المعاد وعالم الآخرة

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

المعاد وعالم الآخرة

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-28-8
الصفحات: ٢٦٤

المنطقية بخصوص الألغاز والأسرار التي تكتنف الموت.

رؤيتان لمصير الإنسان

هل لحظة الموت هي لحظة وداع كل شيء؟ لحظة نهاية الحياة؟ لحظة الغربة الأبدية والإنفصال المطلق عن هذا العالم ، وتحلل وعودة المواد المؤلفة لبدن الإنسان إلى عالم الطبيعة؟

أم هي لحظة الولادة الجديدة؟

أم هي خروج ثاني من رحم الدنيا إلى عالم واسع وشامل آخر؟

أم تحطيم قضبان سجن رهيب؟

أم التحرر من قفص ضيق وصغير وإفتتاح نافذة نحو عالم روحي واسع بعيد عن الزخارف المادية لهذا العالم ومجانب للهم والغم والألم والمعاناة والعداوة والكذب والظلم والجور والإجحاف وضيق النظر والحقد والضغينة والحرب والقتال ، وبالتالي كل المنغصات والكدورات التي ينطوي عليها هذا العالم؟

بغض النظر عن مدعى صحة الرؤيتين المذكورتين وإقترابها من الحقيقة والمنطق ـ وبالطبع سنتحدث في الأبحاث القادمة باسهاب عن هذا الموضوع ـ فإنّ الرؤية الاولى تبدو مظلمة ومخيفة وأليمة والثانية جميلة ورائعة وهادئة.

فصورة الموت على ضوء النظرة الاولى تجعل شربت الحياة ـ مهما كانت الحياة مرفهة ـ علقماً مريراً على الإنسان أو تضطره للخضوع لأي شيء والاستسلام لأي ظروف من أجل الفرار من الموت.

والقضية على العكس تماماً بالنسبة للنظرة الثانية التي يسعها جعل

٢١

شربت الحياة عذباً وشربت الشهادة في سبيل الحق والأهداف السامية أعظم عذوبة وحلاوة ، وتلقن الإنسان بعدم الاستسلام لأي شيء والانحناء لأي شرط بسبب هذه الحياة ، بل عليه أن يكون حرّاً في دنياه ولايخشى الموت المشرف! والخلاصة فإنّ الموت ليس مرعباً دائماً ، فقد تكون هذه الحياة أعظم منه رعباً أحياناً.

* * *

لماذا نخاف من الموت؟

هنالك فردان يخافان من الموت ؛ أحدهما من يفسّره بمعنى العدم والفناء المطلق ، والآخر من كانت صحيفة أعماله سوداء ومظلمة ، أمّا من لم يكن من هؤلاء ولا اولئك فما مبرر خشيته من الموت ، أفهناك شيء يفقده من جراء الموت؟

مشهورة هي حكاية «ماء الحياة» والتي تتناقل بسرعة فائقة حيث أقدم الإنسان منذ قديم الأيام بالبحث عن شيء يسمى «إكسير الشباب» وقد نمقوه بالأساطير والخرافات وعقدوا عليه الآمال.

ولعل القضية تفيد حقيقة تكمن في خشية الإنسان من الموت وحبّه لمواصلة الحياة والهروب من نهايتها ، على غرار إسطورة «الكيمياء» تلك المادة الكيميائية الخفية التي لو أُضيفت على النحاس الذي لا قيمة له جعلته ذهباً ذا قيمة باهضة ، والتي تفيد خوف الإنسان من الفقر الاقتصادي ومدى سعيه للحصول على الثروة.

وإسطورة إكسير الشباب هي الأخرى تعكس هلع الكهولة والضعف والتآكل وبالتالي الموت ونهاية الحياة.

٢٢

إنّ أغلب الناس يخشون الموت ويهربون من مظاهره ويشمأزون من إسم المقبرة ويسعون جاهدين لاطماس الماهية الأصلية للقبور من خلال تزيينها وإضفاء بعض الجمالية عليها ، حتى أنّهم يلجأون إلى تحذير الأفراد من بعض الأشياء الخطرة ـ غير الخطرة التي لايريدون للآخرين أن يقتربوا منها أو يخربوها من خلال الكتابة عليها «خطر الموت» ويرسمون عليها صورة لعظمين من عظام ميت في حالة علامة في خلف جمجمة جوفاء خالية من الروح تطالع الإنسان.

وقد حفلت النتاجات الأدبية لمختلف أصقاع الدنيا بما يفيد خوف الإنسان من الموت ، فبعض العبارات من قبيل «هيولا الموت» ، «شبح الموت» ، «صفعة الموت» و«مخالب الموت» وما إلى ذلك من التعبيرات التي تدل على مدى القلق والهلع والضطراب.

