أصل الشيعة وأصولها

الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء

أصل الشيعة وأصولها

المؤلف:

الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء


المحقق: علاء آل جعفر
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام علي عليه السلام ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-50-7
الصفحات: ٤٤٢

اليوم.

فَمِنْ هذا وأضعاف أمثاله استمكن البغض له والكراهة في قلوب المسلمين ، وعرفوا أنَّه رجل دنيا لا علاقة له بالدِّين ، وما أصدق ما قال عن نفسه فيما حدَّثنا الزمخشري في ( ربيعه ) قال : قال معاوية : أمَّا أبو بكر فقد سلم من الدنيا وسلمتْ منه ، وأمَّا عمر فقد عالجها وعالجته ، وأمَّا عثمان فقد نال منها ونالت منه ، وأمَّا أنا فقد تضجعتُها ظهراً لبطن ، وانقطعتُ إليها وانقطعتْ إليَّ (١).

ومن ذلك اليوم ـ أعني يوم خلافة معاوية ويزيد ـ انفصلت السُّلطة المدنية عن الدينية ، وكانت مجتمعة في الخلفاء الأولين ، فكان الخليفة يقبض على احداهما باليمين وعلى الأًخرى بالشمال ، ولكن من عهد معاوية عرفوا أنَّه ليس من الدِّين على شيء ، وأنَّ الدِّين له أئمة ومراجع هم أهله وأحقّ به ، ولم يجدوا مَنْ توفَّرت فيه شروط الإمامة ـ من : العلم ، والزهد ، والشجاعة ، وشرف الحسب والنسب ـ غير علي عليه‌السلام ووِلْدِهِ.

ضُمَّ إلى ذلك ما يرويه الصحابة للناس من كلمات النبي في حقِّهم ، والايعاز إلى أحقيتهم ، فلم يزل التشيُّعٍ لعلي عليه‌السلام وأولاده ـ بهذا وأمثاله ـ ينمو ويسري في جميع الأُمَّة الاسلامية سريان البُرء في جسد العليل ، خفياً وظاهراً ، ومستوراً وبارزاً.

ثم تلاه شهادة الحسين عليه‌السلام ، وما جرى عليه يوم الطف ، ممَّا أوجب أنكسار القلوب والجروح الدامية له في النفوس ، وهو ابن رسول اللهّ وريحانته ، وبقايا الصحابة : كزيد بن أرقم ، وجابر بن عبدالله الأنصاري ، وسهل بن سعد الساعدي ، وأنس بن مالك ، الَّذين شاهدوا حفاوة رسول الله

__________________

(١) ربيع الابرار ١ : ٩٠.

٢٠١

صلى‌الله‌عليه‌وآله به وبأخيه ، وكيف كان يحملهما ويقول : « نِعْمَ المطية مطيتكما ، ونِعْمَ الراكبان أنتما. وأنَّهما سيِّدا شباب أهل الجنَة (١) ، وكثير من أمثال ذلك ، لم يزالوا بين ظهراني الأُمَّة يبثون تلك الأحاديث ، وينشرون تلك الفضائل ، وبنو اُميَّة يَلِغُون في دمائهم ، ويتعقبونهم قتلاً وسماً وأسراً.

كلُّ ذلك كان بطبيعة الحال ممَّا يزيد التشيع شيوعاً وانتشاراً ، ويجعل لعلي عليه‌السلام وأولاده المكانة العظمى في النفوس. وغرس المحبة في القلوب ، والمظلومية ـ كما يعلم كلُّ أحد ـ لها أعظم المدخلية.

فكان بنو اُميَّة كلّما ظلموا واستبدوا ، واستأثروا وتقاتلوا على المُلك كان ذلك كخدمة منهم لأهل البيت عليهم‌السلام وترويجاً لأمرهم ، وعطفاً للقلوب عليهم ، وكلّما شدَّدوا بالضغط على شيعتهم ومواليهم ، وأعلنوا على منابرهم سبَّ علي عليه‌السلام وكتمان فضائله ، وتحويرها إلى مثالب ، انعكس الأمر وصار ( ردّ فعل ) عليهم.

أما سمعتَ ما يقول الشّعبي لِوَلَدِهِ : يا بُني ، ما بنى الدِّين شيئاً فهدمته الدنيا ، وما بنت الدنيا شيئاً إلاّ وهدمه الدِّين ، اُنظر الى علي [ عليه‌السلام ] وأولاده ، فانَّ بني أُميَّة لم يزالوا يجهدون في كتم فضائلهم ، وإخفاء أمرهم ، وكأنَّما يأخذون بضبعهم إلى السَّماء. وما زالوا يبذلون مساعيهم في نشر فضائل أسلافهم ، وكأنَّما ينشرون منهم جيفة.

هذا مع أنَّ الشّعبي كان ممَّن يُتهم ببغض علي عليه‌السلام (٢).

__________________

(١) تراجع كتب الفضائل المختلفة ، فقد استفاضت بايراد الكثير من الروايات الصحيحة الدالة على عظيم منزلة الحسنين عليهما‌السلام.

(٢) راجع كتاب البيان في تفسير القرآن للسيد ابي القاسم الخوئي رحمه الله : ٥٠٠ ، فقد أورد فيه مبحثاً شافياً حول هذا الموضوع ، موثِّقاً بالادلة الواضحة والصريحة.

٢٠٢

ولكنَّ الزمخشري يحدّثنا عنه في ( ربيعه ) : أنَّه كان يقول : ما لقينا من علي [ عليه‌السلام ] إنْ أحببناه قُتِلْنا وإنْ أبغضناه هَلَكْنا (١).

إلى أن تصرَّمت الدولة السفيانية وخلفتها الدولة المروانية (٢) ، وعلى رأسها عبدالملك ، وما أدراك ما عبدالملك ، نصب الحجّاج المجانيق على الكعبة بأمره حتى هدمها وأحرقها ، ثم قتل أهاليها ، وذبح عبدالله بن الزبير في المسجد الحرام بين الكعبة والمقام ، وانتهك حرمة الحرم الذي كانت الجاهلية تعظَّمه ولا تستبيح دماء الوحش فيه فضلاً عن البشر ، وأعطى عهد الله وميثاقه لابن عمِّه عمرو بن سعيد الأشدق ثم قتله غدراً وغيلة حتى قال فيه عبدالرحمن بن الحكم من أبيات :

غَدرتُم بعمرو يابني خيط باطِلٍ

وَمثلكُمْ يبني العُهودَ على الغَدرِ (٣)

__________________

(١) ربيع الابرار ١ : ٤٩٤.

