المعاد وعالم الآخرة

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

المعاد وعالم الآخرة

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-28-8
الصفحات: ٢٦٤

مُمَزِّقٍ انَّكُمْ لَفي خَلْقٍ جَدِيدٍ* افَتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً امْ بِهِ جِنَّة بَلِ الَّذِينَ لَايُؤُمِنونَ بِالآخِرةِ في الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعيدِ») (١)

فالذي يستفاد من كل هذه الآيات أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يتحدث عن عودة الجسم والمعاد الجسماني ولذلك كان يتعجب المخالفون فكان القرآن يرد عليهم ويقول : (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ ثُمَّ الَيهِ تُرجَعُونَ) (٢) وخلاصة القول فإنّ الف باء المعاد في القرآن الكريم هو المعاد الجسماني ـ العنصري وأنّ مَن يُوجه أو الأصح «يُحرف» كل هذه الآيات الحاكية عن المعاد الجسماني ويفسرها بالجسم المثالي وماشابه ذلك فلا يروم سوى التملص عن الحقائق!

المعاد الجسماني على ضوء العقل

اتضح تماماً من الأبحاث السابقة أنّ القرآن الكريم إنّما أراد «المعاد الجسماني» في كل موضع تعرض فيه لمسألة المعاد ، وقلّما نجد في محيط نزول القرآن من أنكر «المعاد الروحاني فقط» ، ومن هنا فإنّ الرهبة التي أصابت العرب الجاهلية من طرح القرآن لقضية المعاد إنّما تعود لبعده الجسماني.

والآن لابدّ أن نرى هل للعقل من دليل يؤيد هذا الكلام؟

يقول العقل : إنّ الروح والبدن حقيقتان لا تنفصلان عن بعضهما ، بل هما متصلتان تماماً ، فهما معاً كلزوم «المادة» لملزومها «الطاقة» ، فهما يتكاملان معاً ، وعليه فاستمرار بقاء أي منهما (لمدّة طويلة) ليس بممكن ، هذا من جانب.

__________________

(١) سورة سبأ ، الآية ٧ ـ ٨.

(٢) سورة الروم ، الآية ١١.

٢٠١

ومن جانب آخر فكما أنّ جسم إنسانين لايتشابهان قط من جميع الجهات ، وبشهادة التحقيقات الواسعة التي تمت بشأن الأفراد فإنّه لا يتشابه فردان حتى في بنانهما ، فإنّ روحين لا تتشابهان أبداً ، وكما أنّ الجسم ناقص بدون الروح فإنّ الروح تنقص دون الجسم ، وإن إنفصلا عن بعضهما في عالم البرزخ (العالم الفاصل بين الدنيا والآخرة) فانّه إنفصال مؤقت تكون فعالية الروح فيه محدودة ولذلك ليس للحياة البرزخية سعة الحياة لعالم القيامة أبداً.

بعبارة أخرى الروح آمر وعامل مؤثر والبدن مأمور ووسيلة العمل ، وكما لا يستغني الآمر عن المأمور وأدوات العمل ، فإنّ الروح لاتستغني عن الجسم في مواصلتها لفعالياتها ، غاية ما هنالك حيث تستقر الروح في عالم آخر أرفع وأسمى من هذا العالم فلابدّ أن يكون لها جسم أكمل وأرفع وسيكون الأمر كذلك ، على كل حال فإنّ الجسم والروح مكملان لبعضهما ، وعليه فلا يمكن أن يكون المعاد أحادياً كأن يكون روحانياً أو جسمانياً ، وتتضح هذه الحقيقة من خلال تأمل وضع ظهور الجسم والروح.

لكن تبقى هنا أربعة إشكالات أو كما يصورها البعض أربعة مطبات لابدّ من الخوض فيها بالتفصيل وهي :

١ ـ شبهة الآكل والمأكول.

٢ ـ قلّة التربة على الأرض.

٣ ـ أي جسم يعود ، حيث يتبدل جسم الإنسان طيلة عمره.

٤ ـ أين ستقع القيامة والمعاد؟ لأنّ سطح الأرض لا يسعه حشر ونشر كافة الناس.

والآن نسلّط الضوء على كل واحد من هذه الإشكالات.

* * *

٢٠٢

١ ـ شبهة الآكل والمأكول

هذه من الإشكالات القديمة التي أوردت على المعاد الجسماني وخلاصتها : إفرض أنّ إنساناً حين القحط والمجاعة الشديدة تغذى على لحم آخر بحيث أصبح جزء من بدن الإنسان الأول أو جميعه من لحم الإنسان الثاني ، فهل ستنفصل هذه الأجزاء في المعاد عن الإنسان الثاني أم لا؟ فإن كان الجواب بالإيجاب أصبح بدن الإنسان الثاني ناقصاً ، وإن كان الجواب بالسلب كان بدن الإنسان الأول ناقصاً.

