المعاد وعالم الآخرة

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

المعاد وعالم الآخرة

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-28-8
الصفحات: ٢٦٤

إشكال محيّر

مادام الكلام في مسألة «عمومية قدرة الخالق» وقد اعتمد عليها بشأن القيامة ، لا بأس بطرح إشكال يبدو أنّه حيّر البعض : يقول الإشكال : إن أقررنا بعمومية قدرة الله فاننا سنواجه تناقضاً عجيباً وهو هذا السؤال : هل يستطيع الله خلق جسم عظيم ولا يستطيع أن يحركه؟

هل يستطيع خلق كائن ولايستطيع إعدامه؟

إن قلنا يستطيع ، فقد قبلنا عدم استطاعته تحريكه أو اعدامه ، وإن قلنا لايستطيع ، فقد أنكرنا قدرته أيضاً!

أو يقال : هل يستطيع خلق شبيه له؟

إن قلنا به ذلك فقد قلنا بالشريك ، وإن قلنا ليس له ذلك فقد حددنا قدرته!

جواب

لايبدو هذا الإشكال كما صوره البعض صعباً محيّراً ولا مهماً ، ويمكن الردّ عليه بعدّة وجوه ، ويمكن توضيحه بصورة أخرى وهي : قد نصطدم في مجال الرياضيات ببعض المسائل التي يقال عنها «صورة المسألة خاطئة» يعني ليس هناك من جواب للمسألة أصلاً ، مثلاً لو قال شخص : لدينا عشرة أمتار قماش نريد تقسيمها على خمسة أفراد بحيث «يحصل أي منهم على أقل من خمسة أمتار» فإننا نقول له على الفور إن هذه المسألة خاطئة ومتناقضة من أولها إلى آخرها ، لأننا نقول في أول الأمر لدينا عشرة أمتار قماش ، ثم نقول في الأخير لدينا خمسة وعشرين متراً ، فمن البديهي ألا تكون هناك إجابة على هذا السؤال.

والأسئلة المذكورة بشأن قدرة الله من هذا القبيل. فنحن نقول في

١٠١

البداية «يخلق الله جسماً» يعني أنّ ذلك الجسم مخلوق ، وبالطبع فإنّ كل مخلوق محدود (والله وحده اللامحدود) ثم نقول في الأخير «لايستطيع أن يحركه» ومفهوم ذلك أنّ ذلك الجسم لامحدود ، وعليه فستكون صيغة السؤال كالاتي :

هل يستطيع الله أن يخلق جسماً محدوداً ولامحدوداً؟!

فمن البديهي أنّ صورة هذه المسألة خاطئة من حيث ترتيب العبارة والسؤال فلا يوجد جواب على مثل هذه السؤال.

أو السؤال الآخر : فحين نقول يخلق موجودا ؛ يعني حادث لا أزلي ، وعند ما نقول مثله فهذا يعني أنّه أزلي ، وعليه فسيكون السؤال بهذه الصيغة «هل يستطيع الله أن يخلق موجوداً حادثاً وأزلياً في نفس الوقت!».

فهل يحتاج مثل هذا السؤال إلى جواب؟ ... قطعاً لا.

وللوقوف على المزيد بهذا الخصوص عليك بمراجعة كتاب «معرفة الله» للمؤلف.

١٠٢

أصحاب الكهف

الطريق الخامس :

هل قصة أصحاب الكهف حقيقة تاريخية ، وإن كانت كذلك فما علاقتها بقضية القيامة؟

هل يقر العلم مثل هذا النوم الطويل ، وهل من دليل على ذلك؟

تطالعنا في القرآن الكريم سورة الكهف التي تسرد وقائع فتية مؤمنين هربوا من قومهم الوثنيين الذين لا يؤمنون بالله والمعاد ثم آووا إلى الكهف.

لقد دفعت الأفكار السامية اليقظة لهؤلاء الفتية ونزعتهم التحررية إلى الإعتقاد بخرافة الوثنية التي سادت الأجواء آنذاك وفرضت القيود والأغلال على الناس التي كرست صنمية الحكومات التي إستخفت بأفكار الناس ومهدت السبيل أمام إلوهيتهم وتسلطهم.

