أصل الشيعة وأصولها

الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء

أصل الشيعة وأصولها

المؤلف:

الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء


المحقق: علاء آل جعفر
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام علي عليه السلام ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-50-7
الصفحات: ٤٤٢

ثم كيف أصبحوا بعد أنْ جمع الله بالإسلام كلمتهم ، وعقد بدين التوحيد وحدتهم ، ونشر على دعوة الحقِّ رايتهم. هنالك نشرت الرحمة عليهم جناح كرامتها ، وأسالت لهم جداول نعيمها ، حتى تربَّعت الايام بهم في ظل سلطان قاهر ، وآوتهم الوحدة إلى كنف عزِّ غالب ، وتعطَّفت الاُمور عليهم في ذرى ملك ثابت. فما عتموا أنْ أصبحوا ـ بعد ذلك الذلِّ وتلك الهنّات ـ حكاماً على العالمين ، وملوكاً في أطراف الارضين ، يملكون الأُمور على من كان يملكها عليهم ، ويُمضون الاحكام فيمن كان يُمضيها فيهم. لا تُغمز لهم قناة ، ولا تُقرع لهم صفات ... ذاك يوم كان للمسلمين وحدة جامعة ، واُخوة صادقة. يوم كانوا متحدين بحقيقة الوحدة وصحيح الاخاء. يوم كانت مصالح المسلمين مشتركة ، ومنافعهم متبادلة ، وعزائمهم متكافلة ، ولا يجد المسلم من أخيه فيما يهمه إلا كلُّ نصر ومعونة ، ورعاية وكفاية.

ثم دارت الدوائر ، ودالت الايام والايام دول ، وأصبح المسلم لا يجد من أخيه القريب ـ فضلاً عن البعيد ـ إلا القطيعة ـ بل الوقيعة ـ ولا يرتقب منه إلّا المخاوف ـ بل المتالف ـ ولا يحذر من عدوه الكافر أكثر من حذره من أخيه المسلم ، فكيف يُرجى ـ وحال المسلمين هذه ـ أنْ تقوم لهم قائمة ، أو تُشاد لهم دعامة.

وهيهات أنْ يسعدوا ما لم يتحدوا ، وهيهات أنْ يتحدوا ما لم يتساعدوا ... فيا أيُّها المسلمون لا تبلغون الاتحاد الذي بلغ به اباؤكم ما بلغوا بتزويق الالفاظ ، وتنميق العبارات ، أو نشر الخطب والمقالات ، وضجيج الصحف وعجيج الاقلام ... ليس الاتحاد الفاظاً فارغة ، واقوالاً بليغة وحِكَماً بالغة مهما بلغت من أوج البلاغة ، وشأو الفصاحة ... ملاك الاتحاد ، وحقيقة التوحيد هنا : صفاء نية ، واخلاص طوية ، واعمال جد ونشاط.

١٢١

الاتحاد سجايا وصفات ، وأعمال وملكات ، ملكات راسخة ، وأخلاق فاضلة ، وحقائق راهنة ، ونفوس متضامنة ، وسجايا شريفة ، وعواطف كريمة. الاتحاد أنْ يتبادل المسلمون المنافع ، ويشتركوا في الفوائد ، ويأخذوا بموازين القسط ، وقوانين العدل ، ونواميس النصف. فإذا كان في قطر من الاقطار كسوريا والعراق طائفتان من المسلمين أو أكثر فالواجب أنْ يفترضوا جميعاً أنفسهم كأخوين شقيقين قد ورثا من أبيهما داراً أو عقاراً فهم يقتسمونه عدلاً ، ويوزعونه قسطاً ، ولا يستأثر فريق على آخر فيستبد عليه بحظه ، ويشح عليه بحقه ( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأولئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) (١) فتكون المنافع عامَّة ، والمصالح في الكلَ مشاعة ، والاعمال على الجميع موزَّعة.

وليس معنى الوحدة في الاُمَّة أنْ يهضم أحد الفريقين حقوق الاخر فيصمت ، ويتغلَّب عليه فيسكت. ولا من العدل أنْ يُقال للمهضوم إذا طالب بحقِ ، أو دعا إلى عدلٍ : انَّك مُفرِّق أو مشاغب ، بل ينظر الاخرون إلى طلبه ، فإنْ كان حقاً نصروه ، وإنْ كان حيفاً ارشدوه وأقنعوه ، وإلا جادلوه بالتي هي أحسن ، مجادلة الحميم لحميمه ، والشقيق لشقيقه ، لا بالشتائمِ والسباب ، والمنابزة بالأَلقاب ، فتحتدم نار البغضاء بينهما حتى يكونا لها معاً حطباً ويصبحا معاً للأجنبي لقمة سائغة ، وغنيمة باردة.

وقد عرف اليوم حتى الأَبكم والاصم من المسلمين أنَّ لكلِّ قطر من الاقطار الاسلامية حوتاً من حيتان الغرب ، وأفعى من أفاعي الاستعمار فاغراً فاه لالتهام ذلك القطر وما فيه ... أفلا يكفي هذا جامعاً للمسلمين ، ومؤجِّجاً لنار الغيرة والحماس في عزائمهم ، أفلا تكون شدة تلك الآلام وآلام تلك الشدة باعثة لهم على الاتحاد وإماتة ما بينهم من الاضغان والاحقاد ،

__________________

(١) الحشر ٥٩ : ٩ ، والتغابن ٦٤ : ١٦.

