ينابيع النصيحة في العقائد الصحيحة

السيد الأمير الحسين بن بدر الدين

ينابيع النصيحة في العقائد الصحيحة

المؤلف:

السيد الأمير الحسين بن بدر الدين


المحقق: د. المرتضى بن زيد المحطوري الحسني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة بدر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٩٩

بِأَعْيُنِنا) [القمر : ١٣ ـ ١٤] ، المراد تجري بعلمنا. وعن الحسن أنه قال : (بِأَعْيُنِنا) أي بأمرنا (١). وقيل : تجري بأعين أوليائنا الموكّلين بها. وقيل : بحفظنا وحراستنا لها. وقيل : بأعيننا التي أجرينا في الأرض وكذلك قوله تعالى : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) [طه : ٣٩] فإن قوله : (عَلى عَيْنِي) أي لتربّى بأمري ، عن ابن عباس (٢). وروي في معناه عن الحسن لتغذّى بعلمي. وكذلك قوله : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) [هود : ٣٧] أي بعلمنا وحفظنا لك من قومك ، ووحينا على ما علّمناك من الصّنعة فيها. قال ابن عبّاس : بتعليمنا ووحينا ، قال : فهبط جبريل فعلّم نوحا كيف يعمل طولها وعرضها وسمكها [سقفها] وذنبها (٣).

وكذلك روي عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) [الطور : ٤٨] ، قال في كلاءتنا وحفظنا (٤) ، وهو مشاكل لنمط الآية ، أي لأنك محافظ عليك ومراعى أمرك. وقيل : بعلمنا تتقلب ، عن مجاهد ، قال : وهو قوله : (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ* وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) [الشعراء : ٢١٨ ، ٢١٩] ، وقوله تعالى : (يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) [محمد : ١٩] ، والأول أصح وأوجه.

__________________

(١) ينظر تفسير الإمام زيد ص ٣١٢. وتفسير جامع البيان للطبري مج ١٣ جزء ٢٧ ص ١٢٥. والقرطبي ١٧ / ٨٧. والدر المصون ١٠ / ١٣٥. والأعقم ص ٦٩١. والمنتخب في تفسير القرآن ص ١٨٧. والطبرسي ٩ / ٣١٥. والمارودي ٥ / ٤١٢. وفتح القدير للشوكاني ٥ / ١٢٣. والميزان ١٩ / ٦٨. والخازن مع البغوي ٦ / ٦٥

(٢) ينظر تفسير ابن عباس ص ٢٦١.

(٣) ينظر الدر المنثور : ١ / ٥٩٣.

(٤) غريب القرآن للإمام زيد ص ٣٠٨. وجميع التفاسير السابقة تفسر كذلك. قال في تفسير ابن عباس : بمنظر منّا.

١٠١

واعلم أنّ ظاهر هذه الآيات يقتضي ما لا يجيزه مسلم ولا يطلقه أحد من الأمة. ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) [طه : ٣٩] يوجب أن يكون صنع المخاطب وهو موسى عليه‌السلام على عين الله تعالى ، وكذلك قوله : (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) [الطور : ٤٨] يقتضي أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأعينه تعالى فتكون أعينه مكانا له. وكذلك قوله : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) [هود : ٣٧] ، وقوله : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) [القمر : ١٤] ، والقوم لا يقولون بذلك. ويقتضي أيضا أن يكون له تعالى أكثر من عينين ، وذلك مما لا يصح القول به. فإذا منع الدليل من الجريان على الظاهر ، ورجعوا إلى التأويل ، فنحن أولى منهم بذلك لما تقدم من الدلالة ، وهكذا نسلك معهم هذا المسلك في جميع الآيات والله الهادي.

ومما تعلقت به الحشويّة المشبهة قوله تعالى : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) [القلم : ٤٢] قالت الحشوية وذلك أن ربّهم يأتيهم يوم القيامة في غير صورته التي يعرفون ، فيقول : أنا ربكم فيهمّون أن يبطشوا به ، فيكشف عن ساقه ، فيخرّون سجّدا. تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا (١).

والجواب : عن ذلك أن نقول ليس لهم في ظاهر الآية تعلّق ؛ لأنه تعالى لم يقل لهم : إنّه يكشف عن ساقه ، ولا أنبأهم من الذي يكشف عن ساقه ، وإنما أخبر عن لفظ المجهول ، فذكر ساقا منكّرا غير معرّف (٢) ولا دلالة في ظاهر الآية

__________________

(١) رواه البخاري ٦ / ٢٧٠٦ رقم ٧٠٠١ ، ومتن الحديث ظاهر النكارة يعرف ذلك من تأمله من غير تعصب وهو أيضا مروي برقم ٤٣٠٥ ، ٧٠٠٠. وفي مسلم ١ / ١٦٧ ، ١٦٣ ، في باب الرؤية. وينظر الصفات لابن خزيمة ص ٩٠. وأقاويل الثقات ص ١٧٣. وتفسير ابن كثير ٤ / ٤٠٧.

(٢) في (ب) ، (ج) : معروف.

١٠٢

فسقط تعلّقهم بها. فأمّا هذا الخبر فخبر ضعيف (١) معارض للعقل ومحكم القرآن والسّنّة المعلومة وإجماع المسلمين من الصحابة والتابعين فوجب سقوطه. والساق له معان أربعة في لغة العرب (٢) وقد ذكرناها في كتاب الإرشاد. والذي يختص (٣) الآية من تلك المعان هو المعنى الرابع وهو شدّة الأمر في يوم القيامة. وهذا المعنى ثابت في اللغة ، فإن الساق قد يراد به شدّة الأمر ، ومنه ساق الحرب ، يقال : قد قامت الحرب على ساق. وكشفت الحرب عن ساقها إذا ظهرت شدّتها. قال الشاعر (٤) :

كشفت لهم عن ساقها

وبدا من القوم الصّراح

وقال غيره :

وشرّ ما فوقك ضرب الأعناق

قد قامت الحرب بنا على ساق (٥)

__________________

(١) هامش في (ب) : بل موضوع يشهد لكذبه المعقول والمسموع ، تمت كاتبه. والكاتب السيد محمد أحمد علي شمس الدين.

