المعاد وعالم الآخرة

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

المعاد وعالم الآخرة

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-28-8
الصفحات: ٢٦٤

القيامة في تجليات الفطرة

* إن خلقنا للفناء فكيف نفسر غريزة حبّ البقاء؟

* لو لم تكن القيامة قضية فطرية ، لماذا لم تنفك هذه العقيدة عن البشر على مدى التأريخ؟

* ليس من المعقول أن تكون هناك في باطننا محكمة ، وليس هنالك من حساب وكتاب في هذا العالم الكبير!

* * *

تمّت الأبحاث الابتدائية حول القيامة. وحان الآن دخول ذي المقدمة فنتناول بالبحث عن أدلة إثبات ذلك العالم بخصائصه ومميزاته على ضوء ما يسعه إدراكنا نحن الذين نعيش السجن في الجدران الأربعة لهذه الدنيا.

١ ـ الفطرة ، أول دليل على الطريق

لندع كل شيء جانباً ولنستمع إلى النداء الذي ينطلق من باطننا ، فهل هناك زمزمة عن الحياة بعد الموت ، هل هذه المسألة مطروحة لدى القلوب أم لا؟

لماذا إتجهنا في البداية إلى هناك؟

١٢١

لا داعي لهذا التعطيل ... لأنّ حوادث العالم ظهرت هناك سابقاً.

توضيح ذلك : كما تتألف روحنا من جهازين «تلقائي» و«غير تلقائي» فإنّ القوانين الكبرى للعالم قد تبلورت في مجالين ؛ قوانين الخلق «التكوين» وقوانين التعاقد «التشريع» وكأنّ القوانين الأولى تشكل جهازنا الروحي التلقائي والثانية غير التلقائي.

فقوانين الخلق تشق سبيلها دون إرادتنا وعزمنا وتوجهنا ، وهي على غرار أجهزتنا التلقائية التي لا تكترث لإرادتنا ، أمّا القوانين التشريعية وما يتعلق بالتربية والتعليم فهي تابعة لإرادتنا ، وممّا لاشك فيه أنّ كل قانون بصفته قانوناً سماوياً أوحي للنبي قد كانت له جذور في الخليقة وقد صودق من قبل مجلس الخليقة ، والحقيقة هي أنّ هذين الجهازين هما الخيوط الأصلية لنسيج الوجود ، فهل يمكن لخيوط قماش أن تتضارب مع بعضها؟ قطعا لا. وإلّالما كان هناك قماش ولابدّ أن تكون مكملة لبعضها البعض للحصول على قماش جميل ، على سبيل المثال وجودنا في هذا العالم دون علم يحيله إلى خواء لاروح فيه وليس له من قيمة ، ومن هنا فإن عصب عالم الوجود تكاتف ليسوقنا نحو العلم والمعرفة.

فقد طرح بادىء الأمر حبّاً شديداً في أعماق روحنا بحيث لاينفصل عنّا لحظة من المهد إلى اللحد ، فأحياناً بمطالعة المجرّات وأخرى بما يجري في المريخ ويوماً بخلايا أبداننا وآخر بأسرار أعماق البحار والمحيطات والغابات ، والخلاصة إنّ هذا المحرك التلقائي لاينفك عنّا لحظة واحدة.

والطريف إنّنا نشاهد في التعاليم الدينية شبيه ذلك تجسيداً لنداء الخلقة والفطرة : (اطْلِبُوا الْعِلْمَ مِنَ الْمَهْدِ الَى الْلَّحْدِ) (١)

__________________

(١) نهج الفصاحة ، الحديث ٣٦٧.

١٢٢

وعليه فليس فقط لأصل «التوحيد» بل جميع الأصول والفروع وتعليمات الأنبياء جذور في فطرة الإنسان وإنّ كافة وصايا الأنبياء على كافة الأصعدة إنّما تربي الفطرة الإنسانية وتنميها ، وهنا نخلص إلى نتيجة مفادها إننا إذا شعرنا بتعلق فطرتنا بشيء فلابدّ أن يكون لذلك الشيء وجوداً خارجياً.