(٢) ينقسم الامويون إلى بطنين كبيرين ، هما : العنابسة ، والاعياص. فالعنابسة يعودون بنسبهم إلى عنبسة عم أبي سفيان بن حرب ، ومنه كلُّ سرت تسميته عليهم ، فأُسموا بالسفيانيين.

وأمّا الاعياص فيعودون بنسبهم إلى رجل يُقال له : العيص ، أو العويص ، أو العاص ، أو أبا العاص ، والذي من أبنائه الحكم ، طريد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، هو وابنه مروان سيء الذكر.

فالسفيانيون كانوا هم الذين امتطوا اول ألامر ناصية الدولة الاسلامية في عهد معاوية بن أبي سفيان عام ( ٤١ هـ ) وحيث امتدت دولتهم حتى نهاية حكم معاوية الثاني وتسلُّم مراون ابن الحكم زمام الامور عام ( ٦٤ هـ ) ليُقيم بعد ذلك ما أُسمي بالدولة المروانية ، خلفاً للسفيانيين ، فشابه الخلف السلف.

(٣) روت المصادر التأريخية : أنَّه بعد أنْ خالف عمرو بن سعيد عبدالملك وغلبه على دمشق في سنة تسع وستين هجرية ، حصل بين الاثنين قتال استمر أياماً ، ثم عقدا بينهما صلحاً ، وكتبا بذلك كتاباً ، وآمن عبدالملك عمرواً وأعطاه على ذلك العهود ، إلاّ أنَّ عبدالملك لم يلبث أنْ نقض عهده ، وضرب عرض الحائط بوعوده ، وخان ـ وليست الخيانة الاّ خصلة متواضعة من خصالهم ـ بعمرو ، حيث أرسل اليه بعد اربعة أيام من دخوله دمشق مستضيفاً إياه ، ومرحبأ به اشد الترحيب ، فوثق به عمرو ، واطمأن اليه ، إلاّ أن عبدالملك لم ان يلبث

٢٠٣

فهل هذه الأعمال تسِّيغ أن يكون صاحبها مسلماً ، فضلاً عن أن يكون خليفة المسلمين ، وأمير المؤمنين؟!

ثم سارت المروانية كلّها على هذه السيرة ، وما هو أشقّ وأشقى منها ، عدا ما كان من العبد الصّالح عمر بن عبدالعزيز.

ثم خلفتها الدولة العبّاسية ، فزادت ـ كما يُقال ـ في الطنبور نغمات ، حتى قال أحد مخضرمي الدولتين :

يا لَيتَ جَور بَني مَروانَ دامَ لنا

وَلَيتَ عَدل بني العَبّاسِ في النّار

وتتبعوالذراري العلوية من بني عمِّهم ، فقتلوهم تحت كلُّ حجر ومدر ، وخرَّبوا ديارهم ، وهدموا اثارهم ، حتى قال الشُّعراء في عصر المتوكل :

تَاللهِ ان كانت اُميَّةُ قَد أتت

قَتَل ابنَ بنت نبيّها مَظلُوما

فلَقَد أتَتهُ بَنُو أبيهِ بمثلِهِ

هذا لَعمرُكَ قَبرهُ مَهدوما

أسفوا على أن لايَكونُوا شارَ

كُوا في قَتلِه فَتَتَبعُوهُ رَميما (١)

ضع في قبال ذلك سيرة بني علي عليه‌السلام وانسبها الى سيرة المروانيين والعبّاسيينَ ، هناك تنجلي لك الحقيقة في أسباب انتشار التشيُّع ،

__________________

أن قتله قتلة بشعة ، بعد أن احتال عليه بحيل ماكرة.

انظر : تاريخ الطبري ٦ : ١٤٠ ، الكامل في التاريخ ٤ : ٢٩٧ ، مروج الذهب ٣ : ٣٠٤ ، العقد الفريد ١٥٥ : ٥.

(١) ذكر السيوطي في تاريخ الخلفاء ( صفحة ٢٧٧ ) وغيره : أن في سنة ست وثلاثين هجرية أمر المتوكِّل لعنه الله تعالى بهدم قبر الامام الحسين عليه‌السلام ، وهدم ما حوله من الدور ، وأن يعمل مزارع. ومنع الناس من زيارته ، وخرب وبقي صحراء.

وكان المتوكِّل معروفاً بالتعصُّب ، فتألمَّ المسلمون من ذلك ، وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد ، وهجاه الشعراء ، فممَّا قيل في ذلك ... وأورد الابيات المذكورة.

٢٠٤

وتعرف سخافة المهوّسين أنَّها نزعة فارسية أو سبائية أو غير ذلك ، هناك تعرف أنَّها اسلامية محمَّدية لا غير.

انظر في تلك العصور الى بني علي عليه‌السلام وفي أي شأن كانوا ، انظرهم وعلى رأسهم الامام زين العابدين عليه‌السلام ، فأنَّه بعد شهادة أبيه انقطع عن الدنيا وأهلها ، وتخلّص للعبادة ، وتربية الأخلاق ، وتهذيب النفس ، والزهد في حطام الدنيا ، وهو الذي فتح هذا الطريق لجماعة من التابعين : كالحسن البصري ، وطاووس اليماني ، وابن سيرين ، وعمرو بن عبيد ، ونظائرهم من الزهاد والعرفاء ، بعد أن أوشك الناس ان تزول معرفة الحق من قلوبهم ، ولا يبقى لذكر الله أثراً إلا بأفواههم ، ثم انتهى الامر الى ولده محمَّد الباقر عليه‌السلام وحفيده جعفر الصادق عليه‌السلام. فشادوا ذلك البناء.

وجاءت الفترة بين دولتي بني اُمية وبني العبّاس ، فاتسع المجال للصّادق عليه‌السلام ، وارتفع كابوس الظلم وحجاب التقية ، فتوسَّع في بثِّ الأحكام الإلهية ، ونشر الأحاديث النبوية التي استقاها من عين صافية من أبيه ، عن جده ، عن أمير المؤمنين ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وظهرت الشيعة ذلك العصر ظهوراً لم يسبق له نظير فيما غبر من أيام آبائه ، وتولَّعوا في تحمُّل الحديث عنه ، وبلغوا من الكثرة ما يفوت حد الاحصاء ، حتى أنَّ أبا الحسن الوشّاء قال لبعض أهل الكوفة : أدركت في هذا الجامع ـ يعني مسجد الكوفة ـ أربعة الاف شيخ من أهل الورع والِّدين كلُّ يقول : حدثني جعفر بن محمد (١).