أصلاً ليست هناك من حاجة لهذه الفرضية ، فهذا الموضوع يجري دائماً في الطبيعة حيث يموت الناس ويصبح بدنهم تراباً ويصبح التراب جزءاً من الأرض ثم يتبدل بعد إمتصاصه من قِبل جذور الاشجار تدريجياً إلى نبات أو ثمرة فيتغذى عليها سائر الناس ، أو الحيوانات ، بعد ذلك يتناول الإنسان لحوم هذه الحيوانات.

وعليه فأجزاء الأفراد السابقين تصبح من هذا الطريق جزءاً من بدن الأفراد اللاحقين.

ولاينبغي لكم أن تتعجبوا إذا ما علمتم بأنّ هذه التفاحة التي توضع أمامنا قد تكون أصبحت لعشر مرات جزءاً من بدن إنسان ثم عادت إلى التراب ، وامتصت ثانية من قبل جذور وتحولت إلى تفاحة ثم تناولها إنسان آخر وأصحبت جزءاً من بدنه ، وعلى هذا الأساس فإن كان المعاد جسماني تصارعت عشرة أبدان يوم القيامة على بعض الأجزاء وسيكون لكل جزء من يدعيه له ، فكيف سيكون المعاد جسمانياً؟

* * *

٢٠٣

إجابة وتحقيق

قلنا أنّ الإيراد المذكور من أقدام الإيرادات التي وردت على المعاد الجسماني وقد أجاب عليها الفلاسفة والمتكلمين القدماء كالخواجة نصير الدين الطوسي والعلّامة الحلي و... كل حسب مبانيه ، وأهم جواب طرحه قدماء العلماء على ذلك الإيراد عن طريق «الأجزاء الأصلية» و«الأجزاء غير الأصلية».

وطبق ذلك فهم يقولون : لبدن الإنسان قسمان من الأجزاء هي : الأجزاء الأصلية والأجزاء الإضافية.

الأجزاء الأصلية هي الأجزاء التي تبقى طيلة عمر الإنسان فلا تتعوض ولا تفنى ولا تصبح جزءاً من بدن إنسان آخر أبداً ، حتى وإن تناولها شخص آخر فلا تصبح جزءاً من بدنه.

أمّا الأجزاء الإضافية فهي قابلة للتغيير والتعويض وهي دائماً في حالة تغيّر ويمكن أن تكون جزءاً من بدن إنسان أو حيوان آخر ، وهكذا تحلّ المشكلة ، يعني في يوم القيامة فإن الأجزاء الأصلية لبدن كل شخص تنمو في مدّة قصيرة كبذور النباتات أو نطفة الإنسان وتصنع البدن الأصلي.

والسؤال الوحيد الذي يبقى أمام هذا الجواب والذي يبدو بصورة فرضية مبهمة هو : أي الأجزاء من البدن هي الأصلية وكيف يمكن تمييزها عن سائر الأجزاء؟

هناك عدّة إجابات على هذا السؤال لعلها تزيل الإبهام ومنها :

١ ـ الأجزاء الأصلية هي «الجينات» الواقعة على الكروموسومات في وسط نواة الخلايا ، وعليه فهذه الجينات جزء من نواة الخلية الثابتة الوضع طيلة العمر وتشكل الأجزاء الأصلية لبدن الإنسان.

٢٠٤

٢ ـ الفقرة الأخيرة في العمود الفقري يعني أسفل عظم في هذا العمود هو الجزء الأصلي لبدن الإنسان حيث لايزول أبداً ولايستقطبه بدن حيوان أو إنسان آخر.

٣ ـ الأجزاء التي لا نعرفها على وجه الدقة ، إلّاأنّنا نعلم أنّها موجودة في بدن الإنسان وخاصيتها أنّها لا تزول أبداً ولا تنتقل إلى بدن حيوان أو إنسان آخر.

لكن أي من هذه الاحتمالات ليس بمقبول من الناحية العلمية لأنّه : الجينات من حيث المواد دائمة التغيير حيث تتعوض بمرور الزمان والباقي والثابت هو خواص الجينات.

من جانب آخر ، آخر عظم للعمود الفقري لا يختلف وسائر العظام من حيث البنية ، والزعم المذكور ليس مبرهناً في العلوم المعاصرة ، فهذا العظم كسائر العظام في حالة تغير وتبدل وسيصبح تراباً بعد الموت وعليه فيمكن أن ينتقل إلى حيوان أو إنسان آخر.

أضف إلى ذلك فإنّ موضوع الأجزاء غير المعروفة الثابتة أشبه بالفرضية منه بالموضوع القطعي ، يعني ليس لدينا من دليل على وجود مثل هذه الأجزاء في البدن وإنّنا لا نرى من فارق بين أجزاء البدن ويفيد قانون النمو أنّ الكل في حالة تغيير وسيتحول إلى تراب بعد الموت ويمكنه أن يعود إلى بدن حيوان أو إنسان آخر.

وبناءاً على هذا فمسألة الأجزاء الأصلية وغير الأصلية مجرّد فرضية يحتاج إثباتها إلى دليل ، وللأسف ليس لدينا من دليل.