كما يؤيد ذلك القصة المعروفة بشأن رؤيا هارون الرشيد ـ الذي رأى في المنام سقوط جميع أسنانه ـ فعبّر له شخصان تلك الرؤيا قال الأول : يموت جميع أفراد أهلك قبلك. وقال الثاني : إنّ عمر الخليفة سيكون أطول من جميع قرابته ، فما كان ردّ فعل هارون الرشيد إلّاأن وهب الثاني مئة دينار ، بينما جلد الأول مئة جلدة ، فهذا دليل آخر على خشية الإنسان من الموت. وذلك لأنّ الفردين عبّرا عن حقيقة واحدة ، إلّاأنّ أحدهما ذكر الموت بالنسبة لقرابة الخليفة فكان جزاؤه مئة جلدة ، وعبّر الآخر عن ذلك الموت بطول عمر الخليفة فتناول مئة دينار!.

ناهيك عن كل ما سبق فقد إعتاد الناس بعض الأمثال والعبارات التي تكشف عن مدى خشيتهم من الموت ، فإذا أرادوا مثلاً تشبيه فرد بآخر ميت في قضية إيجابية خاطبه قائلاً «إسم الله عليك» أو «أبعد الله عنك» ذلك ، أو

٢٣

فليخرس لساني سيصبح الأمر بعدك كذا وكذا ، أو ترتيب الأثر على كل شيء يبعد احتمال الموت أو يكون مؤثراً في طول العمر ، وإن بدا خرافة تماماً ولا أساس له وكذلك أدعيتهم التي تتضمن كلمة الدوام والخلود من قبيل : دام عمره ، دام مجده ، دامت بركاته ، خلد الله ملكه ، أطال الله عمره وكل عام وأنتم بخير و...!

والتي تشكل كل واحدة منها دلالة على هذه الحقيقة.

طبعاً لا يمكننا إنكار وجود بعض الأفراد النادرين الذي ليس لهم أدنى خشية من الموت ، حتى أنّهم يسارعون لاستقباله ، إلّاأنّهم قلائل ، كما أنّ العدد الحقيقي أقل بكثير من اولئك الذين يزعمون ذلك.

ما مصدر هذا الخوف والقلق من الموت؟

عادة ما يخشى الإنسان «الزوال» و«العدم».

يخشى «الفقر» ، فهو زوال الثروة.

يخشى «المرض» لأنّه زوال السلامة والعافية.

يخشى «الظلمة» حيث ليس فيها نور.

يخشى «الصحراء» وقد يخشى «الدار الخالية» لأنّه لا أحد فيها.

بل يخشى الميت حيث لاروح فيه ، والحال لايخشى ذلك الشخص حين كان على قيد الحياة والروح فيه! وبناءاً على ما تقدم فإن خشي الإنسان الموت فذلك لأنّه يراه «فناءاً مطلقاً» وعدماً لكل شيء.

وإن خشي الزلزلة والصاعقة والحيوان المتوحش ، فذلك لأنّها تهدد وجوده بالفناء والعدم.

٢٤

طبعاً لايبدو هذا الأمر غريباً من وجهة النظر الفلسفية ، لأنّ الإنسان «وجود» والوجود ينسجم مع الوجود الآخر ، بينما ليست له أية سنخية وتناسب مع العدم ، فما عليه إلّاالفرار والهرب منه ، لم لايهرب؟

إلّا أنّ هناك قضية مهمّة هنا لاينبغي الغفلة عنها وهي : كل هذه الأمور صحيحة إذا فسّر الموت بمعنى الفناء والعدم ونهاية كل شيء ، والحق لو فسّر كذلك فليس هناك شيء أعظم رهبة منه ، وكل ما قيل بخصوص هيولا الموت هو عين الصواب.

أمّا إن إعتبرنا الموت ـ كولادة الجنين من بطن أمّه ـ ولادة أخرى وآمنا بإنّ اجتيازنا لهذا الممر الصعب يعني وضع أقدامنا في عالم أوسع وأشمل وأكمل من هذا العالم وهو مليىء بأنواع النعم التي يصعب علينا تصورها في ظل الظروف الراهنة والحياة الفعلية.

وخلاصة القول فإن اعتبرنا الموت أكمل وأسمى من هذه الحياة ، والتي لا تعد سوى سجناً إن قارناها بالحياة في ذلك العالم ، فمن الطبيعي سوف لن تعد للموت مثل هذه المعاني التي تشير الخوف والهلع والنقرة لدى النفس ، وستكون له معاني جمالية رائعة قريبة من القلب محببة إلى النفس. لأنّه إن سلب من الإنسان جسمه زوده بالأجنحة ليحلق بها في سماء الأرواح الشفافة اللطيفة التي تفوق التصور والخيال والخالية من كافة أشكال الإقتتال والتراع والعداء والهموم والغموم.

