المعاد وعالم الآخرة

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

المعاد وعالم الآخرة

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-28-8
الصفحات: ٢٦٤

الدليل العقلي الثالث

لو كان الموت نهاية لكان خلق الإنسان عبثاً

لايمكن فصل الإيمان بمبدأ للعلم والحكمة في عالم الوجود عن الإيمان بحياة ما بعد الموت ، لنفرض أن فخّاراً يصنع آنية ، فما إن ينتهي منها حتى يضربها بالأرض ويكسرها ، فهل من شك في حماقته؟

وهل نعتبره عاقلاً مهما أضفى عليها من الجمالية وجعلها تحفة فنية واقعية إن كسرها عبثاً؟

بل إفرض أنّ مهندساً ثرياً وماهراً وله ذوق سليم يقوم ببناء عمارة ضخمة وجميلة بأفضل مواد البناء ووفق أدق الخرائط وبتكاليف كثيرة بحيث تثير تلك العمارة إعجاب كل من ينظر إليها ، أو أن يقوم ببناء سد عظيم ، وما أن ينتهي من بناء تلك العمارة الضخمة أو هذا السد العظيم حتى ينظم مراسم ويدعو جميع الشخصيات لإفتتاحه ، وفي الغد نطالع في الصحف أنّ المهندس المذكور قام بتفجير العمارة والسد بالديناميت ، ثم تحدث للصحفيين قائلاً أنّ هدفه من تلك العمارة هو الاستراحة فيها ليوم

١٤١

واحد ، أو العوم بسفينة لبضع ساعات في بحيرة السد!

فكم طفولي هذا الكلام وبعيد عن العقل؟ لايبدو هذا العمل متوقعاً من شخص أمي فضلاً عن فرد حكيم وعالم.

* * *

لو نظرنا إلى منظمات ومؤسسات هذا العالم الواسع وفكرنا بالدقة والعظمة التي استخدمت في هذا العالم بصورة عامة وفي الإنسان من الناحية الجسمية والروحية بصورة خاصّة ، لعرفنا أنّ «الموت» لايمكنه أن يكون نهاية الحياة البشرية ونقطة توقف وجودها ، لأنّ حياة الإنسان في هذه الحالة والعالم المحيط به سوف يكون عبثاً وغير منطقي ، وهو بالضبط كفعل ذلك الفخّار والمهندس.

توضيح ذلك :

تفيد مطالعة عالم الخلق على مستوى عظمته وكذلك دقته حقيقة مؤدّاها أنّ هذا العالم أوسع وأجمل وأعقد ممّا نتصوره.

فقد صرح «أنشتاين» في كتابه «الفلسفة النسبية» : إنّ ما قرأناه من كتاب التكوين الكبير لم يكن أكثر من صفحة (أو صفحات) وقد تعرفنا على ألف باء هذا الكتاب العظيم في ظل تطور العلوم البشرية.

ولابدّ من الاضافة إلى هذا الكلام : إنّه كتاب غطاؤه الخارجي «الأزلية» وغطاؤه الداخلي «الأبدية» وقد إجتاحت أوراقه السماء والأرض ، بينما تشكل المنظومات والكواكب والكرات العظيمة والمجرّات كلماته وحروفه ، وياله من عمر طويل يتطلب لمن أراد قراءته إن أمكن ذلك. كما صرّح البروفسور «كارل جيلزين» في كتاب «رحلة إلى العوالم البعيدة» قائلاً : إنّ

١٤٢

المسافة الشاسعة بين المجموعة الضخمة للكواكب أو المجرّات لهذه الجزر الفلكية التي تعوم في الفضاء وتدور حول محورها ، ممّا يصعب حتى التفكير فيها ، فكل واحدة من هذه المجرّات تضم ملياردات الكواكب ، وإنّ مسافاتها على قدر من السعة بحيث إنّ الضوء (وبتلك السرعة الرهيبة والفريدة) يحتاج أحياناً مئات آلاف السنين من الوقت ليطوي المسافة بين كوكبين يقعان ضمن مجرّة واحدة. (١)

وبالطبع فإنّ الدقة المستعملة في بنية أصغر وحدة في هذا العالم كالدقّة المحيرة والمذهلة التي تشاهد في بنية أعظم وحدة ضخمة من وحداته ، والإنسان ـ في هذه الأثناء ـ هو أكمل موجود على الأقل عرفناه لحد الآن ، وهو أعظم محصول لهذا العالم ـ حسب علمنا طبعاً ـ بما يمتلكه من بنية عجيبة.