* * *

والآن نعود لنرى جذور القيامة ونبحث عنها في وجودنا :

٢ ـ حبّ البقاء

لو خلق الإنسان للفناء حقاً لوجب أن يعشق ذلك الفناء ولتلذذ بالموت وإن حلّ به في وقته وفي السنين المتقدمة ، والحال لا نراه يستسيغ الموت (بمعنى العدم) في أي وقت ، ليس فقط ذلك فحسب ، بل يعشق البقاء والوجود بكل كيانه ، ويبرز هذا العشق من بين جميع نشاطاته ، ما الجهود التي يبذلها من أجل حفظ اسمه وذكره وبناء الأهرام والمقابر الدائمية وتحنيط أجساد الموتى بتلك التكاليف الباهضة وحتى الرغبة بحياة ولده كامتداد لحياته و... كل ذلك دلالة واضحة على غريزة حب البقاء لديه ، إلى جانب سعيه لإطالة عمره وتعامله مع إكسير الشباب وماء الحياة التي تشكل أدلة أخرى على ثبوت الحقيقة المذكورة.

فلو خلقنا للفناء فما معنى هذا الحبّ والرغبة بالبقاء؟

لو كان الأمر كذلك لكان هذا الحب والرغبة ضرباً من العبث واللغو ، لقد تجلت الحقيقة المذكورة بأروع صورها في كلام الإمام علي (ع) إذ قال : (مَا خُلِقْتَ أنْتَ وَلَا هُمْ لِدارِ الْفَنَاءِ بَلْ خُلِقْتُمْ لِدارِ الْبَقاءِ)

١٢٣

٣ ـ القيامة لدى الأقوام السابقة

كما يشير التاريخ البشري إلى وجود الأديان لدى الأقوام السالفة ، يشهد أيضا باعتقادهم الراسخ بالحياة التي تعقب الموت.

والشاهد على ذلك الآثار التي وصلتنا من الإنسان القديم لما قبل التاريخ ولاسيّما طريقة بناء القبور وكيفية دفن الأموات والتي تدل بأجمعها على أنّهم لم يكونوا يعتبرون الموت نهاية الحياة.

فقد ورد في كتاب عالم الاجتماع «كنيغ» ص ١٩٢ أنّ التحقيقات تفيد وجود الأديان لدى الطوائف الأولى من البشر ، كما لاسلاف الإنسان المعاصر (النياندرتال) حيث كانوا يعتمدون أساليب خاصّة في دفن أمواتهم وكانوا يضعون أدوات عملهم إلى جوارهم ليبرزوا عقائدهم للعالم.

وكتب «ويل دورانت» في المجلد الأول من تأريخه ص ٢٢٥ لم بنى المصريون لأهرام؟

لاشك لم يكن مرادهم بناء أثر معماري ، وقد قاموا بذلك بدافع ديني.

كانت أهرام مصر قبوراً ترقت شيئاً فشيئاً لتخرج من صورتها الابتدائية وتصبح بهذا الشكل.

ثم تطرق بالتفصيل إلى عقائد المصريين بشأن الحياة التي تعقب الموت والتي تعدّ الدافع لبناء الأهرام.

والحق أنّ الأهرام المصرية من أعظم وأعجب البناء الذي قامت به البشرية وهي ثلاثة :

هرم خوفو وخفرع ومنكورع ، وقد ضم هرم خوفو بمفرده مليونين ونصف قطعة حجرية تزن كل واحدة منها طنين ونصف ، ويصل وزن البعض منها إلى ١٥٠ طن.

وقد إحتلت مساحة من الأرض تبلغ ٤٦ ألف متر مربع! وقد جاءوا بهذه

١٢٤

الأحجار من مسافات تبلغ مئات الفراسخ وقد إشتغل مئة ألف عامل خلال عشرين سنة من أجل بناء هذه الأهرام ، حتى قيل إنّ تكاليف الخضرة وبعض الأدوية للعمال بلغت ١٦ مليون دولار خلال تلك المدّة. (١)

ويتضح من كل هذا مدى رسوخ عقيدة المصريين القدماء بالمعاد (طبعاً العقيدة الممزوجة بالخرافات) ، فلا يمكن تجاهل هذه العقيدة واعتبارها مجرّد عادة أو قضية تلقينية ، بل تدل مثل هذه العقائد المترسخة بين عموم الناس على فطريتها وإستنادها إلى أعماق روح الإنسان ، لأنّ الفطرة والغريزة التي يمكنها الصمود إزاء العواصف الشديدة لمرور الزمان والتطورات الاجتماعية والفكرية ، فتبقى ثابتة مستقرة.

