوهر ، وقد عدّ الإمام يحيى بن حمزة هذا الاختصاص اختصاصين. الرابع : اختصاص الشيء بالشيء ، بأن يحله فيلتبس به ؛ كاختصاص الكون بمحله. الخامس : اختصاص الشيء بالشيء ، بأن يوجد في محله فينفيه ؛ كاختصاص السواد بالبياض ، وكذا جميع المتضادات الباقية المراجعة إلى المحل. اه معراج ، وبعض الأمثلة إنما تصح على رأي المعتزلة البصرية. اه تمت السيد عبد الرحمن شائم.

(٢) كالنار فهي علة للحرارة. إنك عند ما تحاول أن تختبر صحة التعليل ينكشف من المقدمات البطلان.

(٣) هم الذين يثبتون لله صفات زائدة على ذاته سبحانه ، ويقولون بأنها قديمة أزلية ولا يؤلون ما ورد في حق الله من الوجه واليد ونحو ذلك ، حتى وإن أدى إلى التجسيم والتشبيه. ينظر : شرح المواقف ٣ / ٦٨. وفي مقابل هؤلاء الزيدية والمعتزلة ونحوهم ، وهم الذي يقولون : صفة الله عين ذاته مبررين قولهم بأن القول بزيادة الصفة مشكل ؛ لأن معنى زيادة الصفة على الذات أنها غيرها ، وبالتالي فلا بد أن تحل في الذات وهنا محذور الحلول والظرف والمظروف ، كما يقال : إن الصفات الزائدة لا بد وأن تكون متقدمة على الذات أو مقارنة أو متأخرة وكل ذلك محال ويؤدي إلى الكفر ؛ لأن تقدم الصفة معناه أن الذات

٤٦

وسميع بسمع ، وبصير ببصر ، ومريد بإرادة ، ومتكلم بكلام (١). وكلّ ذلك معان قديمة عندهم ، وقالوا : لا هي هو ولا هي غيره ، ولا هي بعضه ، ولا هي كلّه. وقالوا : لو لا هذه المعاني لما كان على هذه الصفات. والذي يدل على إبطال قولهم وجوه :

أحدها : أنّ في تصحيحها إبطالها ، وكلّ ما كان في تصحيحه إبطاله فهو باطل.

وإنما قلنا : إنّ في تصحيحها إبطالها من حيث إنها قديمة عندهم ، فكان يجب ثبوت هذه الصفات في الأزل ؛ لثبوت موجبها في الأزل ، وهو العلل القديمة ، وإذا كانت ثابتة [أي الصفات] في الأزل كانت ثابتة على سبيل الوجوب (٢) ؛ لأنه لا حالة قبل ذلك فتكون فيها جائزة ثم تجب ، وإذا كانت ثابتة له تعالى على سبيل الوجوب استغنت بوجوبها عن العلل القديمة ؛ فثبت أنه يكون في تصحيحها إبطالها ، وإنما قلنا بأنّ كلّ ما كان في تصحيحه إبطاله فهو باطل فذلك ظاهر لا يجهله عاقل.

__________________

محدثة ، ومقارنتها يعني تعدد القدماء ، وتأخرها يعني أن الله كان ضعيفا ثم قوي وجاهلا ثم علم وهكذا .. تعالى الله ، فقول الزيدية صفته ذاته تفسير سليم وموفق مع أنهم يوصفون بالمعطلة وليسوا معطلة وإنما فسروا الصفات تفسيرا يليق بجلال الله ويخرج المسلمين من المحاذير المذكورة مع الاتفاق أن لله صفات ورد بها الكتاب السنة ولا يمكن إمكان ذلك ، فافهم.

(١) انظر : رسالة إلى أهل الثغر لأبي الحسن الأشعري ص ٤ ـ ٢١.

(٢) لأنّ القديم واجب الوجود بسبب قدمه ، وإلا فهو محدث ، والقديم لا يحتاج لعلة ولا غيرها ؛ لأنه لم يسبق بشيء. ولتوضيح ذلك نقول : سلّمنا بأنّ العلل القديمة هي التي أوجدت الصفات لله ، وحينئذ فيجب أن تكون الصفات قديمة ؛ لأن الذي أوجدها قديم ، ثم نقول : ما دامت الصفات قديمة فلا تحتاج لمن يوجدها ؛ لأن القديم بطبعه واجب الوجود بدون شيء ، ولا يصح أن يسبقه شيء وإلا فليس بقديم فانتقض الا دعاء وبطل زعمهم بأن صفات الله لمعان قديمة ؛ لأنّا حاولنا تصحيحها فبطلت كالثوب المهلهل إذا رقعته انفتق ، والعلة كالشمس يصدر عنها المعلول وهو الضوء.