١٢٢

وقد قيل « عند الشدائد تذهب الاحقاد »؟

وكيف يطمع المسلم أنْ يكتسح أخاه المسلم أو يستعبده ، وهو شريكه في البلاد من اقدم العهود وأبعد الاجداد؟ أفلا تسوقهم المحن والمصائب التي انصبت عليهم صب الصواعق من الأجانب ، إلى إقامة موازين العدل والتناصف فيما بينهم ، ويحتفظ أهل كلُّ قطر على التعادل الانتفاعي ، والتوازن الاجتماعي؟

ونحن وإنْ أوشكنا أنْ نكون آيسين من حصول هذه الثمرة اليانعة ، والجامعة النافعة ، لما نرى من عدم التأثير والتقدير لكلمات المصلحين والناصحين من رجال المسلمين ... ومن نظر فيما نُشر وطُبع من جمهرة خطبنا ، وما فيها من بليغ الدعوة إِلى الوحدة بفنون الاساليب ، ويرى حالة المسلمين اليوم ، وأنَّهم لا يزدادون إلاّ تقاطعاً وتباعداً ، فكانَّنا ندعوهم إلى التنابذ والجفاء ، ونقدِّم النار إلى الحلفاء.

نعم ، من ينظر إلى ما نشره « النشاشيبي » في الكتاب الذي سمَّاه ـ وما اكثر ما تكذب الاسماء ـ : بـ « الاسلام الصحيح »!! وكانت نتيجة ذلك الكتاب وفذلكته ـ يعني صحة الاسلام عنده ـ هو الطعن والغمز ، واللمز والتوهين باهل بيت النبوَّة : علي وفاطمة والحسنين سلام الله عليهم ، وإنكار كلُّ فضيلة أو منقبة لهم وردت في آية أو رواية ، فآية التطهير مثلاً : ( إنَّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُم الرِّجْسَ أهْلَ البَيتْ ) (١) مختصَّة بزوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبالأَخص عائشة!! بل هي لا غيرها أهل البيت!! أمّا فاطمة بضعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فخارجة بالقطع واليقين عنده (٢).

__________________

(١) الاحزاب٣٣ : ٣٣.

(٢) لعل المثير للأسى أنْ تجد وبعد كلُّ ما كتب وقيل واُثبت من أنّ آية التطهير قد نزلت في

١٢٣

اُنظر ما أحلى هذا الفهم ، وأجمل هذا الذوق والانصاف ، وهكذا آية المباهلة (١) ، وآية القربى (٢) فضلاً عن الروايات الواردة في حقَهم ، فكلها

__________________

أصحاب الكساء الذين ضمَّهم اليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دون سواهم ، وهم علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، تجد أنَّ البعض لا زال مصراً وبعناد عجيب على قلب الحقائق ، وتزييف الوقائع ، معرضاً بجانبه عن نتائج ما تشكِّله دعاواه الباطلة من آثار سلبية تلتصق به فقط دون غيره ، لأنَّ من يطالع تقوّلاته الهشة هذه وغير المستندة على أي أساس علمي ، لا بد وأنْ يحمله هذا الأمر بالتالي على الاستخفاف بكلِّ مقالاته وإنْ كان البعض منها لا يخلو من مظاهر الصحة والصدق ، بل وربما يحمل البعض منهم اسباب هذه التقوّلات على انطواء ذات ذلك البعض على التعصُّب الطائفي المقيت الضار بالاسلام وأهله ، والداعي الى الفرقة والتناحر ، لا الوحدة والتآخي ، وهو ما كنّا ندعو له ولا زلنا ، وسنبقى كذلك إنْ شاء الله تعالى.

نعم ، هذا بعض ما نريد أنْ نقوله ، وقد كررناه دائماً ، دون ملل ويأس ، وإذا كنّا وعلى صفحات هذا الكتاب لسنا بمعرض الرد على هذه الترهات الباهتة والساقطة ، لأنَّ ذلك ما يستغرق الكثير من المساحة التي ليست هي بمتاحة لنا ، وكذا لتعرُض ، العديد من علماء الطائفة ومفكريها ـ وطوال حقب متلاحقة وحتى يومنا هذا ـ لمناقشة هذا الموضوع ، وتوضيح أبعاده وحدوده ، إلا أنَ ذلك لا يمنعنا من الاشارة الى بعض الروايات المذكورة في كتب القوم ، والمحددة لنزول هذه الآية بحق هؤلاء الخمسة دون غيرهم ، فراجع :

صحيح مسلم ٤ : ١٨٨٣ / ٢٤٢٤ ، سنن الترمذي ٥ : ٦٦٣|٣٧٨٧ و ٦٩٩|٣٨٧١ ، مسند أحمد ٤ : ١٠٧ و ٦ : ٢٩٢ ، سنن البيهقي ٢ : ٥١٤٩ : ١٥٢ ، تاريخ بغداد ١٠ : ٢٧٨ ، تفسير الطبري ٢٢ : ٥ و ٦ و ٧ ، الرياض النضرة ٣ : ١٥٢ ، اُسد الغابة ١ : ٤٩٠ و ٣ : ٥٤٣ و ٦٠٧ ، مستدرك الحاكم ٢ : ٤١٦ و ٣ : ١٤٧ ، مجمع الزوائد ٩ : ١٢١ و ١٦٧ ، الفصول المهمة : ٥ ٢ ، ذخائر العقبى : ٢١ ، فرائد السمطين ١ : ٢٥ ، الدر المنثور ٥ : ١٩٨ ، كفاية الطالب : ٣٧١ ، الصواعق المحرقة : ١٨٧ و ٢٣٨.

(١) أُنظر نزول هذه الآية المباركة بحق رسول الله صلى الله عليه وآله وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام في : مسند أحمد ١ : ١٨٥ ، سنن البيهقي ٧ : ٦٣ ، مستدرك الحاكم ٣ : ١٥٠ ، تفسير الطبري ٣ : ٢١٢ ، الدر المنثور ٢ : ٣٨ ، الرياض النضرة ٣ : ١٥٢ ، اُسد الغابة١ : ٦٠١ ذخائر العقبى : ٢٠ ، كفاية الطالب : ١٤١ ، الفصول المهمة : ٢٤ ، جامع احكام القرآن ٤ : ١٠٥.