٤ ـ القيامة الصغرى والكبرى

كما أشرنا سابقاً بأنّ نموذج القيامة والمحكمة الكبرى إنّما تكمن في وجودنا ، حيث تعقد في أعماق روح الإنسان فور قيامه بالأعمال الحسنة أو السيئة.

فقد تنتابه أحياناً حالة من الفرح والسرور والهدوء والسكينة الباطنية تجاه بعض الأعمال الحسنة بحيث يعجز القلم والبيان عن وصفها وبالعكس فإذا ما صدر منه خطيئة ومخالفة فإنّه يشعر بالهم والغم والألم الذي يعتصره بحيث قد يستعد أحياناً لأن يصلب بهدف الخلاص من مخالب ذلك الإنزعاج.

ترى ما الشبه بين هذه المحكمة الداخلية العجيبة ومحكمة القيامة العجيبة!

__________________

(١) ويل دورانت ، تأريخ الحضارة ، ج ١ ، ص ٢١١ ، ٢٢٤ ، ٢٢٥.

١٢٥

١ ـ أنّ القاضي والشاهد ومنفذ الحكم هو واحد ، كما هو عليه الحال بالنسبة للقيامة : (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ انْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ) (١)

٢ ـ ليس هنالك من توصية ورشوة وواسطة في محكمة الضمير بالضبط كما في محكمة القيامة : (وَاتَّقُوا يَوْمَاً لَاتَجزي نَفْسُ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلَايُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَة وَلَايُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَاهُمْ يُنْصَرُونَ) (٢)

٣ ـ تعالج محكمة الضمير أهم وأضخم وأعقد القضايا في أقل مدّة ممكنة وتصدر أحكامها بسرعة ، فلا إستئناف ولاتمييز ولاتجديد نظر ولا أشهر وسنوات من تضييع الوقت ، وهذا هو شأن محكمة القيامة : (وَاللهُ يَحْكُمُ لَامُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (٣).

٤ ـ أنّ العقوبة والجزاء وخلافاً للعقوبات العادية المتعارفة في هذا العالم فهي تنقدح في الباطن ثم تسري إلى الخارج ؛ إنّها تؤرق روح الإنسان في البداية ثم تظهر آثارها على جسمه ونومه وطعامه ، على غرار القيامة : (نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ* الَّتي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفِئدةِ) (٤)

٥ ـ لاتحتاج محكمة الضمير إلى الشاهد والحاضر ولا تحتاج في حصولها على المعلومات إلى خارج الإنسان ونفس الإنسان يدلي بالشهادة لنفعه أو ضرره كمحكمة القيامة التي تشهد فيها أعضاء الإنسان وجوارحه على أعماله : (حَتَّى اذَا مَا جَاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ) (٥)

فهذا الشبه العجيب بين هاتين المحكمتين هو دليل آخر على كون هذه

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية ٤٦.

(٢) سورة البقرة ، الآية ٤٨.

(٣) سورة الرعد ، الآية ٤١.

(٤) سورة الهمزة ، الآية ٦ ـ ٧.

(٥) سورة فصلت ، الآية ٢٠.

١٢٦

المسألة فطرية ، حيث كيف يعقل وجود مثل هذا الحساب والكتاب الدقيق والمحكمة السرية العجيبة في الإنسان الذي يمثل قطرة صغيرة في محيط الوجود العظيم ، بينما ليس هناك من حساب وكتاب ولا محكمة في هذا العالم الكبير ، وعليه يمكن إثبات فطرية الإيمان بالحياة بعد الموت من خلال ثلاثة طرق ؛ طريق غريزة حبّ البقاء وطريق وجود واستمرار هذا الإيمان طيلة التاريخ البشري وأخيراً عن طريق وجود محكمة الضمير في باطن الانسان.

* * *

١٢٧
١٢٨

الادله العقليه للمعاد

الدليل العقلي الأول : العدالة الشاملة

إنّ الإنسان يحاكم في أربع محاكم في هذا العالم أما ...

لايسع الإنسان أن يستثنى من قانون العدالة العامة للخلق.