وهنا نتذكر ذلك الشاعر الذي له مثل هذه الأفكار وهو يأمر حكيماً عالماً بلغة الشعر :

فلتمت أيّها الحكيم من مثل هذه الحياة ، فالموت من هذه الحياة لايعني سوى البقاء ، ولتحلق بأجنحتك كالطيور فتطوي تلك المسيرة

٢٥

الكاملة ، ولا تخشى من الحياة التي تنتظرك فالخشية لابدّ أن تكون من هذه الحياة الضيقة المحدودة.

فمن البديهي أنّ من ينظر هكذا إلى مسألة الموت لن يقول أبداً أنّ الموت حالة عبثية لا طائل من وراءه أو هو إنتحار وقتل للنفس ، بل يراه حقيقة سامية يحث الخطى من أجل معانقتها ، وما أجمله إن كان وسيلة لبلوغ الأهداف المقدسة والسامية ، وخلاص الإنسان من الذلة والخنوع والبؤس والشقاء.

* * *

العنصر الآخر لخشية الموت

هناك طائفة أخرى تخشى الموت لا لأنّه يعني الفناء والعدم المطلق ، بل لأنّ صحيفة أعمالهم بلغت درجة من الاسوداد والظلمة بحيث يشاهدون بأم أعينهم ما سيترتب عليها من جزاء أليم وعذاب شديد سيطالهم بعد الموت ، أو على الأقل أنّهم يحتملون ذلك.

فهؤلاء أيضا محقون في خشيتهم الموت ، لأنّهم بمثابة المجرم الذي اقتيد من قضبان السجن وحمل إلى المقصلة ، طبعاً الحرية والخلاص مطلوب ، لكن لا التحرر من السجن نحو المشقة! فحرية هؤلاء من سجن البدن أو سجن الدنيا يتزامن وحركتهم نحو المقصلة ، «المقصلة» لا بمعنى الإعدام بل بمعنى العذاب الأسوأ منه.

ولكن ما بال اولئك الذين يخشون الموت ولايرونه فناءاً وعدماً ، كما ليس لهم من صحيفة أعمال سوداء؟ لِمَ يرهبون الموت في سبيل تحقيق الأهداف المقدسة؟ لماذا؟ ...

٢٦

جذور المعاد في أعماق الفطرة

تنادينا إلهامات الفطرة : الموت ليس نهاية الحياة ، وبالطبع لاتقتصر هذه الإلهامات علينا ، بل تفيد كافة الشواهد الموجودة أنّه كان يؤمن بها كافة الأقوام بما فيها الإنسان البدائي الذي عاش في عصور ما قبل التأريخ.

يقال : هناك ذبذبات مجهولة ـ تشبه الأمواج الراديوية ـ تبث دائماً من أعماق السموات وجوف المجرّات التي لها بالغ الأثر على الأجهزة المستقبلة.

لا أحد يعلم من أين تنطلق هذه الأمواج وما مصدرها الرئيسي؟ هل هناك حضارات في ما وراء منظومتنا الشمسية أكثر تطوراً من حضارة أهل الأرض بحيث يرسل سكنتها برسائلهم إلى العالم بواسطة هذه الأمواج؟ أم هناك مصدر آخر؟ لا نعلم.

والأعجب من ذلك إننا نستقبل بانتظام من أعماقنا وباطن أرواحنا رسائل مجهولة ولا نعرف مصادرها ، فنرانا مضطرين للاصطلاح عليها بالفطرة ، وكل ما نعلمه إنّنا نحصل على إلهامات مختلفة ترشدنا إلى الخطوط الأصلية حين نقف على مفترق طرق.

مثلاً : تقع حادثة مفاجئة قريب منّا أو في أبعد نقطة من العالم ، فتدفع

٢٧

بنا هذه القوة الباطنية الخفية باتجاه الحصول على أخبار تلك الحادثة ، ثم نرانا نجهد أنفسنا في هذا المجال دون أن نعلم الدافع والسبب الذي يقف وراء كل هذا الشوق واللهفة لرؤية تلك الحادثة والوقوف على تفاصيلها التي قد لايكون لها أدنى إرتباط بأوضاعنا ، فلا نستقر ولايهدأ لنا بال مالم نفهم تلك الحادثة.

ترافقنا هذه الحالة منذ اللحضات الأولى للعمر ولا تنفصل عنّا حتى آخر العمر ، ثم أطلقوا على ذلك فيما بعد اسم «حس حبّ الإطلاع» وقالوا إنّه جزء من فطرة الإنسان.