وقد كان اولئك الفتية أصحاب مراكز حساسة في الدولة والمجتمع ، وقد آثرت الحرية من هذه الخراقات والذلة والهوان وغادرت سرّاً ديارها وأهلها إلى مكان مجهول حتى إنتهت إلى كهف فاختارته كموضع للإستقرار ، وقد سيطرت عليها في الكهف حالة عجيبة من النوم الطويل العميق ، فقد نامت مئات السنين ، وحين نهضت من نومها العميق ـ وعلى ضوء العادة ـ ظنت

١٠٣

أنّها لبثت يوما أو بعض يوم ، إلّاأنّ كافة الشواهد والأوضاع المحيطة بالكهف كانت تشير إلى أنّ الأمر ليس كذلك ، ومن هنا كان هناك ترديد في الموضوع.

ثم إتضحت حقيقة الأمر بعد أنّ قدم أحدهم إلى مدينة قرب الكهف يشتري طعاماً ، فأخبر الجميع بالحقيقة ، ففهموا أنّ حادثة عجيبة قد وقعت ، فلم تكن العملة التي في أيديهم تشير إلى أنّها تعود إلى مئات السنين ، بل طريقة تعاملهم مع أهل المدينة ـ التي غادروها قبيل قرون وقد تبدلت كل العادات والتقاليد والأعراف والحياة السائدة آنذاك ـ إضافة إلى إطلاعهم على تلك القضية التاريخية التي تفيد غياب عصبة من الشباب من ذوي المناصب العالية والتي تبرهن صحة وقوع تلك الحادثة.

كانت تلك الحادثة درساً عظيماً بالنسبة لُاولئك الذين ينظرون بعين الريب والشك إلى موضوع القيامة ، فإن كانت الحياة بعد النوم «أخو الموت» بل كان «نفس الموت» ممكنة ، فإحياء الموتى هو الآخر لا يبدو مستعبداً ، فكانت تلك الحادثة إنعطافة كبيرة في ثقافتهم الدينية ...

وهذا هو الطريق الآخر الذي سلكه القرآن الكريم بهدف إزالة قضية إستبعاد المعاد وتقريبها إلى أذهان عامة الناس : (اذْ آوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّىءْ لَنَا مَنْ أَمْرِنَا رَشَداً* فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ في الْكَهْفِ سِنيْنَ عَدَداً * ثُّمَ بَعَثْنَا هُمْ لِنَعْلَمَ أَىُّ الْحِزْبَيْنِ احْصَى لِما لَبِثُوا امَداً* وَكَذلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلُ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمَا اوْ بَعْض يَوْمٍ قَالُوا ربُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُم فَابْعَثُوا احَدَكُمْ بِوَرَقِكُمْ هَذِهِ الَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرُ ايُهَا ازْكى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزُقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَايُشْعِرَنَّ بِكُمْ احَداً. انَّهُمْ انْ يَظْهَرُوا

١٠٤

عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ اوْ يُعيدُوكُمْ في مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا اذاً ابَداً * وَكَذلِكَ اعْثَرنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا انّ وَعْدَاللهِ حَقُّ وَانَّ السَّاعَةَ لَارَيْبَ فِيهَا) (١)

هل وردت هذه القصة في سائر الكتب السماوية غير القرآن؟

هل ذكرت في المصادر التاريخية؟

هل يعقل مثل هذا العمر الطويل لبشر ـ وفي النوم ودون وجود الطعام؟ وبغض النظر عن كل ما سبق كيف لهذه الحادثة أن تساعد في إدراك مسألة المعاد؟

هذه هي الأسئلة التي تثار حول هذه الحادثة ولابدّ من الردّ عليها جميعاً.