* * *

من جانب آخر :

نشاهد أنّ هذا الإنسان الذي يعد أعظم نتاج لهذا العالم ، يتحمل أية مشاكل وصعاب خلال هذه المدّة القصيرة من عمره التي تعتبر لحظة عابرة متبخرة إزاء عمر الكواكب والمجرّات ، فمرحلة طفولته التي تعدّ أصعب وأعقد مراحل حياته حيث تتضمن برامج غاية في الثقل الذي يرهق كاهله ، فقد وضع قدمه في محيط جديد لا يألف فيه أي شيء ، إنّه لا يعرف حتى كيف يحفظ لعابه وعليه أن يتوفر على تجارب كثيرة وإختبارات وإمتحانات متعددة وتمارين تأخذ أغلب أوقاته ليتعلم كيف يسيطر على عضلات شفتيه وأطراف فمه.

__________________

(١) رحلة إلى العوالم البعيدة ، ص ٨.

١٤٣

إنّه لايعرف الجهة التي ينبعث منها الصوت ، كما لايعلم الفاصلة بين عينيه والأشياء ولعله يعتقد بادىء الأمر بأنّ جميع الأشياء على صفحة واحدة وقريبة من عينه ، وليس له أدنى إطلاع عن حركة أمواج الهواء على الأوتار الصوتية وايجاد أنواع الأصوات ومن ثم تكسر وتشكل الأصوات بواسطة حركات اللسان وعضلات الفم والحنجرة ، وعليه أن يتمرن صباح مساء في مهده ويدرس ويطالع ويتدرب ليتعرف على محيطه ويستفيد من وسائله وأدواته ، أضف إلى ذلك عليه أن يكافح أنواع الأمراض ليتمكن من تحمل الظروف التي تواجهه في ذلك المحيط ، وعلى كل حال فإنّ أهميّة التمارين التي يزاولها من أجل التعرف على المحيط لتفوق التمارين المنهكة التي يمارسها رواد الفضاء من أجل التكيف على سطح القمر ، وهكذا يقضي فترة الطفولة بكل معاناتها.

ولايكاد يلتقط أنفاسه حتى يواجه المرحلة الصاخبة للشباب بعواصفها الشديدة الطاغية التي تعصره في معترك أمواجها ، وهكذا يتنقل من مرحلة إلى أخرى ، حتى لا يكد يقف على رجليه فتنقضي فترة الشباب ليرى نفسه في حالة الكهولة والشيخوخة ومن ثم العجز ، وهنا يشعر تدريجياً بأنّه أخذ يفهم بعض أخطائه الماضية ـ والتي لابدّ من بعضها بغية بلوغ حالة النضبح ـ فهو قلق ومضطرب ومنهمك في كيفية تداركها ، فيفكر مع نفسه بأنّه حصل الآن على تجربة تؤهله لحياة جديدة بنضبح أكبر ، ولكن للأسف أنى له ذلك وقد ضعفت القوى والموت كامن له في الطريق الذي سيحيل نضجه وتجاربه وعلومه ومعارفه تراباً ، وبغض النظر عن ذلك فإنّ هذه المراحل الثلاثة من عمره كانت مسرحاً لمختلف الحوادث المأساوية الطبيعية و

١٤٤

الاجتماعية وفقدان الأحبّة والأعزة والأصدقاء وتحمل الهم والغم والمرارة.