وكثيرة هي نظائر هذه الغرائز والإلهامات الفطرية ، إلّاأنّ أحداً لا يسعه أن يزودنا بايضاحات أكثر بشأن مصدر هذه الإلهامات الفطرية ، ولكن على كل حال ليس لدينا أي شك في أصل وجودها ودورها في إرشادنا وتوجيهنا التكويني.

* * *

والإيمان بالحياة بعد الموت واحد من هذه «الإلهامات الفطرية» : لدينا عدّة شواهد تاريخية تفيد عمق إيمان البشرية على مدى التأريخ ، بل في العصور التي ما قبل التأريخ بالحياة الآخرة بعد الموت ، والدليل على ذلك الآثار المختلفة التي خلفها قدماء الناس وكيفية بناء قبورهم والأشياء التي كانوا يدفنونها في التراب مع موتاهم ـ كما سيأتي شرح ذلك بالتفصيل ـ والتي تفيد إيمان الإنسان بحياة ما بعد الموت على ضوء إلهاماته الباطنية ، حيث لايمكن التصديق بأنّ مسألة ليست بفطرية وقد تمكنت من الحفاظ على قوتها ورسوخها إلى هذه الدرجة طيلة التأريخ ولما قبله إلى أبعد العصور والأزمنة حتى بقيت عالقة في الأذهان ، فمثل هذه المسائل

٢٨

المتجذرة التي لاتنفصل عن البشر قط ، قطعاً لها نواة غريزية وفطرية ، ومن هناك كانت دائمية خالدة.

وقد صرّح عالم الاجتماع المعروف «صاموئيل كونيغ» قائلاً : تفيد الآثار التي عثر عليها العلماء في الحفريات أنّ أسلاف الإنسان المعاصر أي إنسان النياندرتال كانت لهم ديانة بدليل أنّهم كانوا يدفنون أمواتهم بطريقة خاصة ، كما كانوا يدفنون إلى جانبهم وسائلهم وأدواتهم ، وهكذا يعلنون إيمانهم بوجود عالم آخر بعد الموت. (١)

نعلم أنّ إنسان النياندرتال عاش قبل عشرات آلاف السنين ، حين لم يخترع الخط حتى ذلك الوقت ولم يبدأ التاريخ البشري ، صحيح أن لا جدوى من هذه الوسائل والأدوات في حياة ما بعد الموت مهما كانت ، إلّاأنّ المراد هو أنّ هذه الأعمال تشكل شهادة على إيمان أسلاف الإنسان المعاصر بحياة ما بعد الموت.

ويبدو أنّ المصريين كانوا قد سبقوا سائر الأقوام في هذا المجال ، إذ يقول المؤرخ المعروف «آلبرماله» من بين تواريخ الأقوام يمتاز تاريخ الأقوام المصرية بأنّه أقدم الجميع ، حيث يذكر حوادث وقعت لما قبل أكثر من خمسة آلاف سنة. (٢)

فالتاريخ المصري العريق يشير إلى أنّ الأقوام المصرية كانت راسخة الإعتقاد بحياة ما بعد الموت ويرون لها أهميّة خاصة ، وإن لم تسلم عقائدهم ـ وكسائر الأقوام ـ من الأباطيل والخرافات.

ويسرد المؤرخ المذكور قضية رائعة تنطوي على عدّة فوائد ، فقد ذكر أنّ

__________________

(١) عالم الاجتماع صاموئيل كونيغ ، ص ٢٩١

(٢) تأريخ آلبرماله ـ تأريخ أقوام الشرق ، ج ١ ، ص ١٥

٢٩

المصريين يعتقدون بأنّ روح الميت تفارق القبر وتحضر عند الإله الكبير «آزيريس» ... فان قادوه إلى «أحكم الحاكمين» آزيريس يمتحن قلبه في ميزان الحقيقة ، فإن كانت روحه طاهرة في الحساب ذهب إلى المزرعة (والبستان) الذي لايتصور مدى بركته ...

كما كانوا يضعون إلى جوار الموتى كتاباً يرشدهم في سفرهم إلى تلك الدنيا ، ويحتوي الكتاب على عبارات يجب أن يردها الميت عند آزيريس لتبرأ ذمته ويطهر :

لم أغش الناس ...

لم أوذي أية أرملة ...

لم أكذب في المحكمة ...

لم أرتكب التزوير.

لم أفرض على عامل أكثر من طاقته في العمل.

لم أتكاسل في القيام بوظيفتي.

لم أنتهك المحرمات.

لم أسع بعبد لدى سيده.

لم أقطع خبز أحد.

لم أبك أحداً.

لم أقتل أحداً.

لم أسرق أطعمة الموتى ، (١) ولا أشرطتهم.