نعم يعاقب الإنسان على ما يبدر منه خلاف وظلم في «أربع محاكم مختلفة» في هذا العالم ويدفع فيها ثمن جريمته باهضاً ، الأولى المحكمةذات الأسرار «الضمير» التي تكتفي أحياناً يتصفية كافة الحسابات بحيث لايبقى شيء.

والثانية محكمة «الآثار الطبيعة للعمل» ولاسيما في الذنوب ذات البعد «العام» حيث يتضح سريعاً تأثير حكم هذه المحكمة ، وتاريخ البشرية طافح بالدروس والعبر بشأن المصير المؤلم والمأساوي للمجتمعات إثر الظلم والجور والإحجاف والتمييز العنصري والكذب والخيانة والنفاق والتقاعس حيث إجتثت جذورهم وأصبحوا عبرة لغيرهم.

والثالثة محكمة «جزاء الأعمال» وهي أغمض من كل هذه المحاكم وعلاقاتها مجهولة! وكأن قضاة هذه المحكمة جلسوا يتدارسون الحكم خلف الأبواب المغلقة ليصدروا أحكامهم القاطعة والتي تنفذ بصورة خفية.

١٢٩

ليس لدينا لحدّ الآن أي تفسير علمي لمسألة «الجزاء» ، إلَاأنّه لايمكن أن نكرر رؤيتنا مراراً في حياتنا أو طالعنا في صفحات التاريخ أنّ الأفراد الظلمة قد واجهوا آخر الأمر جزاءاً جهنمياً لم يكن أحد قد تكهن به ، والعلاقة القائمة بين مصيرهم الأسود الأليم وأعمالهم الشائنة التي إرتكبوها لايمكن تفسيرها عن طريق «الضمير» ولا عن طريق «الآثار الطبيعية للعمل» كما لايمكن حملها على الصدفة.

وهذا يقوي الإعتقاد القديم بوجود الجزاء في الأعمال بصورة غامضة ومبهمة ، إلّاأنّه يعمل بشكل قاطع وصارم.

وأخيراً رابع محكمة هي «المحكمة الرسمية» والعادية البشرية ذات القدرة الضعيفة ، والتي قد لا ترى سوى مورداً واحداً من بين عشرة موارد وتغيب عنها البقية ، مع ذلك فأحكامها ليست عادلة تماماً حتى في هذا المورد ، لأنّه كما نعلم فهي عرضة للتأثر بهذا وذاك ، إلى جانب صعوبة تشخيص الحق والعدل والتعامل معه بحزم ومن هنا فعادة ما يختل توازن هذه المحكمة.

* * *

المحاكم الخاصة

هذه هي المحاكم الأربعة التي تواجهنا ، إلّاإنّنا إذا أمعنا النظر في كل واحدة منها لرأينا أنّه كتب على بوابة كل منها هذه العبارة «هذه المحكمة خاصة ولا تعالج إلّابعض الجرائم».

وخصوصية هذه المحاكم لا تحتاج إلى بحث ، لأنّ وظيفة المحاكم الرسمية ـ كما ذكرنا آنفا ـ واضحة وليس لها أن تطول جميع المجرمين

١٣٠

والآثمين ، ولو وسعها ذلك وإنتصرت للمظلوم من الظالم ، لما إحترق العالم اليوم بنيران كل هذا الظلم والجور والاستعباد والاستعمار والاستغلال.

وأمّا محكمة الجزاء فهي الأخرى لا بُعد عمومي لها ، وكأنّي بها ليست إلّا برنامج تربوي وتحذير للجميع من خلال إبانتها لبعض النماذج! ولذلك نرى بعض المجرمين الذين فروا من مخالبها ، إضافة إلى أنّ بعض الجنايات قد تكون ثقيلة بحيث لايسعها الجزاء ويقتصر على التعامل مع جانب معين من جوانبها.

