الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء
المحقق: علاء آل جعفر
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام علي عليه السلام ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-50-7
الصفحات: ٤٤٢
الامامة :
قد أنباناك أنَّ هذا هو الأَصل الذي امتازت به الإمامية وافترقت عن سائر فرق المسلمين ، وهو فرق جوهري أصلي ، وما عداه من الفروق فرعية عرضية كالفروق التي تقع بين أئمة الاجتهاد عندهم كالحنفي والشافعي وغيرهما.
وعرفتَ أنَّ مرادهم بالإمامة : كونها منصباً إلهياً يختاره الله بسابق علمه بعباده ، كما يختار النبي ، ويأمر النبي بان يدل الأُمَّة عليه ، ويأمرهم باتباعه.
ويعتقدون : أنَّ الله سبحانه أمر نبيه بأن ينص على عليٍّ عليهالسلام وينصبه علماً للناس من بعده ، وكان النبي يعلم أن ذلك سوف يثقل على الناس ، وقد يحملونه على المحاباة والمحبة لابن عمه وصهره ، ومن المعلوم أن الناس ذلك اليوم ، وإلى اليوم ، ليسوا في مستوى واحد من الإيمان واليقين بنزاهة النبي وعصمته عن الهوى والغرض ، ولكن الله سبحانه لم يعذره في ذلك فاوحى اليه : ( يا أيُّها الرَّسولُ بلّغ ما أُنزِلَ إليكَ مِن ربِّكَ وإن لَم تَفعَلَ فَما بَلَّغتَ رِسالَتَه ) (١) ، فلم يجد بُداً من الإمتثال بعد هذا الإنذار الشديد ، فخطب الناس عند منصرفه من حجة الوداع في غدير خم ، فنادى ـ وجلّهم يسمعون ـ : « ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم »؟.
فقالوا : اللّهمَّ نعم.
فقال : « مَن كُنتُ مولاه فهذا عليٌّ مولاه » ... الى آخر ما قال (٢).
__________________
(١) المائدة ٥ : ٦٧.
(٢) روت معظم المصادر الحديثية وغيرها واقعة الغدير ، ونصَّ الرسول صلىاللهعليهوآله فيها بالولاية لعلي عليهالسلام ، بأسانيد متعددة يصعب حصرها هنا ، ولكن راجع :
سنن ابن ماجة ١ : ٤٣|١١٦ و ٤٥|١٢١ ، سنن الترمذي ٥ : ٦٣٣ / ٣٧٦٣، خصائص
ثم أكَّد ذلك في مواطن اُخرى تلويحاً وتصريحاً ، إشارة ونصاً ، حتى أدى الوظيفة ، وبلغ عند الله المعذرة.
ولكنَّ كبار المسلمين بعد النبي صلىاللهعليهوآله تأولوا تلك النصوص ، نظراً منهم لصالح الإسلام ـ حسب اجتهادهم ـ فقدَّموا وأخَّروا ، وقالوا : الامر يحدث بعده الأَمر.
وامتنع عليٌّ وجماعة من عظماء الصحابة عن البيعة أوَّلاً ، ثم رأى [ أنَّ ] امتناعه من الموافقة والمسالمة ضرر كبير على الإسلام ، بل ربما ينهار عن أساسه ، وهو بعد في أوَّل نشوئه وترعرعه ، وأنت تعلم أنَّ للاسلام عند أمير المؤمنين عليهالسلام من العزة والكرامة ، والحرص عليه والغيرة ، بالمقام الذي يُضحي له بنفسه وأنفس مالديه ، وكم قذف بنفسه في لهوات المنايا تضحية للاسلام. وزد على ذلك أنه رأى الرجل الذي تخلف على المسلمين قد نصح للاسلام ، وصار يبذل جهده في قوَّته وإعزازه ، وبسط رايته على البسيطة ، وهذا أقصى ما يتوخاه أمير المؤمنين من الخلافة والإمرة ، فمن ذلك كلّه تابع وبايع (١) ، حيث رأى أنَّ بذلك مصلحة الإسلام ، وهو على منصبه الإلهي من الإمامة ، وان سلم لغيره التصرف والرئاسة العامة ، فإنّ ذلك المقام ممّا يمتنع التنازل عنه بحال من الأَحوال.
أما حين انتهى الأَمر إلى معاوية ، وعَلِم أن موافقته ومسالمته وإبقائه والياً
__________________
الامام علي عليهالسلام للنسائي : ٩٦/ ٧٩ و ٩٩/ ٨٣ ، مسند أحمد ١ : ٨٤ ، ٨٨ و ٤ : ٣٦٨ ، ٣٧٢ و ٥ : ٣٦٦ ، ٤١٩ ، تاريخ بغداد ٧ : ٣٧٧ و ٨ : ٢٩٠ و ١٢ : ٣٤٣ ، اسد الغابة ٢ : ٢٣٣ و ٣ : ٣ ٩ ، الإصابة ١ : ٣٠٤ ، مستدرك الحاكم ٣ : ١٠٩ ، ١١٠ ، ١١٦ ، كفاية الطالب : ٦٤ ، ترجمة الامام علي عليهالسلام من تاريخ دمشق ٢ : ٥|٥٠١ ـ ٥٣١ ، الرياض النضرة ٢ : ١٧٥ ، المناقب للمغازلي : ٦ ١ ـ ٢٦ ، مصنف ابن أبي شيبة ١٢ : ٥٩ / ١٢١٢١ ، وغيرها كثير.