* * *

٢٠٥

إجابة أوضح

لدينا سبيل أوضح لحل هذا الإشكال والذي يحتاج شرحه إلى مقدمات لابدّ من تأملها بدقة. (١)

١ ـ إنّ بدننا يتغير خلال عمرنا عدّة مرّات ، كالمسبح الكبير الذي يرده الماء من قناة صغيرة ويخرج بالتدريج من قناة صغيرة أخرى : فبعد مرور مدّة طويلة يتغير كلّه دون أن يشعر به ، وكما قلنا في بحث إستقلال الروح أنّ هذا القانون جاري ولا يستثنى منه أي من خلايا البدن حتى خلايا الدماغ.

ويرى البعض أنّ المدّة الزمانية اللازمة لتبدل جميع أجزاء البدن بالأجزاء الجديدة قد تكون سبع أو ثمان سنوات ، وهكذا يكون الإنسان الذي له سبعون سنة قد تبدل عشر مرّات منذ بداية عمره إلى نهايته.

٢ ـ كل بدن يتبدل ينقل صفاته إلى الخلايا التي إستبدلته ، ومن هنا فإن لون بشرة الإنسان وشكله ولون عينيه وسائر مميزاته باقية على حالها طيلة عمره ، رغم أنّ مواده قد تكون تغيرت عشر مرات ، وذلك يعزى إلى أنّ الخلايا حين التغير والتبدل تودع خواصها إلى الخلايا الجديدة ، والواقع هو أنّ البدن الإنساني إلى آخر العمر يشتمل على جميع المميزات والصفات والكيفيات التي كانت في البدن السابق ، ومن هنا يمكن القول : أنّ آخر بدن للإنسان هو عصارة جميع الأبدان طيلة عمره.

٣ ـ ما يفهم بوضوح من الآيات القرآنية إنّ الذي يعاد يوم القيامة آخر بدن للإنسان والذي يتبدل إلى تراب وله في الواقع جميع صفات الأبدان

__________________

(١) لم نعثر على هذا السبيل في أي من مؤلفات القدماء ، فهو يطرح لأول مرّة ، وعليه قد يحتاج إلى دراسات مستفيضة لتتضح ثمرته النهائية.

٢٠٦

التي تغيّرت طيلة العمر.

فقد ورد في الآيات القرآنية الثلاث : (فَاذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلونَ) (١) ، (يَخْرجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٍ مُنْتَشِر) (٢) و (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِراعَاً) (٣). فالآيات تبيّن أن آخر بدن يعاد يوم القيامة ، لأنّ الذي في القبر ليس سوى تراب آخر بدن.

طبعاً هذا إذا دفن البدن ، أمّا إذا تبدلت الأبدان مثلاً في حريق إلى تراب أو فنت بسبب عوامل أخرى فإنّما تعود يوم القيامة ذرات آخر بدن وإن لم يكن هناك من قبر.

وقد ورد في آخر سورة يس بشأن المعاد : (قُلْ يُحْييَها الَّذي انْشَاهَا اوَّلَ مَرَّةٍ) (٤)

فالآية تفيد أنّ الذي يبعث هو آخر بدن للإنسان ، وهنالك عدّة آيات أخرى تؤيد هذه الحقيقة. وعليه نخلص إلى هذه النتيجة : إنّ ما يعود يوم القيامة هو آخر بدن الذي يشتمل على كافة الصفات والخصائص طيلة العمر.

٤ ـ هل يمكن إتحاد بدنين بصورة تامة؟ وبعبارة أخرى هل يمكن أن يتبدل جميع بدن شخص بفعل التغذية إلى جميع بدن شخص آخر؟

الجواب بالسلب ، لأنّ بدن الإنسان يمكنه أن يكون جزءاً من بدن إنسان آخر فقط لا كل بدنه ، ودليل ذلك واضح فالشخص الذي يتغذى على آخر كان موجوداً وعن طريق التغذية على بدن الآخر يجعله جزءاً من بدنه لا كل بدنه ، صحيح أنّ بدن الشخص الأول يحلّ بصورة كاملة في بدن الشخص الثاني ، لكن الشخص الأول لا يمكن أن يكون تمام الشخص الثاني قط

__________________

(١) سورة يس ، الآية ٥١.

(٢) سورة القمر ، الآية ٨.

(٣) سورة المعارج ، الآية ٤٣.

(٤) سورة يس ، الآية ٧٩.

٢٠٧

وليس له أن يكون جزءاً منه (عليك بالدقّة).

نعم لو فرضنا أنّ إنساناً تغذى على بدن آخر لمدّة سبع سنوات بحيث لم يتناول شيئاً غيره بما في ذلك الماء والهواء ، ففي هذه الحالة سيكون بدن الإنسان الأول جميع بدن الثاني ، ولكن واضح أنّ هذا الموضوع ليس أكثر من فرض ، ولايمكن لشخص أن يستغني سبع سنوات عن الماء والهواء ، إضافة إلى أنّ هذا الأمر ليس له عادة صورة خارجية بأن يقتصر غذاء الإنسان على مواد بدن آخر (بغض النظر عن مسألة الماء والهواء).

والنتيجة لايمكن إتحاد بدنين بصورة تامة ومن جميع الجهات ، بل يمكن البدن أن يكون جزءاً من بدن آخر (عليك بالدقّة أيضاً).