٤٧

الوجه الثاني : أنه لا طريق إلى إثبات هذه المعاني القديمة ، وكلّ ما لا طريق إليه وجب نفيه.

وإنما قلنا : إنّه لا طريق إلى إثباتها ؛ لأنه لا يدل شيء من أدلة العقول على إثباتها ، وقد دلّ العقل على أنه قادر ، وموجود ، ودلّ الإحكام في الصنع والإتقان على أنه عالم ، ودلّ الدليل المتقدم على أنه لا يكون قادرا عالما إلا وهو حي ، ودلّ على أنّه قديم ، وكذلك سائر الصفات على ما مضى بيانه في بعضها.

والباقي سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى ، وليس في شيء من هذه الأدلة ما يدل على المعاني التي ذكروها ، فثبت أنه لا طريق إلى إثباتها.

وإنما قلنا : بأنّ كل ما لا طريق إليه وجب نفيه ؛ لأنّ إثباتها بغير دلالة يفتح باب كل جهالة.

الوجه الثالث : أنّ تلك المعاني لا تخلو أن تحلّ في الله تعالى أو لا تحلّ. باطل أن لا تحلّ فيه تعالى وتوجب له ؛ لعدم الاختصاص به تعالى ، فكان يجب أن لا توجب له لعدم الاختصاص به.

ثم لو سلمنا أنّها توجب مع فقد الاختصاص فلم تكن بأن توجب له أولى من أن لا توجب له وأولى من أن توجب هذه الصفات لغيره لعدم الاختصاص ، ألا ترى أنّ أحدنا لمّا كان قادرا بقدرة ، وعالما بعلم ، وحيّا بحياة وجب حلول هذه المعاني فيه ؛ ليكون بها قادرا وعالما وحيّا ، وباطل أن تحلّ فيه تعالى ، لأنّ المحالّ كلّها محدثة ، فإنا لا نعني بالمحال إلا المتحيّزات من الجواهر والأجسام ، وقد دللنا على حدوث جميعها. وهو تعالى قديم ، فلا يجوز حلولها فيه ، فكان لا بدّ من أحد أمرين : إمّا أن يكون محدثا لكونه متحيّزا أو محلّا ، وإمّا أن يكون المتحيّز قديما لاحتياج القديم إلى حلوله (١). وكلا الأمرين محال.

__________________

(١) أي حلول المعنى في الذات لتؤثر كما يقولون.

٤٨

الوجه الرابع : أنّ تلك المعاني القديمة لم تكن بأن توجب له هذه (١) الصفات أولى من أن يوجب تعالى لها ذلك ، لأنه قد اشترك هو وتلك المعاني القديمة في الوجود فيما لم يزل ، فلا اختصاص للبعض بالإيجاب دون البعض ، وذلك محال.

فأما مقالة الأشعرية في إثبات هذه المعاني السبعة (٢) وأنّها قديمة ، وأن الذات هي الثامنة ، فإنها زائدة على مذهب النصارى الذين قالوا : (ثالِثُ ثَلاثَةٍ) [المائدة : ٧٣] زيادة بيّنة ؛ لأنّ الثمانية أكثر من الثلاثة.

وقولهم : لا هي الله ، ولا هي غيره ، ولا هي بعضه ، فمن المحالات الظاهرة (٣) ؛ لأنّ المعلوم عند كل منصف أنها إذا لم تكن هي الله فقد صارت غيره ، وإذا لم تكن هي غيره فهي هو. فأما البعض فهو غير جائز عليه سبحانه بلا خلاف بيننا وبينهم ، فبطل بذلك قول الصفاتية ، وثبت أنه تعالى لا يستحق هذه الصفات لمعان قديمة.

ولا تجوز له لمعان محدثة ؛ لأنه كان يجب أن يحتاج في حدوثها إلى محدث قادر عالم حيّ ، وذلك لا يجوز.

وإنما قلنا : بأنّه كان يجب أنه يحتاج في حدوثها إلى محدث قادر عالم حي. أمّا أنها تحتاج إلى محدث قادر فلما بينا فيما تقدم أنّ كل محدث يحتاج إلى محدث قادر.