(٢) اُنظر نزولها في حق أصحاب الكساء عليهم‌السلام دون غيرهم : التفسير الكبير ٢٧ :

١٢٤

عنده كذب وباطل ، حتى المروية في صحاحهم!!

ومثله ما سبقه اليه أمثاله من النصولي ، والحصان ، وأضرابهم ، أفترجو مع هذا أنْ تصلح حالة المسلمين ويلموا شعثهم؟ أفلا تراني على حق لو يئست وتشاءمت؟ أفلا يعلم النشاشيبي واخوانه ممَّن يغمزون بالشًّيعة وأئمتهم أنَّ ذلك باعث على أنْ يقوم أحد كَتَبَة الشِّيعة فيقابله بالمثل ، وينال من كرامة الخلفاء الراشدين ، ويتحامل عليهم وعلى السنَّة قائلاً : « إنَّ بني عمَّك فيهم رماح » وهكذا دواليك ينشر كلُّ فريق مطاعن الآخر.

فلينظر عقلاء الفريقين إلى أين ينتهي حال المسلمين من هذه الهوة السحيقة ، وما الثمرة والفائدة من كلُّ ذلك؟ وما ذنب الشِّيعة سوى موالاة أهل بيت نبيِّهم صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!.

ولكن مع كلُّ ذلك لا يأس من روح الله ورحمته ، ولا قنوط من خفي الطافة بدينه وشريعته ، فعسى أنْ يرشد الله الغيارى على الاسلام من عقلاء الفريقين فيضربوا على الايدي التي تنشر تلك النشرات الخبيثة ـ منّا ومنهم ـ تلك النشرات التي هي السم المزهق لروح الاسلام. وهذا البصيص من الأمل هو الذي دعانا إلى الأذَن في إعادة طبع هذه الرسالة ثانياً ، ونشر ما يضاهيها من ارشاداتنا وتعاليمنا في الحث على قيام كلُّ مسلم بهذه الفريضة اللازمة ، والقضية الضرورية ، كلُّ بحسبه ، وبمقدار وسعه ، ألا وهي إعادة صميم الاخاء والوحدة بين عموم فرق المسلمين ... وأوَّل شرط ذلك : سد

__________________

١٦٥ ، الكاشف ٣ : ٤٦٧ ، تفسير البحر المحيط ٧ : ٥١٦ ، زاد المسير ٧ : ٢٨٥ ، الدر المنثور ٦ : ٧ ، مجمع الزوائد ٩ : ١٦٨ ، الفصول المهمة : ٢٩ ، كفاية الطالب : ٣١ ، فرائد السمطين١ : ٣٥ ، ذخائر العقبى : ٢٥ ، الصواعق المحرقة : ٢٥٨ ، نور الابصار ١١٢ ، الاتحاف بحب الاشراف : ٢٣٩ ، احياء الميت بفضائل أهل البيت عليهم‌السلام : ٢٦.

١٢٥

باب المجادلات المذهبية وإغلاقها تماماً ، فإنْ أراد أحد التنويه عن مذهبه فعلى شرط أنْ لا يمس مذهب غيره بسوء ولا غميزة.

والشرط الثاني ـ بل هو الأَوَّل في الأَهمية ـ : أنْ يعقد المسلم قلبه على الاخاء الصحيح لأخيه المسلم ، وأنْ يحب لأَخيه ما يحب لنفسه ، ويبرأ من كلُّ حقد وحسد عليه ، جِداً وحقيقة ، لا لقلقة في القول ، ومخادعة في اللسان ، ومنافسة على المصالح الفردية والمنافع الذاتية ، كما هو الحال السائدة اليوم عند الجميع.

إنَّما الوحدة الحقَّة ، والاخاء الصحيح الذي جاء به الاسلام ، بل جاء بالاسلام ، وتمشَّت عليه وضيعة الأُمم الراقية ، وبلغت أوج العزِّ والقوِّة : أنْ يرى كلُّ فرد من الامَّة أنَّ المصلحة النوعية هي عين المصلحة الفردية ، بل هي فوقها ، وهذه الصفة خفيفة في اللسان ، ثقيلة في الميزان ، بعيدة في الامكان ، يكاد أنْ يكون تحقُّقها عندنا معشر المسلمين من المستحيلات ، لا سيَّما من كلُّ طائفة بالنظر إلى الاخرى التي تنظر كلُّ منهما إلى الأُخرى نظر العدو الأَلد ، والمخاصم المزاحم ، وإذا جامله في القول ، أو أظهر له الولاء ، فلن يجامله إلاّ ليخاذله ، ولن يصانعه إلاّ ليخادعه ، أمّا ملقاً أو تزلُّفاً لغاية واهنة ، أو توسُّلاً إلى أنْ يبتز ماله ، أو يسلبه حقَّه ، أو تكون له السلطة عليه والاستعباد له ، وكلُّهم جارون على غلوائهم في هذه السخائم التي صارت لهم ضربة لازم ، لا تصدهم عنها صرخة ناصح ، ولا صيحة زاجر ، ولا عظة بليغ.