٥ ـ كل خلية من خلايا بدننا تضم جميع شخصيتنا بحيث لو نمت لاستطاعت تشكيل بدننا ، وبعبارة أخرى فإنّ كافة خصوصيات بدننا كامنة في كل خلية ، ويتضح هذا الموضوع سيّما بالنظر إلى أبحاث الجينات وأنّ في نواة كل خلية داخل الكروموسومات ذرات غاية في الصغر تعرف باسم الجينات التي تحمل كافة صفات الإنسان ، ولاينحصر هذا الموضوع ببدننا ، بل هو قانون يصدق على جميع الكائنات الحية ، ومن هنا نرى كيف يكثرون الأشجار حيث يغرسون غصن صغير في وسط مساعد ثم يتحول تلقائيا إلى شجرة كاملة ، وقد أجريت بعض التجارب على الحيوانات البسيطة مثل بعض الدود أنّه إذا قطّعت عدّة قطع فإنّ كل قطعة تتبدل بالتدريج إلى حيوان كامل. ويبدو هذا الموضوع ليس بمستبعد عن الإنسان من الناحية الاصُولية والكلية ، يعني لو أمكن توفير ظروف مناسبة فإنّ كل خلية من خلايا بدن الإنسان تستطيع بمفردها أن تكوّن إنساناً يشبهه بكل شيء ، بل هو نفسه ، أو لم نكن يوماً خلية أحادية نمت تصاعدياً حتى تكونت الأعضاء

٢٠٨

المختلفة بالتدريج ، أو ليست هذه الأعضاء والأجزاء قد ظهرت من إنقسام تلك الخلية الأحادية؟ أي أنّ الخلية الأولى نمت وتحولت إلى خليتين ثم نمت هاتان الخليتان وتحولتا إلى أربع خلايا وهكذا تزايدت فكونّت جميع عضلات البدن ، وعليه فكل خلية يمكنها بمفردها أن تبني جميع بدن الإنسان.

وأحياناً نرى قطعة قد فصلت من بدن الإنسان بفعل حادثة ، وسرعان ما تقوم الخلايا المجاورة لها تملأ مكانها واستعادة ذلك الجزء.

٦ ـ هل تتغير شخصيتنا من الناحية الجسمية بزيادة ونقصان وصغر وكبر موادها؟ قطعاً لا.

مثلاً كنّا في اليوم الأول نطفة ذات خلية واحدة ، وأصبحنا بعد عدّة أسابيع جنيناً يزن عدّة غرامات ، ثم يصبح وزننا بعد أشهر كيلوين أو ثلاثة كيلو غرامات ويعقب ذلك ولادتنا ويختاروا لنا إسماً ، ولكن لم نكن حين الولادة نزن أكثر من ثلاث كيلوات فإن كبرنا بمرور الزمان قد نصل إلى سبعين كيلو غرام ، وربّما ضعفت عضلاتنا وعظامنا في حياتنا المستقبلية فيهبط وزننا إلى أربعين كيلو غرام. فهل تبدل هذه التغييرات شخصيتنا من الناحية الجسمية؟ يعني لم نعد ذلك الوليد في اليوم الأول؟ ذلك الجنين والنطفة الآحادية الخلية ، وإن هبط وزننا بفعل المرض والكهولة فبلغ نصف الوزن الفعلي ، فهل لسنا ذلك الشخص السابق؟ ألا توجد شخصية واحدة في ظل كل هذه التغييرات والتبدلات؟

الإجابة على هذه الأسئلة واضحة وهي : هناك واقعية واحدة في ظل كل هذه التغييرات والتحولات والتي نعبّر عنها باسم زيد أو عمرو أو مسعود أو فاطمة ، وعليه فشخصية الإنسان لا تغيير تبعاً لتغير مادته الجسمية

٢٠٩

وزيادتها ونقصانها.

* * *

وبعد أن إتضحت هذه المقدمات الست نعود إلى أصل البحث لنرى هل تخلق تغذية إنسان على بدن آخر مشكلة بالنسبة للمعاد الجسماني أم لا؟ الحقيقة أنّها لا تخلق أية مشكلة ، لأنّ الأجزاء الأجنبية الموجودة في بدن الإنسان تعود إلى موضعها الأصلي يوم القيامة ولا تبقى سوى أجزاء نفس البدن ، لأنّه كما قلنا أنّ البدن لايصبح جميع بدن إنسان آخر أبداً ، بل يصبح جزءاً منه ، وعليه فإن إنفصل منه ستبقى له بعض الأجزاء (عليك بالدقّة).

وهذا مسلّم من أنّ البدن الثاني إنّما يصغر ويضعف بنفس النسبة التي يفقد بها الأجزاء الأجنبية المتناثرة في جميع البدن ، ولكن واضح أنّ ذلك لا يخلق مشكلة ، فكما قلنا لو بقيت من البدن الثاني خلية واحدة لأمكنها أن تنمو وتكوّن البدن الأصلي ، فضلاً عن بقاء الكثير من البدن الثاني.