وأمّا أنه يجب أن يكون حيّا فلما بيّنا أنّ كلّ قادر فهو حيّ ، وأمّا أنه يجب

__________________

(١) هذه : ساقطة من (ب) ، (ج).

(٢) المعاني السبعة هي قولهم : حي بحياة ، وقادر بقدرة ، وعالم بعلم ، وسميع بسمع ، وبصير ببصر ، ومريد بإرادة ، ومتكلم بكلام.

(٣) الظاهرة : محذوفة في (ب) ، (ج).

٤٩

أن يكون عالما ؛ فلأن من جملة هذه المعاني العلم ؛ إذ ذلك هو مذهب الصفاتية القائلين بأنه تعالى عالم بعلم ، والعلم لا يصح وجوده إلا من عالم ، بدليل أنّ الواحد منا إنما يتوصّل إلى تحصيل العلم بما لا يعلمه بعلم ما يعلمه قبل ذلك ، فيتوصّل بالدليل أو بغيره من تذكّر النظر وما أشبهه إلى أن يعلم ما يريد أن يعلمه ؛ ولهذا فإن الصبي والمجنون يتعذر عليهما تحصيل العلوم والمعارف ؛ لأنّ علوم العقل التي هي مبادئ الأدلة والبراهين وأصولها لم تتكامل في حقهما ـ وإن كانا قد يعلمان كثيرا من المعلومات ـ ويصح ذلك من العاقل لتكامل عقله.

فالحكم الذي هو صحة إحداث العلم يثبت بثبوت كونه عالما وينتفي بانتفائه ، وليس هناك ما تعليق الحكم به أولى ، فلا بد من تعلّق ، وأدنى درجات التعلق هو تعلّق الشرط بالمشروط ، فيكون كونه عالما شرطا في صحة إحداثه للعلم ، فثبت أنه تعالى لو استحقها لعلل محدثة لوجب أن تحتاج تلك (١) العلل في حدوثها إلى محدث قادر عالم حيّ.

وإنما قلنا : بأنّ ذلك لا يجوز ؛ لأنه لا يخلو أن يكون هو الله أو غيره. فالأول باطل ؛ لأنه لا يصح منه إحداثها حتى يكون على هذه الصفات فيكون قادرا عالما حيّا ؛ لما تقدم بيانه ، وهو لا يكون على هذه الصفات حتى يحدثها فيقف كلّ واحد من الأمرين على الآخر ، فلا يحصلان ، ولا واحد منهما.

ولا يجوز أن يحدثها غيره ؛ لأنّ ذلك الغير كان يجب أن يكون قبل إحداثها مختصا بهذه الصفات ؛ فكان يجب أن يحتاج في ثبوتها له إلى علل أخرى محدثة ، ثم كذلك حتى يؤدي إلى القول بما لا يتناهى من الفاعلين والعلل ، وذلك محال ، أو إلى ثبوت بعضها دون بعض وذلك باطل ؛ لعدم

__________________

(١) تلك : ساقطة من (ب).

٥٠

المخصّص ، فيجب نفي المقدّر المفروض ، والاقتصار على المحقّق المعلوم ، والقضاء بأنّ الله تعالى يستحقّ هذه الصفات لذاته دون أن يستحقّها لعلة ولا لعلل ، بحمد الله تعالى.

فصل : وإذا ثبت أنه تعالى يستحق هذه الصفات لذاته ـ ثبت أنه عالم بجميع المعلومات على كل الوجوه التي تصح أن تعلم عليها ؛ لأنه لا اختصاص لذاته ولا لما هو عليه في ذاته من صفاته الواجبة الثابتة لذاته ببعض المعلومات دون بعض. فإمّا أن يعلمها على العموم فهو الذي نقول ، أو لا يعلم شيئا منها انتقض القول بكونه عالما ، وقد ثبت أنه تعالى عالم.

وإمّا أن يعلم بعضها دون بعض من دون مخصص ؛ فذلك لا يجوز ؛ لأنّ فيه إثبات الأحكام بغير دلالة ، وذلك يفتح باب كل جهالة ، وقد قال تعالى : (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [التغابن : ١١] ، وهذه آية عامة لم يخصّها شيء من الأدلة السمعية ولا العقلية ، وإنما المخصّص لكون الواحد منّا عالما هو العلم ، فإنّ الواحد منا عالم بعلم. والعلم الواحد لا يتعلق على سبيل التفصيل بأزيد من معلوم واحد ، وإلا تعدى إلى أكثر من ذلك ، وذلك محال.