ينسى الكلُّ أو يتناسى عدوهم الصميم الذي هو لهم بالمرصاد ، والذي يريد سحق الكلِّ ، ومحو الجميع ، ويبث بذور الشقاق بينهم ليضرب بعضهم ببعض ، وينصب أشراك المكر لصيد الجميع. ولا يسلم المسلمون من هذه الاشراك المبثوثة لهم في كلُّ سبيل حتى يتحدوا عملاً لا قولاً ، وجِداً

١٢٦

لا هزلاً ، وأقرب وسيلة إلى تنمية تلك البذرة ، وتقوية تلك الفكرة ـ فكرة الاتحاد الجدي ـ هو : عقد المؤتمرات في كلُّ عام أو عامين ، يجتمع فيها عقلاء المسلمين وعلماؤهم من الأَقطار النائية ، ليتعارفوا أوَّلاً ، ويتداولوا في شؤون الاسلام ثانياً.

بل وأوجب من هذا : عقد المؤتمرات والمعاهدات بين حكّام المسلمين « لو كان للمسلمين حكام حق » فيكونون يداً واحدة ، بل كيَدين لجسد واحد ، يدفعان عنه الاخطار المحدقة به من كلُّ جانب ، وقد أملت عليهم الحوادث بعد الحرب العامَّة دروساً بليغة ، وعبراً محسوسة لو كانوا يعتبرون.

وفي ابتلاع الطليان مملكة الحبشة العريقة في القِدم ببضعة أشهر ما يستوجب أنْ يقض مضاجعهم ، ويُسهر عيونهم ، وينظروا إلى مستقبلهم بكلِّ خيفة وحذر ، وإلاّ فهم أعرف بالعاقبة وكيف يكون المصير (١).

وحسبنا بهذا القدر بلاغاً ودعوةً ، وإنذاراً وإيقاظاً ، ونحن تكميلاً للفائدة قد اكملنا في هذه الطبعة بعض نواقص هذه الرسالة ، واستوفينا ما فات في بعض مباحثها ممّا له دخل أو فضل فىِ توسعة البحث ، وتوفية الموضوع حقَّه ، مع الحرص الشديد على الايجاز والايصال إلى الغرض

__________________

(١) كانت أول محاولة لغزو الحبشة من قبل الايطاليين في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي ، إلا أنّهم منوا بهزيمة نكراء في عام ( ١٨٩٦ م ) وتحمّلوا خسائر فادحة من قبل جيش الحبشة المتواضع.

بيد أنَّهم ( أي الايطاليين ) أعادوا الكرة في عهد موسوليني ، وذلك في عام ( ١٩٣٥ م ) ، حيث زحفت جيوشهم نحو أراضي الحبشة لتحتلها هذه المرة في عام ( ١٩٣٦ م ) وتضمها الى مستعمراتها اُسوة بشركائهم من المستعمرين آنذاك كالبريطانيين والفرنسيين والبرتغاليين ، ولتبقى الحبشة تحت الاستعمار الايطالي حتى عام ( ١٩٤١ م ) عندما طردتهم القوات الانكليزية منها.

١٢٧

المهم من أقرب الطرق اليه ليسهل تناوله ومطالعته لعامَّة الطبقات.

فالعصر الذي ألف أهلوه طي المراحل الشاسعة إلى البلاد النازحة ببضع ساعات ـ وكانت لا تُطوى إلاّ بالأيامُ أو الشهور ـ لا تناسبه الاطالة والاطناب ، حتى في الرسالة والكتاب. بيد أنِّي لا أدعي الاحاطة ، ولا اُبرىء نفسي من القصور ، ويكفيني حسن النية والقيام بالواجب حسب الوسع ، مع ابتكار الموضوع ، وابتداع الاسلوب.

وللأفاضل في عصرنا وما بعده أنْ يتوسَّعوا إذا شاءوا ، فقد فتحنا لهم الباب ، ونهجنا لهم السبيل الذي لا أمَت فيه ولا عثار ، والذي هو أقرب إلى ما يتطلَّبه الوقت الحاضر ، والعلم الحديث ، وألصق بالحقيقة الناصة ، والطريقة النافعة ، من دون خدشة لمذهب ، أو مس لكرامة ، مع الاشارة الخفية أو الخفيين لبعض الأَدلَّة والبراهين ، والمساند والمصادر في الجملة.

« وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكَّلت واليه أُنيب »

حرَّره منتصف ربيع الآخر سنة ١٣٥٥ هـ.

محمد الحسين

آل كاشف الغطاء

١٢٨

« مقدمة الطبعة السابعة »

بقلم المؤلِّف

بسم الله الرّحمن الرّحيم

( رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْري * يَسسِّرْ لِي أمْري * وَاحللْ عُقْدَةً مِنْ لِساني * يَفْقَهُوا قَولِي ) (١).

من الواضح الغني عن البيان ما وصلت اليه حالة المسلمين ، ولا سيَّما في هذه القرون الأخيرة ، من الضعف والسقوط والذلَّة ، وتحكُّم الأَجانب بهم وإستعبادهم ، واستملاك أراضيهم وديارهم ، وجعلهم خولاً وعبيداً ، يستعملونهم كاستعمال البهائم في مصالحهم ، وليستغلُّونهم بوضع الاغلال في أعناقهم ، إلى ما فوق ذلك من الهوان والخسران ، ممّا لا يحيط به وصف واصف ، ولا تستطيع تصويره ريشة مصوِّر ، كلُّ ذلك جلي واضح كوضوح أسباب ذلك ، وانَّ السبب الوحيد هو : تفرُّق كلمة المسلمين ، وتباغضهم وتعاديهم ، وسعي كلُّ طائفة منهم لتكفير الآخرين ، فإذا اعتقدوا كفرهم لا محالة يسعون في هلاكهم وإبادتهم!! وما هو إلاّ الجهل المطبق ، والعصبية العمياء. فالجهل يمدهم ويطغيهم ، ومكائد الاجنبي المستعبِّد

__________________

(١) طه ٢٠ : ٢٥ ـ ٢٨.

١٢٩

تشدهم وتغريهم.

