المعاد وعالم الآخرة

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

المعاد وعالم الآخرة

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-28-8
الصفحات: ٢٦٤

«عملية» و«أثرية» لا سبيل للكذب إليها.

توضيح ذلك ، أحياناً نقول تشهد عين فلان أنّه لم ينم البارحة! يشهد شحوب وجهه ولعثمة لسانه أنّه يخشى من شيء! تشهد نظافته الفائقة لملابسه وداره أنه ينتظر ضيفاً.

فهذه (الشهادة الطبيعية والعلمية) تفيد أنّها أبلغ وأصدق شهادة ولايسمع أحد إنكارها.

غالبا ما ينكر المتهم شهادة جميع الشهود ، ولكن بمجرّد أن يسمعوه كلامه من على شريط أو يروه الصور حين إرتكابه للجريمة يشعر بإغلاق كافة الطرق بوجهه فلا يملك سوى الإعتراف ، وسبب ذلك هو أن شهادة الشريط والصورة هي شهادة طبيعية وأثرية لا يسع أي أحد التنكر لها ، لا ينبغي الغفلة أنّ روحنا وجسمنا إرشيف عجيب لكافة أعمالنا وتصرفاتنا وأقوالنا طيلة عمرنا ، يعني كما أنّ الغذاء الذي تناولناه منذ بداية عمرنا لحدّ الآن في جسمنا ـ قد أثرت وأن آثار كل غذاء موجود في دمنا وخلايا بدننا وفي عظامنا وشرايينا وأنّ هذه الآثار ستنتقل إلى الخلايا القادمة حين تغيير هذه الخلايا وتبدلها ، بحيث لو كان هناك جهاز دقيق يدرس دمنا وخلايا بدننا لأمكنه إطلاعنا على جميع الأغذية مع تأريخها التي تناولناها لحدّ الآن ، كذلك لكل عمل من أعمالنا إنعكاس في روحنا وجسمنا :

فللكذب والخيانة وإنتهاك حق الآخرين وصفع البريء والشهادة الظالمة ، لكل هذه الأمور بصماتها على روحنا وجسمنا وترسم خطوطاً تسهل قراءتها في محكمة القيامة التي تمثل على الظهور والبروز ، فكل هذا من شهود تلك المحكمة.

بالمناسبة لو كان المجتمع يؤمن بمثل هذه الحقائق فكم سيكون مراقباً

٢٢١

لأعماله وتصرفاته؟ وما أعظم الآثار التربوية التي سيفرزها هذا الإيمان بمثل هذه القيامة.

* * *

ب ـ الحساب في تلك المحكمة

يتضح ممّا قيل أنّ هناك صبغة أخرى لمسألة صحيفة الأعمال والحساب في محكمة القيامة ، فوجود المجرمين والصالحين هو صحيفة عمل ، وهكذا أبواب ونوافذ البيت المسكون كل منها صحيفة ، ولاشك أنّ الكتاب الذي يعطى يوم القيامة إلى الصالحين بيمينهم وإلى الطالحين بشمالهم والذي تحدثت الآيات القرآنية عن تعذر إنكاره هو من قبيل هذه الصحف الأثرية التي يصعب علينا اليوم حتى تصورها ، ومن هنا تحل لدينا مشكلة أخرى يقول بشأنها القرآن : (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَاب) (١)

لأنّ الحساب واضح هناك وهو مجموع آثار الأعمال الحسنة والسيئة في وجود كل شخص ونتيجتها معلومة واضحة.

ولتقريب هذه الحقيقة للذهن يمكن أن نضرب مثلاً بسيطاً فنقول لعل السيارات العادية قد طوت عدّة طرق كثيرة طيلة عمرها دون أن يستحضرها حتى سائقها فضلاً عن حسابها ، ولكن إن أدرنا نظرنا إلى العدّاد فاستطعنا تعيين مقدار الطريق الذي إجتازته وهذه أيضا شهادة أثرية ، عادة ما يتخلل الحساب العادي بعض الأخطاء وحتى حسابات الأدمغة الألكترونية ، إلّاأنّ لدينا حساب في هذا العالم لا يتسلل إليه الخطأ ، مثلاً تضيف الأشجار المقلوعة كل سنة إلى نفسها بعض القشور التي تكشف عن عمرها ، وكذلك

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ٢٠٢.