يبين ذلك ويوضحه أنّ العلم الواحد لو تعلق بمعلومين أو ثلاثة فصاعدا ثم تعلّق الجهل بأحدهما لم يخل أن ينفي ذلك العلم الواحد الذي تعلق بجميعها فهذا محال ؛ لأنه يؤدي إلى أنّ الجهل بكون زيد في الدار يضاد العلم بكون عمرو في المسجد أو لا ينفيه ، وذلك أيضا محال ؛ لما بينها من التضاد ، أو ينفيه من وجه دون وجه وذلك محال لأنه يكون موجودا معدوما في حالة واحدة ، فثبت أن ذلك لا يجوز.

فصل : وإذا ثبت أنه تعالى يستحق هذه الصفات لذاته ـ وجب أن يكون قادرا على جميع أجناس المقدورات ، ومن كل جنس ، في كل وقت ،

٥١

على ما لا نهاية له ؛ لأنّه لا اختصاص لذاته ولا لما هو عليه في ذاته من صفاته الواجبة بجنس من المقدورات دون جنس ، ولا بقدر من الأجناس دون قدر على نحو ما مضى بيانه في كونه عالما.

وإنّما المخصّص لكون الواحد منّا قادرا على البعض دون البعض هو القدرة ، فإن الواحد منّا قادر بقدرة محدثة ، محدثها الله تعالى. والقدرة تحصي (١) مقدورها في الجنس والعدد.

أمّا الجنس فعشرة أجناس : خمسة من أفعال القلوب : وهي الاعتقادات ، والإرادات ، والكراهات ، والظنون ، والأفكار. وخمسة من أفعال الجوارح : وهي الأكوان ، والاعتمادات ، والتأليفات (٢) ، والأصوات ، والآلام.

والذي يدلّ على ذلك أنّ الواحد منّا لو دعاه أوفر داع إلى إيجاد ما عداها من الأعراض لتعذّر عليه إيجاده على كل حال من الأحوال ، وفي كل وقت من الأوقات.

وأما حصرها له في العدد ؛ فلأنّ القدرة لا تتعلق (٣) في الوقت الواحد في

__________________

(١) في (أ) ، (ج) : تحصر. و (د) ، (ب) : يحصر. و (ه) : حصر.

(٢) ينظر الكلام على هذه الأجناس في رياضة الأفهام للإمام المهدي في مقدمة البحر الزخار. الاعتقادات : مثل الجنة حق ونحوه. والإرادات : يريد الشرب ونحوه. والكراهات : كراهة الروائح المنتنة. والظنون : الظن واليقين والوهم والشك. والأفكار : سنحت فكرة. والأكوان : يفعل أو لا يفعل. ينظر أو لا ينظر. والاعتمادات : كالساكن لا يخرج من السكون إلى الحركة إلا بواسطة ؛ لأنه لا يمكن التقاء النقيضين في جزء فيقال فيه : متحرك ساكن ؛ فافترضوا شيئا ينقل الشيء إلى صفة وسموه الاعتماد ، وهذا أوضح وجوه معنى الاعتماد. والتأليفات : الجمع بين شيئين ؛ فكل شيء كان متفرقا ثم اجتمع كذرات الكون.

(٣) في (ب) فلأنّ حدّ القدرة لا يتعلق.

٥٢

المحل الواحد من الجنس الواحد على الوجه الواحد بأزيد من مقدور واحد ، إذ لو تعدّت ولا حاصر لتعدّت إلى ما لا نهاية له ، ومعلوم خلاف ذلك ؛ لأنّ القول بتعدّيها يزيل التفاضل بين القادرين ، وقد علمنا خلاف ذلك ؛ وقد ثبت أنه تعالى قادر لا بقدرة ، فيجب أن لا ينحصر مقدوره في الجنس ولا في العدد.

وإذ قد ذكرنا (١) أن بعض العدلية قد ذهب إلى أنه تعالى غير قادر على أعيان مقدورات العباد ؛ فلأنّ عين المقدور الواحد يستحيل أن يكون مقدورا لقادرين ، والله تعالى إنّما يوصف بكونه قادرا على ما يصح دون ما يستحيل.