وبناءاً على ما سبق فإنّ الأجزاء الباقية من كل بدن مهما كانت قليلة ستنمو وتتكامل يوم القيامة (في مدّة زمانية قصيرة أو طويلة) وتشكل البدن الأولي وليس هنالك أية مشكلة تترتب على هذا الأمر فالبدن هو البدن والشخصية هي الشخصية والصفات والمشخصات هي نفس الصفات والمشخصات ولذلك ستكون العينية والوحدة محفوظة بين البدنين.

لعلنا لا نحتاج إلى التذكير بأنّ هذا السبيل لحلّ مشكلة الآكل والمأكول لا يرتبط بفرضية الأجزاء الأصلية وغير الأصلية ، لأنّ جميع الأجزاء أصلية من وجهة نظرنا وكلّها قابلة لأن تستقطب من البدن الآخر.

٢١٠

سؤال

السؤال الوحيد الذي يبقى هنا : على ضوء هذه النظرية فإنّه يمكن العثور على أجزاء معينة كانت يوماً جزء بدن آثم وبعد تحولها إلى تراب وجزء من النباتات إلى جزء بدن إنسان صالح ، فهل عودة هذه الأجزاء التي كانت يوماً في مسير الذنب وآخر في مسير الطاعة إلى بدن الأول وهو بدن الآثم ينسجم والعدالة؟

جواب

يتضح جواب هذا السؤال من الالتفات إلى نقطة وهي أنّ الروح هي مركز الآلام والأوجاع وكذلك الهدوء والراحة ، وما الجسم إلّاوسيلة ، ولذاإنّ بضّع بدن ميت إلى قطع قطع فأنّه لن يشعر بأي ألم ، كما لايشعر بأي وجع لو قطع جسمه حين التخدير ، وعليه فالثواب والعقاب يترتبان على الروح والجسم وسيلتها ، حيث يستند الثواب والعقاب والمعصية إلى الروح والبدن وسيلتها كذلك في هذا الأمر ، وإننا لا نستند قط في مسألة المعادالجسماني إلى هذا المطلب في أنّ البدن الفلاني أذنب أو البدن الفلاني أحسن بل نعتمد هذا المعنى في أنّ الروح لايمكن أن تكون لها حياة كاملةدون البدن ، ومن هنا لابدّ أن تعود الروح إلى جسمها الأصلي وتواصل حياتها الكاملة.

والنتيجة هي أنّ وجود أجزاء معينة في بدنين (بعد حل مشكلة وحدةالشخصية) لايخلق مشكلة من حيث الثواب والعقاب.

وهكذا يتبيّن حلّ شبهة الآكل والمأكول التي شغلت أفكار أغلب الأفراد ولعل عدم حلّها جعلهم يترددون في إقرار مسألة المعاد الجسماني ، أي يمكن الردّ على الإيراد المذكور من خلال قبول المعاد الجسماني بهذا

٢١١

البدن العنصري المادي كما صرّح بذلك القرآن.

(يمكن مطالعة البحث من البداية ثانية لمن بقى لديه شك في الموضوع).

* * *

٢ ـ قلّة التربة على الأرض

الإيراد الآخر الذي طرح بشأن المعاد الجسماني هو لو تقرر أنّ تعود أجساد كافة أفراد بني الإنسان يوم القيامة بهذا البدن المادي ، فإن التراب الذي على الأرض لا يكفي لكل هؤلاء الأفراد ، وعليه ستكون لنا مشكلة المواد الأساسية لبناء كل هؤلاء الأفراد! وإن قلنا بأنّ الأفراد سوف لن يكونون بهذه الهيئة الفعلية وسيتبدلون إلى أفراد صغار جدّاً ، فانّ هذا الأمر عجيب ولايمكن تصديقه؟

جواب :

يبدو أنّ من يطلق هذا الكلام ويتحدّث عن أزمة التراب اللازم لبناء جميع أفراد البشر إنّما يطلق سهمه في ظلام دامس وقد خاب سهمه ، فما أحرى من يتفوه بذلك أن يتناول ورقة وقلماً ويحسب الأمر بصورة رياضية ليعلم مدى الخطأ الذي يرتكبه في هذا المجال.

يقال أنّ الماء يشكل ٦٥ ـ ٧٠ بالمئة من جسم الإنسان ، وعليه فإنّ المواد المعدنية والآلية لبدن الإنسان تقريباً ثلث وزن بدنه ، يعني الإنسان الذي يزن ستين كيلو غرام تقريباً عشرون كيلواً ـ أو أقل ـ من بدنه تراب ومواد معدنية وآلية والباقي ماء ، والآن نحسب لو كان لدينا متراً مكعباً من التراب فكم عساه يكفي كمواد لبناء بدن الإنسان؟

٢١٢

سنتوصل بسهولة إلى أنّ هذا المقدار من التراب (المتر المكعب) يكفي لأكثر من مئة شخص ، والآن تستطيع التعرف بسهولة على أنّ الكيلو متر المكعب من التراب يعني قطعة أرض طولها وعرضها وإرتفاعها ألف متر تكفي لمئة مليارد إنسان ـ يعني في الكيلومتر المكعب مليارد متر مكعب يكفي كل منها لمئة إنسان.