٢٢٢

طبقات الثلج ، فهذه حسابات لا سبيل للخطأ إليها ، والحق أنّ حساب يوم القيامة من أرفع أنواع هذه الحسابات.

* * *

ج ميزان الأعمال

كثر الكلام في المتون الإسلامية عن ميزان الأعمال ويرى البعض أنّ هناك ميزاناً كالذي نراه في هذا العالم ، ولذلك تكلّفوا عناء وجوده وماذايزن.

١ ـ نفس الأفراد

٢ ـ صحف الأعمال

٣ ـ تجسم الأعمال له وزن

وكل ذلك لأنّهم فسّروا الميزان والوزن على ضوء المفاهيم العادية التي نتعامل معها في الحياة اليومية والحال ورد مفهوم أوسع وأجمع له في القرآن الكريم : (وَالسَّماءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) (١).

(وَأنْزَلْنا مَعَهُمْ الْكِتَابِ وَالْمِيزَانَ) (٢)

توضيح ذلك : هناك مع يار لدى كل قوم وملّة لتعيين القيم حيث يمكن القول لهذا الميزان إمكانية تحديد مصيرها ، على سبيل المثال فمقياس العلم والعالم في دنياه المادة غير مقياس مدرسة الأنبياء والأولياء والوحي ، فاليوم يطلق العالم على من يمتلىء دماغه بأكثر عدد من القواعد والمعادلات وله معرفة بطبيعته وأسراره وكيفية الاستفادة منه وقد قضى

__________________

(١) سورة الرحمن ، الآية ٧.

(٢) سورة الحديد ، الآية ٢٥.

٢٢٣

شطراً من عمره في الجامعات والمختبرات وتفوق في الإمتحانات ، ولا فرق في أن يسخر هذا العلم لخدمة البشرية أو لخدمة القنابل والصواريخ العابرة للقارات أو الرؤوس النووية أو صنع المخدرات ، أو الدفاع عن عصابات اللصوص الدوليين حين يمثلون في المحاكم أو في خدمة المنظمات الإستعمارية والاقتصادية العالمية.

بينما تكتسب هذه الكلمة معنى آخر لدى أولياء الله كعلي (ع) الذي يرى العالم من يقوم على مصالح الناس ويوظف العلم في سبيل نجاة البشريةويتحمل هموم الامة وإلّافليس هو بعالم. (وَمَاأَخَذَ اللهُ عَلَى الْعُلَماءِ الّايُقارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَلاسَغَبِ مَظْلُومٍ) (١).

نعم ، فمقياس العلم والشخصية والقيم الإنسانية والسعادة والشقاء مختلف تماماً بين الشعوب وأقوام ، فمحيط عرب الجاهلية الذي يرى الشخصية في السلب والنهب وكثرة الأولاد الذكور إنّما ناتجه حفنة من اللصوص بتعدد الزوجات دون حساب ، أمّا حين أصبح العلم والورع والتقوى هو المقياس بظهور الإسلام فقد تغيّرت الأوضاع كلياً وظهرت حصيلة أخرى تباين سابقتها.

إنّ أحد أهداف رسالات الأنبياء هو منح الضوابط والمعايير الواقعية الصانعة للإنسان ، والآية ٢٥ من سورة الحديد إشارة إلى هذه الحقيقة ، ومن هنا نرى الميزان بوسيلة المعيار المعنوي الذي يشبه الميزان الحسي فقط في النتيجة يعني تعيين الوزن الواقعي ـ جدير بالذكر ورد في إحدى زيارات أميرالمؤمنين علي عليه‌السلام : (السَّلامُ عَلَيْكَ يَا مِيزَانَ الَاعْمَالِ).

فهنا يصبح الإنسان الكامل هو الميزان للأعمال ولكل أن يعلم وزنه

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٣ (الشقشقية).

٢٢٤

وقيمته على أساس مدى شباهته به في الإيمان والعمل والتقوى والعدالةوالشجاعة

فهو ميزان دقيق ووسيلة إختبارية تامة وكاملة للقيم الإنسانية.

