شرح العقيدة الطّحاويّة

ابن أبي العزّ الحنفي

شرح العقيدة الطّحاويّة

المؤلف:

ابن أبي العزّ الحنفي


المحقق: الشيخ محمّد ناصر الدين الألباني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بغداد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٤

فعند اختلافهما مثل أن يريد أحدهما تحريك جسم وآخر تسكينه. أو يريد أحدهما احياءه والآخر إماتته ـ : فإما أن يحصل مرادهما ، أو مراد أحدهما ، أو لا يحصل مراد واحد منهما. والاول ممتنع ، لانه يستلزم الجمع بين الضدين ، والثالث ممتنع ، لانه يلزم خلوّ الجسم عن الحركة والسكون ، وهو ممتنع ، ويستلزم أيضا عجز كل منهما ، والعاجز لا يكون إلها ، واذا حصل مراد أحدهما دون الآخر ، كان هذا هو الا له القادر ، والآخر عاجزا لا يصلح للالهية.

وتمام الكلام على هذا الاصل معروف في موضعه ، وكثير من أهل النظر يزعمون أن دليل التمانع هو معنى قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) الأنبياء : ٢٢. لاعتقادهم أن توحيد الربوبية الذي قرروه هو توحيد الالهية الذي بيّنه القرآن ، ودعت إليه الرسل عليهم‌السلام ، وليس الامر كذلك ، بل التوحيد الذي دعت إليه الرسل ، ونزلت به الكتب ، هو توحيد الالهية المتضمن توحيد الربوبية ، وهو عبادة الله وحده لا شريك له ، فإن المشركين من العرب كانوا يقرّون بتوحيد الربوبية ، وأن خالق السموات والارض واحد ، كما اخبر تعالى عنهم بقوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) لقمان : ٢٥. (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) المؤمنون : ٨٤ ، ٨٥. ومثل هذا كثير في القرآن ، ولم يكونوا يعتقدون في الأصنام أنها مشاركة لله في خلق العالم ، بل كان حالهم فيها كحال أمثالهم من مشركي الامم من الهند والترك والبربر وغيرهم ، تارة يعتقدون أن هذه تماثيل قوم صالحين من الأنبياء والصالحين ، ويتخذونهم (١٦) شفعاء ، ويتوسلون بهم الى الله ، وهذا كان أصل شرك العرب ، قال تعالى حكاية عن قوم نوح. (وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) ـ نوح : ٢٣ ـ وقد ثبت في «صحيح البخاري» ، وكتب التفسير ، وقصص الأنبياء وغيرها ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وغيره من السلف ، أن هذه اسماء قوم صالحين في قوم نوح ، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ، ثم صوّروا تماثيلهم ، ثم طال عليهم الأمد ، فعبدوهم

__________________

(١٦) في الاصل : ويتخذوهم. وهذا البحث انفردت به المخطوطة.

٨١

وأن هذه الاصنام بعينها صارت الى قبائل العرب ، ذكرها ابن عباس رضي الله عنهما ، قبيلة قبيلة (١٧) وقد ثبت في «صحيح مسلم» عن أبي الهيّاج الاسدي ، قال : قال لي عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه : ألا أبعثك على ما بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ «أمرني أن لا أدع قبرا مشرفا إلا سويته ، ولا تمثالا إلا طمسته» (١٨) وفي «الصحيحين» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في مرض موته : «لعن الله اليهود والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (١٩) يحذّر ما فعلوا ، قالت عائشة رضي الله عنها : ولو لا ذلك لا برز قبره ، ولكن كره أن يتخذ مسجدا ، وفي «الصحيحين» أنه ذكر في مرض موته كنيسة بأرض الحبشة ، وذكر من حسنها وتصاوير فيها ، فقال : «إن اولئك اذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا ، وصوّرا فيه تلك التصاوير ، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة» (٢٠). وفي «صحيح مسلم» عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال قبل أن يموت بخمس : «ان من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور انبيائهم وصالحيهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ، فاني أنهاكم عن ذلك» (٢١).

ومن أسباب الشرك عبادة الكواكب واتخاذ الاصنام بحسب ما يظن أنه مناسب للكواكب [من] طباعها.

وشرك قوم ابراهيم عليه‌السلام كان ـ فيما يقال ـ من هذا الباب. وكذلك الشرك بالملائكة والجن واتخاذ الاصنام لهم.

وهؤلاء كانوا مقرين بالصانع ، وأنه ليس للعالم صانعان ، ولكن اتخذوا هؤلاء

__________________

(١٧) صحيح وهو موقوف في حكم المرفوع.