وبعبارة أوضح :

يمكن لهذا المقدار من التراب أن يكفي لخمس وعشرين ضعفاً من سكان الكرة الأرضية ، وهل تصدق أنّ هذا المقدار من التراب يشغل مساحة زهيدة من سطح الكرة الأرضية؟

وإذا تابعنا القضية من حيث الزمان ، فمتوسط عمر الإنسان لايتجاوز الخمسين عاماً فاذا ضربنا العدد ٢٥* ٥٠ متوسط عمر كل جيل يكون الناتج ١٢٥٠ سنة ، يعني يكفي كيلومتر مكعب من التراب لبناء المادة الأصلية لجميع البشر على الكرة الأرضية بمدّة ١٢٥٠ سنة ، وعليه فلو فرضنا أنّ عصر تأريخ الحياة البشرية على الأرض مثلاً كان إثني عشر ألف وخمسمائة سنة ، ونفرض أيضا أنّ أي جزء من بدن إنسان لم يصبح جزءاً من بدن إنسان آخر فإنّ عشرة كيلو مترات مكعبة من التراب تكفي لتشكيل أبدان جميع الأفراد.

وإن اعتبرنا طول عمر الإنسان في الكرة الأرضية مليونين وخمسمائةألف عام والذي يتأتى من كشف آخر جمجمة ولعله لايمكن الذهاب أبعدمن ذلك ، ففي هذه الحالة يكفي ألفي كيلومتر مكعب من التراب لتشكيل أبدان جميع الأفراد طيلة ٠٠٠ / ٥٠٠ / ٢ عام ، ونعلم أنّ هذا المقدار من التراب لايشغل سوى مساحة صغيرة من الأرض ، والنتيجة لو أخذنا بنظر

٢١٣

الاعتبار مساحة إيران بعمق ألف متر من التراب فانّها تلبي بناء أبدان ملياردات مليارد من أفراد البشر خلال ميلونين وخمسمائة ألف سنة ، رغم أنّ بلدنا يشغل زاوية صغيرة من سطح الكرة الأرضية وهذا ما يتضح من أدنى نظرة إلى الخارطة الجغرافية.

فيتضح ممّا ذكرنا عدم صحة الزعم القائل بعدم كفاية تراب الكرة الأرضية لتلبية حاجة أبدان جميع أفراد البشرية.

* * *

٣ ـ ما الجسم الذي يشمله المعاد؟

السؤال الآخر الذي يطرح بشأن المعاد هو : إذا كان المعاد جسمانياً ، فأي بدن من الأبدان التي إكتسبها الإنسان طيلة عمره سيكون المعاد؟ لأنّنا نعلم أنّ البدن والجسم يتغير عدّة مرّات طيلة عمر الإنسان ، ويحتمل أن تعوض خلايا البدن كل سبع سنوات وتستبدل بخلايا جديدة.

وطبعاً فإنّ هذا التغيير إنّما يتم بصورة تدريجية ودقيقة بحيث لايبدو محسوساً قط ، والطريف أنّ الخلايا الجديدة تجتذب جميع مميزات وخصوصيات الخلايا القديمة ، أي أنّها تكون بنفس الحجم والشكل واللون ، أو ليست هي وليدة وراثة الخلايا القديمة ، فكيف لاتشبهها في كل شيء؟

على كل حال فبالنظر لما قيل يبقى سؤال وهو : إنّ الإنسان قد عوّض بدنه عشر مرات خلال سبعين سنة وقد أتى بكل واحد منها أعمالاً حسنة أخرى سيئة ، فهل يعود بمجموع هذه الأبدان بحيث يصبح هيولا عجيبة؟ أم ببدن واحد منها ، وذلك ترجيح بلا مرجح ، أضف إلى ذلك فإن لكل بدن صحيفة أعمال بحيث يمكن أن تكون متفاوتة تماماً مع صحيفة أعمال

٢١٤

البدن الآخر ، أمّا إن كان المعاد روحانياً فليست هنالك أية من هذه المشكلات.

* * *

جواب :

يمكن العثور على جواب هذا السؤال في ذات السؤال ، فكما ورد في المتن أنّ كل بدن يجتذب جميع مميزات وصفات البدن السابق ، وعليه فآخر بدن هو مخزن جميع الصحف طيلة العمر وهو خلاصة وعصارة لجميع مميزات الأبدان السابقة.