* * *

للإجابة على السؤال الأول والثاني لابدّ من القول :

لم تتعرض أي من الكتب السماوية لقصة أصحاب الكهف سواء الكتب الأصلية أو المحرفة ، ولابدّ أن يكون الأمر كذلك ، حيث يفيد التاريخ أنّ تلك الحادثة قد وقعت في القرون التي أعقبت ظهور المسيح عليه‌السلام. وبالضبط وقعت على عهد دقيانوس الذي جرع المسيحيين أنواع العذاب ، فقد صرّح المؤرخون الاوربيون أنّ هذه الحادثة وقعت خلال سنوات ٤٩ إلى ٢٥١ م ، كما يرون أن مدّة نومهم إستغرقت ١٥٧ سنة ويطلقون عليهم «نيام افسوس السبع» (٢) بينما يعرفون عندنا ب «أصحاب الكهف».

ولابدّ أن نرى الآن أين منطقة «افسوس» ومن هو أول من كتب بخصوصهم ، وفي أي قرن كانوا ، فافسوس أو افسس بضم الألف والسين هي

__________________

(١) سورة الكهف ، الآية ١٠ ، ١١ ، ١٢ ، ١٩ ، ٢٠ ، ٢١.

(٢) أعلام القرآن ، ص ١٥٣.

١٠٥

إحدى مدن آسيا الصغرى (تركيا الحالية وهي قسم من روما الشرقية القديمة) تقع على بعد أربعين ميلاً إلى الجنوب الشرقي من «ازمير» التي كانت تعتبر عاصمة الملك «ايوني».

ولافسوس شهرة عالمية بسبب معبدها المعروف «ارطاميس» والذي يعد من عجائب الدنيا السبع. (١)

يقال : قم العالم النصراني «جاك» زعيم الكنيسة السورية لأول مرّة في القرن الخامس الميلادي بتأليف رسالة باللغة السريانية شرح فيها قصة أصحاب الكهف. ثم قام «جورجيوس» بترجمتها إلى اللغة اللاتينية وأطلق عليها اسم «جلال الشهداء». (٢)

وهذا يدل بدوره على أنّ تلك الحادثة قد اشتهرت لقرن أو قرنين قبل ظهور الدعوة الإسلامية في الأوساط المسيحية واهتمت بها الكنيسة ، وكما ورد سابقاً فإنّ هناك بعض الاختلافات ـ من قبيل مدّة نومهم ـ مع ما ورد في المصادر الإسلامية حيث ذكر القرآن تلك المدّة صراحة على أنّها كانت ٣٠٩ سنة.

من جانب آخر فقد نقل «ياقوت الحموي» في كتاب «معجم البلدان» (ج ٢ ص ٨٠٦) و«إبن خردادبه» في كتاب «المسالك والممالك» (ص ١٠٦ ـ ١١٠) و«أبو ريحان البيروني» في كتاب «الآثار الباقية» (ص ٢٩٠) أنّ جمعاً من السيّاح وجدوا كهفاً في مدينة «آبس» كان يضم بعض الأجساد اليابسة ويعتقدون أنّها ترتبط بأصحاب هذه القصة.

والذي تفيده الآيات القرآنية في سورة الكهف وما ورد في الروايات

__________________

(١) إقتباس من كتاب القاموس المقدس ، ص ٨٧.

(٢) أعلام القرآن ، ص ١٥٤.

١٠٦

الإسلامية من أسباب النزول بهذا الخصوص أنّ الحادثة المذكورة كانت مشهورة أيضا كحادثة تأريخية بين الأوساط اليهودية ، وهكذا يتبيّن أنّ هذه القصة قد وردت في مختلف المصادر التاريخية للأقوام.