(١٨) صحيح أخرجه مسلم وأحمد وغيرهما وله طرق ذكرتها في «ارواء الغليل» ، و «أحكام الجنائز» (ص ٢٠٧).

(١٩) صحيح وهو من حديث عائشة وأبي هريرة ، وله شواهد كثيرة. خرجتها في «تحذير الساجد» وفي «احكام الجنائز» (ص ٢١٦).

(٢٠) صحيح وهو من حديث عائشة ، خرجته في المصدر المذكور (ص ٢١٨).

(٢١) صحيح ، ورواه أبو عوانة في «صحيحه» أيضا ، وغيره ، وهو مخرج فيه أيضا (ص ٢١٧).

٨٢

شفعاء ، كما أخبر عنهم تعالى بقوله : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) الزمر : ٣. (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) يونس : ١٨.

وكذلك كان حال الامم السالفة المشركين الذين كذبوا الرسل. [كما] حكى الله تعالى عنهم في قصة صالح عليه‌السلام عن التسعة الرهط الذين تقاسموا بالله ، [أي تحالفوا بالله] ، لنبيتنّه وأهله. فهؤلاء المفسدون المشركون تحالفوا بالله على قتل نبيهم وأهله ، وهذا بيّن أنهم كانوا مؤمنين بالله ايمان المشركين.

فعلم أن التوحيد المطلوب هو توحيد الالهية (٢٢) ، الذي يتضمن توحيد الربوبية. قال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) الروم : ٣٠. (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ. وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ. لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ. وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) الروم : ٣١ ـ ٣٦ وقال تعالى : (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ابراهيم : ١٠ وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجسانه (٢٣)» ولا يقال : ان معناه يولد ساذجا لا يعرف توحيدا ولا شركا ، كما قال بعضهم ـ لما تلونا ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يروي عن ربه عزوجل : «خلقت عبادي حنفاء ، فاجتالتهم الشياطين» (٢٤) الحديث. وفي الحديث المتقدم ما يدل على ذلك ، حيث قال : «يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجسانه» ولم يقل : ويسلمانه. وفي

__________________

(٢٢) ذكر المؤلف النوع الأول والثاني ، ولم نجد في النسخة المخطوطة أو في النسخ المطبوعة ذكرا للثالث ، ويبدو أن محله هنا.

(٢٣)؟؟ عليه من حديث أبي هريرة وهو مخرج في «ارواء الغليل» (١٢٢٠).

(٢٤) رواه مسلم واحمد من حديث عياص بن حمار.

٨٣

رواية «يولد على الملّة» وفي أخرى : «على هذه الملّة».

وهذا الذي أخبر به صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي تشهد الادلة العقلية بصدقه. منها ؛ أن يقال : لا ريب أن الانسان قد يحصل له من الاعتقادات والارادات ما يكون حقا ، وتارة ما يكون باطلا ، وهو حساس متحرك بالارادات (٢٤١) ، ولا بد له من أحدهما ، ولا بد له من مرجح لاحدهما. ونعلم أنه اذا عرض على كل أحد أن يصدق وينتفع وأن يكذّب ويتضرر ، مال بفطرته الى أن يصدق وينتفع ، وحينئذ فالاعتراف بوجود الصانع الايمان به هو الحق أو نقيضه ، والثاني فاسد قطعا ، فتعين الاول ، فوجب أن يكون في الفطرة ما يقتضي معرفة الصانع والايمان به. وبعد ذلك : أما أن يكون في فطرته [محبته أنفع للعبد أو لا. والثاني فاسد قطعا ، فوجب أن يكون في فطرته] محبة ما ينفعه.

ومنها : أنه مفطور على جلب المنافع ودفع المضار بحسّه. وحينئذ لم تكن فطرة كل واحد مستقلة بتحصيل ذلك ، بل يحتاج الى سبب معين للفطرة ، كالتعليم ونحوه ، فاذا وجد الشرط وانتفى المانع استجابت لما فيها من المقتضي لذلك.

ومنها : أن يقال : من المعلوم أن كل نفس قابلة للعلم وإرادة الحق ، ومجرد التعليم والتحضيض لا يوجب العلم والإرادة ، لو لا أن في النفس قوة تقبل ذلك ، والا فلو علم الجهال والبهائم وحضّضا لم يقبلا. ومعلوم أن حصول اقرارها بالصانع ممكن من غير سبب منفصل من خارج ، وتكون الذات كافية في ذلك ، فاذا كان المقتضي قائما في النفس وقدّر عدم المعارض ، فالمقتضي السالم عن المعارض يوجب مقتضاه ، فعلم أن الفطرة (٢٥) السليمة اذا لم يحصل لها ما يفسدها ، كانت مقرة بالصانع عابدة له.