والآن نحتكم ونتساءل :

أمن المعقول أن يكون هدف هذا الجهاز الجبار العظيم للخلق خاصّة الهدف من خلق هذه الدنيا الصغيرة العجيبة التي تدعى «الإنسان» إنّما يتمثل بهذه الحياة وهذا الذهاب والإياب الممزوج بآلاف الكدورات والإزعاجات ، وبعد ذلك يغلق ملف كل هذا العلم والتجارب والإستعداد الروحي الذي يبدو أنّه كان مقدمة من أجل حياة أخرى ، ومن ثم تبدل تلك الخلايا الدماغية العجيبة التي تضم أكبر ملفات الدنيا بالموت إلى ذرات بسيطة من تراب عالم الطبيعة؟

أليس هذا شبيه عمل ذلك المهندس الذي نسف عمارته؟

أليس هذا شبيه بعمل ذلك الفخّار الذي حطم آنيته؟

هل ينسجم هذا وحكمة البالغة سبحانه؟

إنّ الفلاح يغرس الأشجار ليقطف ثمارها ، فما الذي يقطفه فلاح عالم الوجود منه؟ ... بضعة أيام منغصة!

لو إفترضنا أننا كنّا مكانه وبهذا العقل الذي لدينا أفكنا نفعل مثل ذلك العمل؟ فما بالك به وهو العقل والعلم والحكمة المطلقة.

كيف يمكن التصديق بأنّ كل هذا الضجيج من أجل هدف يساوي تقريباً اللاشيء!

أليس ذلك بمثابة الطفل الصناعي الذي يربونه في الرحم فإن نما وتأهب للحياة قتلوه؟

ونخلص ممّا سبق إلى أنّ الشخص الذي يؤمن بالله وحكمته لا يسعه

١٤٥

إنكار نهاية حياة الإنسان بموته.

* * *

وقد أشار القرآن في عدّة مواضع إلى هذا الإستدلال حيث أورده على سبيل الاستفهام الإنكاري : (افَحَسِبْتُمْ انَّمَا خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَانَّكُمْ الَيْنَا لَاتُرجَعُونَ) (١)

فقد شبّهت الآية عدم الرجوع إلى الله (يعني البعث والقيامة واستمرار الحياة والحركة نحو النقطة اللامتناهية للوجود) بالبعث ، أي أنّ الخليقة ستنتهي إلى العبثية لو لم يكن هناك من معاد وحياة بعد الموت.

(ايَحْسَبُ الإِنْسَانُ انْ يُتْرَكَ سُدًى* الْمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِّيَ يُمْنى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى* فَجَعَلَ مِنْهُ الزُّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالانْثى* الَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى انْ يُحْيِىَ الْمَوُتى) (٢).

فلو كان كل شيء ينتهي بالموت لكان الخلق عبثاً مهملاً (حيث وردت سدى في اللغة بمعنى المهل) ، ومن هنا قال بعض المفسرين أنّ المراد بالإنسان في الآية المذكورة (الْكَافِرُ بِالْبَعْثِ الْجَاحِدُ لِنَعِمِ اللهِ) (٣).

حقاً لايستحق سوى الملامة من يشاهد هذا العالم وعظمته بينما لا يرى العالم الآخر.

* * *

__________________

(١) سورة المؤمنون ، الآية ١١٥.

(٢) سورة القيامة ، الآية ٣٦ ـ ٤٠.

(٣) تفسير مجمع البيان ، ج ١٠ سورة القيامة.

١٤٦

الدليل العقلي الرابع :

بقاء الروح علامة على القيامة

أحد الأدلة الأخرى ذات الصلة بمسألة القيامة والحياة بعد الموت والذي يشير إلى عدم فناء الإنسان وزواله المطلق بالموت هو بقاء الروح.

إثبات وجود الروح بصفتها حقيقة مستقلة ـ لاخاصية عارضة على البدن ـ توضيح هذا الموضوع في أنّ روح الإنسان باقية بعد الموت ، وأنّ الموت لا يعني النهاية المطلقة للحياة ، وإثبات هذا الموضوع في الواقع يعدّ خطوة كبيرة باتجاه إثبات عالم ما بعد الموت والمعاد ، ولكن لابدّ من دراسة ثلاثة مواضيع من أجل بلوغ هذا الهدف هي :

١ ـ إستقلال الروح

٢ ـ تجرّد الروح

٣ ـ بقاء الروح

وقبل الخوض في ذلك لابدّ من الإلتفات إلى أنّ قضية الروح من أقدم وأعقد المباحث التي واجهت الفلاسفة والعلماء.