__________________

(١) كأنّ أهل مصر كانوا يظنون أنّ الموتى بعد أن يعودوا إلى هذا العالم سيحتاجون إلى أثاث البيت والغذاء ، ولذلك كانوا يدفنون معهم الغذاء والأثاث. والمراد بالاشرطة هي تلك التي كانوا يلفونها على أبدان الموتى للتحنيط

٣٠

لم أغصب أرض أحد.

لم آخذ لبن الأطفال الرضع.

لم أقطع أي نهر.

أنا طاهر ، طاهر ...

أيّها القضاة! اليوم يوم الحساب فخذوا هذا المرحوم فهو لم يذنب ولم يكذب. وهو لايعرف السوء ولم يجانب الحق والإنصاف في حياته وقد أتى بما يرضي الله ، لقد كسى العريان وذبح لله وأطعم الأموات ، فمه طاهر ويداه طاهرتان.

على كل حال فالذي يفيده التاريخ هو حالة التدين بصورة عامّة والإعتقاد الراسخ بحياة ما بعد الموت لدى سائر الحضارات والمدنيات الأخرى والتي تزامنت مع الحضارة المصرية أو بعدها من قبيل الحضارة الكلدانية والآشورية واليونانية والإيرانية.

والأهميّة التي حظى بها هذا الموضوع في الأديان العالمية الكبرى ممّا لاغبار عليه فلا يحتاج إلى أدنى توضيح ، وسنتعرف على نماذج ذلك في أبحاث القادمة.

هذا وقد نقل العالم الاسلامي المعروف كاتب «روح الدين الإسلامي» عبارة عن مجلة «ريدرزد ايجست» نوفمبر عام ١٩٧٥ عن «نورمان فن سنت بيل» أنّه قال : الحقيقة هي أنّ النشاط الغريزي بوجود عالم آخر بعد الموت يعدّ من الأدلة المحكمة على هذه المسألة ، لأنّ الله إذا أراد إقناع الإنسان بحقيقة غرسها في أرض غرائزه وفطرته ، فالاعتقاد بحياة خالدة في العالم الآخر هو نوع من الشعور العام في باطن وجود كافة الأفراد بحيث لايمكن النظر إليه بازدراء.

٣١

حقّاً أنّ الشيء الذي نسير إليه بهذه السرعة إنّما هو ردّ فعل لجذور أساسية داخل وجودنا ، إنّنا لا نؤمن بمثل هذه الحقائق من خلال الأدلة المادية ، بل عن طريق الإلهام والإدراك الباطني ، فالإلهام يعتبر دائماً العامل الوحيد المهم لإدراك الحقائق ، وحين يبلغ العلماء حقيقة علمية تحتاج إلى إثبات ، فانّهم يدركون تلك الحقيقة بوحي من الإلهام على حدّ تعبير «برجسون». (١) والإعتقاد بالحياة بعد الموت من هذه الإلهامات الفطرية.

المشي في المتاهات

رغم أنّ الإلهامات الفطرية تساعد الإنسان في كشف أسرار الحياة الآخرة بعد الموت ، إلّاأنّها مالم توجه بصورة صحيحة فانّها تصبح هالة من الخرافات والأساطير الغريبة ، ألا ترى إلى الكهنة والشعابذة كيف كانوا يدفنون الفتيات الجميلات إلى جوار الملوك والسلاطين في أفريقيا والمكسييك. يبدو أنّ هناك بوناً شاسعاً بين الدنيا المعاصرة وتلك التي كانت قبل ستة آلاف سنة.

لم يكن هناك من وجود لهذه الأدوات والوسائل الفلزية المتنوعة ، حيث كانت تقتصر حياة الإنسان على الحجر والخشب والعظام وجلود الحيوانات ، وما أصعب العيش في ظل هذه الوسائل فقط ، ولكن مع ذلك كانت تلك الحياة مقارنة بما نحن عليه أكثر هدوءاً وإستقراراً ، فلم يكن هناك صوت للسيارات الفخمة ولا ضوضاء وصخب لانفجار القنابل ولا زئير للطائرات التي تكسر حاجز الصوت ، فقد كانت حياة ـ كالموت ـ غاية في البساطة دون أي تعقيد!

__________________

(١) روح الدين الإسلامي ، ص ١١٦.