(٢) في كتب اللغة معان هي : ١ ـ ساق القدم. ٢ ـ عبارة عن الشدة ، ٣ ـ ساق الشجرة. ٤ ـ ساق الحمام. أنظر تاج العروس ١٣ / ٢٢٦.

(٣) في (ج) : يخص.

(٤) الشاعر هو جدّ أبي طرفة بن العبد. واسمه سعد بن مالك أحد سادات بكر بن وائل وفرسانها والبيت من قصيده قالها في حرب البسوس وشطر البيت الأخر :

وبدا من الشر الصّراح

كما في ديوان الحماسة لأبي تمام ١ / ١٩٢ ـ ١٩٣. وشرح المفصل ٥ / ٧٢.

(٥) في الدر المنثور ٦ / ٣٩٨ : سئل ابن عباس عن قوله : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) ، قال : إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر فإنه ديوان العرب ، أما سمعتهم قول الشاعر :

١٠٣

وقد ورد (١) هذا التفسير عن الصحابة والتابعين (٢) ، روي عن ابن عباس أنه قال : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) [القلم : ٤٢]. قال : عن أمر شديد ، قال : وهو أشدّ ساعة في القيامة ، وعن سعيد بن المسيب قال : إنما يعني شدة الأمر.

ومن ذلك قوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) .. الآية [النور : ٣٥] قالوا : فالنور جسم فلمّا صرّح تعالى بأنه نور صرّح بأنه جسم (٣).

__________________

اصبر عناق إنه شر باق

قد سنّ لي قومك ضرب الأعناق

وقامت الحرب بنا على ساق

أنظر الدر المنثور ٦ / ٣٩٧. في الدر المصون ١٠ / ٤١٨. والبحر المحيط ٨ / ٣١٦ :

صبرا أمام إنه شر باق

وقامت الحرب بنا على ساق

وقول الشاعر حاتم :

أخو الحرب إن عضّت به الحرب عضّها

وإن شمّرت عن ساقها الحرب شمّرا

وكذلك :

قد شمّرت عن ساقها فشدّوا

وجدّت الحرب بكم فجدّوا

وفي رواية : كشفت.

(١) في (ب) : روي. وفوقها تعليقة : ورد.

(٢) ينظر حول هذا : الكشاف ٤ / ٥٩٣ ، والمصابيح ١ / ٤١٣. والبحر المحيط ٨ / ٣١٦. والطبرسي ١٠ / ٩٥. والطبري مج ١٢ ج ٢٩ ص ٥٢. والدر المصون ١٠ / ٤١٦. والدر المنثور ٦ / ٣٩٧. وتفسير الماوردي ٦ / ٧٠. وكل تفاسير القرآن تفسر بما فسّره المؤلف. وكلها تؤكد أن الساق غير الجارحة. ومن فسره بالجارحه فقد خالف العقل واللغة ، وحمل القرآن على روايات هزيلة مكذوبة.

(٣) هو قول الغزالي في كتابه مشكاة الأنوار كما نقله عنه الفخر الرازي في تفسيره وقال إنه قال : إن الله نور في الحقيقة ، بل ليس النور إلا هو. ينظر تفسير الرازي مج ١٢ ج ٢٣ ص ٢٢٥ ، وهو قول المجسمة ومنهم الجواليقي نقله الشوكاني في تفسيره ، فتح القدير ٤ / ٣٢. أما إمام الحرمين الجويني فقال : لا يستجيز منهم منتم إلى الإسلام القول بأن نور السموات والأرض هو الإله. والمقصود من الآية ضرب الامثال. والمعنى : الله هادي أهل السموات والأرض. ينظر الإرشاد ص ١٤٨. وفي أقاويل الثقات ص ١٩٥ : الصحيح عندنا أنه نور لا كالأنوار. وتفسير ابن كثير ٣ / ٢٩٠.

١٠٤

والجواب : أنا نمنعهم من التعلّق بظاهر الآية بوجوه ثم نبين معناها (١) فأما الوجوه المانعة من التعلق بظاهرها : فمنها أنه لم يقل : نور على الإطلاق بل قيد ، فلو كان نورا على الحقيقة لم يكن لذلك فائدة ؛ لأن ما كان نورا على الحقيقة فهو نور لأيّ شيء كان ، فلا وجه لإضافته إلى السموات والأرض وهذا هو الوجه الأول.

وثانيها : أنه لو أراد أنه نورهما على معنى الضياء ، لوجب أن لا يكون في شيء من السموات والأرض ظلمة بحال لأنه دائم لا يزول ، ولم يقل : إنه نورهما في وقت دون وقت. وإن جوّزوا عليه التّغيير لزمهم أن يكون نورا لهما في حال دون حال.

وثالثها : أنه لو كان المراد به الضياء ، لوجب أن يقع به الاستضاءة دون الشمس ، والمشاهدة قاضية بخلافه.

ورابعها : أنه يؤدّي إلى مناقضة القرآن قال الله تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [الأنعام : ١] ، فكيف يكون نورا مع كون النور مخلوقا ، ولفظة النّور عامّة لوجهين : أحدهما عند بعض العلماء ، وهو أنها لفظة جنس معرّفة بالألف واللّام ، وذلك عندهم يقتضي العموم. والثاني : وهو أنها عامة بعلّة الخلقيّة والجعليّة ، ولا يجوز مناقضة القرآن لقوله تعالى : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) [ق : ٢٩] ، وقوله : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) [فصلت : ٤٢] ، وقوله : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢].

وخامسها : أنّ قولهم : النور جسم ، غلط ؛ لأن النور هو الضياء وهو عرض

__________________

(١) في (ب) ، (ج) : معانيها.