١٤٧

لا أحد يسعه بيان مقدمة لهذا البحث ، لأنّه وطبق شهادة التاريخ أنّ المصريين ـ واحتمالاً سائر الأقوام ـ قد تعرفوا قبل خمسة آلاف سنة على مسألة الروح ، حتى صرّح العالم الاسلامي المعروف «الآلوسي» أنّ هناك مايقارب الألف قول ونظرية بشأن هذه القضية ، وقد تحدث كل حسب طريقته عن ماهية الروح.

فالإنسان ـ حتى إنسان ما قبل التأريخ ـ يشاهد في عالم النوم عدّةمشاهد وعوالم واسعة لم يرها بعد النوم في محيطه ، وبالنظر إلى هذا الأمرفانّه يشعر بوجود قوّة خفية أودعت وجوده تنشط وتتجلى بصورة حين اليقظة وأخرى حين النوم ، وهو مشغول بممارسة هذا النشاط حتى في حالة سكون أجهزة البدن وارتماء الإنسان في زواية معيّنة ، وقد إصطلح على هذه القوّة بالروح (أو ما يعادلها في اللغات الأخرى).

ثم إحتلت الروح موقع الصدارة في أبحاث الفلاسفة حين أصبحت الفلسفة معرفة مدونة.

وسنرى ـ عمّا قريب إن شاءالله ـ أنّ مسألة النوم هي أحد مفاتيح أبواب عالم الأرواح ، بل سنرى أنّ الرؤيا يمكنها أن ترشدنا إلى عالم الأرواح من جهتين :

الأولى أصل مسألة الرؤيا والمشاهد التي يراها الإنسان في المنام ـ سواءكان لها وجود خارجي أم لا ، وبعبارة أخرى سواء كان لها تعبير أم لم يكن ـ والأخرى كيفية الرؤيا التي يشاهدها الإنسان والتي تزيح الستار أحياناً عن الحوادث الموجودة أو القادمة أو الماضية.

وهنا بالطبع ينبرى البعض من أصحاب الآراء السطحية ليخبرنا بأنّ الرؤيا ليست بالشيء المهم ، فهي هذه المشاهد التي نراها في اليقظة ، كما قد

١٤٨

تكون تلك التي نراها بفعل نشاط قوّة الواهمة والمتخيلة ، أو أنّها ما تفصح عن محتويات الضمير.

ولسنا بصدد معرفة المصدر الذي تستند إليه الرؤيا وإلى ماذا تستند فعاليتها؟ وهل ترتبط بالماضي أم المستقبل؟ والكلام في أنّ المشاهد الواسعة التي نراها في عالم المنام لابدّ أن يكون لها حيزاً في وجودنا ، فهل هذا الحيز في خلايانا الدماغية وداخل الجمجمة ، أم أنّها ترتسم على لوحات أخرى بنقوشها الكثيرة.

مثلاً نرى في المنام أننا جلسنا في بستان يضم مسبحاً كبيراً في وسطه وتتقاذفه الأمواج المتكسرة والجميلة ، ويقع هذا البستان على سفح جبل شاهق يرتفع إلى عنان السماء.

لا يهمنا إرتباط هذا المشهد بالماضي أم المستقبل ، لكن على كل حال يلزم موضع لهذا المنظر الذهني على غرار تلك اللوحة التي رسم عليها ، فهل هذا الموضع هو خلايا الدماغ؟ سنقف عمّا قريب على أنّه ليس كذلك ، وعليه فموضعه شيء آخر نسميه «الروح».

وعلى كل حال سنرى ما المدى الذي يسع الرؤيا أن تزيحه من غطاء عن أسرار الروح ، كما تدل على أنّ هذه المسألة كما كانت في البداية مفتاحاً للحركة في منطقة الروح الواسعة ، فانّها أصبحت اليوم تشكل الدليل الفلسفي وحتى التجربي في هذا المجال ، ونترك البحث لمتابعة الأدلة الحديثة على إثبات وجود الروح التي توصل إليها العلم والفلسفة ، والمراد هنا فقط الإشارة إلى تاريخ ظهور الحوار بشأن الروح على مستوى العموم وأفكار العلماء.