ونرى اليوم بعض الموازين الدقيقة تؤثر عليها حتى حركة الريح وكتابة كلمة واحدة ، وكذلك هناك ميزان ضغط الدم والحرارة وحتى مقدار إستعداد الإنسان وذكائه ، بينما ليس لدينا أي ميزان للعمل الصالح والسيىء مقدار الإخلاص وحسن النية ودوافع الأعمال. مثلاً ورد في روايةأنّ مثل الشرك في الأمّة أخفى من دبيب حشرة سوداء في ليلة ظلماء على حجرة صماء.

فمن المسلم به أنّ حركة تلك الحشرة تؤثر على الحجرة وينبعث من حركتها عليها صوت مرتفع ، إلَاأنّه زهيد إلى درجة أننا لا نستطيع حسابه بأية وسيلة ، فبطريق أولى ليس لدينا من وسيلة لمعرفة نفوذ الأفكارالمنحرفة إلى نيّة الإنسان التي تعتبر أدق وأظرف من سابقتها ، لكن من المفروغ منه أنّ هناك مثل هذه الوسائل في العالم الآخر ، نعم كل ما نعرفه أنّها موجودة ، بينما لا نعلم كيفيتها وخصائصها.

* * *

٢٢٥
٢٢٦

الثواب والعقاب

إنّ القراءات غير السليمة لمسألة الثواب والعقاب في عالم ما بعد الموت جعلها تنطوي على هالة من الإبهام والغموض ، فهنالك عدّة علامات استفهام ونقاط مبهمة بشأن الثواب والعقاب في القيامة والعالم الآخر ، والتي عادة ماتستند إلى التفسيرات الخاطئة للثواب والعقاب.

فمثلاً يتساءل البعض :

ما تأثير ذنوبنا على الله ليؤاخذنا بها ويعاقبنا عليها؟ إنّنا نذنب لكنّه هو الكبير والقادر والعالم فلماذا يعاقبنا؟ إذن ما الفرق بيننا وبينه؟

فهو الذي يصفح ويعفو.

وبغض النظر عمّا سبق فإن أقصى ما يعمر أعتى الظلمة وأعظم الأثمة لا يزيد على مئة سنة ، فما معنى هذا العذاب لملايين السنين والخلود فيه؟ إنّ فلسفة العقاب لا تتجاوز أحد ثلاث : الاستناد إلى روح الثأر أو من أجل اعتبار الآخرين أو تربية الخاطئين. ولايصح أي من هذه المواضيع الثلاثة بشأن العقاب في العالم الآخر ، فأمّا الثأر والإنتقام فالله منزّه عنه ، لأنّ الإنتقام (وخلانا لما يتصور) لا يفيد القدرة ، بل هو علامة على ضعف الإنسان وعجزه الروحي ، والانتقام مسكّن للأرواح المجروحة ، أو الأصح عامل من

٢٢٧

أجل تخدير الأرواح المريضة والعاجزة ، وعليه فالعقاب الإلهي لاينطوي على أي عنصر إنتقام.

كما لا ينطوي على «عنصر تربوي» بالنسبة لمرتكب الذنب أو الآخرين ، فمركز التربية هو هذا العالم وليس هنالك من فرصة في العالم الآخر ، وعليه فإنّ العقوبات في العالم الآخر ليست مثل القوانين الجزائية ولعقوبات في عالم الدنيا ، فمثل هذه العقوبات تختزن الجانب التربوي ، بينما لا معنى له في الحياة الآخرة.

* * *

يمكن الردّ على التساؤلات السابقة من خلال الإلتفات إلى حقيقة وهي أنّ العقاب الاخروي والجزاء في القيامة ليس إلَاآثار ونتائج الذنوب والمعاصي في روح الإنسان وجسمه وكذلك تجسمها.

توضيح ذلك : هنالك عدّة آيات قرآنية وروايات إسلامية ذات عبارات رائعة بشأن رابطة هذا العالم بعالم الآخرة يمكنها كشف الإغماض المذكور ، مثلاً ورد في الآية ٢٠ من سورة الشورى : (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الَاخِرَةِ نَزِدْ لَهُ في حَرْثِهِ) فالتعبير بالحرث يفيد أنّ الثواب والعقاب في ذلك العالم ليس سوى نتائج أعمال الإنسان.