وقد أفاضت أقلام الاعلام والخطباء ، وطفحت الصحف والمؤلَّفات في هذا الموضوع ، حتى أوشك أنْ يكون من الاحاديث التي صار يمجها الطبع ، وينبو عنها السمع ، لأنَّ الطبع موكل بمعاداة المعادات ، وكراهة المكررات. على إنَّك تجده بأوفى بيان في الكلمة الآتية التي كنّا جعلناها كمقدمة للطبعة الثانية وعنوانها : « كيف يتحد المسلمون » أو « كلمة لا بُد منها في الاصلاح ».

وإنَّما المقصود بالبيان في هذه الكلمة إنَّنا لمّا وجدنا قبل هذا أنَّ المسلمين بالحال التي وصفنا ـ وليس المسلمون اليوم في رقعة هذه الكرة سوى طائفتين : السنَّة والشِّيعة ، وكلُّ المذاهب والطوائف المختلفة في الاسلام لابُدَّ وأنْ ترجع وتندمج في الأُولى أو الثانية ، حيث يصح إطلاق إسم الاسلام عليها ـ ووجدت أنَّ الشِّيعة ـ وأخص علمائهم ـ يعرفون مذاهب اخوانهم السنِّيين كمعرفتهم بمذاهبهم ، حتى ألَّفوا الكتب الكثيرة بذلك : كالانتصار للسيِّد المرتضى ، والخلاف للشَّيخ الطوسي ، والتذكرة للعلّامة الحلِّي ، واضعافها لغيرهم ، أمّا السنَّة فلا يعرف حتى علماؤهم ـ فضلا عن عوامهم ـ شيئاً من حقيقة الشِّيعة وواقع أمرهم ، بل لم على العكس يرون أنَّهم خارجون عن حظيرة هذا الدِّين ، وأنَّهم جمعية هدّامة!! وينسبون كلُّ فضيعة اليهم ، فإذا وجد الشِّيعة ذلك في كتب القوم يدفعهم الحقد والغضب ، فيقابلونهم بمثل ذلك ، أو بما هو اسوأ منه ... وهكذا تمزَّقت الوحدة ، وتفرَّقت الكلمة ، وصار ذلك قرَّة عين المستعمر ، وبلغ بهذا أقصى أمانيه.

فرأيت يومئذٍ أنَّ الحاجة ماسة ، والضرورة ملحة ، والواجب يُحتم تأليف رسالة وجيزة توضِّح للمسلمين : اُصول عقائد الشِّيعة وفروعها ، ومبدأ تكوِّنها ، وغارس بذرتها ، وأسباب نموِّها وسموِّها. بصورة موجزة ، وعبارة

١٣٠

دارجة ، فألَّفت رسالة « أصل الشِّيعة واُصولها » وجريت فيها على عفو الخاطر ، وجري القلم. أمليتها إملاءاً ، من غير تجديد مراجعة ، أوتزويد مطالعة ، إذ لم يكن الغرض فيها الجدل والاحتجاج ، وإقامة الادلَّة والبراهين ، بل مجرُّد ذكر رؤوس المسائل ، ومتن اُصول المذهب وفروعه ، ليعرف الناس مكانته في الاسلام ، وشدَّة علاقته بالدِّين ، وقواعده الاساسية.

وما كنّا نحسب أنْ تحظى تلك الرسالة بهذا الرواج ، ويحصل لها هذا الاقبال الواسع ، حيث تُرجمت إلى عدَّة لغات ، وطُبعت أربع بل خمس مرَّات ، ولكن ... ومن الاسف المضني أنَّ الحال لا يزال على ذلك المنوال ، ولم يُخفِّف انتشار الكتاب شيئاً من غلواء القوم ، ولم يكسر من شدة سورتهم ، ولم تبرح أقلام الاساتذة المصريين في كلُّ مناسبة تطعن بالشِّيعة ، وتنسب اليهم الاضاليل والاباطيل التي كانت تُنسب اليهم في العصور المظلمة والقرون الوسطى ، عصر ابن خلدون ، وابن حجر ، واضرابهما ، مع أنَّ الكتاب « أصل الشِّيعة » قد طُبع في القاهرة « الطبعة الثالثة » ووزِّعت كلُّ نسخه هناك ...

أفما كان من الجدير ـ أو الواجب ـ أنْ يُغيِّر اللهجة ، ويخفف الوطأة؟! كلا ، بل الشِّيعة لا تزال هي تلك الطائفة أهل البدع والاهواء ، والسحنة السوداء!! وقد سرى بغضهم والطعن فيهم إلى الخلفاء الفاطميين ... لماذا؟ لأَنَّهم شيعة ، ولأنَّهم روافض فهم أدعياء في النسب ، قرامطة في المذهب ، ينتهي نسبهم إلى يهودي في قول بعض ، وعقائدهم إلى ملحد!! هذا مع ما للفاطميين من الخدمات الكبرى للاسلام عموماً ولمصر خصوصاً ، فقد نشروا العلم والثقافة في مصر ، ورفعوا منار المعارف ، وشيَّدوا الجوامع والمساجد ، وأنشأوا الأَساطيل والمدافع لدفاع المهاجمين عن بلاد الاسلام ... ألا يستفزك العجب من حملات المصريين على الفاطميين

١٣١

وانت وهم يعلمون أنَّ درة تاج مفاخر مصر ، وغرَّة جبين مآثرها هو : « الجامع الازهر » (١) وهو من مآثرهم ومنشآتهم. ذلك العهد الجليل ، الميمون النقيبة ،

__________________

(١) يُعد الجامع الأزهر ـ وذلك مما لا خلاف فيه ـ من المآثر الاسلامية الخالدة التي استطاعت ـ ورغم تقادم الدهور والعصورـ أنْ تبقى شاخصة ثابتة تحكي للاجيال مآثر الحقب والسنين التي شهدت اشراقة شمس الاسلام على بعض الدول والمدن رغم ما أحاط بهذا الدين العظيم من الكيد والمحاربة.