ولذلك فإنّ عودة وبعث آخر بدن تعني عودة جميع الأبدان وبعثها ، والجدير بالذكر هو أنّ الخلايا حين التعويض تجتذب حتى العوارض الإكتسابية ، مثلاً الخال الموجود على البدن يمكن الّا يقارقه طيلة العمر رغم أنّ الخلايا تتعوض ، وهذا مايشير بوضوح إلى نقل حتى الصفات الإكتسابيةإلى الخلايا الجديدة. وكما ذكرنا سابقاً فالمفهوم من أغلب الآيات القرآنيةأنّ المعاد يوم القيامة سيكون بآخر بدن ، فقد ورد في الآية ٥١ من سورةيس :

(وَنُفِخَ في الصُّورِ فَاذِاهُمْ مِنَ الَاجْدَاثِ إِلَى رِبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) والآية ٧ من سورة الحج (وَانَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ في الْقُبُورِ) فالذي يستفاد من هذه الآيات وشبيهاتها أنّ المعاد يحصل بآخر بدن ، وهذا ما يقتضيه قانون العقل ، لأنّ البدن الذي يكون عصارة وخلاصة جميع أبدان مدّة العمر هوفي الحقيقة مع الروح دائماً وله سنخية وتناسب معها في كل جهات ، ولاتستطيع الروح سوى به أن تكتمل ، وعليه فليس هنالك من مشكلة من

٢١٥

هذه الناحية في أمر المعاد الجسماني.

* * *

٤ ـ أين تقام القيامة؟

السؤال الأخير الذي يطرح بشأن المعاد الجسماني وهو إذا أراد أن يعودكافة الناس منذ بداية الخليقة إلى الحشر فسوف لن يكون هناك من مكان على الأرض يسعهم ، ونحن نعلم أنّ الأرض لا تستطيع تلبية التعداد السكاني في بعض مناطق العالم ، ومن هنا هناك مواجهة شديدة لازدياد عدد السكان ، فاذا أريد تجمع كافة الناس من الماضين والحاضرين والقادمين في مكان واحد ، فكيف ستكون الحالة مزرية ، أمّا إن كان المعاد روحانياً فليست هنالك أية مشكلة حيث لاتوجد مضايقات في عالم الأرواح.

جواب :

لعل من أورد هذا الإشكال غفل عن نقطة وهي كما ورد صريحاً في القرآن فإنّ نهاية هذا العالم ستشهد إختلال نظام كرات عالم الوجود : فالشمس تكوّر والقمر يصبح مظلماً والجبال تنسف وتصبح كذرات الغبار ، ثم يقام عالم جديد على أنقاض هذا العالم وتبدأ حياة جديده للناس في ذلك العالم ، ومن هنا فليست هنالك من مشكلة بالنسبة لصغر مساحة الكرةالأرضية ، حيث لن تكون هناك كرة أرضية بهذا الشكل حتى نقلق من قلّةمساحتها ، وسنستعرض مستقبلاً بصورة أعمق ـ إن شاء الله ـ هذا الموضوع.

* * *

٢١٦

شهداء المحكمة الكبرى للمعاد

والحساب والكتاب والميزان

القيامة محكمة عظيمة لابدّ أن يحضرها الجميع دون إستثناء ويمثلواللمحاكمة ، ولكن كما ذكرنا أنّ ألفاظنا قد أبتدعت منذ اليوم الأول بشأن حياتنا اليومية ، ولذلك سيتعذر علينا التحدث بمجرّد أن نخرج عن إطارحياتنا اليومية ، لأنّنا لا نجد الألفاظ التي تبيّن المفاهيم التي سنتعمل معها!

خاصة بشأن الحياة في العالم الآخر ؛ العالم الذي يختلف تماماًعن هذاالعالم ، حيث يفوق بمراتب هذا العالم سمواً ورفعة ، ولاينطوي على حياته المملة المتعبة. بالضبط كالتوأمين في بطن أمّهما ـ فرضاً ـ يضعون ألفاظاًمن أجل قضاء حاجاتهما ، فمن البديهي أنّهما حين يلدان ويريان أنواع المشاهد والمناظر والكائنات والظواهر والأفراد والأشخاص فليس أمامهمامن سبيل سوى التفاهم عن طريق الإشارات وحركة العيون والحواجب من أجل إفهام الآخرين ما يريدان ، لأنّ قاموسهما في مرحلة الجنين قد لايشتمل على عشر مفردات ، والحال يحتاج العالم الواسع الفعلي إلى عشرات آلاف المفردات للتعامل مع مطالبه ومفاهيمه ، فسعة ذلك العالم بالنسبة

٢١٧

لعالمنا كنسبة هذا العالم إلى عالم الجنين ، وعليه فليس من العجيب ألّاتستطيع الألفاظ والمفردات التي نتحدث بها في هذا العالم أن ترسم لناصورة كاملة عن شكل الحياة في العالم الآخر ، فنشعر بالإعياء والعجز لوصف روعة النعم وعظمة تكامل تلك الحياة ، بل يصعب علينا نحن الذين نعيش في سجن الدنيا حتى تصورها.