١٠٥

وإنّما الجسم الذي يقوم به النّور دون ذات النور ، هذا عند بعض العلماء وعند بعضهم أنّ النور جسم ؛ لأن النور عندهم هو الأجسام الصقيلة الرقيقة النّيرة كأشعة الشمس والقمر وغير ذلك. والظلمة عندهم هي الأجسام الرقيقة المنبثّة المختصّة بالسواد كالهواء الذي لا شعاع فيه ، وعلى الوجهين جميعا فقولهم باطل ؛ لأنّا قد دللنا فيما تقدم على حدوث الأجسام والأعراض ، وعلى قدمه تعالى. فبطل ما ذكروه.

وسادسها : أن ذلك تحقيق قول الثنوية في زعمهم بالأصلين : النور والظلمة وغير ذلك من الوجوه التي ذكرناها في كتاب الإرشاد.

وأما معنى الآية فقراءة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام : الله نور السموات والارض [النور : ٣٥] أي هادي أهل السموات والأرض (١) ، وهي (٢) قراءة ابن مسعود ، وقيل : نور بمعنى منوّر السموات (٣) ؛ لأنه خلق النور (٤). قوله تعالى : (مَثَلُ نُورِهِ) قيل : هدايته للمؤمن (٥). وقيل الهاء في نوره راجعة إلى غير مذكور (٦) وهو المؤمن ، يعني مثل نور المؤمن الذي في قلبه. وقرأ أبيّ : مثل نور من آمن به (٧).

__________________

(١) ينظر تفسير الرازي مج ١٢ ج ٢٣ ص ٢٣١ حيث فسر بهذا. وكتاب الإرشاد للجويني ص ١٤٨. والماوردي ٤ / ١٠٢. والدر المنثور : ٢ / ٨٧.

(٢) كل النسخ : وهو ، ما عدا (ب) فقد أصلحها «وهي» ، ولذلك أثبتناه لأنه الأولى.

(٣) رواها صاحب الدر المصون ٨ / ٤٠٣. وذكر أن قراءة زيد بن علي ، وأبي جعفر المنصور ، وعبد العزيز المكي شيخ الحرم المكي. وينظر غريب القرآن للإمام زيد ٢٢٤.

(٤) في بقية النسخ : خالق النور.

(٥) في (ج) : للمؤمنين.

(٦) في (ب) : المذكور

(٧) الجامع للقرطبي ١٢ / ١٧٢.

١٠٦

واعلم أن أصل النور ما أبان لك الشيء ، ولذلك سمّي الضياء نورا ؛ لأنه يتبين به الأشياء فتدرك ، وقد جعل الله كلّ ما يقع به الاهتداء من القرآن ، والنبي ، والإسلام نورا ؛ لأن ذلك يبيّن الحقّ من الباطل ، فقال في القرآن : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) [التغابن : ٨]. وقال في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَسِراجاً مُنِيراً) [الأحزاب : ٤٦].

ووصف الهداية في الإسلام بأنها نور ؛ فقال : (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [المائدة : ١٦] ووصف الله تعالى نفسه بأنه نور السموات والأرض ؛ لأنّ كلّ من فيهما يهتدي به وبكلامه وهدايته ودلالته ، فهو نور القلب لا نور العين ، وهو هادي أهل السموات وأهل الأرض.

المسألة الثامنة

ونعتقد أنه تعالى غنيّ. وفيها فصلان :

أحدهما : في معنى الغني. والثاني : في الدلالة على أنه تعالى غني.

أما الأول : فالغنيّ هو : الحيّ الذي ليس بمحتاج ، فلا غنيّ على الحقيقة إلا الله تعالى ؛ لأن الواحد منا وإن لم يكن محتاجا إلى غيره من الخلق فهو محتاج إلى الله تعالى ، وإلى ما في يده وقبضته من الأموال وغيرها ، فإذن الحاجة لا تكون زائلة عن أحد من الأحياء على الإطلاق إلّا عن الله تعالى.

وأما الفصل الثاني : وهو في الدلالة على أنه تعالى غنيّ :

أمّا أنّه حيّ وهو جنس الحدّ فقد تقدم بيانه ، وأمّا أنه ليس بمحتاج وهو فصل الحدّ. فالذي يدل على ذلك أنّ الحاجة هي الدواعي الداعية إلى جلب نفع أو دفع ضرر ، والمنفعة والمضرة لا تجوزان إلّا على من جازت عليه اللّذة والسرور والغمّ والألم ؛ لأن المنفعة هي اللذة والسرور وما أدى إليهما أو إلى

١٠٧

أحدهما ، والمضرّة هي الغمّ والألم وما أدى إليهما أو إلى أحدهما ، واللّذة والسرور والغم والألم لا تجوز إلّا على من كان مشتهيا أو نافرا ؛ لأنّ اللّذة تستعمل في معنيين : ـ

أحدهما : إدراك الشيء مع اقتران الشهوة به ؛ كإدراك أحدنا للقمة العسل. والثاني : المعنى الحادث المدرك بمحل الحياة في محل الحياة مع اقتران الشهوة به ، نحو ما يحصل مع الجرب عند حكّه للجرب الذي فيه.

والألم يستعمل في معنيين ـ أحدهما : إدراك الشيء مع اقتران النّفرة به ؛ كإدراك أحدنا للقمة الحنظل والصّبر. والثاني : المعنى الحادث المدرك بمحل الحياة في محل الحياة مع اقتران النّفرة به ، نحو ما يحصل مع الجرب عقيب حكّ (١) الجرب الذي فيه من الألم. فإذا كانت اللذة والسرور والغم والألم لا تجوز إلا على من كان مشتهيا أو نافرا فيلتذّ بإدراك ما يشتهيه ويستر به ، ويتألم بإدراك ما ينفر عنه ويغتم به. فإن الشهوة والنّفار لا يجوزان إلا على من جازت عليه الزيادة والنّقصان. والزيادة والنقصان مستحيلان على الله تعالى في كل حال من الأحوال ، وإذا استحالت عليه الشهوة والنّفار في كل حال استحالت عليه الحاجة في كل حال ، وإذا استحالت عليه الحاجة في كل حال ثبت أنه غنيّ في جميع الأحوال عن كل حسن وقبيح من الأفعال.