والجامع الازهر كان ثمرة واحدة من تلك الثمار المباركة والطيبة ، حيث اُنشأ في زمن الدولة الفاطمية ، واُسمي بالأزهر تبرُّكاً باسم سيِّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها آلاف التحية والسلام.

بنى هذا المسجد جوهر الصقلي ، قائد جند أبي تميم معد بعد عام من فتح الفاطميين لمصر واقامتهم لدولتهم فيها عام ( ٣٥٩ هـ ) ، وحيث تم بناؤه وأُقيمت أوّل صلاة جمعة رسمية فيه في يوم الجمعة سابع شهر رمضان عام ( ٣٦١ هـ ـ ٩٧٢ م ) ، وكانت تُقام قبل ذلك تارة في جامع عمرو ، وتارة في اًخرى في الجامع الطولوني.

بقي المسجد آنذاك محطة للمصلِّين وطلبة للمحصِّلين ، وحيث عُقدت بعد تأسيسه ببضع سنين أوَّل حلقة للدرس من قبل قاضي القضاة أبو الحسن علي بن النعمان القيرواني ، حيث قرأ آنذاك مختصر أبيه في فقه آل البيت عليهم السلام ، وكان ذلك في صفر عام ( ٣٦٥ هـ ـ ٩٧٥ م ).

بقي هذا المسجد يتلقى الرعايا والعناية من قِبل الحكّام الفاطميين ، وحيث زاد في بنائه المستنصر والحاكم ووسَّعا فيه ، وكان يقابلهم كثرة توافد الطلبة والدارسين على طلب العلم في اروقته ، والتزود من أساتذته ، وبقي هذا الحال ردحاً من الزمن ، حتى انقضت دولة الفاطميين وجاء صلاح الدين الأيوبي ، فشهر سيفه ـ وذلك ممّا يؤسف له ـ لمحاربة الشِّيعة وقتلهم تحت كلُّ حجر ومدر ، وطمس اثارهم ومآثرهم ، وكان نصيب الازهر من ذلك منع الخطبة فيه ، وقطع الكثير ممّا أوقفه عليه الحاكم ، واستمر ذلك ما يقارب القرن من الزمان حتى أمر الملك الظاهر بيبرس باعادة الخطبة فيه ، وشجع على التعليم في أروقته ، بل وزاد بعض الشيء في بنائه.

وهكذا فقد شهد الأزهر وطوال الحقب الماضية أشكالاً مختلفة من المد والجزر ، تأثراً بالأحداث المختلفة التي أحاطت به وبالعالم الاسلامي ، ولكنًه بقي أثراً خالداً شاهداً على تلك الحقبة الماضية التي تولى فيها الفاطميون حكم مصر وادارة شؤونها.

١٣٢

المبارك اللقب ، الاغر الطلعة ، الذي تخرَّج منه المئات من كبار العلماء والسّاسة ، أمثال : الشيخ محمَّد عبده ، وسعد زغلول ، ونظائرهما ممَّن كبرت وكثرت خدماتهم لمصر وللإِسلام. وإنَّ بقاء هذه المؤسسة الدينية اكثر من ألف سنة ، وما نالته وتناله كلُّ سنة من الحظ والتوفيق للإتساع والرقي ، لأقوى شاهد على إخلاص بانيه ، وروحانية مؤسسيه ، وأنَه ممدود بالعناية ، ومحفوف بالالطاف الألهية. ولكن الاسف المؤلم أنَّ الفاطميين مع ذلك كلِّه عند المصريين أدعياء في النسب ، قرامطة المذهب ، ملاحدة في الدين ، لانَّهم روافض ، ولانَّهم شيعة ، ومن الشّيعة أخذوا عقيدة الوصية لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وقد أنكرها هو ولم يرضها في حياته كما لم يرض غيرها من الالقاب التي وضعها الشِّيعة له ...!!

والشِّيعة هم الذين يقفون بعد صلاة المغرب كلُّ ليلة على باب السرداب فى سامراء ويهتفون بإمامهم المنتظر : اُخرج اُخرج ...!! إلى آخر ما ذكره الاسّتاذ الفاضل في كتاب : « الحركة الفكرية » الذي طبع قريباً (١).

والمدهش الغريب أنَّ سامراء بلدة سنِّية ، وجامع الغيبة الذي فيه السرداب ـ ولا يزال ـ في تصرُّف السنّيين ، يقيمون تحت قبته جمعتهم وجماعتهم في الاوقات الخمسة ، ولا نصيب منه للشِّيعة ، إلا الاستطراق والدخول فيه للزيارة والصلاة والدعاء ، لأن ثلاثة من أئمتهم كانوا يتهجّدون فيه بالاسحار ، ويتفرَّغون فيه لعبادة الحقِّ آناء الليل وأطراف النهار. كان عيشهم عليهم‌السلام للزهادة ، وليلهم للتهجُّد والعبادة ، ونهارهم للتعليم والافادة. نعم ، كانوا يُحيون الليل بالتهجُّد والعبادة في تلك البلدة ، وفي عين الوقت الذي كان فيه المتوكِّل ، خليفة المسلمين ، وأمير المؤمنين يحيي

__________________

(١) الكتاب من تأليف الدكتور عبداللطيف حمزة.