وورد في الآية ١٥ من سورة الجن : (امَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبَاً) ونخلص من ذلك إلى أنّ النار ليست سوى الصورة الأخرى لأعمال الأفراد ، وجاء في الآية ٣٩ من سورة الصافات : (وَمَا تُجْزُوْنَ إِلَا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ) ويفهم من ذلك أنّ الثواب أيضا هو ذات الأعمال والذي يستفاد من

٢٢٨

هذه العبارات أنّ الذي سيلازمنا في العالم الآخر هو الأعمال الحسنة والسيئة والتي صدرت منّا في هذا العالم وهي التي ستبلغ بنا التكامل أوالتسافل. فستخرج هذه الأعمال آنذاك من خفاياها وتظهرلنا بشكل جديد ، فإمّا أن تنير أعماقنا وتشعرنا بالحيوية والنشاط وإمّا أن تحرقنا ، على كل حال فهي معنا ولا تفارقنا ، فهي أبدية بإذن الله كسائر الأشياء في ذلك العالم لايتطرق إليها الفناء والزوال ، وهكذا فمسألة الثواب والعقاب ليست مثل أجرة العمال ومعاقبة العبيد ، وليس لها بعد الإنتقام ، كما ليس فيها عبرةللمذنبين أو غيرهم ، بل هي نوع آخر يمكن التعبير عنه ب «أثر العمل».

والطريف في الأمر أنّه ورد في الرواية المعروفة «الدنيا مزرعة الاخرة». وبالإلتفات إلى مفهوم المزرعة يتضح أنّ ما نحصده هناك هو المحصول لبذور الأعمل الحسنة والسيئة التي غرسناها هنا ، فلو نثرنا عدّة بذور من الأشواك ورأينا أنفسنا بعد سنوات أمام ميدان واسع مليئى بالشوك ولابدّ لنا من عبوره ، فهل نكون قد حصلنا على شيء غير الذي زرعناه؟ وبالعكس لو نثرنا بذور الزهور في مزارعنا وواجهتنا بعد مدّة حديقة غنّاء مليئة بالزهور والأوراد ذات الروائح العطرة التي تبعث النشاط والسرور في قلب الإنسان ، فهل تكون سوى نتيجة عملنا؟ فلا في الحالة الأولى هناك ظلمنا ولا في الحالة الثانية ما تلقيناه عبثاً دون حساب ، ولم نحصل في الصورتين سوى على نتيجة عملنا (عليك بالدقّة). والآن نسأل : إذا كانت تلك الأشواك وهذه الزهور خالدة أبدية ، تجعلنا نعيش الألم أو اللذة دائماً ، فهل هناك من مقصر؟ أم أنّ ذلك ينافي العدل؟ أم لنا الحق في الشكوى؟ إذا فهمنا الثواب والعقاب على أساس ما تقدم فسوف تزول كل علامات الإستفهام (عليك

٢٢٩

بالدقّة أيضاً).

وسنتحدث بالتفصيل عن ذلك في بحث «الخلود» و«تجسد الأعمال».

* * *

٢٣٠

تجسم الأعمال

كيف ستكتسب أعمالنا في الآخرة صفة الحياة بحيث يتجسم كل عمل بالصورة التي تناسبه؟

إنّ من بين الخصائص التي يتصف بها ذلك العالم وتميزه عن هذا العالم هو مسألة تجسم الأعمال ، فأقوالنا وأعمالنا في هذه الدنيا التي نعيش فيهاتبدو حركات عابرة ليس لها من دوام وبقاء وعادة ما تمحى وتزول بعدالظهور ، يمكن أن يكون هناك مصور ماهر وعارف بالوقت فيحضر في لحظةوقوع الجريمة فيلتقط عدّة صور لجميع مراحل الجريمة أو يسجّل الأصوات بحيث يمنحها بنوع صبغة الدوام ، لكن أصل القول والعمل مهما كان حصل لعدّة لحظات ثم تم وإنتهى.