ولا نطيل بذكر الشواهد على هذا فنخرج عن الغرض ؛ مع أنَّ الأمر

__________________

(١) راجع رجال النجاشي : ٤٠|٨٠.

٢٠٥

أجلى من ضاحية الصيف.

ولا يرتاب متدبِّر أن اشتغال بني امية وبني العبّاس في تقوية سلطانهم ، ومحاربة أضدادهم ، وانهماكهم في نعيم الدنيا ، وتجاهرهم بالملاهي والمطربات ، وانقطاع بني علي عليه‌السلام إلى العلم والعبادة ، والورع والتجافي عن الدنيا وشهواتها ، وعدم تدخلهم في شأن من شؤون السِّياسة ـ وهل السِّياسة إلا الكذب والمكر والخداع ـ كلُّ ذلك هو الذي أوجب انتشار مذهب التشيُّع ، وإقبال الجم الغفير عليه.

ومن الواضح الضروري أنَّ الناس وإن تمكن حب الدنيا والطموح الى المال في نفوسهم ، وتملك على أهوائهم ، ولكن مع ذلك فإنَّ للعلم والدين في نفوسهم المكان المكين ، والمنزلة السّامية ، لا سيما وعهد النبوة شريب ، وصدر الاسلام رحيب لا يمنع عن طلب الدنيا من طرقها المشروعة ، لا سيما وهم يجدون عياناً أنَّ دين الاسلام هو الذي درَّ عليهم بضروع الخيرات ، وصبَّ عليهم شآبيب البركات ، وأذلَّ لهم ملك الأكاسرة والقياصرة ، ووضع في أيديهم مفاتيح خزائن الشرق والغرب ، وبعض هذا فضلاً عن كله لم تكن العرب لتحلم به في المنام ، فضلاً عن أن تأتي بتحقيقه الأيام ، وكلُّ هذا ممّا يبعث لهم أشد الرغبات في الدين ، وتعلُّم أحكامه ، والسير ولو في الجملة على مناهجه ، ولو في النظام الاجتماعي ، وتدبير العائلة ، وطهارة الأنساب ، وأمثال ذلك ، لا جرم أنَّهم يطلبون تلك الشرائع والأحكام أشد الطلب ، ولكم لم يجدوها عند اولئك المتخلّفين ، والمتسمي كلُّ واحد منهم بأمير المؤمنين وخليفة المسلمين!!.

نعم وجدوا أكمله وأصحه وأوفاه عند أهل بيته ، فدنوا لهم ، واعتقدوا بإمامتهم ، وأنَّهم خلفاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حقاً ، وسدنة شريعته ، ومبلِّغو أحكامه الى امته. وكانت هذه العقيدة الإيمانية ، والعاطفة الإلهية ،

٢٠٦

كشعلة نار في نفوس بعض الشِّيعة ، تدفعهم الى ركوب الأخطار ، وإلقاء أنفسهم على المشانق ، وتقديم أعناقهم أضاحي للحقِّ ، وقرابين للدِّين.

اعطف بنظرك في هذا المقام إلى حجر بن عدي الكندي ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ، ورشيد الهجري ، وميثم التّمار ، وعبدالله بن عفيف الازدي ، إلى عشرات المئات من أمثالهم ، اُنظر كيف نطحوا صخرة الضلال والجور وما كسرت رؤوسهم حتى كسروها وفضخوها ، وأعلنوا للملأ بمخازيها ، فهل تلك الإقدامات والتضحية من اولئك الليوث كانت لطمع مال ، أو جاه عند أهل البيت عليهم‌السلام ، أو خوفاً منهم وهم يومئذ الخائفون المشرَّدون؟! كلا ، بل عقيدة حقّ ، وغريزة إيمان ، وصخرة يقين.

ثم اُنظر إلى فطاحل الشُّعراء في القرن الأول والثاني ، مع شدة أطماعهم عند ملوك زمانهم ، وخوفهم منهم ، ومع ذلك كلّه لم يمنعهم عظيم الطمع والخوف ـ والشاعر ماديٌّ على الغالب ، والسلطة مِن خلفهم ، والسيوف مشهورة على رؤوسهم ـ أن جهروا بالحقِّ ونصروه ، وجاهدوا الباطل وفضحوه.

خُذ من الفرزدق ، إلى الكُميت ، الى السيِّد الحميري ، إلى دعبل ، إلى ديك الجنِّ ، الى أبي تمّام ، إلى البُحتري ، إلى الأمير أبي فراس الحمداني صاحب الشافية :

الدِّينُ مختُرمٌ والحَقُّ مُهتَضَمُ

وَفَيءُ آل رسُولِ اللهِ مُقتَسَمُ

إلى آخر القصيدة ، راجعها واُنظر ما يقول فيها (١).

__________________

(١) تعد هذه القصيدة من روائع هذا الشاعر المبدع المتوفى سنة (٣٥٧ هـ) ، ومنها :

الحَقّ مهتضمِ والدِّينُ مُختَرمُ

وَفَيء رَسولِ اللهِ مُقتَسَمُ

وَالناسُ عندك لاناسٌ فيَحفظَهُم

سَومُ الرُّعاة ولاشاءٌ ولا نعِمُ

٢٠٧

بل لكلّ واحد من نوابغ شعراء تلك العصور القصائد الرنّانة ، والمقاطيع العبقرية في مدح أئمَّة الحقِّ ، والتشنيع على ملوك زمانهم بالظلم والجور ، وإظهار الولاء لاولئك والبراءة من هؤلاء.

فلقد كان دعبل يقول : إني أحمل خشبتي على ظهري منذ أربعين سنة ، فلم أجد من يصلبني عليها. وكان قد هجا الرشيد والأمين والمأمون والمعتصم ، ومدح الصادق والكاظم والرضا ، وأشعاره بذلك مشهورة ، وفي كتب الأدب والتاريخ مسطورة (١).