١٣٣

الليالي الطوال في الخمر والشراب مع المغنِّيات والراقصات ، وأهل المجون والخلاعة ، كعبادة المخنَّث وغيره ، إلى أنْ هجم عليه الاتراك وقطَّعوه هو ووزيره الفتح بن خاقان بسيوفهم وهم سكارى لم يفيقوا إلاّ بحَرِّ السيوف ، حتى اختلط لحم الخليفة بلحم الوزير ، ولم يتميَّز أحدهما منَ الاخر (١) ، وإلى هذا أشار ملك الشُّعراء وأشعر الملوك ، البطل الفارس أبو فراس ، يخاطب بني العبّاس في شافيته المعروفة :

مِنكُم عَليةَ أمْ منهُمْ وَكانَ لَكُم

شَيخُ المُغَنِّينَ إبراهيمَ أمْ لَهُمُ

تَبدو التلاوَةُ مِنْ أبياتِهِمْ سَحراً

وَمِنْ بُيُوتكُمُ الاوتار وَالنَّغَمُ

فهل يُلام الشِّيعة على تقديس منازل أئمتهم وبيوتهم التي أذن الله تعالى أنْ ترفع ويُذكر فيها اسمه؟

ولنتراجع إلى المقصود بالبيان ، وهو إنَّنا كنّا نأمل بنشر ذلك الكتاب الوجيز أنْ نرى أثره المحسوس ، ومفعوله الملموس ، في تعديل الخطة ، وتلطيف اللهجة ، وتقارب الفريقين ، فلم نجد إلا ما يوجب اليأس ، ويحطِّم الامل ، وعرفنا أنَّ تلك العقائد والآراء صارت طبيعة موروثة للقوم ، لا يستطيعون نزعها والنزوع عنها « وتأبى الطباع على الناقل ».

ولا لوم على عوام الفريقين في سوء الظن ، كلُّ فريق بالآخر ، وعداوته لأخيه ، إنَّما اللائمة على العلماء والعقلاء الذين يؤججون نار العداوة والبغضاء وقد جعلهم الله إخواناً وجعل دينهم دين التوحيد والوحدة.

ومع هذا الاسف المؤلم ، واليأس البليغ ، طلب مني جماعة ـ اخص بالذكر من بينهم ولدي محمَّد كاظم الكتبي ـ الاذن بطبعته السابعة ، وأنْ

__________________

(١) اُنظر : مروج الذهب ٥ : ٣٧ ، الكامل في التأريخ ٧ : ٩٥ ، تأريخ الطبري ٩ : ٢٢٦.

١٣٤

نضيف اليه بعض الاضافات والاصطلاحات ، وأنْ نتوسَّع بعض التوسُّع فيه ، فأجزنا إعادة طبعه ، على يأس من الفائدة المتوخاة ، وأضفنا في بعض أبوابه الشيء اليسير الذي لا يخرجه عن الايجاز ، لأننا نجد إنَّ الايجاز في هذه العصور أقرب إلى القبول.

( رَبَّنا عَلَيكَ تَوَكَّلْنا وَإليكَ أنَبنا وَإليكَ المَصيرُ ) (١).

__________________

(١) الممتحنة ٦٠ : ٤.

١٣٥
١٣٦

بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

ومنه أستمد وبه أستعين ، بعد حمد الله وسلام على عباده الذين اصطفى ...

يكتب سطور هذه الطروس محمَّد الحسين آل كاشف الغطاء في النَّجف الأشرف ، أوليات جمادي الاولى سنة الخمسين بعد الألف والثلاثمائة هجرية.

والسبب الباعث على كتابتها :

إنَّه منذ سنتين كتب إليَّ شاب عراقي من البعثة العلمية التىِ أرسلتها الحكومة العراقية للتحصيل في ( دار العلوم العليا ) بمصر كتاباً مطوّلاً ، ومما يذكر فيه ما خلاصته :

إنَه كان يختلف إلى كبار علماء القاهرة في الأزهر وغيره ، وربما جرى الحديث بينهم ـ والحديث شجون ـ على ذكر ( النَجف ) وعلمائها ، وطريقة التحصيل فيها ، والهجرة إليها ، وكانوا يكيلون لهم الكيل الوافي من الثناء والإعجاب بسموِّ مداركهم ، وعلوّ معارفهم ، ولكن يردفون ذلك بقولهم : ولكن يا للأسف أنَهم شيعة!!

١٣٧

يقول ذلك الشاب : فكنتُ أستغرب ذلك وأقول لهم : وما الشِّيعة؟ وهل هي إلاّ مذهب من مذاهب الاسلام ، وطائفة من طوائف المسلمين؟

فيقول قائلهم في الجواب ما حاصله : كلا ليست الشِّيعة من المسلمين! ولا التشيُّع من مذاهب الاسلام! بل ولا يحق أنْ يكون أو يُعدَّ مذهباً أو ديناً! وإنَّما هي طريقة ابتدعها الفرس! وقضية سياسية لقلب الدولة الأموية إلى العبّاسية! ولا مساس لها بالأديان الإلهية أصلاً!!

ثم يكتب ذلك الشّاب تلو هذا : وأنا ـ يا سيِّدي ـ شاب مترعرع ، لا علم لي بمبادئ الأديان ، وتشعُّب المذاهب وفلسفة نشأها وارتقائها ، وكيف انتشرت ، ومن أين ظهرت ، وقد دخلني من اُولئك الفخام الجسام ـ المعدودين من الأعلام ـ شك من أمر تلك الطائفة ، وصرت على شفا ريبة من إسلامهم ، فضلاً عن سلامتهم.

ثم أخذ يتوسَّل إليَّ بالوسائل المحرجة أنْ أكشف له عن صميم الحقيقة ، ولباب الواقع ، كي يستريح من حرارة الشك إلى برد اليقين وروح الطمأنينة. يقول : وإذا لم تنقذني من تلك المتاهة فالمسؤولية عليك إنْ زللتُ أو ضللتُ.