وأمّا محكمة الآثار الطبيعية للأعمال فهي كسابقتها لها بعد خاص ، لأنّ شعاع عمله إنّما يشتمل غالباً على ذنوب تتخذ بعداً عاماً ، أو إن إرتكبه فرد لابدّ أن يواصل العمل به لمدّة طويلة ليتضح شؤمه ومرارته ، وعليه فإنّ كثيراً من المجرمين والجرائم خارجة عن نطاق قضاء هذه المحكمة ولم تبق إلّا «محكمة الضمير» والتي أثبتنا خصوصيتها في الأبحاث السابقة حين تعرضنا إلى وظيفة هذه المحكمة ، فلا يتمتع كافة الناس بضمير حي ويقظ ، فضعف الوجدان الذي يحصل بسبب عدّة عوامل إنّما يؤدّي إلى هروب جماعة من المجرمين والجناة الخطرين تحت ذرائع مختلفة من مخالب عقوبات هذه المحكمة.

وبناءاً على ما تقدم فالنتيجة التي نخلص إليها من خلال الدراسة الشاملة للمحاكم الأربع المذكورة إلى أنّ أي من هذه المحاكم ليس لها بعداً عاماً وشاملاً بحيث تنزل العقاب بكافة الجناة والمجرمين لإرتكابهم أية جنحة أو جناية بعد مثولهم للمحاكمة ، وكأنّها بمنزلة إخطارات وإشعارات متتالية تهدف إلى تربية البشر وإيقاظه ليس أكثر.

* * *

١٣١

قانون العدالة في عالم الوجود

لابدّ أن نرى هنا هل يمكن الوثوق بوجود عدالة عامة وشاملة في ما وراء هذه الحياة ، أم أنّ البشرية تنتقل من هذا المكان دون أن توفي حسابها وليس هناك من شيء ينتظرها!

لو ألقينا نظرة إلى الحياة البشرية التي تشكل جانباً صغيراً جدّاً من نظام الخلقة وطالعنا بصورة عامة الوضع العام لعالم الوجود ، لرأينا قانون «النظام والعدالة» الذي يحكم جميع الأشياء ، والقانون المذكور على درجة من القوّة بحيث إنّ أدنى إنحراف عنه يؤدّي إلى فناء كل شيء «بالعدل قامت السموات والأرض» (١). فالنظام والعدالة هي سبب تلك الحركة العظيمة والوجود والسعة للسموات والأرض وجميع الكرات العظيمة التي ملأت أركان الوجود ، وما استمرار حبة غاية في الصغر «الذرة» خلال ملايين السنين بتلك الدقة والظرافة التي استعملت في بنيتها ، والذي ينبغي عادة أن يختل مثل هذا الجهاز اللطيف مبكراً ، أنّما هو وليد تلك العدالة والحساب الدقيق لنظام الالكترونات والبروتونات ، فليس هنالك من جهاز ـ صغير أم كبير ـ بمعزل عن هذا النظام الدقيق والعدالة العامة الشاملة سوى الإنسان!

* * *

هل الإنسان كائن إستثنائي؟

هناك فارق رئيسي بين الإنسان وكافة كائنات عالم الطبيعة ، وهو إتصاف الإنسان بتلك القدرة العجيبة التي تعرف بالإرادة والمقرونة بالحرية والإختيار ؛ أي إنّه يشخص الأشياء بعد المطالعة والفكر والبحث فما كان

__________________

(١) تفسير الصافي للفيض الكاشاني ، ذيل الاية ٧ من سورة الرحمن.

١٣٢

لصالحه أتى به وما كان بضرره تركه ومن هذه الناحية فإليه تعيين مصيره ، وهذا الإمتياز الكبير هو الضامن لتكامله المعنوي والأخلاقي والإنساني ، لأنّه لو لم يكن حراً مختاراً وقام مثلاً بالأعمال الحسنة وأسدى الخدمات للناس بدافع الإجبار أو تحت تأثير بعض العوامل الداخلية والخارجية ، لما كان هناك من فرق بينه وبين أحجار الصحراء التي تختزن بينها بعض الأجناس النفيسة والغالية إلى جانب الرخيصة ، وليس في هذا الفارق بين الأجناس أي إمتياز أخلاقي.