(١) تقدم منا الحديث عن ذلك ، فراجع.
ـ فضلاً عن الإمرة ـ ضرر كبير ، وفتق واسع على الاسلام ـ لا يمكن بعد ذلك رتقه ـ لم يجد بُداً من حربه ومنابذته.
والخلاصة : أنَّ الإمامية يقولون : نحن شيعة علي وتابعوه ، نُسالم مَن سالمه ، ونُحارب من حاربه ، ونُعادي مَن عاداه ، ونُوالي من والاه ، إجابة وامتثالاً لدعوة النبي صلىاللهعليهوآله : « اللّهُمّ والِ مَن والاهُ ، وَعادِ من عاداهُ ».
وحبنا وموالاتنا لعلي عليهالسلام وولده إنَّما هي محبة وموالاة للنبي صلىاللهعليهوآله وإطاعه له.
تَاللهِ ما جَهلَ الأقوامُ مَوضِعَها |
|
لَكنَّهم سَتَروا وَجهَ الَّذي عَلِمُوا |
وهذا كلُّه أيضاً خارج عن القصد ، فلنعد إلى ما كنّا فيه من إتمام حديث الإمامية ، فنقول : إنَّ الإمامية تعتقد أنَّ الله سبحانه لا يخلي الأرض من حجة على العباد ، من نبي أو وصي ، ظاهر مشهور ، أو غائب مستور ، وقد نصَّ النبي صلىاللهعليهوآله وأوصى إلى علي ، وأوصى علي ولده الحسن ، وأوصى الحسن أخاه الحسين ، وهكذا إلى الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر عليهمالسلام وهذه سنَّة الله سبحانه في جميع الأَنبياء ، من آدمهم إلى خاتمهم.
وقد ألَّف جم غفير من أعاظم علماء الدِّين مؤلفات عديدة في إثبات الوصية ، وها أنا اورد لك أسماء المؤلِّفين في الوصية ، من القرون الأُولى والصدر الأَول قبل القرن الرابع :
( كتاب الوصية ) لهشام بن الحكم المشهور.
( الوصية ) للحسين بن سعيد.
( الوصية ) للحكم بن مسكين.
( الوصية ) لعلي بن المغيرة.
( الوصية ) لعلي بن الحسين بن الفضل.
( كتاب الوصية ) لمحمَّد بن علي بن الفضل.
( كتاب الوصية ) لابراهيم بن محمَّد بن سعيد بن هلال.
( الوصية ) لأحمد بن محمَّد بن خالد البرقي ، صاحب المحاسن.
( الوصية ) للمؤرِّخ الجليل عبدالعزيز بن يحيى الجلودي.
وأكثر هؤلاء من أهل القرن الأول والثاني ، أمّا أهل القرن الثالث فهم جماعة كثيرة أيضاً :
( الوصية ) لعلي بن رئاب.
( الوصية ) لعيسى (١) بن المستفاد.
( الوصية ) لمحمَّد بن أحمد الصابوني.
( الوصية ) لمحمد بن الحسن بن فروخ.
( كتاب الوصية والإمامة ) للمؤرِّخ الثبت الجليل علي بن الحسين المسعودي ، صاحب مروج الذهب.
( الوصية ) لشيخ الطائفة محمَّد بن الحسن الطوسي.
( الوصية ) لمحمد بن علي الشلمغاني المشهور.
( الوصية ) لموسى بن الحسن بن عامر.
أما ما ألف بعد القرن الرابع فشيء لا يُستطاع حصره.
وذكر المسعودي في كتابه المعروف بـ ( إثبات الوصية ) لكلِّ نبي اثني
__________________
(١) الطبعات متضاربة في ذلك ، ففي نسختي النجف وايران : يحيى ، وفي نسخة بيروت : محمَّد ، وجميعها مصحف ، والصواب : عيسى كما أثبتناه. وهو : أبو موسى البجلي الضرير ، روى عن أبي جعفر الثاني عليهالسلام ، ذكره النجاشي في رجاله ( ٢٩٧|٨٠٩ ) وقال : له كتاب الوصية ، وكذا الطهراني في الذريعة ( ٢٥ : ١٠٣|٥٦٥ ) ..
عشر وصياً ، ذكرهم باسمائهم ، ومختصر من تراجمهم ، وبَسَطَ الكلام بعض البسط في الأئمة الاثني عشر. وقد طبع في إيران طبعة غير جيدة (١).
هذا ما ألَّفه العلماء في الإمامة ، لاقامة الأَدلة العقلية والنقلية عليها ، ولسنا بصدد شيء من ذلك ، نعم في قضية المهدي عليهالسلام قد تعلو نبرات الاستهتار والاستنكار من سائر فرق المسلمين ـ بل ومن غيرهم ـ على الإمامية في الإعتقاد بوجود إمام غائب عن الأَبصار ليس له أثر من الآثار ، زاعمين أنَّه رأي فائل ، وعقيدة سخيفة. والمعقول من إنكارهم يرجع إلى أمرين :
الأَوَّل : استبعاد بقائه طول هذه المدة التي تتجاوز الأَلف سنة ، وكأنَّهم ينسون أو يتناسون حديث عُمر نوح الذي لبث في قومه بنَّص الكتاب ألف سنة إلّا خمسين عاماً (٢) ، وأقل ما قيل في عمره : ألف وستمائة سنة ، وقيل أكثر إلى ثلاثة آلاف (٣).