وإنّما قلنا : بأنّه يستحيل مقدور بين قادرين ؛ لأنّه لو كان صحيحا ثم دعى أحدهما داع مكين إلى إيجاد ذلك المقدور ، والآخر صرفه صارف مكين عن إيجاده لم يخل إمّا أن يحصل مراداهما (٢) ، أدى ذلك إلى أن يكون موجودا بحسب داعي أحدهما ، وإلى أن يكون معدوما بحسب صارف الآخر ، فيكون موجودا معدوما وذلك محال. أو لا يحصل مراداهما جميعا وذلك محال ، لأنّه يخرج عن كونه مقدورا لواحد منهما. أو يحصل مراد أحدهما دون الآخر فذلك محال ؛ لأنّ من حق القادر أن يحصل فعله عند دعاء الداعي المكين ، وأن لا يحصل عند حصول الصارف المكين. وقد أدى إلى هذه المحالات القول بمقدور بين قادرين ، فيجب أن يكون محالا ، وفيه نظر (٣).

__________________

(١) لعله يريد قوله في أول الفصل : أجناس المقدورات ، تعليق على قول بعض العدلية يقال بالنظر إلى قدسيته لا يعجزه شيء ، وبالنظر إلى حكمته لا يفعل مقدورات عباده لئلا يبطل الثواب والعقاب ، ثم إن عين مقدور العبد يستحيل أن يكون فعلا لغيره وهو ما قصده بعض العدلية.

(٢) في بقية النسخ (مرادهما).

(٣) المقدور بين قادرين متفقين لا مختلفين يمكن حصوله وفاقا لأبي الحسين البصري من المعتزلة ، وخالف بعض متأخري الزيدية كالمهدي عليه‌السلام وغيره من الشيعة وجمهور المعتزلة ، فقالوا : إنه محال فلا تتعلق قدرة قادر بعين ما تعلقت به قدرة قادر آخر ،

٥٣

المسألة السادسة

ونعتقد أنّه تعالى سميع بصير. وفيها فصلان :

أحدهما في معنى السميع البصير : ومعناه أنه حيّ لا آفة به (١). والثاني في الدلالة على أنّه تعالى سميع بصير وإذا أردنا ذلك تكلمنا في مطلبين : أحدهما : في الدلالة على أنه تعالى حي وهذا قد مضى بيانه.

والمطلب الثاني : في الدلالة على أنه تعالى لا آفة به.

وبيانه أنّ معنى الآفات هاهنا : هو فساد تركيب الحواس ، بدليل أنه لا يجوز إثبات ذلك بأحد اللفظين ونفيه باللفظ الآخر ، فلا يجوز أن يقال : بفلان آفة ، وما فسدت له حاسّة ، وعلى العكس من ذلك؟

وقلنا : «هاهنا» احترازا من آفات الزرائع وسائر الجمادات ، والحواسّ بعض من أبعاض الحي ، وجزء من أجزائه. والأبعاض والأجزاء لا تجوز إلا على الأجسام ، وهو تعالى ليس بجسم لما بيّنّاه من حدوث الأجسام وقدمه تعالى.

وإذا ثبت أنّه تعالى حيّ لا آفة به فهو سميع بصير ، لأنّ أهل اللغة يصفون من هذه حاله بأنه سميع بصير ، وإن لم يكن عالما بالمسموعات والمبصرات ،

__________________

بل إنما تتعلق بجنسه. مثال ذلك : الخشبة التي وزنها مائة كيلو فحملها رجلان فهي في الظاهر مقدورة بين قادرين وليس كذلك ؛ لأن كل واحد حمل حصته فقط ، بدليل أن الواحد لم يكن قادرا عليها ، وإنما لم يتميز حصة كل واحد فقط. وقالوا سواء في ذلك القادر بقدرة أو القادر بغير قدرة وهو الله ؛ فلا يقدر عندهم على عين مقدور عبده ؛ لأنه من المستحيل وكأن صاحب الينابيع يرى صحة مقدور بين قادرين كمثال الخشبة. ينظر عدة الأكياس ١ / ٢٢٧.

(١) قال الإمام القاسم بن محمد عليه‌السلام في الأساس ص ٤٠ : جمهور أئمتنا عليهم‌السلام وهما بمعنى عالم. بعض أئمتنا عليهم‌السلام وبعض شيعتهم والبصرية بمعنى حي لا آفة به.