٣٢

بالمناسبة لا ندري ما هو الشعور الذي كان يسود الإنسان آنذاك تجاه الحياة والموت ، فلو كان يحسن الكتابة لعله دوّن جانباً من مشاعره وخلفها لأبنائه المعاصرين ممن يدفعهم حبّ الاطلاع للوقوف على هذا الأمر ، غير أنّ المؤسف له لم يحصل هذا العمل حيث لم يكن الخط والكتابة قد أخترعت بعد ، مع ذلك فإنّ والكهوف وأعماق الأرض قد حفظت كنوزاً قيّمة من آثار حياة الناس آنذاك ، وكما أشرنا في البحث السابق فإنّ هذه الآثار ـ ولاسيّما كيفية القبور التي خلفّوها ـ تفيد أنّهم كانوا يؤمنون بالحياة ما بعد الموت ، ولهذا السبب كانوا يضعون وسائل موتاهم وأدواتهم معهم في التراب ، على أمل الاستفادة منها بعد العودة للحياة ثانية.

أمّا إعتقاد الإنسان بالقيامة بعد دخوله عصر التأريخ (عصر ظهور الخط وإكتشاف الفلزات فما لاتتطرق إليه شائبة وعلى درجة من الوضوح لا إبهام فيه وقد ثبت ذلك في جبين تاريخ الامم والشعوب.

وكل ذلك ـ كما ذكرنا آنفا ـ يفيد إمتزاج هذه العقيدة بالفطرة البشرية.

* * *

الانحراف عن الفطرة والتخبط في المتاهات

عادة ما تبعث «الإلهامات الفطرية» الإنسان دائماً على شكل دافع تلقائي باتجاه مختلف المسائل التي تحتاجها روحه وجسمه ، ولو لم تكن هذه الإلهامات فطرية ، وأنّنا لا نكشف الأشياء إلّامن خلال الإختبار والتجربة والعقل لتعقدت أعمالنا بهذا المجال.

فالتنسيق والتعاون بين هذين الجهازين (الإلهامات الفطرية والكشوفات العقلية والتجربية) أدّى إلى هذه السرعة التي بلغها الإنسان في

٣٣

مسيرته نحو المدنية والكمال.

ولكن لاينبغي الغفلة عن أنّ الاستنتاج الصحيح من هذه الإلهامات الفطرية إنّما يتوقف دائماً على نمط تفكير الإنسان وما يدور في ذهنه ، يعني لو كان هناك بعض الأفراد الذين يعيشون الضعف والعجز من حيث التفكير والعلم فإنّ إلهاماتهم الفطرية ستبدو على هيئة منحطة وناقصة وأحياناً مقلوبة.

بعبارة أخرى : لابدّ من سقي شجرة الإلهامات الفطرية بماء العلم على الدوام لتؤتي أكلها كل حين ، وإلّافإن تلك الإلهامات ستكون مشوبة بأنواع الخرافات والأباطيل ، وقد تعطي أحياناً نتائج معكوسة.

والمثال الواضع الذي يمكننا الاستشهاد به في هذا الموضع هو «الغريزة الجنسية» التي تعتبر نوعاً من الإلهام الطبيعي والفطري «لحفظ النسل» والتي تدفع بالإنسان لحفظ نسله ، ولكنّها إن إمتزجت بالأفكار الوضعية والأخلاق المنحّطة ، لأصبحت بؤرة فساد وفاحشة قاتلة للنسل ، يعني بالضبط يحدث عكس المطلوب ، من جانب آخر فإنّ كافة أقوام العالم تضع بعض المقررات والقوانين لعقد الزوجية بغية عدم تزلزل نسلها بفعل الفوضى الجنسية ، وتصدع كيانها ونظامها الاجتماعي ، إلّاأنّ هذه المقررات والقوانين قد تكون على درجة من الصعوبة والتعقيد التي تفرزها حالة ضيق النظر والتخلف الفكري بحيث تسوق الأفراد نحو مقاطعة الزواج والإنغماس في الفاحشة ، وكلاهما يهدد قضية حفظ النسل ، وبناءاً على هذا فانّ الزعامة الخاطئة للغريزة الجنسية إنّما تعطي نتيجة معكوسة في حفظ النسل.

والقضية كذلك بالنسبة للحاجات الروحية والإلهامات الفطرية المتعلقة

٣٤

بها ، مثلاً يبحث الإنسان ـ على ضوء إلهام فطري ـ عن خالق العالم ، إلّاأنّ قصر النظر والجهل والتخلف الفكري قد يقذف به أحياناً في مخالب «التشبيه والقياس» وذلك لأنّ هذه هي سجية محدودي الفكر حيث يجعلون أنفسهم محوراً لكل شيء فيقيسون كل شيء ويشبهونه بهم ، وإثر هذه التشبيه والقياس يقدمون على عبادة كل شيء سوى «الاله الحقيقي» من قبيل الحشرة المصرية إلى الفيل الهندي بصفتهما الإله الذي ينبغي أن يعبد على حدّ تعبير المؤرخ المشهور «ويل دورانت». (١)

والأعجب من ذلك ما أخبرنا به بعض المسافرين القادمين من اليابان أنّهم رأوا بأم أعينهم المعابد التي تضم الأوثان الصغيرة والكبيرة التي تضم بعض الأصنام بصورة «آلات تناسلية للرجل والمرأة» فيقوم البعض بعباداتها وأداء مراسم التقديس لها!