وقد روى علماء الحديث من السنة لغير نوح ما هو أكثر من ذلك ، هذا النووي ـ وهو من كبار محدثيهم ـ يُحَدِّث في كتابه ( تهذيب الأسماء ) ما نصَّه : اختلفوا في حياة الخضر ونبوَّته ، فقال الأكثرون من العلماء : هو حي موجود بين أظهرنا ، وذلك متفق عليه عند الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة ، وحكاياتهم في رؤيته ، والاجتماع به ، والأَخذ عنه ، وسؤاله وجوابه ، ووجوده في المواضع الشريفة ومواطن الخير أكثر من أن تُحصى ، وأشهر من أن
__________________
(١) اُعيد طبعه في النَّجف الاشرف وايران مع بعض التصحيحات المهمة.
(٢) إشارة إلى قوله تعالى في الاية ( ١٤) من سورة العنكبوت ( وَلَقد أَرسَلنا نُوحاً إلى قَومِهِ فَلَبِثَ فيهِم ألفَ سَنَةٍ إلّا خمَسينَ عاماً ).
(٣) انظر : تفسير الكشَّاف للزمخشري ٣ : ٢٠٠ ، تفسير القرآن العظيم لابن كثير ٣ : ٤١٨ ، زاد المسير لابن الجوزي ٦ : ٢٦١.
تذكر.
قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح في فتاويه : هو حي عند جماهير العلماء والصالحين والعامة معهم ، وإنَّما شذَّ بانكاره بعض المحدِّثين. انتهى (١).
ويخطر لي أنَّه قال هو في موضع اخر ، والزمخشري في ( ربيع الأبرار ) : إنَّ المسلمين متفقون على حياة أربعة من الأَنبياء ، إثنان منهم في السَّماء وهما : إدريس وعيسى ، واثنان في الأرض : الياس والخضر ، وأنّ ولادة الخضر في زمن إبراهيم أبي الأنبياء (٢).
والمعمِّرون الذين تجاوزوا العمر الطبيعي إلى مئات السنين كثيرون ، وقد ذكر السِّيد المرتضى في أماليه (٣) جملة منهم ، وذكر غيره كالصَّدوق في ( إكمال الدّين ) (٤) أكثر ممّا ذكر الشريف.
وكم رأينا في هذه الأعصار من تناهت بهم الأَعمار إلى المائة والعشرين وما قاربها ، أو زاد عليها.
على أنَّ الحقَّ في نظر الاعتبار أنَّ من يقدر على حفظ الحياة يوماً واحداً يقدر على حفظها آلافاً من السنين ، ولم يبق إلّا أنَّه خارق العادة ، وهل خرق العادة والشذوذ عن نواميس الطبيعة في شؤون الأَنبياء والاولياء بشيء عجيب أو أمر نادر؟!
راجع مجلَّدات ( المقتطف ) السابقة ، تجد فيها المقالات الكثيرة ، والبراهين الجلية العقلية لأكابر فلاسفة الغرب في إثبات إمكان الخلود في
__________________
(١) تهذيب الاسماء واللغات ١ : ١٧٦.
(٢) تهذيب الاسماء واللغات ١ : ١٧٧ ، ربيع الابرار ١ : ٣٩٧.
(٣) أمالي المرتضى ١ : ٢٣٢ ـ ٧٢.
(٤) اكمال الدين : ٥٥٥ ـ ٥٧٥.
الدنيا للانسان. وقال بعض كبار علماء ، اُوروبا : لولا سيف ابن ملجم لكان علي بن أبي طالب من الخالدين في الدنيا ، لأنّه قد جمع جميع صفات الكمال والاعتدال. وعندنا هنا تحقيق بحث واسع لا مجال لبيانه.
الثاني : السؤال عن الحكمة والمصلحة في بقائه مع غيبته ، وهل وجوده مع عدم الإنتفاع به إلّا كعدمه؟.
ولكن ليت شعري هل يريد اُولئك القوم أن يصلوا إلى جميع الحِكَمِ الربّانية ، والمصالح الإلهية ، وأسرار التكوين والتشريع ، ولا تزال جملة أحكام إلى اليوم مجهولة الحكمة ، كتقبيل الحجر الأَسود ، مع أنَّه حجر لا يضر ولا ينفع ، وفرض صلاة المغرب ثلاثاً ، والعشاء أربعاً ، والصبح اثنتين ، وهكذا إلى كثيرمن أمثالها ، وقد استأثر الله سبحانه بعلم جملة أشياء لم يُطلع عليها مَلَكاً مُقرَّباً ، ولا نبياً مرسلاً ، كعلم الساعة وأخواته ( إنَّ اللهَ عندَهُ عِلمُ السّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيث ) (١).