* * *

١٤٩
١٥٠

إستقلال الروح

لا شبهة ولا شك في الفارق بين الإنسان والحجر والخشب الخالي من الروح ، لأننا نشعر بانّنا نختلف عن الجمادات بل وحتى النباتات ، فنحن نفهم وندرك ونتصور ونقرر ونعشق ونتنفر ولنا إرادة و... بينما ليس هنالك أي من هذه المفردات للنباتات والأحجار ، وعليه فهناك عدّة فوارق أصولية بيننا وبينها وذلك هو إمتلاك «الروح الإنسانية» ، ولم يتنكر الماديون ولا غيرهم لأصل وجود «الروح» أو «النفس» ومن هنا فهم يقرون بعلمي معرفة النفس وبحث النفس. والعلمان المذكوران وإن إجتازا تقريباً مراحلهما البدائية ، فهما على كل حال من العلوم التي تدرس في كبار جامعات العالم ومن قبل الاساتذة والباحثين ، وكما سنرى فإنّ «الروح» و«النفس» ليسا حقيقتين منفصلتين عن بعضهما ، بل مراحل مختلفة لحقيقة واحدة. فإن كان الكلام عن إرتباط الروح بالجسم والتأثير المتبادل لكل منهما على الآخر ، أطلقنا عليه إسم «النفس» بينما نستعمل اسم الروح حيث نتعرض للظواهر الروحية المنفصله عن الجسم.

والخلاصة ليس هناك من ينكر أن في وجودنا حقيقتان باسم الروح والنفس.

* * *

١٥١

والآن لابدّ من رؤية موضع النزاع بين «الماديين» و«فلاسفة الميتافيزيقيا (١) والروحيين»؟

الإجابة على هذا السؤال هي : يرى علماء الإلهيات والروحيون أنّ هناك حقيقة أخرى وجوهراً كامن في نفس الإنسان من غير جنس المواد التي تشكل بدنه ، والتي يتأثر بها بدن الإنسان بصورة مباشرة.

بعبارة أخرى : إنّ الروح حقيقة ما وراء الطبيعة تختلف بنيتها ونشاطها عن بنية ونشاط عالم المادة ، نعم هي مرتبطة دائماً بعالم المادة إلّاأنّها لا تتصف بخصائص المادة.

وبالمقابل هناك الفلاسفة الماديون الذين يعتقدون بعدم وجود موجود مستقل عن المادة يدعى الروح أو أي اسم آخر ، وكل ما موجود هو هذه المادة الجسمية أو آثارها الفيزيائية والكيميائية ، لدينا بعض الأجهزة من قبيل الدماغ والأعصاب والتي تقوم بجانب مهم من نشاطاتنا الحياتية وهي كسائر الأجهزة البدنية المادية والتي تمارس وظائفها في إطار قوانين المادة.

ولدينا غدد تحت اللسان تعرف باسم «غدد البزاق» والتي تقوم بوظائف فيزيائية وكيميائية ، فما إن يرد الطعام الفم حتى تبدأ هذه الغدد بممارسة وظيفتها بفرز السوائل الكافية لترطيب الطعام وسحقه ، وإن كان الطعام يشتمل على بعض الماء فانّها تفرز سائلاً بالقدر الذي يرطبه أيضاً ؛ أي بمقدار أقل ، بينما تضاعف من هذا السائد إن كان الطعام يشتمل على بعض الحوامض بحيث يترطب بالشكل الذي لايسبب أي ضرر على جدار المعدة.

فإذا ما إبتلع الإنسان الطعام قعدت هذه الغدد عن العمل ، وزبدة الكلام

__________________

(١) المراد بالميتا فيزيقيا ما وراء الطبيعة.

١٥٢

هناك نظام عجيب يحكم هذه الغدد بحيث إذا إختل حسابها لساعة فإمّا أن يسيل الماء على الدوام من فمنا على شفاهنا ، وإمّا أن يجف فمنا وبلعومنا بحيث تحشر لقمة الطعام في حناجرنا.

هذه هي الوظيفة الفيزيائية للبزاق ، إلّاأنّنا نعلم بأنّ الوظيفة الكيميائية هي الوظيفة الأهم للبزاق ، حيث يتحد مع مختلف المواد فيتركب مع الطعام ويحد من إجهاد المعدة.