* * *

١٠٧
١٠٨

حقيقة أم خيال؟

قلنا أنّ قصة أصحاب الكهف (نيام مدينة افسوس) حقيقة تاريخية ذكرت أسنادها في التواريخ الشرقية والغربية ، ونسلّط الضوء الآن على هذه القصة على أساس وجهات النظر العلمية المعاصرة :

ربّما يتردد البعض إزاء تلك المدّة الطويلة لنوم أصحاب الكهف ولا يراها تنسجم والموازين العلمية فيعتقد أنّها من قبيل الأساطير والخرافات وذلك لأنّ مثل هذا العمر الطويل الذي يستغرق عدّة مئات من السنين يبدو مستبعدا بالنسبة لأفراد البشر في حالة اليقظة فضلاً عنهم في حالة النوم ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر لو سلمنا بمثل هذا العمر لمن كان في حالة اليقظة فانّنا لا نسلم به بالنسبة لمن كان في حالة النوم والرقود ، فهناك مشكلة الأكل والشرب ، فكيف يبقى الإنسان حياً هذه المدّة دون طعام وشراب ، ولو فرضنا متوسط ما يلزم الإنسان من طعام وشراب كل يوم كيلواً واحداً ولتراً من الماء ، فالذي يلزم لأصحاب الكهف أكثر من طن من الطعام ومئة ألف لتر من الماء ، وهو المقدار الذي لايمكن خزنه في الجسم.

ومن جهة أخرى فلو أغضفنا الطرف عن كل ما مضى فهناك إشكال آخر يرد هنا وهو أنّ بقاء الجسد في ظل ظروف رتيبة وبهذه المدّة الطويلة إنّما

١٠٩

يؤثر على عضوية البدن ويسبب خسائر فادحة.

* * *

قد تبدو هذه الإشكالات كعقبات كؤود تعترض سبيل هذه المسألة للوهلة الأولى ، والحال ليس الأمر كذلك ، فالمدّة الطويلة للعمر ـ لمئة سنة وحتى أكثر من ألف سنة ـ ليست بالمسألة غير العلمية ، فانّنا نعلم بعدم وجود مدّة معينة لطول العمر بالنسبة لأي كائن حي من الناحية العلمية بحيث يقطع بموته الحتمي لمجرّد حلول تلك المدّة ، بعبارة أخرى صحيح أنّ القوى البدنة للإنسان بالتالي محدودة مهما كانت وآيلة إلى الافول ، إلّا أنّ هذا لا يعني عدم إمكانية عيش وتعمير إنسان أو كائن حي آخر لأكثر من المدّة العادية ، ومثلاً حين يبلغ الماء درجة المئة الحرارية فإنّه يغلي ، وإن بلغ الصفر يجمد ، فإن بلغ الإنسان مئة وخمسين سنة توقف قلبه عن الدق وحلّ أجله ، بل معيار طول عمر الكائنات الحيّة يعتمد إلى حدّ على أوضاع وظروف الحياة المعاشية ويتغير تبعاً لتغيرها.

والشاهد الحي على هذا الكلام هو إنّنا نرى من جهة أنّ أحداً من علماء العالم ومفكريه لم يصرّح بوجود ميزان معين لعمر الإنسان ، ومن جانب آخر فقد تمكنوا في مختبراتهم أحياناً من مضاعفة طول عمر بعض الكائنات الحيّة إلى ضعفين ، بل وأحياناً أخرى إلى أثني عشر ضعفاً أو أكثر ، وهم يبشروننا اليوم بأنّ عمر الإنسان سيزداد في المستقبل عدّة أضعاف عمره الفعلي في ظل تطور الأساليب العلمية.

هذا خلاصة الكلام بشأن مسألة طول العمر.

وأمّا بالنسبة للطعام والشراب في هذا النوم الطويل ، فلو كان النوم عادياً لكان الحق لمن أورد الإشكال في أنّ هذه القضية لا تتفق وأسس

١١٠

العلم ، لأنّ إستهلاك طعام البدن حين النوم العادي أقل منه عادة في اليقظة ، وعلى هذا الأساس فسيكون كثير جداً بالنسبة لتلك السنوات المديدة ، ولكن ينبغي الإلتفات إلى وجود نوم في عالم الطبيعة يكون إستهلاك طعام البدن فيها قليلاً للغاية.