وأخفى جملة أُمور لم يُعلَم على التحقيق وجه الحكمة في إخفائها ، كالاسم الأَعظم ، وليلة القدر ، وساعة الإستجابة.
والغاية : أنَّه لا غرابة في أن يفعل سبحانه فعلا أو يحكم حكماً مجهولي الحكمة لنا ، إنَّما الكلام في وقوع ذلك وتحقيقه ، فإذا صح إخبار النبي وأوصيائه المعصومين عليهمالسلام لم يكن بد من التسليم والإذعان ، ولا يلزمنا البحث عن حكمته وسببه ، وقد أخذنا على أنفسنا في هذا الكتاب الوجيز أن لا نتعرض لشيء من الأَدلة ، بل هي موكولة إلى مواضعها ، والأَخبار في ( المهدي ) عن النبي صلىاللهعليهوآله من الفريقين مستفيضة ، ونحن وإن اعترفنا بجهل الحكمة ، وعدم الوصول إلى حاقّ
__________________
(١) لقمان ٣١ : ٣٤.
المصلحة ، ولكن كان قد سألنا نفس هذا السؤال بعض عوام الشِّيعة ، فذكرنا عدة وجوه تصلح للتعليل ، ولكن لا على البت ، فإنَّ المقام أدق وأغمض من ذلك ، ولعل هناك اموراً تسعها الصدور ، ولا تسعها السطور ، وتقوم بها المعرفة ، ولا تأتي عليه الصفة.
والقول الفصل : إنّه إذا قامت البراهين في مباحث الإمامة على وجوب وجود الإمام في كلُّ عصر ، وأن الأَرض لا تخلو من حجة ، وأنّ وجوده لطف ، وتصرُّفه لطف آخر ، فالسؤال عن الحكمة ساقط ، والأدلة في محالّها على ذلك متوفِّرة ، وفي هذا القدر من الإشارة كفاية إنَّ شاء الله.
العدل :
ويُراد به : الاعتقاد بان الله سبحانه لا يظلم أحداً ، ولا يفعل ما يستقبحه العقل السليم. وليس هذا في الحقيقة أصلاً مستقلاً ، بل هو مندرج في نعوت الحقِّ ووجوب وجوده المستلزم لجامعيته لصفات الجمال والكمال ، فهو شأن من شؤون التوحيد ، ولكنَّ الأشاعرة لما خالفوا العدلية ، وهم المعتزلة والإمامية ، فأنكروا الحسن والقبح العقليين ، وقالوا : ليس الحسن إلا ما حسَّنه الشرع ، وليس القبح إلّا ما قبحه الشرع ، وأنَّه تعالى لو خلَّد المطيع في جهنم ، والعاصي في الجنة ، لم يكن قبيحا ، لأنه يتصرف في ملكه ( لا يُسئَلُ عمّا يَفعَلُ وَهُم يَسئَلُون ) (١).
حتى أنَّهم أثبتوا وجوب معرفة الصانع ، ووجوب النظر في المعجزة لمعرفة النبي من طريق السمع والشرع لا من طريق العقل ، لأنه ساقط عن منصة الحكم ، فوقعوا في الاستحالة والدور الواضح.
أمّا العدلية فقالوا : إنّ الحاكم في تلك النظريات هو العقل مستقلاً ، ولا سبيل لحكم الشرع فيها إلّا تأكيداً وإرشاداً ، والعقل يستقل بحسن بعض الأَفعال وقبح البعض الآخر ، ويحكم بأنَّ القبيح محال على الله تعالى لانَّه حكيم ، وفعل القبيح مناف للحكمة ، وتعذيب المطيع ظلم ، والظلم قبيح ، وهو لا يقع منه تعالى.
وبهذا أثبتوا لله صفة العدل ، وأفردوها بالذكر دون سائر الصفات إشارة إلى خلاف الأَشاعرة ، مع أنَّ الأشاعرة في الحقيقة لا ينكرون كونه تعالى عادلاً ، غايته : أنَّ العدل عندهم هوما يفعله ، وكلّ ما يفعله فهو حسن ، نعم
__________________
(١) الانبياء ٢١ : ٢٣.
أنكروا ما أثبته المعتزلة والإمامية من حكومة العقل ، وإدراكه للحسن والقبح على الحق جل شأنه ، زاعمين أنَّه ليس للعقل وظيفة الحكم بأنَّ هذا حسن من الله وهذا قبيح منه.
والعدلية بقاعدة الحسن والقُبح العقليين ـ المُبَرهَن عليها عندهم ـ أثبتوا جملة من القواعد الكلامية : كقاعدة اللُّطف ، ووجوب شكر المنعم ، ووجوب النظر في المعجزة. وعليها بنوا أيضاً مسألة الجبر والاختيار ، وهي من معضلات المسائل التي أخذت دوراً مهماً في الخلاف ، حيث قال الأَشاعرة بالجبر أو بما يُؤدي اليه ، وقال المعتزلة : بأنَّ الإنسان حر مختار له حرية الإرادة والمشيئة في أفعاله.