ومنها : أن يقال ؛ أنه اذا لم يحصل المفسد الخارج ولا المصلح الخارج ، كانت الفطرة مقتضية للصلاح ، لان المقتضي فيها للعلم والإرادة قائم ، والمانع منتف.

ويحكى عن أبي حنيفة رحمه‌الله : أن قوما من أهل الكلام أرادوا البحث معه في

__________________

(٢٤١) في الاصل : بالإرادة.

(٢٥) قال عفيفي : انظر الباب الثلاثين من كتاب «شفاء العليل» لابن القيم ، فإنه نقل اقوال العلماء في تفسير الفطرة ، ووفى المقام حقه.

٨٤

تقرير توحيد الربوبية. فقال لهم : أخبروني قبل أن نتكلم في هذه المسألة عن سفينة في دجلة ، تذهب فتمتلئ من الطعام والمتاع وغيره بنفسها ، وتعود بنفسها ، فترسي بنفسها ، وتفرغ وترجع ، كل ذلك من غير أن يدبّرها أحد؟!! فقالوا : هذا محال لا يمكن أبدا! فقال لهم : اذا كان هذا محالا في سفينة ، فكيف في هذا العالم كله علوه وسفله!! وتحكى هذه الحكاية أيضا عن غير أبي حنيفة.

فلو أقر رجل بتوحيد الربوبية ، الذي يقر به هؤلاء النظار ، ويفنى فيه كثير من أهل التصوف ، ويجعلونه غاية السالكين ، كما ذكره صاحب «منازل السائرين» وغيره ، وهو مع ذلك ان لم يعبد الله وحده ويتبرأ من عبادة ما سواه ـ كان مشركا من جنس أمثاله من المشركين.

والقرآن مملوء من تقرير هذا التوحيد وبيانه وضرب الامثال له. ومن ذلك أنه يقرر توحيد الربوبية ، ويبين انه لا خالق الا الله ، وأن ذلك مستلزم أن لا يعبد الا الله ، فيجعل الأول دليلا على الثاني ، اذ كانوا يسلّمون [في] الأول (٢٦) وينازعون في الثاني ، فيبين لهم سبحانه أنكم اذا كنتم تعلمون أنه لا خالق الا الله [وحده] ، وأنه هو الذي يأتي العباد بما ينفعهم ، ويدفع عنهم ما يضرهم ، لا شريك له في ذلك ، فلم تعبدون غيره ، وتجعلون معه آلهة اخرى؟

كقوله تعالى : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى ، آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) النمل : ٥٩ الآيات. يقول الله تعالى في آخر كل آية : (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) أي أإله مع الله فعل هذا؟ وهذا استفهام انكار ، يتضمن نفي ذلك ، وهم كانوا مقرين بأنه لم يفعل ذلك غير الله ، [فاحتج عليهم بذلك ، وليس المعنى أنه استفهام هل مع الله إله ، كما ظنه بعضهم ، لأن هذا المعنى لا يناسب سياق الكلام ، والقوم كانوا يجعلون مع الله] آلهة أخرى ، كما قال تعالى : (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ) الانعام : ١٩. وكانوا يقولون : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ

__________________

(٢٦) في الأصل : للأول.

٨٥

عُجابٌ) ص : ٥. لكنهم ما كانوا يقولون : ان معه إلها (جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً ، وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً ، وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً) النمل : ٦١. بل هم مقرّون بأن الله وحده فعل هذا ، وهكذا سائر الآيات. وكذلك قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة : ٢١. وكذلك قوله في سورة الانعام : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ) الانعام : ٤٦. وأمثال ذلك.

واذا كان توحيد الربوبية ، الذي يجعله هؤلاء النظار ، ومن وافقهم من الصوفية هو الغاية في التوحيد ـ : داخلا في التوحيد الذي جاءت به الرسل ، ونزلت به الكتب ، فليعلم أن دلائله متعددة ، كدلائل اثبات الصانع ودلائل صدق الرسول ، فان العلم كلما كان الناس إليه أحوج كانت أدلته أظهر ، رحمة من الله بخلقه.