ولكن نفس هذه الألفاظ والكلمات والأعمال الحسنة والسيئة التي أتينا بها في هذه الحياة ويبدو أنّها نسيت وزالت وكانت تعتمد علينا في وجودها حتى في تلك اللحظات ، ستظهر يوم القيامة بصيغة موجودات مستقلة تبدو فيها جليستنا الأصلية التي لاتبتعد عنّا أبداً.

ورد في الحديث النبوي الشريف أنّ : (الظُّلْمُ هُوَ الظُّلُمَاتُ يَوْمَ

٢٣١

الْقِيَامَةِ) (١).، وأموال اليتامى تتجسم بصورة نار : (انَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً انَّما يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَاراً) (٢). كما يكون الإيمان نوراً : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنَيِنَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِايْمانِهِمْ) (٣)

والخلاصة فإنّ كل عمل سيتجسم بالصورة التي تناسبه ، أحياناً تتبدل الكيفيات العملية بكيفيات روحية وجسمية ، فمثلاً المرابين الذين يعثرون بأعمالهم القبيحة المسيرة المتوازنة لإقتصاد المجتمع يعيشون نوعاً من مرض الصرع بحيث لايستطيعون التوازن حين قيامهم من الأرض : (الَّذِيَن يَأْكُلُونَ الرِّبا لَايَقُومُونَ الّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ) (٤)

أما الأموال التي إحتكرها الأغنياء والبخلاء وجهدوا في جمعها ولم يبدو أية رحمة تجاه من حولهم من الفقراء والمساكين الذين يعانون من الجوع والحرمان ، بل حتى هم أنفسهم لم يستفيدوا من تلك الأموال ولم تجلب لهم سوى مسؤولية الحفاظ عليها والهم والغم من أجل عدم فقدانها وتشتتها وبالتالي لم يكن لهم بد من مفارقتها والإرتحال عنها ، فإنّهم سيطوقون بها وتكون وبالاً عليهم : (سَيُطَوَّقُونَ مَابَخِلوُا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) (٥)

فإضافة إلى الإشارات في الموارد الخاصة الماضية حول تجسم الأعمال الذي ورد في مختلف الآيات القرآنية ، فهناك إشارة إلى هذا الموضوع في عدّة موارد أخرى بصورد حكم كلي ومن ذلك :

١ ـ (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً) فكل ما يحبّونه انّما هو من صنع أيديهم وحاضر لديهم من هنا أردف بقوله : (وَلايَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (٦)

__________________

(١) سفينة البحار ، مادة ظلم.

(٢) سورة النساء ، الآية ١٠.

(٣) سورة الحديد ، الآية ١٢.

(٤) سورة البقرة ، الآية ٢٧٥.

(٥) سورة آل عمران ، الآية ١٨٠.

(٦) سورة الكهف ، الآية ٤٩.

٢٣٢

٢ ـ (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَاكَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤنَ) (١)

٣ ـ (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ اشْتَاتًا لِيُروَا اعْمالَهُمْ) (٢)

٤ ـ (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَّاً يَرَهُ) (٣)

فالآية الأخيرة تفيد أنّ الإنسان سيرى نفس العمل لا ثوابه وعقابه وكذلك الآيات السابقة ، طبعاً يمكن تفسير ذلك على أنّه مشاهدة النتيجة وثواب وعقاب العمل أو مشاهدة صحيفة الأعمال ، ولكن يبدو هذا التفسير خلاف ظاهر الآيات وليست هناك من قرينة على ذلك.

أضف إلى ذلك فهناك الكثير من الروايات الواردة في المصادر الإسلامية والتي تصدنا عن مثل هذا التفسير وترشد إلى كيفية تجسم الأعمال الحسنة والسيئة هناك.

هل يمكن تجسم الأعمال؟

المسألة المهمّة التي ترد هنا هي : هل تنطبق هذه المسألة والموازين العلمية؟ وتتضح الإجابة على هذا السؤال بعد الإلتفات إلى عدّة مقدمات مختصرة :

١ ـ نعلم أنّ العالم مركب من «مادة» و«طاقة» وإنّنا نراهما أينما نظرنا في السموات والأرض مع بعضهما ويبديان في صور مختلفة.