هذا كله في أيام قوة بني اُميَّة وبني العباس ، وشدة بأسهم وسطوتهم ، فانظر ماذا يصنع الحقُّ واليقين بنفوس المسلمين ، واعرف هنالك حقَّ الشجاعة والبسالة ، والمفاداة والتضحية ، وهذا بحث طويل الذيل ينصب ـ لو أردنا استيفاءه ـ انصباب السيل ، وليس هو المقصود الان بالبيان ، وإنَّما المقصود بيان مبدأ [ شجرة ] التشيع وغارسها في حديقة الإسلام ، وشرح أسباب نشوئها ونموِّها ، وسموِّها وعلوِّها. وما تكلّمتُ عن عاطفة ، بل كباحث

__________________

إنِّي أبيتُ قَليلُ النَّوم أرَّقَنِي

قَلبٌ تَصارعَ فيهِ الهَمَّ والهِمَم

يا لِلرجالِ أما لله مُنتَصِرٌ

مِن الطُّغاةِ؟ أما لله منتقم؟

بَنُو عليٍ رعايا في ديارِهمُ

والامرَ تَملكُهُ النسوانُ والخَدمُ

محلَّئونَ فاصفى شربَهُمُ وَشَل

عندَ الورُود وَأوفى ودَهُم لممُ

أتَفخَرون عليهم لا أباً لكُم

حتَّى كأنَّ رسولُ اللهِ جَدَّكُم!

ولا تَوازنَ فيما بينكم شَرَفٌ

ولا تَساوَت لكم في موطِن قَدَمُ

بِئسَ الجَزاءُ جَزَيتُم في بَني حَسَن

أباهُم العَلَمُ الهادي وأُمَّهُم

يا باعَةَ الخَمر كُفُّوا عن مَفاخِرِكُم

لِمَعشَر بَيعهُم يَومَ الهِياج دَمُ

الركنُ وَالبيتُ والاستارُ مَنزلَهُم

وَزَمزَمُ والصَّفا والحجِرُ والحَرَمُ

(١) راجع ترجمتنا له في التراجم الملحقة بالكتاب.

٢٠٨

عن حقيقة ، يمشي على ضوء أمور راهنة ، وعلل وأسباب معلومة ، وأحسبني بتوفيقه تعالى قد أصحرت بذلك وأعطيته من البحث حقَّه ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.

ثم لا يذهبنَّ عنك أنَّه ليس معنى هذا أنا نريد أن ننكر ما لاولئك الخلفاء من الحسنات ، وبعض الخدمات للاسلام ، التي لا يجحدها إلا مكابر ، ولسنا بحمد الله من المكابرين ، ولا سبّابين ولا شتّامين ، بل ممَّن يشكر الحسنة ويغضي عن السيئة ، ونقول : تلك أُمَّة قد خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ، وحسابهم على الله ، فإن عفا فبفضله ، وإن عاقب فبعدله ، وما كنَّا نسمح لصل القلم أن ينفث بتلك النفثات لولا أن بعض كتاب العصر بتحاملهم الشنيع على الشيعة أحرجونا فاحوجونا الى بثها ( نفثة مصدور ) وما كان صميم الغرض إلّا الدلالة على غارس بذرة التشيُّع ، وقد عرفت أنَّه هو النبي الأمين ، وأن أسباب شيوعها وانتشارها سلسلة أمور مرتبطة بعضها ببعض ، وهي علل ضرورية تقتضي ذلك الأثر بطبيعة الحال.

ولنكتف بهذا القدر من « المقصد الأول » ونستأنف الكلام في :

٢٠٩

( المقصد الثاني )

وهو بيان عقائد الشيعة ( اصولاً وفروعاً ) ونحن نورد اُمَّهات القضايا ، ورؤوس المسائل ، على الشرط الذي أشرنا إليه آنفاً من الاقتصار على المجتمع عليه ، الذي يصح أن يقال : أنه مذهب الشِّيعة ، دون ما هو رأي الفرد والأفراد منهم.

فنقول : إنَّ الَّدين ينحصر في قضايا خمس :

١ ـ معرفة الخالق.

٢ ـ معرفة المبلِّغ.

٣ ـ معرفة ما تَعَبَّد به ، والعمل به.

٤ ـ الأخذ بالفضيلة ورفض الرذيلة.

٥ ـ الاعتقاد بالمعاد والدينونة.

فالدين علمٌ وعملٌ ( وأنَّ الدِّينَ عند الله الإسلامَ ) (١) والإسلام والإيمان مترادفان ، ويُطلقان على معنى أعم يعتمد على ثلاثة أركان :

التوحيد ، والنبوّة ، والمعاد ..

فلو أنكر الرجل واحدا منها فليس بمسلم ولا مؤمن ، وإذا دان بتوحيد الله ، ونبوّة سيِّد الانبياء محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واعتقد بيوم الجزاء ـ من آمن بالله ورسوله واليوم الآخر ـ فهو مسلم حقاً ، له ما للمسلمين وعليه ما عليهم ، دمه وماله وعرضه حرام.

ويطلقان أيضاً على معنى أخص يعتمد على تلك الأركان الثلاثة وركن رابع وهو العمل بالدعائم التي بني الإسلام عليها وهي خمس :

__________________

(١) آل عمران ٣ : ٥٢.

٢١٠

الصلاة ، والصوم ، والزكاة ، والحج ، والجهاد.

وبالنظر إلى هذا قالوا : الإيمان إعتقاد بالجنان ، وإقرار باللسان ، وعمل بالإركان (١) ، ( من آمن بالله ورسوله وعمل صالحا ).

فكل مورد في القرآن اقتصر على ذكر الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر ، يراد به الإسلام والإيمان بالمعنى الأول ، وكل مورد اضيف إليه ذكر العمل الصالح يراد به المعنى الثاني.

والأصل في هذا التقسيم قوله تعالى : ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) (٢).

وزاده تعالى إيضاحاً بقوله بعدها : ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا باموالهم وأنفسهم في سبيل الله اولئك هم الصادقون ) (٣) يعني : أن الايمان قول ويقين وعمل.

فهذه الأركان الأربعة هي اصول الإسلام والإيمان بالمعنى الأخص عند جمهور المسلمين.

ولكن الشيعة الإمامية زادوا ( ركناً خامساً ) وهو : الإعتقاد بالإمامة. يعني أن يعتقد : أن الإمامة منصب إلهي كالنبوة ، فكما أن الله سبحانه يختار من يشاء من عباده للنبوة والرسالة ، ويؤيده بالمعجزة التي هي كنص من الله عليه ( وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة ) (٤) فكذلك يختار

__________________

(١) انظر : نهج البلاغة ٣ : ٢٠٣|٢٢٧ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٢٦| ١ و ٢ ، أمالي الشجري ١ : ٢٤ ، جامع الأخبار : ١٠٣|١٧٢ ، سنن ابن ماجة ١ : ٢٥| ٦٥١ ، الفردوس بمأثور الخطاب ١ : ١١٠|٣٧١.

(٢) الحجرات ٤٩ : ١٤.

(٣) الحجرات ٤٩ : ١٥.