والقرآن قد ضرب الله للناس فيه من كل مثل ، وهي المقاييس العقلية المفيدة للمطالب الدينية ، لكن القرآن يبين الحق في الحكم والدليل ، فما ذا بعد الحق إلا الضلال؟ وما كان من المقدمات معلومة ضرورية متفقا عليها ، استدل بها ، ولم يحتج الى الاستدلال عليها.

والطريقة الفصيحة في البيان أن تحذف ، وهي طريقة [القرآن ، بخلاف ما يدعيه الجهال ، الذين يظنون أن القرآن ليس فيه طريقة] برهانية ، بخلاف ما قد يشتبه ويقع فيه نزاع ، فانه يبينه ويدل عليه.

ولما كان الشرك في الربوبية معلوم الامتناع عند الناس كلهم ، باعتبار اثبات خالقين متماثلين في الصفات والافعال ، وانما ذهب بعض المشركين الى أن ثمّ خالقا خلق بعض العالم ، كما يقوله الثنوية في الظلمة ، وكما يقوله القدرية في أفعال الحيوان ، وكما يقوله الفلاسفة الدّهرية في حركة الافلاك أو حركات النفوس ، أو الاجسام الطبيعية ، فان هؤلاء يثبتون أمورا محدثة بدون احداث الله اياها ، فهم مشركون في بعض الربوبية ، وكثير من مشركي العرب وغيرهم قد يظن في آلهته شيئا من نفع أو ضر ، بدون أن يخلق الله ذلك.

٨٦

فلما كان هذا الشرك في الربوبية موجودا في الناس ، بيّن القرآن بطلانه ، كما في قوله تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) المؤمنون : ٩١. فتأمل هذا البرهان الباهر ، بهذا اللفظ الوجيز الظاهر. فإن الإله الحق لا بد أن يكون خالقا فاعلا ، يوصل الى عابده (٢٦١) النفع ويدفع عنه الضر ، فلو كان معه سبحانه إله آخر يشركه في ملكه ، لكان له خلق وفعل ، وحينئذ فلا يرضى تلك الشركة ، بل أن قدر على قهر ذلك الشريك وتفرده بالملك والالهية دونه فعل ، وإن لم يقدر على ذلك انفرد [بخلقه وذهب بذلك الخلق ، كما ينفرد ملوك الدنيا بعضهم عن بعض بملكه ، اذا لم يقدر المنفرد] منهم على قهر الآخر والعلو عليه. فلا بد من أحد ثلاثة أمور :

أما أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه.

واما أن يعلو بعضهم على بعض.

واما أن يكونوا تحت قهر ملك واحد يتصرف فيهم كيف يشاء ، ولا يتصرفون فيه ، بل يكون وحده هو الإله ، وهم العبيد المربوبون المقهورون من كل وجه.

وانتظام أمر العالم كله واحكام أمره ، من أدل دليل على أن مدبّره إله واحد ، وملك واحد ، ورب واحد ، لا إله للخلق غيره ، ولا رب لهم سواه. كما قد دل [دليل] التمانع على أن خالق العالم واحد ، لا رب غيره ولا إله سواه ، فذلك تمانع في الفعل والايجاد ، وهذا تمانع في العبادة والالهية. فكما يستحيل أن يكون للعالم ربان خالقان متكافئان ، كذلك يستحيل أن يكون [لهم] إلهان معبودان.

فالعلم بأن وجود العالم عن صانعين متماثلين ممتنع لذاته ، مستقر في الفطر معلوم بصريح العقل بطلانه ، فكذا تبطل إلهية اثنين. فالآية الكريمة موافقة لما ثبت واستقر في الفطر من توحيد الربوبية ، دالة مثبتة مستلزمة لتوحيد الالهية.

وقريب من معنى هذه الآية قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) الأنبياء : ٢٢. وقد ظن طوائف أن هذا دليل التمانع الذي تقدم ذكره ، وهو أنه لو

__________________

(*) في الاصل : عباده.

٨٧

كان للعالم صانعان الخ ، وغفلوا عن مضمون الآية ، فإنه سبحانه أخبر أنه لو كان فيهما آلهة غيره ، ولم يقل أرباب.

وأيضا فإن هذا انما هو بعد وجودهما ، وأنه لو كان فيهما وهما موجودتان آلهة سواه لفسدتا.