يقول الماديون : إنّ سلسة أعصابنا ودماغنا تشبه الغدد البزاقية وما شابهها حيث لها أنشطة فيزيائية وكيميائية (والتي يطلق عليها فيزيا كيميائية) وهذه الأنشطة الفيزيا كيميائية هي التي نصطلح عليها بالروح أو «الظواهر الروحية».

توضيح ذلك : حين ننشغل بالتفكير فإنّ سلسلة أمواج ألكترونية خاصّة تنبعث من دماغنا ، واليوم تؤخذ هذه الأمواج بأجهزة وتسجل على ورقة ولاسيّما في المستشفيات النفسية ، فيتوصلون من دراسة هذه الأمواج إلى الطرق اللازمة للتعرف على الأمراض النفسية وسبل علاجها ، هذه هي الوظيفة الفيزيائية لدماغنا.

إضافة إلى ذلك ، فإنّ لخلايا الدماغ سلسلة من الأفعال والإنفعالات الكيميائية حين التفكير وسائر الأنشطة النفسية.

وبناءاً على هذا فالروح والظواهر الروحية ما هي إلّاالخواص الفيزيائية والأفعال والإنفعالات الكيميائية للخلايا الدماغية والعصبية.

ثم يخلصون من هذا البحث إلى هذه النتائج :

١ ـ كما أنّ أنشطة الغدد البزاقية وآثارها المختلفة لم تكن موجودة قبل البدن وبعده سوف لن تكون أيضاً ، فإنّ أنشطتنا الروحية وجدت بظهور

١٥٣

الدماغ والجهاز العصبي وستموت بموتهما.

٢ ـ الروح من خواص الجسم ، إذن فهي مادية وليس لها من بعد لما وراء الطبيعة.

٣ ـ تخضع الروح لجميع القوانين التي تحكم الجسم.

٤ ـ ليس للروح ولايمكن أن يكون لها من وجود مستقل دون البدن.

* * *

أدلة الماديين على عدم إستقلال الروح

تمسك الماديون بعدّة أدلة لإثبات صحة مدعاهم في أنّ الروح والفكر والإرادة وسائر الظواهر الروحية مادية ومن الخواص الفيزيائية والكيميائية لخلايا الدماغ والأعصاب ، وإليك هذه الأدلة :

١ ـ «يمكن الإشارة بسهولة إلى توقف طائفة من الآثار الروحية إثر توقف بعض الأعصاب عن العمل» (١).

مثلا أجري إختبار برفع مقدار من دماغ طير فلم يمت ، إلّاأنّه فقد الكثير من معلوماته ، فإن أعطي طعام تناوله وهضمه ، وإن لم يعط وطرحت حبيبات أمامه لم يتناولها ويموت جوعاً.

كما لوحظ فقدان الإنسان لجانب من معلوماته حين ترد دماغه بعض الضربات أو حين تعرضه لبعض الأمراض والعوارض بحيث تشل بعض خلاياه.

قرأنا قبل مدّة في الصحف : أنّ شاباً متعلماً تعرض لحادثة وهي ضربة دماغية قرب منطقة الأهواز فنسى أغلب حوادث الماضي حتى أنّه لم يكن يعرف أمّه وأخته ، ولم يكن يعرف المنزل الذي ولد وترعرع فيه ، فهذه

__________________

(١) علم النفس ، آراني تقي ، ص ٢٣.

١٥٤

القضية ونظائرها تدل على الرابطة الشديدة بين نشاط الخلايا الدماغية والظواهر الروحية.

٢ ـ فتزايد التغييرات المادية للدماغ حين التفكير حيث يأخذ الدماغ طعاماً أكثر ويفقد مواد فسفورية أكثر ، بينما تقل حاجته للطعام حين النوم وتوقف الدماغ عن التفكير ، وهذا دليل على كون الآثار الفكرية مادية. (١)

٣ ـ تشير القرائن إلى أنّ وزن أدمغة المفكرين عامّة أكثر من الحدّ المتوسط (الحدّ المتوسط لدماغ الرجال حدود ١٤٠٠ غم وأقل منه الحد المتوسط لدماغ النساء) وهذا دليل آخر على مادية الروح.