وقد طبعت بهذه الأشكال قضية المعاد والقيامة التي تبناها الإلهام الفطري لمساعدة الإنسان ومهد السبيل أمامه بهدف التوجه العقلاني لعالم ما بعد الموت ، لأنّ إنعكاس شعاع هذا الإلهام الفطري من الزجاجات المعوّجة لأفكار الناس قصارى النظر أدّى إلى تفاقم الإنحرافات التي غيرت بالمرة وجه هذه القضية.

وفي الواقع فإنّ التشبيه والقياس المذكور جعل البشرية تعيش الخرافات العجيبة التي تفوق التصور والخيال إزاء قضية القيامة ، فكان لابدّ من إيداع كافة أدوات الإنسان ووسائله التي يحتاجها في القبر ظناً بأنّ الحياة في ذلك العالم هي عين هذه الحياة على جميع الأصعدة والنواحي.

__________________

(١) تأريخ ويل دورانت ، ج ١ ، ص ٩٣.

٣٥

خرافات مضحكة ومؤسفة!

إنّ هذا النمط من التفكير الخرافي قد أفضى طيلة التاريخ إلى الأعمال المؤسفة والمضحكة أحياناً.

على سبيل المثال كان سائداً بين أهل الكونغو دفن إثنتي عشرة فتاة جميلة على قيد الحياة مع زعماء القبائل حين موتهم بهدف دفع الأسقام والسأم الذي يعانونه فى ذلك العالم.

أو أنّ بعض أهالي المكسيك كانوا يدفنون الفكاهي (أو ما يصطلح عليه بالفنان الكوميدي) مع رئيس القبيلة ليحول دون تكدر صفو خاطره في تلك الدنيا ، كما كانوا يأدون أحياناً بعض الكهنة مع زعمائهم ليكونوا مستشاريهم في المسائل الدينية في ذلك العالم! (١)

كما كانت بعض الأقوام إلى عدم دفن ثياب الأموات وتعليقها على شجرة ليقوم بارتدائها الأموات فوراً بعد بعثهم فلا يمتعظوا من العري!

أما تحنيط المصريين القدماء لأجساد الموتى فليس له من فلسفة سوى الاستفادة من ذلك لجسد بعد عودة الروح ، فقد كان التحنيط يتم بهدف الحيلولة دون تعفن جسد الميت وتفسخه ، حيث كانوا يجففون جسد الميت ببعض المواد الكيمياية المعنية ، فإذا جف الجسد بصورة كاملة غطوه بعدّة أشرطة كتانية ملطخة بمواد صمغية خاصة ، وكان يلزم ذلك العمل مئات الأمتار من الكتان ، ثم يضعونه في توابيت خاصة ، وأحياناً في عدّة توابيت أخرى ويرسمون بعض النقوش الرائعة على التابوت الكبير. والجدير بالذكر إن تحنيط الجسد قد يتطلب أحياناً سبعين يوماً! طبعاً لم يقتصر التحنيط على مصر ، إلّاأنّ المصريين برعوا في هذا العمل بحيث تشاهد الحنوط

__________________

(١) دائرة المعارف للقرن العشرين ، ج ١ ، ص ٣٩

٣٦

المصرية بوضوح اليوم في المتاحف العالمية وقد بقيت هذه الحنوط على صورتها السابقة دون أن يعتريها أدنى تغير رغم تقادم العصور والأزمان على تلك الأجساد المحنطة. (١)

كان أهل المصر يغطون جدران المقابر بالصور التي تشرح الأعمال اليومية للشخص الميت وخدمه وشغله في الدنيا ، فمثلاً في زاوية من الصورة نشاهد العمّال الذين يخبزون الخبز أو الذين يريقون الشراب والخمر في الآنية ، وفي موضع آخر الخدم الذين يذبحون الشاة أو البقرة أو الذين يخرجون الأسماك من النهر ، وفي مكان آخر يحلبون البقر ويطبخون الطعام. (٢)

وكأنّهم أرادوا الإبقاء على سرور أرواح الأموات من خلال تجديد ذكرياتهم الماضية.

فكل هذه الأمور تشير إلى أنّ أتباع العقائد المذكورة كانوا يرون الإنتقال إلى العالم الآخر بمثابة الأسفار في هذه الدنيا التي ينبغي أن تشمل كافة تفاصيل ومقررات هذه الحياة.