أمّا المتصور سابقاً هو أنّ هناك حدّاً فاصلاً لايمكن عبوره بين المادة والطاقة ، فالمادة مادة دائماً والطاقة طاقة كذلك ، إلّا أنّنا وبفضل تطور العلوم

__________________

(١) سورة الجاثية ، الآية ٣٣.

(٢) سورة الزلزلة ، الآية ٦.

(٣) سورة الزلزلة ، الآية ٧ ـ ٨.

٢٣٣

الطبيعية قد وقفنا على الأسرار الكامنة في هذين الأصلين الأساسيين لعالم الخلقة ، حيث تبيّنت مدى العلاقة الحميمة بينهما إلى درجة أنّ كل واحدمنهما أب وكذلك إبن الآخر.

وأخيراً فقد إنهارت آخر قلعة محكمة للذرة بصفتها الحدّ الأخير لعالم المادة ، حيث إخترقها العلم والتطور التكنولوجي ليتبيّن أنّه ليس في داخلها سوى الطاقة ، ولم تكن هذه المادة سوى طاقة مضغوطة ، وهكذاأصبح تحول المادة إلى طاقة أمراً عادياً.

وقد أثبتت الأجسام الراديو كتيفية التي تنبعث منها أشعة ذرية في الحالة العادية والطبيعية ، يعني أنّ مادتها في حالة تآكل وإنهيار وتحول إلى طاقة ، عدم الحاجة في كل موضع إلى المفاعلات الذرية القوية بغيةتجزأة الذرة وتحطيم أغطيتها ، بل إنّ أغلب ذرات العالم الثقلية في حالةتجزأ تلقائي ـ أو بصورة تدريجية وبطيئة ـ هذا جانب من المسألة.

والسؤال المطروح : هل يمكن تبديل الطاقة إلى مادة على غرار تجزأالذرة وتبدلها إلى طاقة ، مثلاً يمكن ضغط وفتح السلك المرن فهل يمكن هذا في عالم الطاقة بحيث يمكن ضغطها وتبديلها إلى مادة ، طبعاً ـ حسبمانعلم ـ لم يستطع العلم المعاصر القيام بذلك العمل ، ولكن لا دليل على نفي ذلك أيضاً ، فما دامناً أقررنا أن بينهما رابطة حميمة ، بل إنّهما وجهان لعلمةواحدة ، فمن الممكن تبدل أحدهما إلى الاخر ، وعليه فلا مانع من تبديل الطاقة بمادة.

٢ ـ إنّ أعمالنا أشكال مختلفة للطاقة ، فكلامنا طاقة صوتية مخلوطة بالطاقات الميكانيكية للسان والشفة وتستمد العون من الطاقة الخاصة للدماغ. حركاتنا وأفعالنا وأعمالنا الحسنة والسيئة والظلم والعدل و

٢٣٤

الإحسان والبخل والعبادة والدعاء كلها أشكال أخرى للطاقة الميكانيكية أو الخليط من الطاقة الميكانيكية والصوتية.

وهنا خطأ كبير لابدّ من إجتنابه وهو أنّ الأغلب يتصور بأنّ المواد الغذائية في بدننا إنّما تتبدل إلى طاقات وحركاتنا وأعمالنا المختلفة ، والحال إنّ هذه خطأ ، فالمواد الغذائية لا تتبدل إلى الطاقة قط (تبديل المادة إلى طاقة يختص بتجزأة الذرة أو التشعشعات الذرية في الأجسام الراديو كتيفية).

فما تفسير مايقال من أنّ الغذاء وقود البدن ويتبدل فيه إلى طاقة؟ لا تبدو الإجابة صعبة على هذا السؤال لأنّ في بدننا ماكنة كسائر المكائن التي تقوم بتحويل الطاقة من شكل إلى آخر ، لا أنّ المادة تتبدل إلى طاقة (عليك بالدقّة).

* * *

توضيح ذلك : إنّ كل تحليل أو تركيب كيميائي إمّا أن يحرر طاقة أو يكتسبها ، فمثلاً حين نشعل حطباً فانّ الكاربون الموجود فيه يتحد مع اوكسجين الهواء ، فتنبعث منه الطاقة الحرارية التي إدخرها في جوفه خلال سنوات حين القيام بعملية الكربنة دون أن يتبدل شيء من كاربون الأشجار أو اوكسجين الهواء إلى طاقة.