غايته : أنَّ ملكة الاختيار وصفته كنفس وجوده من الله سبحانه ، فهو خَلَقَ العبد وأوجده مختاراً ، فكلي صفة الاختيار من الله ، والاختيار الجزئي في الوقائع الشخصية للعبد ومن العبد ، والله جل شأنه لم يجبره على فعل ولا ترك ، بل العبد اختار ما شاء منهما مستقلاً ، ولذا يصح عند العقل والعقلاء ملامته وعقوبته على فعل الشر ، ومدحه ومثوبته على فعل الخير ، وإلّا لبطل الثواب والعقاب ، ولم تكن فائدة في بعثة الأَنبياء وإنزال الكتب والوعد والوعيد.
ولا مجال هنا لأكثر من هذا ، وقد بسطنا بعض الكلام في هذه المباحث في آخر الجزء الأَول من كتاب ( الدين والاسلام ) (١) وقد أوضحناها
__________________
(١) يقع الكتاب في جزءين ، ضمَّن مؤلَّفه رحمه الله تعالى الجزء الأول منه ثلاثة فصول تمهَّد لها خمسة سوانح يتعرض فيها إلى الأخطار المحيطة بالاسلام ، ومكائد الغربيين له ، وتأثر البعض من المسلمين بالآراء والمعتقدات الغربية. ثم ينفذ من ذلك إلى تبيان دور العلم والعمل في رقي الاديان وثبات اُصولهما ، مع شرح موجز لماهية الشرف والسعادة ، ودور
بوجه يسهل تناوله وتعقّله للأواسط ، فضلاً عن الأَفاضل ، وإنّما الغرض هنا : أن من عقائد الامامية واُصولهم أن الله عادل ، وأنَّ الانسان حر مختار.
__________________
الاخلاق في رقي الشعوب ، ونبذ من أقوال الحكماء ومؤلَّفاتهم ، والاشارة من خلالها إلى القصور الذي يحيط البعض في كيفية الدعوة الى الأسلام وتبيان عقائده وافكاره ، وغير ذلك.
والمؤلِّف رحمه الله تعالى يتعرَّض في الفصل الأولَّ منه إلى مسالة اثبات الصانع جلَّ اسمه بشكل علمي رصين ، حين يتعرَّض في فصله الثاني إلى اثبات وحدة الصانع تبارك وتعالى ، ونفي الشريك عنه ، ثم يتناول بالشرح في الفصل الثالث منه ماهية العدل وكيفية القيام به ، بشكل مفصل ومسهب.
وأمَّا الجزء الثاني من الكتاب فقد تعرض المؤلِّف رحمه الله تعالى فيه إلى ايضاح كلي للنبوِّة ووجوبها والحاجة إليه ، منطلقاً من خلال ذلك إلى كثير من الجوانب الأُخرى المتعلِّقة بها وصولاً إلى تبيان الاعجاز القراني الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وما يتعلَّق به.
المعاد :
يعتقد الامامية ـ كما يعتقد سائر المسلمين ـ : أنَّ الله سبحانه يُعيد الخلائق ويحييهم بعد موتهم يوم القيامة للحساب والجزاء ، والمُعاد هو الشخص بعينه ـ وبجسده وروحه ـ بحيث لو رآه الرائي لقال : هذا فلان.
ولا يجب أن تعرف كيف تكون الاعادة ، وهل هي من قبيل إعادة المعدوم ، أو ظهور الموجود ، أو غير ذلك.
ويؤمنون بجميع ما في القرآن والسنَّة القطعية من الجنَّة والنّار ، ونعيم البرزخ وعذابه ، والميزان ، والصراط ، والأَعراف ، والكتاب الذي لا يُغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها ، وأن الناس مجزيون باعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر ( فَمَن يَعمَل مِثقالَ ذَرَّةٍ خيراً يَرَهُ * وَمَن يَعمَل مِثقالَ ذَرَّةٍ شراً يَرَهُ ) (١). إلى غير ذلك من التفاصيل المذكورة في محلِّها من كلُّ ما صدع به الوحي المبين ، وأخبر به الصّادق الأَمين.
هذا تمام الكلام في الشَّطر الأَول من شطري الايمان بالمعنى الأَخص ، وهو ما يرجع إلى وظيفة العقل والقلب ، ومرحلة العلم والاعتقاد ، ونستأنف الكلام فيما هو من وظيفة القلب والجسد ، أعني مرحلة العمل بأركان الإيمان من أفعال الجوارح.
__________________
(١) الزلزلة ٩٩ : ٧ ـ ٨.
تمهيد وتوطئة :
يعتقد الإمامية : أنَّ لله ـ بحسب الشريعة الاسلامية ـ في كلُّ واقعة حكماً حتى أرش الخدش ، وما من عمل من أعمال المكلَّفين ـ من حركة أو سكون ـ إلّا ولله فيه حكم من الأحكام الخمسة : الوجوب ، والحرمة ، والندب ، والكراهة ، والإباحة.
وما من معاملة على مال ، أوعقد نكاح ، ونحوهما إلّا وللشرع فيه حكم صحة أو فساد.