٥٤

بأن يكون ساهيا أو نائما. ويثبت هذا الوصف بما ذكرناه ، وينتفي بانتفائه على اصطلاحهم ومواضعتهم ؛ ولهذا لا يصفون الأصمّ والأعمى بذلك ـ وإن كانا يعلمان المسموعات والمبصرات قبل أن يصيبهما العمى والصّمم ـ وكذلك من لا يكون حيّا فإنهم لا يصفونه بأنه سميع بصير.

فثبت بذلك ما ذكرناه من أنه تعالى سميع بصير. وقد قال سبحانه : (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [المجادلة : ١] ، فصار بذلك مؤكّدا لأدلة العقل.

فكمل بكمال هذه المسألة مسائل الإثبات في التوحيد ، ويلحق بذلك ما تتعلق به الصّفاتية أهل الجهالات من ظواهر الآيات (١) ، من ذلك قول الله تعالى : (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) [فاطر : ١١] ، قالوا : فقد أثبت العلم لنفسه.

والجواب : أنّ الظاهر لا تعلّق لهم به ؛ من حيث إنّه يقتضي أنّ الوضع كان بعلمه ، والحمل كذلك أيضا ، فيكون العلم آلة للحمل والوضع ؛ لأنّ ذلك هو ما يقتضيه ظاهر اللفظ ، وهذا مما لا خفاء (٢) لفساده ، ولا يقوله الخصم أيضا.

ومن ذلك قوله تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) [البقرة : ٢٥٥] (٣) فظاهره يقتضي أن علمه يتبعّض لدخول «من» عليه ، وهي موضوعة في اللغة للتبعيض.

[وقوله تعالى : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) (٤)

__________________

(١) شرح المواقف ٣ / ١١٣.

(٢) في بقية النسخ لا خفا.

(٣) في (ه) الظاهر أن هنا سقط ، ولعله : ولا يحيطون بشيء من علمه ، أي من معلومه ، ومن ذلك قوله تعالى : (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) وظاهره يقتضي .. إلخ.

(٤) ذكر في هامش الأصل وهامش (ب) : الظاهر أنّ هاهنا ساقطا وأن الخصم قد احتج

٥٥

[النساء : ١٦٦] ومتى عدل الخصم عن ظاهر هذا الخطاب سقط تعلقه ، وإذا سقط تعلقه ، قلنا : إنّ معنى ذلك أنّه تعالى أنزله وهو عالم به ، كما بينا ذلك في «كتاب إرشاد العباد إلى سويّ الاعتقاد» ، وبيّنا الوجوه التي تحتمل ذلك من جهة اللغة ، ثم أبطلنا جميعها إلا ما ذكرناه هاهنا.

[ومن ذلك قوله تعالى : (فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) [هود : ١٤]. والجواب : أنه لا تعلق لهم به من حيث إنّه يقتضي أنه آلة الإنزال ، وهذا مما لا خفى في فساده] (١). ويجوز أن يكون معنى قوله : (بِعِلْمِ اللهِ) يعني وهو عالم أنه لا يقدر أحد على معارضته ، وعالم بوجوهه التي أوقعه عليها.

وبعد : فلفظة العلم مصدر [من] (٢) قولهم : علم يعلم علما ، والمصدر يتردد بين الفاعل والمفعول ، فتارة يراد به الفاعل ، وتارة يراد به المفعول ، يقال : فعلت كذا بعلمي ، أي وأنا عالم به ، ويقال : ليكن جميع ما يفعله فلان بعلمك ، أي لتكن عالما بجميع ما يفعله. ويقال : علم الهادي (٣) إلى الحق عليه‌السلام ، أي معلومه ، وكذلك علم الشافعي وأبي حنيفة.

وإذا كثر استعمال ذلك تارة عن العالم وتارة عن المعلوم ، وجب صرفه في كل موضع إلى ما يليق به من المعنى دون إثبات المعنى الذي هو العرض.

ومن ذلك قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران : ١٤٢] ، وقوله تعالى : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ

__________________

بقوله تعالى : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ ، أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ). الآية. والله أعلم.

(١) ما بين القوسين ساقط في الأصل. وهو موجود في (ب).

(٢) في (ب) : لا توجد من ، فيكون مصدر مضاف.

(٣) في بقية النسخ : ويقال : هذا علم الهادي.

٥٦

عَلى عَقِبَيْهِ) الآية ، [البقرة : ١٤٣]. وقوله تعالى : (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ) [سبأ : ٢١] الآية ، وقوله عزوجل : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) [الأنفال : ٦٦] ، وقوله سبحانه : (لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [يونس : ١٤] ، وقوله تعالى : (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) [طه : ٤٤].