وممّا يؤكّد ذلك من جهة السّمع

قول الله تعالى : (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) [محمد ٣٨] ، وقوله : (وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) [التغابن ٦] ، إلى غير ذلك.

__________________

(١) في بقية النسخ : حكه للجرب.

١٠٨

المسألة التاسعة :

ونعتقد أن الله تعالى لا يرى بالأبصار في الدنيا ولا في الآخرة

والكلام فيها يقع في ثلاثة مواضع : أحدها : في حكاية المذهب وذكر الخلاف. والثاني : في الدّلالة على صحّة ما ذهبنا إليه ، وفساد ما ذهب إليه المخالف. وثالثها : في إيراد ما يتعلّق به المخالفون من الآيات والأخبار المتشابهة ، وبيان ما يصحّ من معانيها (١).

__________________

(١) لم أكن متحمّسا للتعليق على مسألة الرؤية ؛ لأنها متعلقة برؤية الله أو عدم رؤيته يوم القيامة ، ومع ذلك فالخصام حولها شديد. المانعون من الرؤية يتّهمون المجيزين لها بأنهم مشبهة ومجسّمة ؛ لأن المرئي لا بد أن يكون جسما أو عرضا ؛ وهذا كفر ؛ لأن الله ليس كمثله شيء ؛ والرؤية تؤدي إلى مناقضة القرآن ؛ لأن النص القرآني الواضح المحكم ينفي الرؤية ، قال سبحانه : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ، [الأنعام : ١٠٣].

والمجيزون للرؤية استدلوا بقوله تعالى : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) ونحوها ، وما رواه البخاري فقد أورد حديثين رقم «٧٠٠٠» ، «٧٠٠١» ذكر فيها أن الله يأتي إلى أمة محمد يوم القيامة وفيها المؤمن والمنافق فينكرون أنه الله ؛ فيأتي مرة ثانية في صورة قد عرفوها. وفي الحديث الثاني كذلك إلا أنه يقول : هل بينكم وبينه علامة؟ فيقولون : الساق ؛ فيكشف عن ساقه.

وهذا لا إشكال فيه عند من يثبت الجسم لله والأعضاء ، ويقول بالخروج من النار ، ولا مفر منه عند من يجمد فوق النصوص.

أما المانع من رؤية الله فلهم نظر في تفسير الآيات والاحاديث الواردة حول الرؤية ، وقد وجهوا هذه الأسئلة والإشكالات على ما رواه البخاري وغيره :

أولا : أن في رواية أبي هريرة أن المنافقين من جملة من يرى الله ، في حين أن الرؤية عند من يقول بها إنما هي تكريم للمؤمنين فكيف ثبتت هنا للمنافقين؟!.

ثانيا : الرؤية في الحديثين في المحشر ، وهم يفسرون الآية : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) ؛ [يونس ٢٦] ؛ بأنها رؤية في الجنة.

ثالثا : إن الأمة قد أنكرت الله أوّلا ولم تعرفه ، ثم عرفته ثانيا فمتى رأته وأثبتت صورته حتى تقر وتنكر؟ هل تمت رؤيته في الدنيا؟ أو كيف جاز أن ينكروه ثم يعرفوه؟ إن هذا عجب!!.

١٠٩

__________________

رابعا : كيف يجوز على الله أن يأتي بوجه ثم بعد ذلك يعود بوجه آخر هل هذا يشبه التمثيل؟ ، وهل لا مانع من القول بأن الله متغير.

خامسا : ما هي العلامة التي في الساق؟ ـ كما في رواية أبي سعيد «٧٠٠١» من البخاري ـ هل هي لافتة أو عنوان؟! أو كما يقال : إن في الساق جرحا من آثر السهم الذي أطلقه النمروذ أو فرعون ليقتل الله؟.

سادسا : المسائل الاعتقادية لا يعمل فيها بأخبار الآحاد. ولا سيما إذا تعارضت مع القرآن الكريم.

وأريد أن أنبه إلى أن الكلام طويل ، والبحث واسع وأنصح بالآتي :

أولا : إذا كان بين المانعين للرؤية أئمة آل البيت ولا سيما الإمام علي وأولاده حتى آخر القرن الثالث الهجري على الأقل فإنا نجدهم مجمعين قطعا على أن الله لا يرى قطعا ، وهؤلاء هم الذين نص الأثر النبوي الشريف على اتباعهم ، حيث قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا كتاب وعترتي أهل بيتي» [مسلم برقم ٢٤٠٨]. فها هم أهل البيت يقولون بعدم الرؤية ؛ فلما ذا لا نلتفت إلى رأيهم؟.

ثانيا : إذا جاز إطلاق العذر لمن أدى به اجتهاده إلى جواز الرؤية فهل يجوز تكفيره؟ أنا شخصيا أرى أن نفرق بين المعاند ، والمقلد البليد ، وبين الباحث الجاد ؛ فأرى التوقف إزاء الفريق الثاني ، ولا أرى تكفير ولا تفسيق من بحث وطلب وتعب وليس في قلبه أدنى معاندة ، ولا زال مستعدّا لقبول الحق ، فعسى الله أن يعذره. أما من يعاند ويذهب إلى رمي المانعين من الرؤية بالكفر أو الزندقة فهو مجازف ليس له ورع. وليس القائل بالرؤية أولى بالحق من المانع منها.

ثالثا : عند ما نبحث المسائل ينبغي أن نستحضر عظمة الله وجلاله ، وأن لا نتعامل مع الله وكأننا في قسم التشريح ؛ لأن الله أجل وأعظم من أن تحيط به الأوهام ، أو تتخيله الظنون سبحانه سبحانه.