(٤) القصص ٢٨ : ٦٨.

٢١١

للإمامة مَن يشاء ، ويأمر نبيِّه بالنص عليه ، وأن ينصبه إماماً للنّاس من بعده للقيام بالوضائف التي كان على النبي أن يقوم بها ، سوى أنَّ الإمام لا يُوحى إليه كالنبي وإنَّما يتلقى الأحكام منه مع تسديد إلهي. فالنبي مبلِّغ عن الله والإمام مبلِّغ عن النبي.

والإمامة متسلسلة في اثني عشر ، كلُّ سابق ينصُّ على اللاحق.

ويشترطون أن يكون معصوماً كالنبي عن الخطأ والخطيئة ، والإ لزالت الثقة به ، وكريمة قوله تعالى : ( إني جاعِلُكَ لِلنّاسِ إماماً قال ومن ذُريَّتي قالَ لا يَنالُ عَهديَ الظالمين ) (١) (٢) صريحة في لزوم العصمة في الإمام لمن تدَّبرها جيداً.

وأن يكون أفضل أهل زمانه في كلُّ فضيلة ، وأعلمهم بكلِّ عِلمٍ ، لأنِّ الغرض منه تكميل البشر ، وتزكية النفوس وتهذيبها بالعلم والعمل الصالح

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٢٤.

(٢) قال شيخنا الطوسي رحمه الله تعالى في كتابه الموسوم بالتبيان في تفسير القرآن ( ١ : ٤٤٩ ) تعليقاً على هذه الآية الكريمة : استدل أصحابنا بهذه الآية على أنِّ الامام لايكون إلّا معصوماً من القبائح ، لان الله تعالى نفى أن ينال عهده ـ الذي هو الإمامة ـ ظالمٌ ، ومن ليس بمعصوم فهو ظالم ، إمّا لنفسه ، أو لغيره.

فإن قيل : إنما نفى أن يناله ظالم في حال كونه كذلك ، فأمّا إذا تاب وأناب فلا يسمى ظالما ، فلا يمتنع أن ينال.

قلنا : إذا تاب لا يخرج من أن تكون الآية تناولته ـ في حال كونه ظالماً ـ فإذا نفى أن يناله فقد حكم عليه بأنه لا ينالها ، ولم يفد أنَّه لا ينالها في هذه الحال دون غيرها ، فيجب أن تُحمل الآية على عموم الاوقات في ذلك ، ولا ينالها وإن تاب فيما بعد.

واستدلوا بها ايضاً على أنَّ منزلة الامامة منفصلة عن النبوة ، لأنَّ الله تعالى خاطب ابراهيم عليه‌السلام وهو نبي ، فقال له : انَّه سيجعله إماماً جزاء له على اتمامه ما ابتلاه الله به من الكلمات ، ولو كان إماماً في الحال لما كان للكلام معنى. فدل ذلك على أنَّ الامامة منفصلة من النبوة ، وانَّما اراد الله تبارك وتعالى ان يجعلها لإبراهيم عليه‌السلام ....

٢١٢

( هُوَ الَّذي بعث في الاُمييِّنَ رَسُولاً مِنهُم يَتلُوا عَلَيهِم آياتِهِ ويُزَكِّيهِم وَيُعَلِّمَهُمُ الكِتابَ والحِكمَةَ ) (١) والناقص لا يكون مكمِّلاً ، والفاقد لا يكون مُعطياً.

فالإمام في الكمالات دون النبي وفوق البشر.

فمن اعتقد بالإمامة بالمعنى الذي ذكرناه فهو عندهم مؤمن بالمعنى الأَخص ، وإذا اقتصر على تلك الأَركان الأَربعة فهو مسلم ومؤمن بالمعنى الأَعم ، تترتَّب عليه جميع أحكام الإسلام ، من حرمة دمِّه ، وماله ، وعرضه ، ووجوب حفظه ، وحرمة غيبته ، وغير ذلك ، لا أنه بعدم الإعتقاد بالإمامة يخرج عن كونه مسلماً ( معاذ الله ).

نعم يظهر أثر التديُّن بالإمامة في منازل القرب والكرامة يوم القيامة ، أمّا في الدنيا فالمسلمون بأجمعهم سواء ، وبعضهم لبعض أكفّاء ، وأمّا في الآخرة فلاشك أن تتفاوت درجاتهم ومنازلهم حسب نياتهم وأعمالهم ، وأمر ذلك وعلمه إلى الله سبحانه ، ولا مساغ للبت به لأَحد من الخلق.

والغرض : إنَّ أهم ما امتازت به الشِّيعة عن سائر فرق المسلمين هو : القول بإمامة الأَئمة الأثنَي عشر ، وبه سُمِيّت هذه الطائفة ( إمامية ) إذ ليس كلُّ الشِّيعة تقول بذلك ، كيف واسم الشِّيعة يجري على الزيدية (٢) ،

__________________

(١) الجمعة ٦٢ : ٢.

(٢) نشأت هذه الفرقة ابان الظروف القاسية التي أحاطت بالشِّيعة في العراق أثناء حكم الامويين المعروف بعدائه الشديد ، وبغضه المشهور للشِّيعة وأئمتهم عليهم‌السلام ، وكردة فعل للاحوال المزرية المحيطة بهم.

فقد كان العراق آنذاك تحت ولاية يوسف بن عمر الثقفي الجندي المطيع ، والكلب الوفي ، والعميل المخلص المتفاني في تحقيق أهداف الامويين ، بل ويدهم الضاربة التي لا تتردد في البطش بكلِّ من يفكر في الاعتراض على سياستهم الخرقاء الفاسدة ، وظلمهم الذي لا يقف عند أي حد.

ومن الثابت أنَّ هذا الرجل كان من أشد المبغضين للشِّيعة حتى قبل تسنمه لمنصب ولاية

٢١٣

...................................................