السبات الشتوي

هناك الكثير من الحشرات التي تنام طيلة الشتاء ، أي تغط في نوم شتائي ، وتتوقف تقريباً مختلف النشاطات الحيوية في مثل هذا النوع من النوم ، فلا يبقى إلّابصيص منها ، فالقلب يتوقف تقريباً عن الدق ، أو بتعبير أدق تكون دقاته على درجة من البطىء بحيث لا يمكن الشعور بها ، وفي مثل هذه الحالة يمكن تشبيه البدن بالكوّر العظيمة التي تبقى منها ولّاعة مشتعلة حين إنطفائها.

فمن الواضح أنّ ما تتطلبه تلك الكورة من المواد النفطية في اليوم لتقذف بلهيبها إلى عنان السماء يمكنه أن يكفي لعشرات بل مئات السنين لإشكال ولّاعة صغيرة (طبعاً يتوقف هذا الأمر على الشعلة العظيمة حال إيقاد الكورة وولّاعتها).

يقول العلماء بشأن سبات بعض الحشرات لو أخرجنا وزغاً من مكانه حين شتاء ، فانّه يبدو ميتاً ، لا هواء في رئته ، ودقات قلبه ضعيفة لايمكن تحسسها ... هناك الكثير من الحيوانات التي تسبت في الشتاء كالفراشات والحشرات والحلزونات والزواحف ، كما قد تسبت بعض الحيوانات من فصيلة الثدييات ، فانشطة الحيوانات تبطىء جدّاً في مدّة سباتها فتستهلك دهنياتها المدخرة في بدنها تدريجياً ، والمراد من ذلك أنّ لدينا نوم تقل

١١١

فيه الحاجة إلى الغذاء جدّاً ، وتبلغ الأنشطة الحياتية فيه درجة الصفر ، وهوالأمر الذي يحول دون إستهلاك الاعضاء وطول عمر هذه الحشرات ، ويبدوأنّ السبات الشتوي فرصة ثمينة بالنسبة للحيوانات التي يحتمل عدم استطاعتها الحصول على الطعام في الشتاء.

نموذج آخر : دفن المرتاضين

لقد شوهد أيضا بشأن المرتاضين أنّ بعضهم وبمرأى من الناس الذين لفهم الذهول والأندهاش قد وضعوا في تابوت ودفنوا في التراب لمدّة اسبوع ، وما إن تمّت تلك المدّة حتى أخرجوا وقد عادوا إلى حياتهم العادية بعد أن أجري لهم تنفس صناعي.

قد لا تكون الحاجة إلى الطعام خلال هذه المدّة ، إلّاأنّ الحاجة إلى اوكسجين الهواء في غاية الأهميّة ، فالكل يعلم أنّ خلايا الدماغ حساسة جدّاً تجاه الاوكسجين بحيث لاتستغني عنه أبداً سوى لبضعة دقائق.

والسؤال الذي نطرحه : كيف يتحمل هذا المرتاض الهندي قلّة الاوكسجين لمدّة تستغرق اسبوعاً؟

لا تبدو الإجابة على هذا السؤال صعبة بالنظر لما أوردناه سابقاً ، فنشاط بدن المرتاض خلال هذه المدّة يتوقف تقريباً ، وعليه تقل حاجة الخلايا بشكل ملحوظ إلى الاوكسجين وإستهلاكه بحيث يكفي الهواء الموجود في التابوت لتغذية خلايا البدن طيلة تلك المدّة.

تجميد بدن الإنسان الحي

هناك عدّة نظريات وأطروحات بشأن تجميد بدن الأحياء بما فيها

١١٢

الإنسان من أجل إطالة عمرها ، وقد وردت بعض تلك الأبحاث حيز التطبيق.

وعلى ضوء هذه النظريات فإنّه يمكن إيقاف حياة الإنسان أو الحيوان بعد تعريضه إلى برودة تصل إلى الصفر دون أن يموت حقيقة ، وبعد مدّة معينة يجعل في درجة حرارة مناسبة فيعود إلى حالته العادية ثانية.