٤ ـ لو كانت قوى التفكير والظواهر الروحية دليلاً على وجود الروح المستقلة فلابدّ من قبول هذا المعنى بالنسبة للحيوانات ، فهي تتمتع بادراكات تتناسب ووضعها.

والخلاصة فإنّهم يقولون : إنّنا نشعر بأنّ روحنا ليست موجوداً مستقلاًويؤيد ذلك تطور العلوم المرتبطة بمعرفة الإنسان.

فيخلصون إلى نتيجة من مجموع هذه الإستدلالات إلى أنّ تطور فسلجة الإنسان والحيوان يوماً بعد آخر توضح بصورة أعمق هذه الحقيقة التي تتمثل بالرابطة الحميمة بين الظواهر الروحية والخلايا الدماغية.

* * *

ثغرات هذا الإستدلال

يبدو أنّ الماديين إرتكبوا خطأ فادحاً هنا وذلك أنّهم خلطوا «وسائل العمل» ب «فاعل العمل».

__________________

(١) البشرية من الناحية المادية ، آراني تقي ، ص ٦.

١٥٥

وإليك مثالان بغية الوقوف على هذا الخط :

لقد حدث تطور في مطالعة وضع السماء منذ زمن العالم الإيطالي «غاليلو» حيث ساعده صانع للنظّارات فتمكن من صنع منظار صغير يشبه منظار الأطفال هذه الأيام ، إلّاأنّ غاليلو كان شديد الفرح آنذاك ، فكان يستعين به ليلاً لمطالعة كواكب السماء فكان يرى أمام عينه مشهداً مذهلاً لم يكن رآه أحد آنذاك ، ففهم أنّه إكتشف شيئاً مهماً ، ومنذ ذلك اليوم إنهمك في مطالعة أسرار العالم العلوي.

لقد كان الإنسان حتى ذلك الحين أشبه بالفراشة التي لا تعرف سوى بعض ما حولها من أغصان ، بينما لاحظ مقداراً أكبر منها حين إستعان بالمنظار ، وقد تكاملت هذه المسألة حتى صنعت المنظارات النجومية الكبرى يبلغ قطر عدستها خمسة أمتار أو أكثر ، فكانوا ينصبونها على سفوح الجبال المرتفعة الكائنة في المناطق المناسبة من حيث صفو الهواء ، فقد مكنت هذه المنظارات الإنسان من رؤية عوالم من العالم الأعلى بما تعجز العين المجرّدة عن رؤية واحد بالألف منها.

ولك أن تفكر لو تطور هذا الجهاز بحيث يفوق قطر عدسته المئة متر وحجمه بقدر مدينة كبيرة ، قطعاً ستكشف لنا عوالم لعلنا لا نستطيع اليوم حتى تصورها.

والسؤال المطروح : لو سلبت منّا هذه الأجهزة فمن المسلم به أنّ قسماً أو أقساماً من معلوماتنا ومشاهداتنا عن السماء ستتوقف ، ولكن من المشاهد الأصلي نحن أم المنظار؟

هل المنظار والتليسكوب وسائل العمل التي نرى بواسطتها أم هي الفاعل والمشاهد الواقعي؟

١٥٦

وهنا نقول لا أحد ينكر أنّه لايمكن ممارسة التفكير دون خلايا الدماغ ، ولكن هل الدماغ وسيلة عمل الروح أم موجد الروح؟!

نضرب مثالاً آخر : إنّنا نركب سفينة أو طائرة ونرتبط من داخلهما بجهاز لاسلكي مع الأرض فنتسلم التعليمات بصورة مرتبة ، فمن المسلّم به إذا تعطل الجهاز فسوف لن نسمع صوتاً ، يعني هناك رابطة شديدة بين سماعنا لتعليمات المركز وجهاز اللاسلكي.

ولكن من الذي يسمع ويدرك نحن أم الجهاز؟

زبدة الكلام : إنّ كافة الأدلة التي أوردها الماديون هنا فقط تثبت وجود الرابطة بين خلايانا الدماغية وإدراكاتنا ، إلّاأنّها لا تثبت أنّ الدماغ هو القائم بالإدراك وأنّه ليس الوسيلة (عليك بالدقّة).