رابعا : لما ذا يتعمد البعض تدريس هذه المسألة وأمثالها في المساجد التي لا تقول بالرؤية طلبا للفتنة ، وبحثا عن الشبهات ، وإثارة المشاكل وإلهاء المسلمين عن مصيرهم المهدد في قضايا قد أكل الدهر عليها وشرب. وإذا كانت قابلة للبحث والمناظرة أيام قوة المسلمين ؛ فإن الحال قد تغير ويجب تقديم الأهم مثل جهاد اليهود ، وتحرير المسجد الأقصى ، وبناء بلاد المسلمين ، وتحسين معيشتهم ، ونحو ذلك. وعلى المسلمين أن ينافسوا غيرهم في البر والبحر والجو ، وكم أتمنّى أن أصفع من لا عقل له حين تسلم عليه وما يكاد يرد عليك السّلام حتى يقول : هل الله يرى؟ هل القرآن مخلوق؟ هل الله فوق العرش؟ هل قراءة يس حرام؟ هكذا تحس أنك أمام شريط كاست أو مخلوق محنّط يسرد لك الأسئلة الباردة المكررة التي لا فائدة منها سوى تفريق وتمزيق المسلمين ، وإيغار الصدور.

١١٠

أما الموضع الأول : وهو في حكاية المذهب وذكر الخلاف

فذهب المسلمون كافّة إلى أنه تعالى لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة (١). والخلاف في ذلك مع المشبّهة ، والأشعرية (٢) ، وضرار بن عمرو الكندي (٣) ، والحسن بن أبي بشر الأشعري (٤) ، وسنفصّل قول كلّ مخالف منهم عند الكلام عليهم إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) ينظر المغني ٤٢٩.

(٢) ينظر المواقف في علم الكلام ٢٩٩.

(٣) ضرار بن عمرو الغطفاني : وهو قاض من كبار المعتزلة طمع برئاستهم في بلده فلم يدركها فخالفهم فكفروه وطردوه. وصنف نحو ثلاثين كتابا ، وفيها مقالات خبيثة شهد عليه أحمد بن حنبل عن القاضي سعيد الجمحي فأفتى بضرب عنقه فهرب ، وقيل : أخفاه يحيى بن خالد البرمكي. ت ١٩٠ ه‍. ينظر الأعلام ٣ / ٢١٥. أما الحاكم الجشمي فقال : من عدّه من المعتزلة فقد أخطأ ؛ لأنا نتبرأ منه فهو من المجبرة ، وكذلك ما ذكره الإمام أحمد بن محمد الشرفي في الأساس الكبير ١ / ٤٣٥.

(٤) كنيته : أبو الحسن ، واسمه : علي بن إسماعيل بن أبي بشر بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري. وإليه تنسب الطائفة الأشعرية في العقائد. كان من المعتزلة قرأ على أبي علي الجبائي فانقلب إلى أشد خصومهم وأظهر القول بالجبر. ولد ٢٧٠ ه‍ أو ٢٦٠ ه‍ وتوفي ٣٣٠ ونيف ، وقيل ٣٢٤ ه‍. ينظر ١ / ٢٢٦ من وفيات الأعيان لابن خلكان. والأساس ١ / ١٦٠ وذكر أن الأشعري بعد انقلابه على المعتزلة لم ينقل أنه اتصل بأحد من الأئمة ولا بفرقة من فرق المسلمين فمذهبه في الكلام منقطع الإسناد ؛ لأن دراسته على مشايخ المعتزلة قد تنكر لها ولم يثبت أنه درس على شيخ معروف بل أحيا مذهب جهم بعد أن اندرس بقتله. وبعض المؤرخين يشكك في نسبته إلى أبي موسى الأشعري. ينظر مقدمة الإبانة ص ٩ بتحقيق نوفية حسين محمود ، اختلفوا في عدد مؤلفاته فمنها الإبانة ، ورسالة إلى أهل الثغر ، ورسالة في استحباب الخوض في الكلام ، ومقالات الإسلاميين ، واللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع ، ينظر مقدمة الإبانة ص ٣٨.

١١١

وأما الموضع الثاني :

وهو في الدليل على صحة ما ذهبنا إليه وفساد ما ذهب المخالفون إليه

فالذي يدلّ على ذلك وجهان : أحدهما : أن نفصّل قول كلّ فرقة من المخالفين ونتكلم على بطلان قولها على التعيين. والثاني : أن نستدل على أنه تعالى لا يرى في حال من الأحوال ، وبذلك يتم غرضنا في هذا الموضع.

أما الوجه الأول فنقول وبالله التوفيق : أما المشبّهة فالخلاف بيننا وبينهم في كونه مشبها للأشياء ، وأنه تعالى صورة فوق العرش ، وله أعضاء وجوارح. والخلاف لا يتحقق بيننا وبينهم في الرؤية ، فإنهم لا يخالفوننا في أنه تعالى لو لم يكن جسما لما صحت رؤيته ، ونحن لا نخالفهم في أنه لو كان جسما لصحّت رؤيته. فالخلاف بيننا وبينهم يعود إلى إثبات التشبيه ونفيه ، وقد دللنا على أنه تعالى لا يشبه الأشياء ، فبطل قولهم بالرؤية ؛ إذ القول بالرؤية فرع على كونه جسما ومشبها لما يرى ؛ فإذا بطل الأصل وهو التشبيه بطل الفرع وهو الرؤية.

وأما قول الأشعرية (١) فقالوا : بأنه تعالى يرى لا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا خلف ولا أمام ولا كلّه ولا بعضه ولا يصح أن يشير إليه من يراه ، قالوا : وليس بمتلوّن ولا بمضيء ونراه ، وليس هو في ضياء ولا بيننا وبينه ظلمة. وقولهم خروج عن المعقول. وفيه فتح لأبواب الجهالات ؛ لأن المعقول من الرؤية كون المرئيّ في مقابلة الرائي على هيئة وصورة أو هو حالّ في هيئة وصورة ، والله تعالى يتقدس عن الهيئة والصّورة وأن يكون حالّا في هيئة وصورة بالإجماع بيننا وبينهم ، فقولهم بالرؤية تجاهل عظيم لا يقبله ذو عقل

__________________

(١) ينظر المواقف ٣١٠.

١١٢

سليم ، ولا يتصوّر ثبوته عليم.