والآن يمكن أن نجعل هذه الطاقة الحرارية تحت قدر من الماء ونبدلها إلى بخار فنستفيد من القوة البخارية لتسيير العجلات ، فقد تبدلت هنا الطاقة الحرارية إلى طاقة ميكانيكية وحركية.

كما نستطيع عن طريق الضغط ضخ البخار عبر إنبوب لايجاد صوت عظيم ، أي تبدلت الطاقة الحرارية إلى طاقة صوتية وكذلك ....

٢٣٥

ففي جميع هذه الحالات لم يقل شيء من المادة ، بل تغيّر شكل الطاقةالكامنة في جوف المواد.

ويصدق هذا الموضوع على المواد الغذائية في بدننا ، لأنّ المواد الغذائيةفي أبداننا تتحد مع الاوكسجين فتنبعث منها طاقة حرارية بفعل الإحتراق ، فتتغير هذه الطاقة لتتبدل إلى حركة وصوت وما شابه ذلك.

* * *

نعود إلى الموضوع ، فأعمالنا وأفعالنا وأقوالنا إنّما تنتشر بصورة طاقات متنوعة في الأوساط المحيطة بنا ، وهي تؤثر على كل شيء بما فيه بدنناوالأرض التي نعيش عليها ، وأثرها باقي لايعتريه الفناء ويحفظ دائماً في صحيفة الطبيعة ، فكما قلنا سابقا لا مفهوم للعدم والفناء هناك ، بل هناك تغيير في الشكل.

وبالتالي سيأتي اليوم الذي تجمع فيه هذه الطاقات التي تبدو منسية منتهية فتكتسب الحياة وتبيّن أنّها لم تعدم.

لقد سمعنا بأنّه اخترع جهاز يستطيع تصوير السرّاق الذين يفرون من الموضع (يعني يصور مكانهم الخالي) لأنّ الأشعة تحت الحمراء التي بقيت بصورة حرارة بدنية في الموضع يمكن تصويرها ، أو نسمع أنّ العلماء استطاعوا إستعادة الأمواج الموجودة على بدنة الأواني الفخارية التي خلفّها المصريون قبل ألفي سنة فيجعلون الأصوات قابلة للسماع ، وعلى ضوء ذلك سيمكننا التسليم والإقرار بحلول مثل هذا اليوم بالنسبة بجميع أعمالنا وأقوالنا ، وطبق المقدمة الأولى لإمكانية تبديل الطاقة إلى مادة لا تبقى مشكلة بشأن تجسم الأعمال وتبدلها إلى موجودات مادية ، وعليه فتجسم الأعمال مقبولة من وجهة النظر العلمية ، وهذا بدوره يكشف عن مدى

٢٣٦

اختلاف الحياة في ذلك العالم عن الحياة هنا ، لو فرضنا أنّ هذا التجسم يحصل في عالمنا المعاصر فمثلاً يتبدل السب والكلام الفاحش إلى موجود مؤذي إلى جانبنا ، أو يكمن لنا كمستنقع نتن ، أو أن يتجسم صفع البريء وغصب حق الآخرين إلى موجود مشوّه مكروه ، فكيف ستصبح حياتنا؟

سيقال : ما أحسن أن تكون كذلك ، كي تكون خشيتها دافعاً للناس لعدم سلوك السبيل المنحرف ، بل يسارعون إلى الخيرات (عليك بالدقّة).

ولكن لاينبغي الغفلة أنّه على هذا الأساس سوف لن يكون هناك من تكامل في أرواحنا وأنفسنا ، بل سيكون هنالك نوع من العمل الإجباري ، يعني كمن يحمل قسراً لمساعدة مؤسسة خيرية حيث لايترتب أي تكامل أخلاقي أو معنوي على عمله ، ومن هنا أكتفي بأوامر العقل وتعاليم الأنبياء في هذا المجال.

لكن على كل حال للإيمان بأصل تجسم الأعمال دور بارز في بلورة الجانب التربوي لدى الإنسان ، إلى جانب حثه الإنسان على الإتيان بالصالحات والحيطة والحذر من الطالحات والقبائح ، ويفتح قلبه وفكره في الأمور التي تتطلب الفداء والتضحية (عليك بالدقّة أيضاً).