فالمخالفون تعلقوا بهذه الآيات ، وقالوا : إنه لم يكن عالما قبل ذلك ، وإنما حدث له العلم ؛ لأنه لا يجوز أن يقول مثل ذلك وهو به عالم.

والجواب : عن ذلك أنّ ما ذكروه لا يصح ؛ لأنّ العلم بحالهم وما كلّفهم لو لم يتقدم لقبح التكليف أصلا ؛ لأنه إنما يحسن من المكلّف أن يأمر (١) بما يعلم حسنه ، وأنّ المكلّف متمكن من فعله على الوجوه التي كلّف. فكيف يصح مع هذا أن يكون علمه بحالهم حادثا بعد التكليف عند فعلهم ما كلّفوا.

على أنه ليس في ظواهر هذه الآيات ما ينبئ عن كونه غير عالم بما سيكون منهم ، وإنما فيه أنهم لا يدخلون الجنة حتى يعلم المجاهدين منهم ، وحتى يعلم من يؤمن. والعالم بالشيء (٢) إنما يكون عالما به إذا علمه على ما هو به.

فالله تعالى إنما يعلم المجاهد مجاهدا إذا جاهد ، ويعلمه مؤمنا إذا آمن ، وليس في ذلك نفي كونه عالما بمن سيؤمن وسيجاهد ، وهذا موضع الخلاف.

فأما معنى هذه الآيات فهو أن أهل اللغة لفصاحتهم ، من عادتهم أن يخبروا عما يريدون الإخبار عنه بأن يعلّقوا الخبر والوصف بما يوجد عند وجوده ، وذلك يختلف : فمن ذلك تسميتهم النبوة رحمة ، في قوله تعالى : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) [الزخرف : ٣٢] فسمّى النبوة رحمة لمّا كان إيتاؤه إيّاها

__________________

(١) في (ب) : يأمرهم.

(٢) في (ب) : بشيء.

٥٧

رحمة على العباد (١). ومن ذلك الإخبار عن الشيء بما لا يحصل إلا معه وبه ، كما أخبر عن الوطء بالملامسة تارة (٢) ، وباللمس أخرى (٣) ، وبالمباشرة تارة.

ومن ذلك الإخبار عن الشيء بما ينبئ عنه ويدل عليه أو يقوم مقامه ، نحو تسمية الإشارة الدّالة على صوم مريم قولا لمّا كانت تلك الإشارة في الإخبار عن صومها تقوم مقام القول. ومن ذلك أن يقام الإخبار عما معه يحصل الثاني أو يتعلق به ، نحو قوله تعالى : (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) [طه : ٤٦] ، أخبر بذلك عن حفظهما ونصرهما ؛ إذ كان النصر والحفظ قد يقعان عند العلم (٤) لحاجة (٥) الغير إليهما. ومن ذلك الإخبار عن الشيء بما يحصل عند حصوله لا محالة ، وذلك نحو تعليق حصول الشيء بعلم الله تعالى الذي لا بد أن يعلمه كائنا عند كونه ، وذلك نحو قولهم : لم يعلم الله من ذلك قليلا ولا كثيرا ، قصدا لنفي كونه ، فلمّا كان جميع ما يحصل ويكون يعلمه الله (٦) ـ علّق حصوله به على ما بيناه ؛ وإذا كان كذلك فقوله : (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران : ١٤٢] معناه : ولمّا تجاهدوا وتصبروا (٧) ؛ لأنّه لا فرق عند أهل اللغة العربية بين أن يقول : ولمّا تجاهدوا

__________________

(١) في (ب) : للعباد.

(٢) في (ب) بحذف تارة.

(٣) الأظهر بالمس إشارة لقوله سبحانه : (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) ؛ لأن الملامسة هي اللمس. والملامسة يشير إلى قوله تعالى : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ).

(٤) في (ب) و (ج) عن العلم.

(٥) في (ب) بحاجة وهو الأنسب.

(٦) في (ب) ، (ج) : بعلم الله تعالى.

(٧) في (ب) : يجاهدوا ويصبروا ، بالياء.