__________________

العراق ، لأنه عمل جهده قبل ذلك على اقصاء خالد القسري عن هذه الولاية لانتهاجه سياسة الرفق واللين مع عموم الناس في العراق ، وحيث يمثل الشِّيعة الاكثرية منهم ، فالقى في روع الامويين ما يمكن أن تشكّله سياسة خالد المتساهلة مع الشِّيعة من عوامل لعلَّها تؤدي إلى تقوية شوكتهم ، وتنامي قوتهم ، فعزلُ خالد ووليّ يوسف الثقفي محله ، فكان أوّل ما افتتح به ولايته أن شدد الخناق على الشِّيعة ، وضيّق عليهم ما استطاع الى ذلك سبيلا ، ونكل بهم ، وشرَّدهم ، وأعمل السيف في رقابهم ، فعاش الشِّيعة ظروفاً قاسية ومرة شملت الصغير منهم والكبير ، والنساء منهم والرجال ، فلم يسلم منهم أحد ، ولا سيما وجوههم وأعيانهم ، حيث كان الامر عليهم شديداً ، والبلاء حولهم مضيِّقاً ، ومنهم أخ الامام الباقر عليه‌السلام زيد بن علي رحمه الله تعالى برحمته الواسعة ، فناله ما نالهم ، وتعرَّض لمثل ما تعرَّضوا له من الظلم والتعدي ، بل ووشى به يوسف إلى أسياده ، فاستدُعي ( أي زيد ) إلى مقر الحكم الاموي في الشام ، وحيث كان انذاك هشام بن عبدالملك ، فتعمد توجيه الاهانات اللاذعة والجارحة لزيد رحمه الله تعالى ، فثار بوجهه ، ورد عليه حتى الجمه ولم يحر أمامه جواباً.

ثم خرج بعد ذلك زيد من الشام حانقاً على هشام ، ثائراً على سياسته ، وتوجه إلى الكوفة ، ثم أراد أن يقصد المدينة إلّا أنَّ أهل الكوفة استغاثوا به وطلبوا منه الخروج على الامويين ، واعطوه على مناصرته العهود والمواثيق ، وبايعه على ذلك أربعون ألفاً ـ وفي خبر : أنهم بلغوا ثمانين الفاً ـ فخرج بهم.

لقد كان زيد رحمه الله تعالى مشهوراً بالصلاح والورع والتقوى ، وكان صاحب فضل وعلم مشهود ، وكان أيضاً من أكثر الداعين إلى الرضا من آل محمَّد عليهم السلام ، ولم يدع الامامة لنفسه قطعاً ـ كما يدعي البعض ذلك ـ لادراكه قبل غيره موضع الحقِّ وأهله ، ولكن وبعد النهاية المفجعة لثورته العارمة تلك ، وبالتحديد بعد ما يُقارب من نصف قرن من الزمان وقع الخلاف من بعض الشِّيعة ـ والذي يعد من أوضح أسبابه شدة ضيقهم وبغضهم للامويين وسياستهم الظالمة الخرقاء ، وقساوتهم وشدة تنكليهم بالشِّيعة ـ حيث توهموا وادعوا بان الامامة لكل فاطمي دعا إلى نفسه وهو على ظاهر العدالة ، وكان من أهل العلم والشجاعة ، وكانت بيعته تجريد السيف للجهاد.

ومن هنا ونتيجة لرأي دعاة هذه الفرقة فانَّ الامامة بعد مقتل زيد قد انتقلت إلى ولده يحيى الذي خرج بعد ذلك على الامويين ايضاً ، وحاربهم حتى قتلوه بعد فترة في الجوزجان ، وهكذا.

٢١٤

والإسماعيلية (١) ،

__________________

ومن هنا فإنّ هذه الطائفة من الشِّيعة قد كوّنت لها آراء مستقلة وخاصة بها ، تختلف مع العقائد الشِّيعية الاساسية في العديد من الموارد المعروفة ، والتي توسَّعت مع الإيام نتيجة لانقساماتهم وتفرُّقهم ... وحيث يذهب المؤرِّخون الى أنهم انقسِّموا إلى ثلائة فرق : جارودية ، وسليمانية ، وبترية ، حين يضيف البعض الآخر اليهم فرقاً أكثر؟ وإن كان النوبختي يذهب الى أن فرق الزيدية تشعبت من الجارودية.

وأتباع هذه الفرقة ـ أو الفرق ـ يشكِّلون اولى الفرق الاسلامية من سكان اليمن في عصرنا الحاضر.

راجع : فرق الشِّيعة : ٢١ و ٥٥ ، أوائل المقالات : ٤٦ ، الفصول العشرة في الغيبة : ٢٧٣ ، الملل والنحل ١ : ١٥٤ ، الامام زيد : ٥ ، تأريخ المذاهب الاسلامية : ٤٤ ، الفرق بين الفرق : ٢.

(١) تفترق هذه الجماعة عن الشّيعة الإمامية بقولهم أن الإمامة بعد الامام جعفر بن محمَّد الصّادق عليه‌السلام تنتقل لولده الأكبر اسماعيل ، لذهابهم إلى القول بنصِّ الإمام عليه دون ولده ، ولذا فهم بين من يقول بوفاته الثابتة في حياة أبيه إلاّ أنه يُرجع الامامة إلى ولده وأوَّلهم محمَّد بن اسماعيل؟ وبين من يقول ببقائه حيا إلى ما بعد وفاة أبيه ، وأنَّ أباه عليه‌السلام أظهر موته خوفاً عليه من العبّاسيين.

وهكذا فانَّ هؤلاء ينقسمون إلى قسمين اثنين : القسم الاوّل منهم يقف على محمَّد بن اسماعيل ولا يتجاوزه إلى غيره ، والقسم الثاني يتعداه ويجعل الامامة في سبعة سبعة ، بين ظاهر ومستور ، أوّلهم محمّد بن اسماعيل ، ثم ولده جعفر المصدق ، ثم ولده محمد الحبيب ، وبعده عبدالله المهدي الذي ظهر في شمالي افريقيا والذي من ولدِه تكوّنت الدولة الفاطمية.

ومن ثم فانَّ هذه الجماعة وبمرور الزمن بدأت تأخذ لنفسها جملة مستقلة من الآراء والمعتقدات الخاصة به كنتيجة منطقية لتشعُّبهم وتفرُّقهم ، ولعل من أوضح ذلك قول جماعة منهم ـ وهم السبعية ـ بأنَّ الامامة تدور على سبعة سبعة ، كأيام الاسبوع والسموات والأرضين والافلاك ، وأنَّ السبعة الأُوَل أوَّلهم علي عليه السَّلام وآخرهم اسماعيل بن جعفر ، وهم يمثلون الدور الأول والذي يبتدأ الثاني منه بمحمَّد بن اسماعيل ومن يليه من الأئمة المستورين السائرين في البلاد سراً ، وأن الامام السابع ينسخ شرائع من تقدمه ... وهكذا.

اُنظر : فرق الشِّيعة : ٦٧ ، الفصول المختارة من العيون والمحاسن : ٣٠٨ ، الشِّيعة بين الاشاعرة والمعتزلة : ٧٨ ، تأريخ المذأهب الاسلامية : ٥٤ ، الملل والنحل ١ : ١٦٧.