وقد أودع الله سبحانه جميع تلك الأَحكام عند نبيه خاتم الأَنبياء صلىاللهعليهوآله ، وعرفها النبي بالوحي من الله تعالى أو الالهام ، ثم انَّه سلام الله عليه ـ حسب وقوع الحوادث ، أو حدوث الوقائع ، أو حصول الابتلاء ، وتجدّد الآثار والأَطوار ـ بيَّن كثيراً منها للناس ، وبالأَخص لأَصحابه الحافيِّن به ، الطائفين كلُّ يوم بعرش حضوره ، ليكونوا هم المبلِّغين لسائر المسلمين في الآفاق ( لِتَكُونُوا شُهَداء عَلى النّاس وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيكُم شَهيداً ) (١).
وبقيت أحكام كثيرة لم تحصل الدواعي والبواعث لبيانها ، أمّا لعدم الابتلاء بها في عصر النبوَّة ، أو لعدم اقتضاء المصلحة لنشرها.
والحاصل : إنَّ حكمة التدريج اقتضت بيان جملة من الأَحكام وكتمان جملة ، ولكنَّه سلام الله عليه أودعها عند أوصيائه ، كلُّ وصي يعهد بها إلى ألاخر لينشرها في الوقت المناسب لها حسب الحكمة ، من عام مخصص ، أو مطلق مقيِّد ، أو مجمل مبيَّن ، إلى أمثال ذلك.
فقد يذكر النبيّ عامَّاً ، ويذكر مخصصه بعد برهة من حياته ، وقد لا
__________________
(١) البقرة ٢ : ١٤٣.
يذكره أصلاً ، بل يودعه عند وصيِّه إلى وقته.
ثم أنَّ الأحاديث التي نشرها النبي صلىاللهعليهوآله في حياته قد يختلف الصحابة في فهم معانيها على حسب أختلاف مراتب أفهامهم وقرائحهم ( أنزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَساَلت أودِيَةٌ بِقَدَرِها ) (١).
وَلَكن تَأخُذُ الأذهانُ مِنهُ |
|
على قَدَرِ القرائحِ والفُهومِ |
ثم إنَّ الصحابي قد يسمع من النبيّ في واقعة حكماً ، ويسمع الآخر في مثلها خلافه ، وتكون هناك خصوصية في أحدهما اقتضت تغاير الحُكمين ، غفل أحدهما عن الخصوصية أو التفت إليها وغفل عن نقلها مع الحديث ، فيحصل التعارض في الأحاديث ظاهراً ، ولا تنافي واقعاً.
ومن هذه الأَسباب وأضعاف أمثالها احتاج حتى نفس الصحابة ـ الَّذين فازوا بشرف الحضور في معرفة الأَحكام إلى الاجتهاد والنظر في الحديث ، وضم بعضه إلى بعض ، والإلتفات على القرائن الحالية ، فقد يكون للكلام ظاهر ومراد النبي خلافه ، اعتماداً على قرينة كانت في المقام ، والحديث نُقِل والقرينة لم تُنقَل. وكل واحد من الصحابة ممَّن كان من أهل الرأي والرواية ... ـ إذ ليس كلهم كذلك بالضرورة ـ تارة يروي نفس الفاظ الحديث للسامع من بعيد أو قريب ، فهو في الحال راوٍ ومحدِّث ، وتارة يذكر الحكم الذي استفاده من الرواية أو الروايات بحسب نظره واجتهاده ، فهو في هذا الحال مفتٍ وصاحب رأي ، وأهل هذه المَلَكَة مجتهدون ، وسائر المسلمين ـ الَّذين لم يبلغوا إلى تلك المرتبة ـ إذا أخذوا برأيه مقلِّدون.
وكان كلُّ ذلك قد جرى في زمن صاحب الرسالة ، وبمرأى منه
__________________
(١) الرعد ١٣ : ١٧.
ومسمع ، بل وربما رجع بعضهم إلى بعض ، على أنَّ الناس من هذا بازاء أمر واقع لا محالة.
وإذا أمعنت النظر فيما ذكرناه ، اتضح لديك أنَّ باب الاجتهاد كان مفتوحاً في زمن النبوَّة وبين الصحابة ، فضلا عن غيرهم ، وفضلاً عن سائر الأزمنة التي بعده ، نعم غايته : أن الاجتهاد يومئذٍ كان خفيف المؤنة جداً لقرب العهد ، وتوفُّر القرائن ، وإمكان السؤال المفيد للعلم القاطع.
ثم كلّما بعد العهد من زمن الرسالة ، وتكثَّرت الاراء ، واختلطت الأعارب بالأَعاجم ، وتغيَّر اللحن ، وصعب الفهم للكلام العربي على حاق معناه ، وتكثَّرت الأَحاديث والروايات ، وربما دخل فيها الدس والوضع ، وتوافرت دواعي الكذب على النبي صلىاللهعليهوآله ، أخذ الاجتهاد ومعرفة الحكم الشرعي يصعب ويحتاج إلى مزيد مؤنة ، واستفراغ وسع ، للجمع بين الأَحاديث ، وتمييز الصحيح منها من السقيم ، وترجيح بعضها على البعض ، وكلّما بَعُد العهدُ ، وانتشر الاسلام ، وتكثَّرت العلماء والرواة ، ازداد الأَمر صعوبة.
ولكن مهما يكن الحال ، فباب الاجتهاد كان في زمن النبي صلىاللهعليهوآله مفتوحاً ، بل كان أمراً ضرورياً عند من يتدبر ، ثم لم يزل مفتوحاً عند الإمامية إلى اليوم ، والناس بضرورة الحال لا يزالون بين عالم وجاهل. وبسنَّة الفطرة ، وقضاء الضرورة أنَّ الجاهل يرجع إلى العالم.