٥٨

وتصبروا (١) ، وبين أن يقول : ولمّا يعلم الله منكم الجهاد والصبر ، بل هما سواء ، لأنّ علم الله تعالى بالجهاد هاهنا عبارة عن حدوث الجهاد ، وعلم الله بالصبر عبارة عن حدوث الصبر نفسه ؛ فمعنى حصول علمه بهما هو حصولهما ؛ لأنهما لا يحصلان إذا حصلا إلا بعلم الله ، فسواء قولك : يكون كذا إن علم الله منك الجهاد والصبر ، وقولك : إن جاهدت وصبرت.

وكذلك قوله : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) [البقرة : ١٤٣] ، معناه ليتميز المتّبع من المنقلب ؛ لأنه إذا اتبع هذا وانقلب هذا علمه الله كائنا ، وإن كان قبل ذلك عالما بما سيكون من ذلك ؛ لا أنه لا يعلم كون هذا متّبعا وهذا منقلبا إلا بعد وجود الاتباع والانقلاب منهما ، فسقط تعلّق المخالف بذلك في حدوث العلم ، وصح ووضح أنه إنما علّقه به إخبارا عن حدوث الفعل المعلّق به العلم. وكذلك قوله تعالى : (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ) [سبأ : ٢١] ، يجب حمله على هذا المعنى فقط ، من حيث إنّ كون (٢) سلطانه عليهم لا يقتضي علمه بالمؤمن والكافر ؛ لأنه ليس بسبب له ولا بعلة موجبة (٣) ، وإنما يقتضي ذلك من حيث ما ذكرناه (٤) ، وهو أنّ بدعوته إياهم يتميّز المؤمن من الكافر ، والمخلص من المرتاب ، فيعلم الله المؤمن حاصلا منه الإيمان والكافر حاصلا منه الكفر ، وإن كان عالما قبل ذلك بما يكون منهما ،

__________________

(١) في الأصل تجاهد وتصبر وهو مخالف للسياق ، ولذلك آثرنا اعتماد نسخة (ب) ، بإثبات واو الجماعة.

(٢) في (ب) : أن يكون.

(٣) في (ب) : توجبه.

(٤) في (ب) و (ج) و (د) من حيث ذكرناه.

٥٩

إلا أنه لا يجوز أن يعلمه مؤمنا وهو لم يؤمن بعد ، كما لا يجوز أن يعلمه أسود إلا بعد كونه أسود ، وهذا التفسير مستمر على ما بيناه أوّلا.

وكذلك قوله : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) [الأنفال : ٦٦] احتجوا لقولهم بأنّ (١) حدوث العلم كان مع حدوث التخفيف ، فكما أنّ التّخفيف حدث الآن فكذلك القول في العلم.

والجواب : أنّ ظاهر اللفظ لا يقتضي ما ادّعوه ؛ لأنّ الواو قد تكون عطفا ، وتكون ابتدائية ، وتكون حالا ، إلى غير ذلك. وليست في هذا الموضع بعطف ؛ لأنها لو كانت عطفا لوجب أن يكون العلم وجد بعد التخفيف عند من يقول : إنّ الواو في العطف تقتضي الترتيب ، أو تقتضي الجمع عند من يقول : إنها لا تقتضيه ، وليس ذلك بقول لأحد ، فسقط قولهم. وعلى أنّ المعلوم أنه تعالى أراد أنّ التخفيف حدث بعد العلم بأنّ فيهم ضعفا ، فإذا صح هذا فالآية توجب أن يكون التخفيف حادثا ، وليست توجب حدوث العلم ، ويكون إنما أوجب التخفيف لأجل حدوث الضعف ، لا لأجل حدوث العلم ؛ لأنّ الضعف لو كان قبل ذلك حادثا لوجب أن يكون العلم به حاصلا ، ولوجب أن يخفّف قبل ذلك [الوقت] (٢) ، فلما فسد ذلك صح أن الضعف حدث الآن ، فإن التخفيف إنما وجد عقيب حدوث الضعف ، وأن العلم بذلك غير حادث ، فإنما علقه على ما بيناه من حيث لا يجوز أن يعلم الضعف ولمّا يحصل ، وإنما يعلم الضعف موجودا عند وجوده على ما بيناه.

ولا يقدح ذلك في كونه عالما بأن الضعف سيوجد ويحصل ولا ينافيه ، لأنه لا ذكر له في الخطاب ، ولا يفهم من صريحه ولا من معناه ولا من إشارته ولا مفهومه ولا من فحواه.

__________________

(١) في (ب) بقولهم أنّ.

(٢) الوقت : تعليقة في (ب).

٦٠