وقد طرح مثل هذا الإقتراح بخصوص الرحلات الفضائية إلى الكرات البعيدة التي قد تستغرق أحياناً مئات أو آلاف السنين حيث يجعل بدن رائد الفضاء في محفظة خاصة وتجميده ، وبعد سنوات مديدة حين يقترب من الكرات المطلوبة تعاد إليها الحرارة الاعتيادية بواسطة جهاز تلقائي فيعود إلى حالته العادية دون أن يكون قد هدر شيئاً من عمره.

لقد نشر هذا الخبر في إحدى المجلات العلمية ، كما ألف «روبرت نيلسون» في السنوات الأخيرة كتاباً بشأن تجميد بدن الإنسان لإطالة عمره وقد كان لذلك الكتاب صدى واسعاً في عالم العلم والمعرفة.

وقد صرّح في مقالة وردت في المجلة المذكورة بهذا الخصوص أنّ فرعاً علمياً من بين الفروع قد ظهر بهذا الشأن ، وجاء في المقالة المذكورة : «إنّ الحياة الخالدة كانت من الأحلام الذهبية والعريقة للإنسان على مدى التاريخ ، أمّا الآن فقد أصبح هذا الحلم حقيقة ، يدين بالفضل للتطور الهائل الذي حققه العلم المعاصر الذي يعرف بعلم الكريونيك (العلم الذي يصحب الإنسان إلى العوالم المنجمدة ويحفظه كبدن منجمد على أمل أن يعيده العلماء يوماً إلى حياته).

هل يعقل هذا المنطق؟ إنّ أغلب العلماء والمفكرين البارزين يفكرون في هذه المسألة من عدّة جوانب ، وقد خاضت فيه بعض الصحف العالمية ،

١١٣

والأهم من كذلك أنّ هناك برنامجاً الآن بهذا الخصوص في حيز التنفيذ» (١).

وقد أعلنت الصحف قبل مدّة أنّه ثم العثور في الثلوج القطبية والتي تدّل أغطيتها على أنّها تعود إلى ما قبل آلاف السنين على سمكة منجمدة وبمجرّد أن قذفت في ماء معتدل بدأت حياتها من جديد وقد أصابت الجميع بالذهول لما شرعت بالحركة.

واضح أنّ الاجهزة حتى في حال الانجماد لا تتوقف كما هي عليه الحال في الموت ، لأنّ العودة إلى الحياة في تلك الحالة ليست ممكنة.

والذي نخلص إليه ممّا مرّ معنا هو إمكانية إيقاف الحياة وشل حركتها لتتحرك ببطىء تام ، والدليل على ذلك مختلف الدراسات والأبحاث العلمية الواردة بهذا الشأن.

وفي هذه الحالة يبلغ إستهلاك البدن للطعام الصفر ، يمكن للاحتياطي الزهيد المخزون في البدن أيديم الحياة بهذا البطىء لسنوات عديدة.

* * *

قطعاً نوم أصحاب الكهف لم يكن نوماً عادياً طبيعياً على غرار نومنا ، بل كان نوماً إستثنائياً ، وعليه فليس من العجيب ألا يشكو من قضية الطعام ولا من الضرر على مستوى عضوية البدن بسبب ذلك النوم الطويل! والطريف في الأمر أنّ الذي يفهم من آيات سورة الكهف بشأن هذه المسألة هو أنّ طريقة نومهم كانت تفرق عن النوم الاعتيادي : (وَتَحْسَبُهُمْ ايْقَاظاً وَهُمْ رُقُود ... لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مَنْهُمُ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مَنْهُمْ رُعْباً) (٢).

فالآية تدل على أنّ نومهم لم يكن عادياً ، بل كانوا يعيشون حالة تشبه

__________________

(١) مجله العالم ، العدد ٤٧ ، ص ٤.

(٢) سورة الكهف ، الآية ١٨.