٢١٥

والواقفية (١) ،

__________________

(١) تطلق هذه التسمية على الأفراد والجماعات المنحرفة من الذين وقفوا على إمام من أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ولم يذهبوا إلى القول بوجوب امتداد الامامة إلى مَن بعده من الأئمة كما هو ثابت ومنصوص عليه ، رغم أن هذه التسمية ، ولكثرة ما اشتهر من الذين وقفوا على الامام موسى بن جعفر الكاظم عليه‌السلام ، أخذت تنصرف إلى هذه الجماعة عند الاطلاق.

والحق يقال : أنَّ هذه الظاهرة المنحرفة كانت تشكَّل حالة مرضية لايمكن الاعراض عنها واهمالها لما تمثله من تفكير فاسد ومنحرف وضع لبناته جملة مشخصة من الجماعات لاغراض ومآرب واضحة ومعروفة ، ولذا فقد تصدى لابطال شبهات ودعاوى هذه الجماعات أئمة أهل البيت عليهم‌السلام وكبار رجالات الطائفة وأعيانها ، ودعوا الناس إلى نبذهم وادراك اغراضهم من هذا الطرح الباهت والباطل.

ولعل المرور المتعجل على الاسباب التي نشأت من خلالها هذه الاطروحة الساقطة يبيِّن بوضوح أنَّ أُولى تلك الاسباب كان الجشع والطمع والضعف قبال الثروات الهائلة التي أؤتمن عليها اؤلئك الرواد الأوائل لهذه الجماعات المنحرفة ، والتي كان ينبغي أن تخضع لوصاية الامام التالي للامام المتوفى ، والتي كانت أوضح صورها بعد استشهاد الامام موسى بن جعفر عليه‌السلام ، بعد غيبته التي امتدت لسنين طويلة في سجن الرشيد ، فكان وجود هذه الثروات الضخمة والطائلة بأيدي ذلك البعض ابان الظروف العسرة والشاقة التي احاطت بالشيعة ـ ولا سيما وامامهم مغيِّب في قعر السجون ، وهم دائماً تحت طائلة العقاب ، من سجن ونفي وتشريد وقتل ، بأيدي ازلام السلطة ، والعديد من عشاق المال والثروة ، وطلاب الجاة والشهرة ـ غنيمة باردة صوَّرتها لهم نفوسهم المريضة ، وأفكارهم المضطربة أمام بريق هذا المال ووهجه البراق ، فكان أن وقع ما هو ليس بمستغرب ، بل وكثير ما نشاهده ونسمعه في كلُّ زمان ومكان ، من انهيار البعض وسقوطه في هذا الامتحان الكبير ... فلم يجد اولئك المفتونين ـ بعد قدح زناد الفكرـ حيلة ـ كما صوَّرتها لهم أفكارهم الفاسدة ـ انسب من ادعاء عدم وفاة الامام الذي كان هو المصرِّف الاول لشؤون هذه الاُمّة ، ومن له الحق المطلق في كيفية أنفاق هذه الاموال ، والقول بأنّه حي يرزق ، وأنّه سيعود لتصريف هذه الشؤون ولو بعد حين. واذن فلا ولي لهذه الاموال في غيبة الامام ـ كنتيجة لقولهم هذا ـ إلّا هم ، وهم أسياد في التصرُّف بما لا رقيب عليه. فطبّلوا لدعواهم الباهتة هذه وزمّروا ، وتشبثوا بها تشبثاً مستميتاً.

وكان من نتيجة ذلك ألموقف أن ردوا امامة ولده علي بن موسى الرضا عليه السلام ، وبقيت أديهم حرة في التلاعب بتلك الاموال الطائلة.

٢١٦

والفطحية (١) ، وغيرهم ، هذا إذا اقتصرنا على الداخلين في حظيرة الإسلام منهم ، أمّا لو توسَّعنا في الإطلاق والتسمية حتى للملاحدة ـ الخارجين عن الحدود ـ كالخطّابية وأضرابهم (٢) فقد تتجاوز طوائف الشيعة المائة أو أكثر ، ببعض الاعتبارات والفوارق ، ولكن يختص اسم الشِّيعة اليوم ـ على إطلاقه ـ بالإمامية التي تَمثّل أكبر طائفة في المسلمين بعد طائفة السنَّة.

والقول بالاثني عشر ليس بغريب عن اصول الإسلام وصحاح كتب المسلمين ، فقد روى البخاري ـ وغيره ـ في صحيحه حديث الاثني عشر

__________________

نعم ، هذا الجانب كان يشكِّل الطرف الأهم في بروز ونشوء هذه الحالة المنحرفة لدى تلك الجماعات المنبوذة والمردودة ، وإن كانت هناك جملة اُخرى من الاسباب الباهتة التي سوَّغت لهم هذا الموقف المشين والمخزي ، ومن ضمنها حالة الغرور والتكبّر والتفرعن التي أصابت رواد تلك المدرسة المنحرفة مع تقادم السنين وتكدس الثروات بايدهم ، واحترام وتكريم الناس لهم ، فلم يكن هذا ليتوافق ـ في مخيلتهم المريضة ـ مع اذعانهم لامام يصغرهم سناً ، والانقياد لاوامره ... مضافاً إلى غير ذلك من الشبهات والارتباكات الفكرية التي تفاعلت مع غيرها من الاسباب في صناعة هذه الفتنة الفاسدة والتي ليست هنا بمحل بحثنا.

راجع : فرق الشيعة : ٥٤ ، ٨١ ، الفصول المختارة : ٣١٣ ، فوائد الوحيد البهبهاني : ٤٠ ، معراج أهل الكمال في معرفة الرجال ( مخطوط ) ، الواقفية ١ : ١٨ وما بعدها ، الملل والنحل ١ : ١٦٧.

(١) ذهبت هذه الجماعة إلى أنَّ الامامة بعد الامام الصادق عليه‌السلام إلى ولده عبدالله المعروف بالافطح ، لشبهات دخلت عليهم ، إلّا أنَّهم لايخالفون الامامية في الاعتراف ببقية الأئمة المنصوص عليهم باستثناء اضافتهم عبدالله الافطح اليهم ، حيث يقولون بامامة ثلاثة عشر ، وإن كان حياة عبدالله لم تمتد بعد أبيه الصادق عليه‌السلام إلّا سبعين يوماً لا غير.