وأما قول الحسن بن أبي بشر الأشعري فإنه ذهب إلى أنه تعالى يرى. وأضاف إلى القول بالرؤية القول بأنه تعالى يدرك بجميع الحواس فأجاز أن يسمع ويشم ويذاق ، وربّما لم يتجاسر على التلفّظ بذلك ، وإن كان المعنى عنده ثابتا. وهذا القول خارج عن قول الأمّة ، ولم يتجاسر عليه أحد سواه لشناعته وفساده.

وروي عن كافي الكفاة الصاحب الكافي (١) نفعه الله بصالح عمله أنه قال :

__________________

(١) هو إسماعيل بن عبّاد بن العباس بن عباد الطالقاني الملقب بالصاحب. ولد في ذي القعدة سنة ٣٢٦ ه‍ ، ت : ٣٨٥ ه‍. وشهرته تغني عن تفصيل أمره ، وكان واحد عصره ، ونسيج وحده ، لو وجد سبيلا إلى انتزاع الضلال عن دين الإسلام بفوات روحه لهان عنده ، اختلف في مذهبه فقيل : إمامي ، وقيل : معتزلي حنفي ، وقيل : زيدي وهو الأصح. وقد ذكر أنه من الزيدية الإمام عبد الله بن حمزة عليه‌السلام عند ذكر آل بويه وذكر الصاحب ، ثم قال : وهؤلاء مذهبهم في الأصول مذهب الزيدية ، وإن خالفوا أصلهم بالفعل في خدمة بني العباس للميل إلى الدنيا. وأقول : وخير دليل على زيديته قوله بالخروج على الظلمة ـ كما هو واضح في مرثاته للإمام زيد التي منها :

لما رأى أن حق الدين مطرح

وقد تقسمه نهب وتمحيق

قام الإمام بحق الله تنهضه

محبة الدين إن الدين موموق

يدعو إلى ما دعا آباؤه زمنا

إليه وهو بعين الله مرموق

ابن النبي نعم وابن الوصي نعم

وابن الشهيد نعم والقول تحقيق

لم يشفهم قتله حتى تعاوره

قتل وصلب وإحراق وتغريق

مؤلفاته : الوقف والابتداء. ومختصر أسماء الله تعالى وصفاته. ونهج السبيل في الأصول. والإمامة. وجوهرة الجمهرة في اللغة. وله ديوان شعر ، وغيرها. ينظر : الأعلام للزركلي ١ / ٣١٦. والزيدية للدكتور أحمد محمود صبحي ص ٢٠٥. وأعيان الشيعة ٣ / ٣٢٩. ومعجم المؤلفين ١ / ٣٦٧. والحدائق الوردية ١ / ١٥١. والشافي ١ / ١٤٠.

١١٣

ذهب أبو موسى الأشعريّ بثلث الإسلام يوم التّحكيم ؛ لأنّه خلع الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب سلام الله عليه بمكيدة عمرو بن العاص ... ، وذهب ولده الحسن بن أبي بشر الأشعرى ... بثلثي الإسلام (١) ؛ لقوله بأن الله تعالى يدرك بالحواس (٢) ؛ لأن الحسن بن أبي بشر من ذرية أبي موسى الأشعري. والذي يدلّ على إبطال قوله إجماع المسلمين على بطلانه من الصحابة والتابعين وعلماء أهل البيت أجمعين عليهم سلام رب العالمين.

ويدل على ذلك أيضا أنه تعالى لو كان محسوسا بالحواسّ ومدركا بجميعها لما اختلف العقلاء في رؤيته مع ثبوت حواسّهم وصحّتها ، ولوجب أن يكون العلم بذلك ضروريا ؛ لأن العلم الحسي ضروري ، لا ينتفي عن النّفس بشك ولا شبهة ، وفي علمنا باختلافهم في رؤيته : فإن منهم من أثبتها ، ومنهم من نفاها ؛ بل في اثبات ذاته تعالى : فإنّ من الناس من يثبته ، ومنهم من ينفيه ، ومنهم من يوحده ، ومنهم من يثنّيه ـ دلالة (٣) على أنه تعالى غير محسوس بالحواسّ ولا يدرك بها أصلا.

وأما الضرارية (٤) فإنهم يقولون : إن الواحد منا يدرك الله بحاسّة سادسة يخلقها له يوم القيامة. والذي يبطل ذلك أن تلك الحاسة : لا تخلو أن تكون صحيحة أو سقيمة ، فإن كانت سقيمة صح أن نراه بحواسنا السّقيمة ، وإن

__________________

(١) ينظر الملل والنحل للإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى ص ١١٧.

(٢) هو القول بالرؤية وإثبات الأعضاء ، وقول قائلهم : بلا كيف لا تنفع.

(٣) مبتدأ مؤخر خبره قوله : وفي علمنا.

(٤) الضرارية هم أصحاب ضرار بن عمرو. ومن أصحابه حفص القرد وإليهما تنسب كل ما يخص الضرارية. وهي من فرق المجبرة ، يقولون : إن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ، وأن الاستطاعة قبل الفعل وهي بعض المستطيع إلى غير ذلك.

١١٤

كانت حاسّة صحيحة فلا تخلو أن تكون مما يصلح للرؤية أو لا ؛ فإن كانت مما لا يصلح للرؤية جاز أن نراه بحواسنا التي لا تصلح للرؤية ، وإن كانت مما يصلح للرؤية فلا تخلو أن تكون مماثلة لحواسنا أو مخالفة ، وإن كانت مماثلة لحواسنا جاز أن نراه بها ، وإن كانت مخالفة لحواسنا جاز أن نراه بحواسنا أيضا ؛ لأن مخالفتها لحواسنا ليست بأزيد من اختلاف حواسنا في ذات بينها ، ومخالفته تعالى للمرئيات ليست بأزيد من اختلاف المرئيات في أنفسها ، فإنّ في حواسنا الأحول ، والأدعج ، والأشهل ، والأزرق ، وغير ذلك. وفي المرئيات المتماثل والمختلف والمتضاد ، فكان يجوز أن نراه بحواسنا ، وفي علمنا بخلاف ذلك دلالة على إبطال قول ضرار. فهذا هو الذي يدل على إبطال قولهم على التعيين ، وهو الوجه الأول.