١١٤

حالة الميت ـ بعين مفتوحة ـ ، أضف إلى ذلك فقد صرّح القرآن بأنّ الشمس لم تكن تشرق على جوف الكهف ، وبالنظر إلى أنّ الكهف كان في أحد مرتفعات آسيا الصغرى فقد كانت منطقة باردة ؛ الأمر الذي يكشف عن الشرائط الاستثنائية لنومهم ، من جانب آخر القرآن قائلاً : (... وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الَيمينِ وَذَاتَ الشِّمالِ) (١)

وهذا يدل على أنّهم لم يكونوا يعيشون عملية رتيبة واحدة ، فما زالت هنالك بعض العوامل الخفية الدخيلة في الأمر والتي بقيت مجهولة علينا (فيحتمل كانت تحدث مرّة كل سنة) تقليبهم على جهة اليمنى والشمال للحيلولة دون المساس بعضوية أبدانهم.

* * *

يبدو إنّ البحث العلمي بهذا الشأن قد إتضح تماماً ، والنتيجة التي يخلص إليها منه لا تدع من مجال للنقاش بشأن مسألة المعاد ، وذلك للشبه الواضح بين النهوض من ذلك النوم الطويل والنهوض للحياة بعد الموت والذي يقرب قضية المعاد إلى الأذهان.

* * *

__________________

(١) سورة الكهف ، الآية ١٨.

١١٥
١١٦

فترة الجنين شبح من القيامة

الطريق السادس :

(يَا ايُّها النَّاسُ انْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَانّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْر مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ في الأَرحَامِ مَا نَشاءُ الَى اجَلٍ مُسَمًى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) (١).

إنّ الاعتياد على شيء رغم أنّه يحل كثيراً من مشاكلنا إلّاأنّه قد يكون مصلّاً أحياناً ، وذلك لأنّ بعض المواضيع الساذجة التي لم نرها سابقاً ونتعودها تبدو لنا مهمّة من قبيل نمو أسنان الفرس أو الطير الذي يضع البيض الكروية أو المخروطية الشكل بحيث تتناقلها الألسن بشيء من الغرابة ، بينما تبدو لنا عادية تماماً كسائر المواضيع العجيبة للغاية والتي تنطوي على عدّة أسرار وذلك لتعودنا عليها ، فعادة ما نسمع أنّ السيدة الفلانية أنجبت ولداً فنقول : مبارك عليها إن شاءالله ، إلّاأنّنا لا نكلّف أنفسنا عناء أي تفكير بالحوادث العجيبة والتغيرات التي عرضت على رحم المرأة طيلة تسعة أشهر والتي لايمكن توضيح حقيقتها بمئة كتاب ، فذرة ترابية ترد البدن الإنساني عن طريق النباتات فتمتزج معه فتصير بهيئة خلية حيّة

__________________

(١) سورة الحج ، الآية ٥.

١١٧

في الرحم وتختلط بخلية أنثوية لتشكل بويضة ، ثم ينشط هذا الكائن الآحادي الخليّة بسرعة مذهلة ليشق طريقه التصاعدي الهندسي خلال عدّة شهور ليتحول إلى كائن له آلاف الملياردات من الخلايا.

وكأنّ فريقاً من الرسّامين المهرة قد تجمعوا في ذلك الوسط المظلم وانهمكوا ليل نهار بالرسم فأحالوا كل مجموعة من هذه الخلايا بشكل وقد سبغوا عليه ألواناً وكيفيات خاصّة معينة.

نعم هناك عشرات المهندسين والفيزيائين والكيميائين الذين يتفنون في صنع أجهزته الحساسة والدقيقة ويصنعون كائناً من عدّة غرامات من الحديد إلى جانب بعض الغرامات من الكالسيوم والفسفور والكاربون و... ومقدار كثير من الماء الكائن الذي يعجز عن مصافاته أكبر العقول الألكترونية وأعظم الصناعات العالمية الثقيلة وأدق الأدوات والوسائل والأجهزة وأجمل ألواح الدنيا.

والجدير بالذكر أنّ الإنسان يتابع بعد ولادته حركة هادئة وتدريجية ذات تكامل كمي لا كيفي ، فحركته في المحيط الهائج للرحم سريعة جدّاً ومغيرّة وهي تكشف عن غطاء عجيب كل اسبوع بل كل يوم.