فكتبتُ إليه ما اتسع له ظرف المراسلة ، واحتمله كاهل البريد ، وما يلائم عقلية ذلك الشاب ، وما رجوتُ أنْ يزيح عن فؤاده كابوس الشك والإرتياب ، ولكنِّي حملت على شواعري من الاستغراب أضعاف ما كان يحمل هو من الإرتياب ، وطفقتْ تتعارض على خواطري أسرابُ الشكوك من صحة تلك الواقعة ، وإنَّه كيف يمكن أن يبلغ الجهل والعناد بعلماء بلاد هي في طليعة المدن العلمية الاسلامية ، ومطمح أنظار العرب ، بل كافة المسلمين في تمحيص الحقائق ، وتمزيق جلابيب الأكاذيب ، المنبعثة ـ على الأكثر ـ عن الأغراض والأهواء ، أو الاسترسال إلى مفتريات السَّفلة

١٣٨

والجهالة؟!

وما كدتُ أركن إلى صدق ما نقله ذلك الشّاب حتى وقع في يدي ـ في تلك الآونة ـ كتاب الكاتب الشهير ( أحمد أمين ) الذي أسماه ( فجر الاسلام ) فسبرتُه حتى بلغتُ منه إلى ذكر ( الشيعة ) فوجدتُه يكتب عنهم كخابطِ عشواء (١) أو حاطب ليل ، ولو أنَّ رجلاً في أقاصي الصين كتب عنهم في هذا العصر تلك الكتَابة لم ينفسخ له العذر ، ولم ترتفع عنه اللائمة ، ولكن وقفتُ على قدم ثابتة من صحة ما كتبه ذلك الشّاب ، وقلتُ : إذا كان مثل هذا الرجل وهو يكتب كتاباً يريد نشره في الأُمَّة الواحدة التي جعلها الله إخواناً بنصِّ فرقانه المجيد ، واستطلاع أحوالهم ، والوقوف على حقيقة أمرهم على كثب منه أيسر شيء عليه ، ومع ذلك يسترسل ذلك الاسترسال ، ويتقوَّل على تلك الطائفة تلك الأَقاويل ، إذن فما حال السواد والرعاع من عامة المسلمين! وقد عرف كلُّ ذي حسٍ مسيسَ الحاجة ، وقيام الضرورة الحافزة إلى شدَّ عقد الوحدة ، وإبرام امراسها ، وإحكام أساسها ، وإنَّه لا حياة للمسلمين اليوم إلاّ بالتمسُّك بعروتها ، والمحافظة عليها ، وإلاّ فلا حياة عزيزة ، ولا ميتة شريفة.

ولو عرف المسلمون حقيقة مذهب الشِّيعة ، وأنصفوا أنفسهم وإخوانهم ، لأماتوا روح تلك النشرات الخبيثة التي تثير الحفيظة ، وتزرع الضغينة ، وتكون قرة عين وأكبر سلاح للمستعمرين ولملاحدة العصر ، الَّذين هم أعداء كلُّ دين.

__________________

(١) هي الناقة التي في بصرها ضعف ، حيث تخبط إذا مشت ولا تتوقى شيئاً.

ومراده من قوله هذا رحمه الله : انَّ هذا الكاتب لم يكن يتلمَّس موضع خطاه ، فاخذ يتخبَّط في أقواله وآرائه دون بصيرة ودون هدى.

١٣٩

أفلا يثير الحفيظة ، ويؤجج نار الشَّحناء في صدور عامة الشِّيعة ما يقوله في ( فجر الاسلام ) صفحة ٣٣ : « أنَّ التشيُّع كان مأوى يلجأ اليه كلُّ من أراد هدم الاسلام » إلى آخر ما قال .. يكتب هذا وهو يعلم أنَّ النقد من ورائه ، والتمحيص على أثره ، يجرح عاطفة أًمَّة تُعدًّ بالملايين ، وتتكوَّن منها الطائفة العظمى من المسلمين.

ومن غريب الاتفاق أنَّ ( أحمد أمين ) في العام الماضي ( ١٣٤٩ هجري ) ـ بعد انتشار كتابه ، ووقوف عدّةٌ من علماء النجف عليه ـ زار ( مدينة العلم ) وحظي بالتشرُّف بأعتاب ( باب تلك المدينة ) في الوفد المصري المؤلَّف من زهاء ثلاثين بين مدرِّس وتلميذ ، وزارنا بجماعته ، ومكثوا هزيعاً (١) من ليلة من ليالي شهر رمضان في نادينا في محفل حاشد ، فعاتبناه على تلك الهفوات عتاباً خفيفاً ، وصفحنا عنه صفحاً جميلاً ، وأردنا أن نمرَّ عليه كراماً ونقول له سلاماً.

وكان أقصى ما عنده من الاعتذار « عدم الاطلاع وقلة المصادر »؟! فقلنا : وهذا أيضاً غير سديد ، فإنَّ من يريد أنْ يكتب عن موضوع يلزم عليه أولاً أن يستحضر العدة الكافية ، ويستقصي الاستقصاء التام ، وإلاّ فلا يجوز له الخوض فيه والتعرّض له ، وكيف أصبحت مكتبات الشيعة ومنها مكتبتنا المشتملة على ما يناهز خمسة آلاف مجلد أكثرها من كتب علماء السنّة ، وهي في بلدة كالنجف فقيرة من كلُّ شيء إلاّ من العلم والصلاح إنْ شاء الله ، ومكتبات القاهرة ـ ذات العظمة والشأن ـ خالية من كتب الشيعة إلاّ شيئاً لا يذكر.

__________________

(١) هزيعاً من الليل : أي طائفة منه ، وهو نحو من ثلثه أو ربعه.

الصحاح ـ هزع ـ ٣ : ١٣٠٦.

١٤٠