فالناس إذاً في الأَحكام الشرعية بين عالم مجتهد ، وجاهل مقلِّد يجب عليه الرجوع في تعيين تكاليفه إلى أحد المجتهدين.
والمسلمون متفقون أنّ أدلة الأحكام الشرعية منحصرة في الكتاب والسنَّة ، ثم العقل والإجماع. ولا فرق في هذا بين الإمامية وغيرهم من فرق المسلمين.
نعم يفترق الإمامية عن غيرهم هنا في اُمور :
منها : إنَّ الإمامية لا تعمل بالقياس ، وقد تواتر عن أئمتهم عليهمالسلام : ( أنّ الشَّريعة إذا قيست مُحِقَ الدِّينُ ) (١).
والكشف عن فساد العمل بالقياس يحتاج إلى فضل بيان لا يتسع له المقام.
ومنها : أنَّهم لا يعتبرون من السنَّة ـ أعني الأَحاديث النبوية ـ إلّا ما صح لهم من طرق أهل البيت عليهمالسلام عن جدهم صلىاللهعليهوآله ، يعني : ما رواه الصّادق ، عن أبيه الباقر ، عن أبيه زين العابدين ، عن الحسين السّبط ، عن أبيه أمير المؤمنين ، عن رسول الله سلام لله عليهم جميعاً.
أمّا ما يرويه مثل : أبي هريرة ، وسمرة بن جندب ، ومروان بن الحكم ، وعمران بن حطّان الخارجي ، وعمرو بن العاص ، ونظائرهم ، فليس لهم عند الإمامية من الاعتبار مقدار بعوضة ، وأمرهم أشهر من أن يُذكر ، كيف وقد صرح كثير من علماء السنّة بمطاعنهم ، ودل على جائفة جروحهم (٢).
ومنها : أنَّ باب الاجتهاد ـ كما عرفتَ ـ لا يزال مفتوحاً عند الإِمامية ، بخلاف جمهور المسلمين ، فإنَّهم قد سُدّ عندهم هذا الباب ، وأُقفل على ذوي الألباب ، وما أدري في أي زمان ، وبأي دليل ، وبأي نحو كان ذلك الانسداد ، ولم أجد من وفى هذا الموضوع حقه من علماء القوم ، وتلك أسئلة لا أعرف من جواباتها شيئاً ، والعهدة في إيضاحها عليهم.
وما عدا تلك الأُمور فالإمامية وسائر المسلمين فيها سواء ، لا يختلفون
__________________
(١) اُنظر : الكافي ١ : كتاب فضل العلم ، باب البدع والرأي والمقائس.
(٢) تقدم مِنّا الحديث عن ذلك ، فراجع.
إلّا في الفروع ، كاختلاف علماء الإمامية أوعلماء السنَّة فيما بينهم من حيث الفهم والاستنباط.
والمراد بالمجتهد : من زاول الأَدلة ومارسها ، واستفرغ وسعه فيها حتى حصلت له مَلَكَةٌ وقوة يقدر بها على استنباط الحكم الشرعي من تلك الأَدلة.
وهذا أيضاً لا يكفي في جواز تقليده ، بل هنا شروط اُخرى ، أهمها العدالة ، وهي : مَلَكَةٌ يستطيع معها المرء الكف عن المعاصي ، والقيام بالواجب ، كما يستطيع من له مَلَكَة الشجاعة اقتحام الحرب بسهولة ، بخلاف الجبان.
وقصاراها : إنَّها حالة من خوف الله ومراقبته تلازم الانسان في جميع أحواله ، وهي ذات مراتب ، أعلاها العصمة التي هي شرط في الامام.
ثم أنَّه لا تقليد ولا اجتهاد في الضروريات ، كوجوب الصَّلاة والصَّوم وأمثالها ، مما هو مقطوع به لكل مُكلَّف ، ومنكره منكر لضروري من ضروريات الدِّين.
كما لا تقليد في اُصول العقائد : كالتوحيد ، والنبوّة ، والمعاد ، ونحوها ممّا يلزم تحصيل العلم به من الدليل على كلُّ مكلَّف ولو إجمالاً ، فإنَّها تكاليف علمية ، وواجبات اعتقادية ، لا يكفي الظن والاعتماد فيها على رأي الغير ( فاعلم أنَّه لا إله إلّا هو ).
وما عداها من الفروع فهو موضع الاجتهاد والتقليد.
وأعمال المكلَّفين ـ التي هي موضوع لأَحكام الشرع ، يلزم معرفتها اجتهاداً أو تقليداً ، وبُعاقب من ترك تعلّمها بأحد الطريقين ـ لا تخلو إمّا أن يكون القصد منها المعاملة بين العبد وربِّه ، فهي العبادات الموقوف صحتها على قصد التقرُّب بها إلى الله ، [ وهي أمّا ] بدنية : كالصَّوم ، والصَّلاة ، والحج. أو مالية : كالخمس ، والزَّكاة ، والكفّارات.