على سبيل المثال لو أجبر شخص بقوّة الحديد والنار على التبرع بعدّة ملايين لمؤسسة خيرية ، وقامت تلك المؤسسة ببعض النشاطات ، مع ذلك فهذا الأمر لايدعو لأي تكامل أخلاقي وإنساني لذلك الشخص ، بينما لو تبرع طواعية ولو بريال واحد بدافع من حريته وإختياره لأحرز تكاملاً بذلك المقدار ، وبناءاً على هذا فالشرط الأول للتكامل الإنساني والأخلاقي التمتع بالحرية والإرادة بحيث يسلك الإنسان طريقه بإرادته ، لا من خلال الإجبار من قبيل العوامل الإضطرارية لعالم الطبيعة ، وهذا هو الهدف الذي من أجله منح الله سبحانه الإنسان هذا الإمتياز العظيم (عليك بالدقة).

ومن الطبيعي أن يستغل بعض الأفراد هذه الحرية فيرتكبون مختلف الجنايات ، طبعاً إذا نوى الإنسان الذنب وأتى به فقد أران على قلبه ، وإن أكل مال اليتيم سار برجله نحو الموت ، وحين يمد يده إلى سرقة ـ على حد زعم ذلك الرجل الأبله الذي كان يحدد وظيفة الله ـ تتيبس فوراً ويكتب إسمه بخط واضح وكبير على صفحة السماء أنّه سارق ، طبعاً ليس هنالك لإنسان أدنى فخر إمتياز إنساني وتكامل روحي فيما إذا لم يقارف الذنوب تحت طائلة الإجبار ... هذا من جانب.

١٣٣

ومن جانب آخر لايمكن للإنسان أن يستثنى من قانون العدالة الذي يمثل أمر الخالق في كافة أرجاء عالم الوجود ، فليس هنالك من مبرر لهذا الاستثناء ، ومن هنا نوقن بأنّ هناك محكمة سيمثل فيها الجميع دون إستثناء ، وسينالون نصيبهم من العدالة العامة لعالم الخليقة (عليك بالدقة أيضا).

* * *

١٣٤

الدليل العقلي الثاني

تقول فلسفة الخلق

هنالك عالم بعد الموت

إنّ معرفة فلسفة الخلق وخلقة الإنسان تساعد في التعرف على عالم ما بعد الموت بالتالي سيأتي اليوم الذي تسكن فيه المنظومة الشمسية!

هل ستتوقف عجلة تكامل الإنسان بعد كل ذلك الرقي والتطور؟

أليس هذا من العبث؟

غالباً ما يطرح هذا السؤال : ما فلسفة خلقنا وهذا العالم الواسع؟

ماذا كان سيحدث لو لم نخلق؟

إن الفلاح يزرع الأشجار ليحصد الثمار ، فما الذي يحصده فلاح عالم الوجود من زرعنا؟

إنّنا لا نفهم لم جئنا؟ وما الهدف منّا؟ ولماذا سنرحل من هنا؟ ومن هنا نشعر بالعبثية وإنّ هذا الشعور المؤذي لينتابنا كلما فرغنا من أعمالنا وإستغرقنا في التفكير.

١٣٥

ويبدو من خلال المطالعات والآثار إنّ هذا الشعور كان سائداً أيضاً لدى بعض الفلاسفة والشعراء.

ولعلنا أشرنا سابقاً أنّه لابدّ من الانطلاق من نقاط بسيطة وواضحة للإجابة على هذه الأسئلة التي قد تبدو صعبة ومعقدة ، وقد تكون تلك النقاط الواضحة هي الأسس التي أرسى عليها الفيلسوف الفرنسي المعروف «ديكارت» دعائم مدرسته.

لنفرض أنّنا مررنا بمنطقة فوقعت أعيننا على بناية عظيمة وضخمة قد فرغ منها للتو ، فيطالعنا فيها الاسلوب الدقيق والخارطة الممتازة والعمارة الرصينة والانارة الكافية والاختيار الصحيح للمواد وما إلى ذلك من الأمور التي تشير إعجابنا ، فإنّنا نرى كل شيء قد وضع مكانه على ضوء تخطيط دقيق ، إلّاأنّنا لا ندري ما هو الغرض الذي من أجله بني هذا المبنى الضخم؟

فهل يجيزنا العقل أن نعتقد بأنّ كافة أجزاء هذا المبنى قد بنيت لتحقيق هدف ووفق خارطة معينة ، بينما ليس للمبنى بأجمعه أي هدف ووجد للعبث؟ ... قطعاً لا ، فمن كان له هدف في الجزء كيف لا يكون له ذلك في الكل؟