* * *

٢٣٧
٢٣٨

الجنّة والنار

لو أقيمت علاقة بين أم وطفلها التي في بطنها واستطاعا التحدث معاً ، فسوف لن تكون هناك أم قادرة على التعبير عن المنظر الجميل الساحر والخلّاب لحظة شروق الشمس أو غروبها على ساحل بحيرة رائعة تتناثر حولها الحشائش والأشجار بأغصانها التي تداعب أمواج البحيرة.

إنّها لاتسطيع تصوير حالة النسيم المنعش الممزوج بالرائحة العطرة للزهور والتي تحمل رسالة الحب ، كما لا تستطيع شرح ألم فراق صديق حميم يتلظى بنار حبيبه ، وليس لها تمثيل سهره الليالي وتطلعه إلى السماء والكواكب والنجوم ، وأنى للجنين إدراك هذه المفاهيم ولم يتعامل سوى مع قبضة من اللحم والدم؟

إنّ شرح نعم الجنّة والآلام المفجعة لعذاب النار بالنسبة لنا نحن الذين نعيش في جنين هذه الدنيا بالضبط كم مرّ معنا في إدراك الجنين.

حقاً ـ كما قلنا ـ فإنّ كلماتنا المحدودة في هذه الحياة لأعجز من أن تصور الحقائق الخارجة عن دائرة الحياة الدنيا ، وعليه فلابدّ من ألفاظ أخرى ومشاعر وأحاسيس وإدراكات أخرى لكي يمكن التحدث عنها أو سماعها ، وما أروع ما قاله القرآن الكريم بشأن تلك الحياة : (فَلَا تَعْلَمُ نَفْس مَا اخْفِىَ

٢٣٩

لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ اعْيُنٍ) (١) وورد في الحديث : (فِيهَا مَا لَا عَيْنُ رَاتْ وَلَااذُنُ سَمِعَتْ وَلَاخَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَر) (٢). ولعلنا نتعرف على أهميّة الأمر إذا ما تأملنا المفهوم الواسع لكلمة النفي «لا أحد» ، هذا من جانب.

ومن جانب آخر فإنّ الصفات والخصائص التي ذكرها القرآن الكريم لنعم الجنّة لا يمكن مقارنتها قط بما في هذه الدنيا :

١ ـ (اكُلُهَا دَائِمُ وَظِلُّهَا) (٣)

٢ ـ لا تتعفن مياهها أبداً وفيها أنهار من لبن لا يتغير طعمه (وكأنّه بصورة دائمة في محيط وفضاء مكشوف دون أن يفقد شكله الطبيعي) كما فيها أنهار من الخمرة التي تشتمل على اللذة دون السكر والعفونة : (فِيهَا انْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَانْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَانْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِلْشَارِبِينَ) (٤)

٣ ـ (وَدَانِيَةٍ عَلَيْهِمْ ظِلَالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْليلاً) (٥)

٤ ـ (يُسْقُونَ مِنْ رَحيقٍ مَخْتُومٍ* خِتَامُهُ مِسْك) (٦)

٥ ـ ليس هنالك من حدّ لنعمها من حيث النوع أو الجنس ، بل فيها كل ما تشتهيه النفس : (وَفِيهَا مَا تَشْتَهيِهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْاعْيُنُ) (٧)

٦ ـ ليس فيها أي من معاني البغض والحقد والحسد والصفات الذميمة ، وهي مفعمة بالحب والطهر والاخوة : (وَنَزْعْنَا مَا في صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ اخْواناً) (٨)

__________________

(١) سورة السجدة ، الآية ١٧.

(٢) من لايحضره الفقيه للشيخ الصدوق ، ج ١ ص ٢٩٥ ، الحديث ٩٠٥.

(٣) سورة الرعد ، الآية ٣٥.

(٤) سورة محمد ، الآية ١٥.

(٥) سورة الدهر ، الآية ١٤.

(٦) سورة المطففين ، الآية ٢٥ ـ ٢٦.

(٧) سورة الزخرف ، الآية ٧١.

(٨) سورة الحجر ، الآية ٤٧.

٢٤٠