والواقع يبدو هذا الموضوع أشبه بالطفل الذي يلد من رحم أمّه وكأنّه يعلم بلوازم السفر خارج الرحم فيصطحب معه مقداراً من الدم في جوف الرحم بهدف عدم الموت جوعاً بعد القدوم إلى هذه الدنيا ، فهل هذا الاسلوب من التفكير صحيح؟!.

لكن وعلى كل حال فإنّ وجود مثل هذه الخرافات والإنحرافات إن دلّت على شيء فإنّما تدلّ على إمتزاج الإلهام الفطري بالجهل وعدم التعقل ، وفي

__________________

(١) الرسالة الثقافية ، ج ١٤ ، ص ١٣٩٣

(٢) آلبرماله ، تأريخ أقوام الشرق ، ج ١ ، ص ٤٦

٣٧

نفس الوقت فإنّه يختزن حقيقة تتمثل بإيمان البشر بالقيامة على ضوء الإلهام الباطني ، وإن إتخذ هذا الإيمان طابع الخرافة بفعل قصر النظر وضيق الأفق.

* * *

٣٨

نوافذ على العالم الآخر

كيف أزالت الأبحاث العلمية الحديثة أغلب الصعوبات التي كانت تبدو ماثلة في طريق الحياة بعد الموت والتي كان يتصورها بعض ضعاف التفكير وضيقي الأفق أنّها من المحالات؟

فقد طرب ذلك الإعرابي فرحاً حين عثر على عظم رميم لإنسان لعله كان فريسة لحيوان مفترس ، أو إستسلم للموت إثر موته عطشاً في صحراء الحجاز القاحلة فصرخ من أعماقه «لأخصمن محمداً» وأثبت له إستحالة ما يزعم بخصوص إحياء الأموات.

ولعله قد حدّث نفسه قبل ذلك : هل هناك من رأى أو سمع بفاكهة متعفنة ومن ثم فاسدة وجافة قد عادت فاكهة طرية غضة من جديد؟ أم هل هناك من سمع عودة هذا اللبن الذي ترتضعه الناقة من ثدي أمّها وقد أصبح جزءاً من لحمها وعظمها لبن مرّة أخرى وعاد إلى الثدي؟

ثم إنّ هذا العظم الخاوي اليوم سيصبح غداً تراباً ثم تنثره العواصف الرملية لهذه الصحاري الواسعة هنا وهناك بحيث لايبقى منه أدنى أثر ، فأي عقل يرى أنّه سيعود ثانية على هيئة طفل جميل وفتى قوي وكهل فطن؟

إنّ مثل هذا الكلام لاينطلي سوى على المجانين!

٣٩

(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إنَّكُمْ لَفي خَلْقٍ جَدِيدٍ* أَفَتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةُ ...) (١)

وهكذا كانت مسألة الإيمان بالله الذي لا يُرى تعدُّ من أعقد المشاكل التي ثقلت على أفكار أهل الجاهلية رغم سماعهم لزمزمة القيامة التي كانت تنبعث من داخل فطرتهم ، إلّاأنّ ضوضاء جهلهم وصخبه كان يصادر لطافة تلك الزمزمة ويفقدها فاعليتها في أنفسهم ولعل هؤلاء لايعلمون أنّ هذه التمرة الجافة والمتعفنة التي ضاعت في طيات التراب قد تكون أصبحت جزءاً من الأرض عشرات المرات ثم ظهرت على غصن نخلة بعد أن إنطلقت من جذورها فنمت وتفتحت لتصبح ثمرة لذيذة طرية ثم جفت ووقعت ثانية على التراب ، أو لبن النافة الذي أصبح لمرات جزءاً من رضيعها وما إن مات وعاد تراباً حتى عاد إلى التراب فمر بجذور نبات أو شوكة ليصبح جزءاً من بدن ناقة أخرى ثم جرى في عروقها لينتقل إلى ثديها وبالتالي يعود لبناً جديداً!

وبالطبع فإنّ هذا الفكر الجاهلي الذي يرى إستحالة عودة الكائنات الحيّة وعدم إمكانية إعادة المعدومات لم يسود عقل عقل ذلك الإعرابى فحسب ، بل قد يتجلى ذلك بصورة أخرى فى عقل فليسوف ليرى قضية «إعادة المعدوم» لو كانت هناك قيامة ومعاد وإعادة المعدوم محال!

إلّاأنّ الرقي والتكامل الذي بلغته العلوم الطبيعية ـ وخلافاً لما كان يتوقعه أصحاب النزعة المادية ـ قد أزاح الستار عن بعض الأسرار بحيث إتضحت على ضوء ذلك قضية المعاد والحياة الأخرى بعد الموت بما لايدع مجالاً للشك.

__________________

(١) سورة سبأ ، الآية ٧ ـ ٨

٤٠