وأما الوجه الثاني : وهو في الدلالة على صحة ما ذهبنا إليه وفساد قولهم على العموم فيدلّ على ذلك العقل والسمع ونحن نقتصر على السمع إذ صحته غير موقوفة على العلم بهذه المسألة (١).

والذي يدل على أنه تعالى لا يرى وجهان : أحدهما قول الله تعالى لموسى عليه‌السلام : (لَنْ تَرانِي) [الأعراف : ١٤٣] لمّا قال له موسى : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) (٢) [الأعراف : ١٤٣]. ووجه الاستدلال بالآية أنّ لفظة لن موضوعة في لغة العرب لاستغراق النفي كقوله تعالى : (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً) [الحج : ٧٣] فهي

__________________

(١) خلاصة دليل العقل أنّ المرئيات لا بد أن تكون أجساما أو أعراضا ، ولا يتصور العقل رؤية غير ذلك ، وجمهور الأمة لا يتجرءون على القول بتجسيم الله ، ولذلك تستّر القائلون بالرؤية بقولهم : يرى بلا كيف ، وهو كلام غير مفهوم. أما المجسمة فليست لهم عقول يستحقون معها أن يناقشوا فهم والبهائم سواء بل هم أضل. والله أعلم وهو حسبنا.

(٢) ينظر في تفسير هذه الآية المغني ٩ / ١٦١.

١١٥

عامة في نفي رؤية موسى له تعالى من دون تخصيص لوقت دون وقت. وذلك يدل على أن موسى لا يراه أبدا في الدنيا ولا في الآخرة ؛ ولأن لفظة لن موضوعة في اللغة لتأبيد النفي حقيقة ، وإذا استعملت في غير ذلك فعلى وجه المجاز ، فكأنه قال لموسى : لن تراني أبدا ، وإذا لم يره موسى ، فمن دونه أحرى بأن لا يراه. يزيد ذلك وضوحا أنه علّق الرؤية في المستقبل بشرط استقرار الجبل عند تحريكه ، وهذا الشرط لم يحصل فلا تحصل الرؤية في المستقبل ، ولأنه علّق الرؤية بشرط مستحيل وهو استقرار الجبل في حال تحريكه وتدكدكه وهو لم يستقر (١) في تلك الحال كما قال تعالى : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) [الأعراف : ١٤٣] وإذا علّق تعالى رؤيته بشرط مستحيل وجب أن تستحيل رؤيته أيضا ، وهذه طريقة العرب فيما يريدون به التبعيد وتأكيد التأبيد كما قال شاعرهم :

وأقسم المجد حقّا لا يحالفهم

حتى يحالف بطن الراحة الشّعر (٢)

وإذا ثبت ذلك قلنا : إن موسى لم يسأل الرؤية لنفسه ، بل هو عالم بأنه تعالى لا يرى ، وإنما سأل الرؤية عن قومه وجعل السؤال لنفسه ليعلم قومه أنه إذا منع الرؤية فهم أولى بالمنع ، يصدّقه قول الله تعالى : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) [النساء : ١٥٣] وهذه الآية شاهدة بتنزيه الله تعالى عن الرؤية ؛ لأن إنزال الصاعقة بهم يدلّ على عظيم (٣) جرمهم في

__________________

(١) في (ب) : لا يستقر.

(٢) وأيضا قول الشاعر :

ولو طار ذو حافر قبلها

لطارت ولكنه لم يطر

(٣) في (ب) (ج) : عظم.

١١٦

سؤالهم الرؤية ، ولو كانت الرؤية جائزة عليه تعالى لما صعقوا ، كما لو سألوا رزقا وولدا فإنه لا ينزّل بهم العذاب لأجل ذلك. فإن قيل : لم تاب موسى؟ قلنا : حيث سأل الله تعالى بغير إذن في ذلك ، وكان بمحضر القوم فغشي على موسى محنة له ، وأنزل الله الصاعقة بقومه عقوبة. وقد قال موسى لما سمع الدّكدكة ، ورأى ما نزل : (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) [الأعراف : ١٥٥] فأضاف ذلك إلى السفهاء. فإن قيل : إن المراد بذلك عبادة العجل ، قلنا : غير مسلّم ، فإن عبادة العجل كانت بعد ذلك ، بدلالة قوله تعالى : (ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) [النساء : ١٥٣] ، إلى غير ذلك. فإن قيل : لو كان هذا السؤال لأمر مستحيل لردّه عليهم موسى ، كما أنهم لمّا قالوا : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [الأعراف : ١٣٨] ، فردّه عليهم ولم يسأل ربّه.

فالجواب : عن ذلك من وجهين : أحدهما أنه لا يمتنع أن يكون جوابه في هذه المسألة لا يقنعهم ، بخلاف تلك المسألة ؛ فأراد أن يكون الجواب من الله تعالى ؛ لكونه أبلغ في الزّجر والرّدع والنكير. الوجه الثاني أن هذه المسألة طريقها العقل والسمع فأراد عليه‌السلام أن ترد (١) في ذلك دلالة سمعية على أنه تعالى لا يرى ، وهو قوله : (لَنْ تَرانِي) [الأعراف : ١٤٣] وفي تلك المسألة (٢) طريقها العقل فحسب ؛ فردها عليهم لأنّ ما يكون مجعولا مفعولا لا يكون إلها معبودا ، فثبت أنه تعالى لا يرى في حال من الأحوال.

__________________

(١) في (ب) و (ج) : يرد.

(٢) قولهم : اجعل لنا إلها.