ومن هنا يتضح أنّ الموتى لو لم يفهموا شيئاً فإنّما ذلك لزوال الرابطة بين أرواحهم وأبدانهم ، لا أنّ الروح فنت ، بالضبط كالسفينة والطائرة التي خرب جهازها اللاسلكي ، فالسفينة والملاح وطاقمها ما زال قائماً ، إلّاأنّ أهل السواحل لايمكنهم الإرتباط بهم ، وذلك لزوال وسيلة الإرتباط.

* * *

١٥٧
١٥٨

أدلة إستقلال الروح

كان الكلام عن الروح وأنّ الماديين يصّرون على أنّ الظاهرة الروحية من خواص الخلايا الدماغية ، والفكر والحافظة والإبداع والحب والبغض والغضب والعلم والمعرفة كلها من المسائل التجربية والتابعة لقوانين عالم المادة ، وللفلاسفة الذين يقولون باستقلال الروح أدلتهم التي ترفض العقيدة المذكورة ، والأدلة هي :

١ ـ العلم بالعالم الخارجي

السؤال الأول الذي يمكن طرحه على الماديين هو : لو كانت الأفكار والظواهر الروحية هي الخواص الفيزيا كيميائية للدماغ ، لما إنبغى أن يكون هناك تفاوت اصولي بين عمل الدماغ وعمل المعدة أو الكلية والكبد ، لأنّ عمل المعدة ـ مثلاً ـ مركب من وظائف فيزيائية وكيميائية فتقوم من خلال بعض حركاتها وإفراز الحوامض في هضم الطعام وإمتصاصه ، وكذلك وظيفة البزاق ـ كما ذكرنا سابقاً ـ فيزيائية وكيميائية ، والحال إننا نرى بينهما فرقاً واضحاً.

إنّ أعمال جميع أجهزة الجسم تشبه إلى حدّ بعضها البعض ماعدا

١٥٩

«الدماغ» الذي يتميز بوضع إستثنائي ، وكل هذه الأمور ترتبط بالجوانب الداخلية ، والحال هنالك بُعد خارجي للظواهر الروحية وأنّها تنبهنا إلى الأوضاع الخارجة عن وجودنا.

ولتوضيح هذا الكلام لابدّ من الإشارة إلى عدّة نقاط :

أولاً : هل هناك عالم خارج وجودنا أم لا؟

قطعاً هنالك مثل هذا العالم ، والمثاليون ـ الذين ينكرون وجود العالم الخارجي ويزعمون أنّ كل الموجود هو «نحن» و«تصوراتنا» والعالم الخارجي بالضبط كالمشاهد التي نراها في المنام فهي ليست سوى تصورات ـ على خطأ عظيم ، وخطأهم قد أثبتناه في محلّه. (١)

ثانياً : هل نعلم بالعالم الخارجي أم لا؟ قطعاً الجواب على هذا السؤال بالإيجاب ، لأنّ لنا علم كثير بالعالم الخارجي ، كما لدينا معلومات واسعة عن الموجودات من حولنا أو التي تقع في نقاط بعيدة عنّا.

والآن يطرح هذا السؤال نفسه : هل يأتي العالم الخارجي إلى باطن وجودنا؟ قطعاً لا ، بل صورته لدينا ، حيث نستفيد من خاصية تشابه الواقع فنقف على العالم الخارج عن وجودنا.

ولا يمكن لهذا الواقع أن يقتصر على الخواص الفيزيا كيميائية للدماغ ، لأنّ هذه الخواص وليدة تأثيراتنا عن العالم الخارجي ، أو هي معلولاته ، بالضبط كالتأثيرات التي يتركها الطعام على معدتنا ، فهل يؤدّي تأثير الطعام على المعدة وفعله وإنفعاله الفيزيائي والكيميائي إلى إلتفات المعدة وتنبهها بالطعام ، إذن كيف يستطيع دماغنا أن يحيط خبراً بالدنيا الخارجة عنه؟

__________________

(١) راجع كتاب «المتفلسفون» للمؤلف.

١٦٠