راجع : فرق الشيعة : ٧٨ ، روضة المتقين ١٤ : ٣٩٥ ، تنقيح المقال ١ : ١٩٤ ، الشيعة بين الاشاعرة والمعتزلة : ٧٧ ، الملل والنحل ١ : ١٦٧.

(٢) تقدم الحديث عن ذلك ، فراجع.

٢١٧

خليفة بطرق متعددة :

منها : بسنده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنَّ هذا الأَمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة ».

قال [ الراوي ] : ثم تكلَّم بكلام خفي عليَّ فقلت لأَبي : ما قال؟.

قال : كلّهم من قريش.

وروى أيضاً : « لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم أثنا عشر رجلاً ».

وروى أيضاً : « لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة » (١).

وما أدري مَن هؤلاء الاثنا عشر؟ والقوم يروون عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : الخلافة بعدي ثلاثون ثم تعود ملكاً عضوضاً (٢).

دع عنك ذا فلسنا بصدد إقامة الدليل والحجة على إمامة الاثني عشر ، فهناك مؤلَّفات لهذا الشأن تنوف على الأَلوف ، ولكن القصد أن نذكر اصول عقائد الشِّيعة ورؤوس أحكامها المجمع عليها عندهم ، والعهدة في إثباتها على موسوعات مؤلِّفاتهم.

وهنا نعود فنقول : الدين عِلم وعمل ، وظائف للعقل ووظائف للجسد ، فهاهنا منهجان :

الأوَّل : في وظائف العقل.

__________________

(١) هذه الاحاديث وغيرها من التي تنحو عين منحاها ، روتها كتب العامَّة بكثرة وبأسانيد متعددة يصعب حصرها ، ولكن اُنظر على سبيل المثال لا الحصر : صحيح البخاري ( كتاب الاحكام ) صحيح مسلم ( كتاب الامارة ) ، سنن الترمذي ( كتاب الفتن ) ، مسند أحمد ١ : ٣٩٨ ، ٤٠٦ ، و ٥ : ٨٦ ، ٩٠ ، ٩٣ ، ٩٨ ، ٩٩ ، ١٠١ ، ١٠٦ ، ١٠٧ ، المعجم الكبير للطبراني ٢ : ٤١٢.

(٢) انظر : فتح الباري ٨ : ٧٧ ، الجامع لاحكام القرآن للقرطبي ١٢ : ٢٩٧ ، البداية والنهاية ٣١٩ : ٣.

٢١٨

التوحيد :

يجب على العاقل ـ بحكم عقله عند الإمامية ـ تحصيل العلم والمعرفة بصانعه ، والإعتقاد بوحدانيته في الالوهية ، وعدم شريك له في الربوبية ، واليقين بأنَّه هو المستقل بالخلق والرزق والموت والحياة والإيجاد والإعدام ، بل لا مؤثر في الوجود عندهم إلا الله ، فمن اعتقد أنَّ شيئاً من الرزق أو الخلق أو الموت أو الحياة لغير الله فهو كافر مشرك خارج عن ربقة الاسلام.

وكذا يجب عندهم إخلاص الطاعة والعبادة لله ، فمن عبد شيئاً معه ، أو شيئاً دونه ، أو ليقرِّبه زلفى إلى الله فهو كافر عندهم أيضاً.

ولا تجوز العبادة إلا لله وحده لا شريك له ، ولا تجوز الطاعة إلّا له ، وطاعة الأَنبياء والأَئمة عليهم‌السلام فيما يبلِّغون عن الله طاعة الله ، ولكن لا يجوز عبادتهم بدعوى أنَّها عبادة الله ، فانَّها خدعة شيطانية ، وتلبيسات إبليسية.

نعم ، التبرُّك بهم ، والتوسُّل إلى الله بكرامتهم ومنزلتهم عند الله ، والصلاة عند مراقدهم لله ، كلّه جائز ، وليس من العبادة لهم بل العبادة لله ، وفرق واضح بين الصلاة لهم والصلاة لله عند قبورهم ( في بُيُوتٍ أذِنَ اللهُ أن تُرفَعَ ويُذكَرَ فيها اسمُهُ ) (١).

هذه عقيدة الإمامية في التوحيد ـ المُجمع عليها عندهم ـ على اختصار وإيجاز ، ولعل الأَمر في التوحيد أشدّ عندهم ممّا ذكرناه ، وله مراتب ودرجات ، كتوحيد الذات ، وتوحيد الصفات ، وتوحيد الأَفعال ، وغير ذلك ممَّا لا يناسب المقام ذكرها وبسط القول فيها.

__________________

(١) النور ٢٤ : ٣٦.

٢١٩

النبوة :

يعتقد الشِّيعة الإمامية : أنَّ جميع الأَنبياء الذين نص عليهم القرآن الكريم رسل من الله ، وعباد مكرمون ، بُعثوا لدعوة الخلق الى الحقِّ ، وأنَّ محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله خاتم الأَنبياء ، وسيِّد الرسل ، وأنَّه معصوم من الخطأ والخطيئة ، وأنَّه ما ارتكب المعصية مدة عمره ، وما فعل إلّا ما يُوافق رضا الله سبحانه حتى قبضه الله إليه.

وأنَّ الله سبحانه أسرى به من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى ، ثمَّ عرج من هناك بجسده الشريف الى ما فوق العرش والكرسي وما وراء الحجب والسرادقات ، حتى صار من ربِّه قاب قوسين أو أدنى.

وأنَّ الكتاب الموجود في أيدي المسلمين هو الكتاب الذي أنزله الله إليه للإعجاز والتحدي ، ولتعليم الأَحكام ، وتمييز الحلال من الحرام ، وأنّه لا نقص فيه ولا تحريف ولا زيادة ، وعلى هذا إجماعهم ، ومن ذهب منهم ـ أو من غيرهم من فرق المسلمين ـ الى وجود نقص فيه أو تحريف فهو مخطىء يرده نص الكتاب العظيم ( إنّا نَحنُ نَزّلنا الذِّكرَ وإنّا لَهُ لَحافِظُونَ ) (١).

والأخبار الواردة من طرقنا أو طرقهم الظاهرة في نقصه أو تحريفه ضعيفة شاذة ، وأخبار آحاد لا تفيد علماً ولا عملاً ، فإما أن تأول بنحو من الاعتبار ، أو يُضرب بها الجدار.

ويعتقد الإمامية أنَّ كلُّ من اعتقد أو ادعى نبوة بعد مُحَمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو نزول وحي أو كتاب فهو كافر يجب قتله.

__________________

(١) الحجر ١٥ : ٩.

٢٢٠