١١٧

الوجه الثاني : قول الله سبحانه : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الأنعام : ١٠٣]. ووجه الاستدلال بالآية أن الله تعالى تمدّح بنفي إدراك الأبصار عن نفسه تمدّحا راجعا إلى ذاته. وإدراك الأبصار هو رؤيتها (١). وكل ما تمدّح الله تعالى بنفيه فإثباته نقص ، والنقص لا يجوز عليه في حال من الأحوال. فثبت أنه تعالى لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة. وإنما قلنا : بأن الله تعالى تمدّح بنفي إدراك الأبصار عن نفسه ؛ لأنّ ذلك مما لا خلاف فيه بين المسلمين ؛ ولأنه متوسّط بين أوصاف المدح ؛ فإن الله تعالى قال : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ* ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ* لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الأنعام : ١٠١ ـ ١٠٣] ، فأول الآية مدح وآخرها مدح فيجب أن يكون قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) مدحا أيضا ؛ لأنه لا يجوز أن يتوسط بين أوصاف المدح ما ليس بمدح ، بل يكون ذلك مستهجنا عند الفصحاء ، معيبا عند البلغاء. وكلام الله تعالى يجب أن ينزل من الفصاحة أعلاها.

فثبت أنه تمدّح بنفي إدراك الأبصار عن نفسه. وإنما قلنا : بأن التمدّح راجع إلى ذاته ؛ لأنه تعالى بيّن بذلك أنّ ذاته لا تدرك ؛ ولأنه لو كان راجعا إلى غيره (٢) لم يعقل إلا نفي فعل من الأفعال ، وذلك لا يتحقق إلا في الإدراك لو

__________________

(١) في (ب) : رؤيتهما.

(٢) قال الأمير رحمه‌الله : ولأنه لو كان راجعا إلى غيره لم يعقل إلا نفي فعل ...

١١٨

كان معنى. والإدراك ليس بمعنى ، بدليل أنه لو كان معنى لجاز أن يكون الواحد منّا حيّا لا آفة به ، والمدركات موجودة والموانع مرتفعة ، ولا يدرك المدركات بأن لا يحصل ذلك المعنى الذي هو الإدراك ، وفي ذلك إلحاق البصراء صحاح الحواسّ بالعميان ، ومعلوم خلاف ذلك ، فلم يبق إلا أن يكون التّمدّح راجعا إلى ذاته تعالى (١). وإنما قلنا : بأن إدراك الأبصار هو رؤيتها ، لأن الإدراك وإن كان مستعملا في أربعة معان : هي اللّحوق ، والبلوغ ، ونضج

__________________

عنى رحمه‌الله : لو كان التمدح راجعا إلى غير ذاته تعالى لم يعقل إلا نفي فعل ، وقد أوضح هذا في شرح الأصول الخمسة ص ٢٣٨ ، فقال : فإن قيل : فلم قلتم أن المدح يرجع إلى الفعل. وما يرجع إلى الذات فعلى قسمين : أحدهما يرجع إلى الإثبات ، نحو قولنا : قادر عالم حي سميع بصير. والثاني : يرجع إلى النفي ، وذلك نحو قولنا : لا يحتاج ولا يتحرك ولا يسكن. وأما ما يرجع إلى الفعل ، فعلى ضربين أيضا : أحدهما يرجع إلى الإثبات ، نحو قولنا : رازق ومحسن ومتفضل ، والثاني : يرجع إلى النفي ، وذلك نحو قولنا : لا يظلم ولا يكذب. إذا ثبت هذا ؛ فالواجب أن ننظر في قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) من أي القبيلين هو. لا يجوز أن يكون هذا من قبيل ما يرجع إلى الفعل ؛ لأنه تعالى لم يفعل فعلا حتى لا يرى ، وليس يجب في الشيء إذا لم يرى أن يحصل منه فعل حتى لا يرى فإن كثيرا من الأشياء لا ترى وإن لم تفعل أمرا من الأمور كالمعدودات وككثير من الأعراض ، والشيء إذا لم يرى فإنما لم يرى لما هو عليه في ذاته ، لا لأنه يفعل أمرا من الأمور ، وإذا كان الأمر كذلك صح أن هذا التمدح راجع إلى ذاته.

(١) فنفي الرؤية متوجه إلى ذاته وليس إلى أفعاله.

١١٩

الفاكهة وإيناعها ، والإحساس بالحواس ؛ فإنه متى قرن [الإدراك] بالبصر لم يفهم منه إلا الرؤية بدليل أنه لا يجوز أن يثبت بأحد اللفظين وينفى بالآخر ، فلا يجوز أن تقول (١) : أدركت ببصري شخصا وما رأيته بعيني ، ولا أن يقال : رأيته بعيني وما أدركته ببصري ، بل يعدّ من قال ذلك مناقضا في كلامه ، جاريا في المعنى مجرى من يقول رأيته وما رأيته وأدركته وما أدركته. فثبت أنّ إدراك الأبصار هو رؤيتها. وإنما قلنا : بأنّ كلّما تمدّح الله تعالى بنفيه فإثباته نقص ؛ لأنه لا يخلو أن يكون كمالا أولا ، بل يكون نقصا ، أو لا نقصا ولا كمالا ، ولا يجوز أن يكون لا كمالا ولا نقصا ؛ لأنه يكون عبثا لا فائدة فيه. ومثله لا يرد في خطاب الحكيم تعالى. ولا يجوز أن يكون كمالا (٢) ؛ لأن الحكيم لا يتمدح بنفي الكمال عن نفسه ، فلم يبق إلا أن يكون نقصا. وإنما قلنا : بأن النقص لا يجوز عليه تعالى في الدنيا ولا في الآخرة ؛ لأن ذلك مما أجمع عليه المسلمون ، ودان به المؤمنون. والحقّ ما أجمعت عليه الأمّة. فثبت أنه تعالى لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة ، وبطل ما ذهب إليه المخالفون بحمد الله ومنّه.

وأما الموضع الثالث : وهو في إيراد ما يتعلق به المخالفون من الآيات والأخبار المتشابهة في القول بالرؤية لله تعالى فاحتجوا على أنه (٣) تعالى يرى ـ بأشياء : منها : قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها

__________________

(١) في (ب) و (ج) و (د) : أن يقال.

(٢) نفي الإدراك.

(٣) في (ب) و (ج) : بأنه.

١٢٠