إنّ التطورات المتتالية والمذهلة للجنين في عالمه هي بمثابة الذهول من جراء تحول إبرة صغيرة بعد عدّة شهور إلى طائرة تحلق دون طيار ، فالجنين حين يكون في مرحلة «المورول» وخلاياه كحبّة ثمرة التوت تجتمع حول بعضها دون أن يكون لها شكل مشخص ، وحين يكون في مرحلة «البلاستول» وتظهر حفرة التقسيم التي تعتبر بداية لتقسيم نواحي الجنين ، وحين يبلغ الطبقات الثلاث للكاسترول وهي «الاندوديرم» و«الاكتوديرم» و«المزوديرم» ففي كل هذه المراحل تكون خلايا الجنين

١١٨

شبيهة لبعضها البعض الآخر ولايوجد أدنى أثر لاختلاف أعضاء الإنسان ، ولكن فجأة تحدث تغييرات في الأغشية الثلاث للجنين بحيث تتغير أشكالها بما ينسجم والوظيفة التي تقوم بها فتبدأ الأعضاء بالبروز ، لا أحد يعرف أي الظروف دعت لحصول هذه التغيرات في الخلايا المتشابهة تماماً ، فأسرارها مكتومة خفيفة كسائر أسرار الجنين ، وبالطبع تتم كل هذه المراحل في وسط لا سبيل للوصول إليه ويخضع تماماً للسيطرة الداخلية للبدن.

القرآن الكريم من جانبه يخاطب اولئك الذين يرون إستحالة الحياة بعد الموت بأنّ القيامة والبعث سوف لن تكون أبعد ممّا تشاهدونه من هذا التبدل السريع الذي تتحول بموجبه النطفة إلى إنسان ، وعليه فكيف يمكن للإنسان الشك في القيامة وهو يشاهد علم الجنين. والآية التي تصدرت البحث ، أشارت في البداية إلى تبدل التراب بكائن حي وهي طفرة عظيمة ، ثم أشارت إلى المراحل المختلفة للجنين والتي تعتبر كلها قفزات متتالية نوعية بالنسبة للجنين ، ثم يدعو منكري البعث والقيامة إلى التوقف عند هذه المسائل ، وفي عصر لم يكن فيه علم الأجنة علم مستقبل ، بل لم يكن حتى جزءاً من العلوم ، فلم تكن هناك سوى معلومات ناقصة بهذا الشأن ، والتعبير القرآني في الآية المذكورة عن القيامة بالبعث كأنّه إشارة لطيفة إلى معنى «الطفرة» التي تحصل في القيامة على غرار دنيا الرحم ، وهذا طريق آخر من الطرق التي سلكها القرآن الكريم من أجل تعريف الناس بالقيامة.

* * *

شبح القيامة

الحقيقة هي أنّنا إذا أردنا أن نجسد شبح القيامة ونقارنه بوضع الحياة

١١٩

في هذا العالم ، فإنّ أفضل طريق لذلك هو ما نفكر به حول الإنسان في عالم الجنين والذي يبلغ العقل والشعور ثم يفكر في المراحل التي تعقب الولادة ، فسوف يكتشف من خلال القرائن :

١ ـ أنّ محيط الرحم محدود جدّاً ولذاته زهيدة وإمكاناته قليلة ومدّته قصيرة مثل محيط هذا العالم إزاء العالم الآخر بعد الموت ، فهو صغير ومحدود وزهيد وقصير المدّة.

٢ ـ أنّ الفترة التي يعيشها الجنين هي فترة إستعداد وتأهب من أجل القدوم على محيط أوسع وأكبر كهذا العالم ـ لا أنّها فترة مثالية مستقلة ـ فهي بمثابة الحياة في هذا العالم حيث تعتبر هذه الحياة مرحلة إستعداد وتأهب لتلك الحياة الخالدة في العالم الآخر.

٣ ـ حياة الجنين تنطوي على أنواع المشاكل والويلات كالحياة الدنيا في هذا العالم إزاء الحياة الآخرة مشوبة بمختلف الكدورات والمنغّصات.

* * *

١٢٠