* * *

على كل حال فحين نقول سيمثل جميع الأفراد للمحاكمة في ذلك العالم ، فإن ذلك لايعني ستنصب عدّة طاولات في المحشر وسيحمل كل فرد ملفه صغيراً كان أم كبيراً تحت إبطه ويرد مع الشهود ، فيمثل مثلاً بين قضاة وحكام تلك المحكمة الذين يكونون من الملائكة ، ثم تبدأ المحاكمة العلنية بعد الإستماع إلى الإفادة والتحقيق والسؤال والجواب ويهب المتهم للدفاع عن نفسه ثم يتداول القضاة ـ الملائكة ـ الحكم فيصدرون أحكامهم بتبرأة الأفراد أو إدانتهم ، وبعد إمضاء الحاكم المطلق ـ الذات الإلهية المقدسة ـ للحكم يبلّغ مأموري إجراء الأحكام الإلهية ؛ أي ملائكة الجنّة والنار بتطبيقها ، كلا ليس الأمر كذلك أبدا! فهناك تتخذ الألفاظ صبغة ومفهومها آخراً ، فهناك شبح للمحكمة إلّاأنّه على مستوى أرفع بالشكل الذي لم نره ونسمعه قط.

وإن ورد الكلام عن ميزان الأعمال فهذا لايعني وضعها في كفة من ميزان ويضعون عدداً من الأثقال في الكفة الثانية حتى تحصل حالة التوازن فيعلم الوزن الواقعي ، أو إن كان أكثر جيىء بميزان ضخم ليحسب وزن الأعمال ، كلا ليس الأمر كذلك. قلنا إنّ الألفاظ هناك تتخذ شكلاً آخر (ولابدّ أن تكون كذلك) لأنّ الحديث عن عالم يختلف تماماً عن عالمنا هذا.

٢١٨

طبعاً لا ينبغي أن تكون هذه الحقيقة وسيلة للتفاسير الخاطئة والمنحرفة ومدعاة إلى نوع من الفوضى في الألفاظ المتعلقة بالعالم الآخر ، بل لابدّ من توضيح مفاهيم هذه الألفاظ في ظل القرائن الموجودة ، من جانب آخر فإن مفاهيم الألفاظ إنّما تتغير بمرور الزمان في الحياة الدنيوية : فحين كانت تطلق كلمة السراج يراد بها تلك القارورة المملوءة بالزيت وفي فوهتها فتيلة طويلة يخرج جزء منها للإشعال ويأخذ الزيت بالإحتراق شيئاً فشيئاً ، وأحياناً توضع عليها مظلة متواضعة لإحتواء الدخان.

أمّا اليوم فتطلق هذه الكلمة ويراد بها المصباح الكهربائي الذي يعلق في السقف فلا من زيت ولا فتيلة ، ولا يحمل من السراج القديم سوى خاصيته في مكافحة الظلمة ، ويصدق هذا الكلام على سائر وسائل الحياة القديمة والجديدة على أنّ تلك الوسائل والأدوات تغيرت تماماً ، غير أنّ النتيجة باقية ثابتة ، فإن كان هذا الاختلاف والتغيير إلى هذه الدرجة بشأن زمانين في هذا العالم ، فما بالك بذلك العالم الذي يختلف بكل تفاصيلة عن هذا العالم ، بحيث إذا لم نحصل على ألف باء آخر لبيان مفاهيمه فلابدّ على الأقل أن نفكر في إستعمال ألفاظ أكثر بالنسبة لنتائجها ، طبعاً لا نقول إنّنا نفسّرها كيفما نشاء ونصرّح بأنّ لهذه الألفاظ وضع خاص.

ونخوض الآن في تفسير هذه المفاهيم بعد تلك المقدمة.

* * *

الف ـ شهداء القيامة

تعرض القرآن الكريم على لسان آياته إلى طائفة من شهداء المحشر وهم بالترتيب :

٢١٩

١ ـ الذات القدسية المطهرة : (وَمَاتَكُونْ في شَأْنٍ وَمَاتَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرآنٍ وَلَاتَعْمَلُونْ مِنْ عَمَلٍ الّا كُنّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً اذْ تُفِيضُونَ فِيْهِ وَمَا يَعْزَبُ عَنْ ربِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ في الأَرْضِ وَلَافي السَّماءِ وَلَاأَصغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَاأَكْبَرَ الّا في كِتَابٍ مُبينٍ) (١)

٢ ـ الأنبياء : (فَكَيْفَ اذَا جِئْنًا مِنْ كُلِّ امَّةٍ بِشَهيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً) (٢)

٣ ـ الأعضاء كالرجل واليد : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمُ الْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيْهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (٣)

٤ ـ الجلود : (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذي أَنْطَقَ كُلَّ شَىءٍ) (٤)

٥ ـ الأرض تشهد على الأعمال : (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثْ أَخْبَارَهَا* بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَها) (٥)

٦ ـ الملائكة : (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سَائِقٌ وَشَهيد) (٦)

* * *

كيفية هذه الشهادة

يتضح من خلال عد اللسان واليد والرجل وأعضاء البدن وكذلك الأرض في عداد الشهود ، أنّ تلك الشهادة ليست من قبيل الشهادات البشرية التي لا تتجاوز الكلام وليست لها أية مطابقة للواقع ، فهي شهادة

__________________

(١) سورة يونس ، الآية ٦١.

(٢) سورة النساء ، الآية ٤١.

(٣) سورة النور ، الآية ٢٤.

(٤) سورة فصلت ، الآية ٢١.

(٥) سورة الزلزلة ، الآية ٤ ـ ٥.

(٦) سورة ق ، الآية ٢١.

٢٢٠