* * *

والآن نغوص في الباطن العميق لمصنع وجودنا ونشاهد القلب الذي يعمل بصوت موزون وحركات منظمة متتالية دون أدنى توقف ، كما نرى تفرعات القلب من قبيل البطين والاذين والأوردة والشرايين التي تضنخ الدم وتلك التي تستقبل الدم ، كما نرى هدف كل واحد منها وهي تتحرك وتنشط للقيام به ، بحيث لا نرى أي شيء زائد في هذه المضخة ، ثم نتجاوز القلب ونتيجة صوب المعدة ثم الكبد والكلية والرئة والعظلات و... فنرى

١٣٦

لكل عضو هدفه ووظيفته.

ثم نرد بعد ذلك جهاز الدماغ المذهل ونتعرف على هدفه ووظيفته ، بعد ذلك نستغرق في التفكير لنطرح على أنفسنا هذا السؤال :

أو يمكن أن يكون لأصغر أجهزة البدن والأعضاء ـ حتى أهداب العين ـ هدفاً ، بينما لا يكون هناك أي هدف للإنسان ككل؟

فهل يسمح لنا العقل بطرح مثل هذا الاحتمال والتفكير به؟

ثم نخرج من باطننا العميق ونتسلق أجنحة الملائكة لنحلق معها ونسير في عالم الوجود لنرى كل ذرة وقد كتب على لوحة إلى جانبها الهدف من خلق هذه الذرة ، وهو الأمر الذي تمكننا من الوقوف عليه في ظل تطور العلوم والمعارف.

فقد وقفنا على الهدف الذي تنطوي عليه جميع ذرات العالم ، أفهل يمكن ألّا يكون هناك هدف للعالم بأسره؟

أو ليس هناك من لوحة نصبت إلى جانب هذا العالم الواسع المترامي للدلالة على هدفه النهائي ، إلّاأنّ عظمتها لم تجعلنا نراها للوهلة الاولى ، وهل من عبارة كتبت على تلك اللوحة سوى «التكامل والتربية» (١).

والآن بعد أن عرفنا بأنّ هدف الخلق هو تكاملنا وتربيتنا وهذه هي فلسفة خلق الإنسان ، ولابدّ أن نرى هل سينتهي هذا التكامل بموتنا ، بحيث ينتهي كل شيء عند الموت؟

هل يمكن لهذه الدنيا بمدّتها القصيرة وكل هذه المصاعب والويلات أن تكون هدفاً لهذا الخلق العظيم؟

* * *

__________________

(١) للوقوف على المزيد راجع كتاب «أسرار الوجود».

١٣٧

هل نحن جسر لترقي الآخرين؟

يمكن أن يقال إنّ عالم البشرية لاينتهي بموتنا ، بل فمنح مكاننا لأفراد أكثر منّا رقيّاً وتطوراً ، وهكذا تسير قافلة التكامل إلى الأمام فاليوم في المجالات المادية والتكنولوجية وغداً في المجالات الأخلاقية والإنسانية ، وبناءاً على هذا فإن فلسفة الخلق هو تكامل وتربية النوع الإنساني لا الأفراد ، ومثل هذا التكامل لايتوقف بموت الأفراد ويسير قدماً ، إلّا إنّ هذه الإجابة تشبه الدواء المسكن ، فهي لا تحل المشكلة الأصلية من جذورها وذلك لأنّه :

أولاً : أليس إستمرار تكامل نوع الإنسان بفناء فرد وزواله هو تمييز عنصري ظالم؟ فإن كانت نتيجة حياتنا هي تمهيد السبيل وتوفير الأرضية الخصبة من أجل رقي وتطور الآخرين القادمين وليس لنا من ذلك سوى أن تكون جسراً لترقيهم فيحصلون عليه دون أدنى جهد أو عناء بينما نشقى فمن أجل إعداده لهم ، أفليس يتناقض هذا والعدالة المطلقة التي تحكم عالم الوجود؟ (لأنّ كل هذه الأبحاث ترد بعد الإقرار بوجود الله وصفاته).

وعليه فلا يمكن للموت أن يكون نقطة إنتهاء حتى بالنسبة للفرد ، وإلّا لأصبحت حياة فرد حي عبثية لاطائل من وراءها.