أو المعاملة بينه وبين الناس ، وهي أمّا أن تتوقف على طرفين : كعقود المعاوضات والمناكحات ، أو تحصل من طرف واحد : كالطلاق والعتق ونحوهما.
أو المعاملة مع خاصة نفسه ، ومن حيث ذاته : كأكله ، وشربه ، ولباسه ، وأمثال ذلك.
والفقه يبحث عن أحكام جميع تلك الأعمال في أبواب أربعة :
[١] العبادات.
[٢] المعاملات.
[٣] الايقاعات.
[٤] الأحكام.
واُمَّهات العبادات ست :
اثنتان بدنية محضة ، وهما : الصَّلاة والصَّوم.
واثنتان مالية محضة وهما : الزَّكاة ، والخمس.
واثنتان مشتركة على المال والبدن وهما : الحج والجهاد ( جاهِدُوا بأموالِكُم وأنفسِكُم ) (١).
أما الكفّارات فعقوبات خاصَّة على جرائم مخصوصة.
__________________
(١) التوبة ٩ : ٤١.
الصلاة
هي عند الإمامية ـ بل عند عامة المسلمين ـ : عمود الدِّين ، والصِّلة بين العبد والربِّ ، ومعراج الوصول إليه.
فإذا ترك الصَّلاة فقد انقطعت الصلة والرابطة بينه وبين ربه ، ولذا ورد في أخبار أهل البيت عليهمالسلام : أنه ليس بين المسلم وبين الكفر بالله العظيم إلا ترك فريضة أو فريضتين (١).
وعلى أيٍّ : فإنَّ للصَّلاة ـ بحسب الشَّريعة الإسلامية ـ مقاماً من الأَهمية لا يوازيه شيء من العبادات ، وإجماع الإمامية على أنَّ تارك الصلاة فاسق لا حرمة له قد انقطعت من الإسلام عصمته ، وذهبت أمانته ، وحلَّت غيبته ، وأمرها عندهم مبني على الشِّدة جداً.
والواجب منها بحسب أصل الشَّرع خمسة أنواع : الفرائض اليومية ، صلاة الجمعة ، صلاة العيدين ، صلاة الآيات ، وصلاة الطواف. وقد يوجبها المكلّف على نفسه بسبب من نذر أو يمين أو استئجار ، وما عدا ذلك فنوافل.
وأهمّ النَّوافل عندنا : الرواتب ، يعني رواتب اليوم والليلة ، وهي ضعف الفرائض التي هي سبع عشرة ركعة ، فمجموع الفرائض والنَّوافل في اليوم والليلة عند الشِّيعة إحدى وخمسون.
وخطر على بالي هنا ذكر ظريفة أوردها الراغب الاصفهاني في كتاب ( المحاضرات ) وهو من الكتب القيمة الممتعة :
قال : كان بأصبهان رجل يُقال له الكناني ، في أيام أحمد بن
__________________
(١) راجع كتاب الوسائل للحر العاملي رحمه الله تعالى ، الجزء الرابع ، باب ثبوت الكفر والارتداد بترك الصلاة الواجبة جحوداً لها واستخفافاً.
عبدالعزيز ، وكان يتعلَّم أحمد منه الإمامة ، فاتفق أن تطَّلعت عليه اُمُّ أحمد يوماً فقالت : يا فاعل ، جعلت ابني رافضياً.
فقال الكناني : يا ضعيفة العقل! الرافضة تُصلِّي كلُّ يوم إحدى وخمسين ركعة ، وابنك لا يصلي في كلُّ أحد وخمسين يوماً ركعة واحدة ، فأين هو من الرافضة (١)؟!
ويليها في الفضل أو الأَهمية : نوافل شهر رمضان ، وهي ألف ركعة زيادة عن النَّوافل اليومية ، وهي كما عند إخواننا من أهل السنَّة ، سوى أنَّ الشِّيعة لا يرون مشروعية الجماعة فيها ( إذ لا جماعة إلّا في فرض ) والسنَّة يصلونها جماعة ، وهي المعروفة عندهم بالتراويح.
وباقي الفرائض : كالجمعة ، والعيدين ، والآيات ، وغيرها ، كبقية النَّوافل قد استوفت كتب الإمامية بيانها على غاية البسط ، وتزيد المؤلَّفات فيها على عشرات الالوف. ولها أوراد وأدعية وآداب وأذكار مخصوصة قد أفردت بالتأليف ، ولا يأتي عليها الحصر والعد.
ولكن تتحصَّل ماهية الصَّلاة الصحيحة عندنا شرعاً من أُمور ثلاثة :
الأوَّل : الشروط : وهي أوصاف تقارنها ، واعتبارات تُنتزع من أمور خارجة عنها ، وأركان الشروط التي تبطل بدونها مطلقاً ستة : الطهارة ، الوقت ، القبلة ، الساتر ، النية.
أمّا المكان فليس من الأَركان وإن كان ضرورياً ، ويشترط إباحته وطهارة موضع السجود.
الثاني : أجزاؤها الوجودية التي تتركب الصلاة منها : وهي نوعان :
ركن تبطل بدونه مطلقاً ، وهو أربعة : تكبيرة الإِحرام ، والقيام ،
__________________
(١) محاضرات الاُدباء ٤ : ٤٤٨ ـ ٤٤٩.