ثانياً : يخبرنا جميع العلماء : أنّ السيارة التي نعيش عليها ستؤول إلى السكون في المستقبل ـ المستقبل الذي ليس ببعيد من حيث المقاييس الفضائية ـ كما ستظفىء بالتدريج الحضارة الرفيقه والتكامل لذلك الزمان ، وتتحول الأرض إلى كرة خربة وباردة وساكنة ، وآنذاك يبرز هذا السؤال : ما الذي حصل من هذا الذهاب والإياب؟ ألا يشبه هذا الأمر صنع لوحة نفيسة وجميلة للغاية ومن ثم كسرها وتحطيمها؟

١٣٨

أمّا إن قبلنا بأنّ حياة الإنسان ستعيش اللانهاية والخلود في عالم أوسع ، آنذاك نستطيع لمس فلسفة الخلق بوضوح ونعيش استمرارية قانون التكامل.

وبناءاً على هذا فإنّ فلسفة الخلق وقانون التكامل يقول للإنسان لا يمكن للموت أن يكون نهاية الحياة ، وستستمر الحياة بشكل أرفع وأسمى بعد الموت.

* * *

إنعكاس هذا المنطق في القرآن

رغم أنّ القرآن الكريم تحدث على هامش مختلف السور القرآنية عن القيامة والحياة ما بعد الموت وخاض في تفاصيلها ، مع ذلك نرى بعض السور التي تصدت لقضية المعاد من بدايتها إلى نهايتها ، ومن ذلك سورة الواقعة التي تعالج تقريباً بأجمعها المعاد. وقد تعرضت آياتها (من الآية ٥٧ إلى ٧٣ تقريباً سبع عشرة آية) إلى بحث فلسفة الخلق وقانون التكامل بشكل رائع وبذكر عدّة أمثلة ، وخلاصتها كالآتي : «كيف تشكون في المعاد والقيامة» رغم أنّه :

أولاً : إنّا خلقناكم من نطفة في رحم الأم ثم طويتم مسيرة التكامل حتى أصبحتم أناساً كاملين ، فهل لمن جعل النطفة تتكامل جنيناً أن يوقفه عند هذا الحد ، أم هل هو عاجز عن إعادة الحياة بعد الموت؟

ثانياً : أفلا تنظرون إلى ما تحرثون من الأرض ، فهل أنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ، فلو شئنا لجعلناه حطاماً فلا تحصلوا منه على شيء ، إلّاأنّنا نسير بهذا العالم نحو السمو والتكامل وننبت مئات الحبات من حبة قمع واحدة ،

١٣٩

ثم تصبح جزءاً من بدن الإنسان ، فيطوي مرحلة جديدة من التكامل. أفتنطفىء هذه الشعلة المتوهجة للتكامل بمجرّد موت الإنسان لتتحول إلى تراب لا قيمة له؟ أفليس هذا العمل عبثاً ولغواً؟

ثالثاً : انظروا إلى هذا الماء العذب الذي تشربون ولا تنسوا أنّه كان ماءاً مالحاً ومرّاً في البحر ، نحن الذين صفّيناه وبعثنا به كغيوم إلى السماء (وكنّا قادرين على نبعث بالأملاح معه إلى السماء) ونستطيع أن نجعله علقماً ، إلّا أنا لم نفعل ذلك وأجرينا عليه قانون التكامل فجعلناه عذباً فراتاً ليصبح جزءاً من بدن النباتات والناس ، فهل نطوي سجل التكامل بموت الإنسان؟ أو ليس هذا ضرباً من العبث؟

رابعاً : انظروا إلى هذه النار التي توقدونها ، فهل أنتم أنشأتم شجرتها؟ أم نحن المنشئون من أجل قضاء حوائجكم وتذكيركم ، نحن الذين أمرنا الشمس بأن ترسل أشعتها فجعلنا تلك الشجرة تدخر الطاقة لتقوم بعد ذلك باعادة هذه الطاقة على شكل حرارة لكم فتستفيدوا منها في حياتكم ، وقد فعلنا كل ذلك من أجل تكاملكم ، فهل ينتهي كل شيء بموت هذا الإنسان؟ كلا ، ليس الأمر كذلك.

نعم كل هذه الأمور تدل على عدم نهاية الحياة الواقعية بموت الجسم.

* * *

١٤٠