وأيضا فإنه قال : (لفسدتا) ، وهذا فساد بعد الوجود ، ولم يقل : لم يوجدا. ودلت الآية على أنه لا يجوز أن يكون فيهما آلهة متعددة ، بل لا يكون الاله إلّا واحد ، وعلى أنه لا يجوز أن يكون هذا الاله الواحد الا الله سبحانه وتعالى ، وأن فساد السموات والارض يلزم من كون الآلهة فيهما متعددة ، ومن كون الاله الواحد غير الله وأنه لا صلاح لهما الا بأن يكون الاله فيهما هو الله وحده لا غيره. فلو كان للعالم إلهان معبودان لفسد نظامه كله ، فإن قيامه انما هو بالعدل ، وبه قامت السموات والارض.

وأظلم الظلم على الاطلاق الشرك ، وأعدل العدل التوحيد.

وتوحيد الالهية متضمن لتوحيد الربوبية دون العكس. فمن لا يقدر على أن يخلق يكون عاجزا ، والعاجز لا يصلح أن يكون إلها. قال تعالى : (أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) الاعراف : ١٩١. وقال تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) النحل : ١٧. وقال تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) الاسراء : ٤٢.

وفيها للمتأخرين قولان : أحدهما : لاتخذوا سبيلا الى مغالبته ، والثاني ، وهو الصحيح المنقول عن السلف ، كقتادة وغيره ، وهو الذي ذكره ابن جرير ولم يذكر غيره ـ : لاتخذوا سبيلا بالتقرب إليه ، كقوله تعالى : (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) الدهر : ٢٩. وذلك أنه قال : (لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ) وهم لم يقولوا : ان العالم [له] صانعان ، بل جعلوا معه آلهة اتخذوهم شفعاء ، وقالوا : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) الزمر : ٣ ، بخلاف الآية الاولى.

٨٨

[انواع التوحيد الذي دعت إليه الرسل]

ثم التوحيد الذي دعت إليه رسل الله ونزلت به كتبه نوعان : توحيد في الاثبات والمعرفة ، وتوحيد في الطلب والقصد.

فالاول : هو اثبات حقيقة ذات الرب تعالى وصفاته وأفعاله وأسمائه ، ليس كمثله شيء في ذلك كله ، كما أخبر به عن نفسه ، وكما أخبر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد أفصح القرآن عن هذا [النوع] كل الافصاح ، كما في أول (الحديد) و (طه) وآخر (الحشر) وأول (الم تنزيل السجدة) وأول (آل عمران) وسورة (الاخلاص) بكمالها ، وغير ذلك.

والثاني : وهو توحيد الطلب والقصد ، مثل ما تضمنته سورة (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) ، و (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) آل عمران : ٦٤ ، وأول سورة (تنزيل الكتاب) وآخرها ، وأول سورة (يونس) وأوسطها وآخرها ، وأول سورة (الاعراف) وآخرها ، وجملة سورة (الانعام).

وغالب سور القرآن متضمنة لنوعي التوحيد ، بل كل سورة في القرآن. فالقرآن اما خبر عن الله وأسمائه وصفاته ، وهو التوحيد العلمي الخبري. وأما دعوة الى عبادته وحده لا شريك له ، وخلع ما يعبد من دونه ، فهو التوحيد الارادي الطلبي. وأما أمر ونهي والزام بطاعته ، فذلك من حقوق التوحيد ومكملاته. واما خبر عن اكرامه لاهل توحيده ، وما فعل بهم في الدنيا وما يكرمهم به في الآخرة ، فهو جزاء توحيده. وأما خبر عن أهل الشرك ، وما فعل بهم في [الدنيا] (٢٧) من النكال ، وما يحلّ بهم في العقبى من العذاب فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد.

فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه ، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم. ف (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) توحيد ، (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) توحيد ، (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) توحيد ، (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) توحيد ، (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)

__________________

(٢٧) في الاصل : (العقبى) والصواب من المطبوعة.

٨٩

توحيد متضمن لسؤال الهداية الى طريق أهل التوحيد ، (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ، (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) الذين فارقوا التوحيد.

وكذلك شهد الله لنفسه بهذا التوحيد ، وشهدت له به ملائكته وأنبياؤه ورسله. قال تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) آل عمران : ١٨ ، ١٩. فتضمنت هذه الآية الكريمة اثبات حقيقة التوحيد ، والرد على جميع طوائف الضلال ، فتضمنت أجلّ شهادة وأعظمها وأعدلها وأصدقها ، من أجلّ شاهد ، بأجلّ مشهود به.

وعبارات السلف في «شهد» ـ تدور على الحكم ، والقضاء ، والاعلام ، والبيان ، والاخبار. وهذه الاقوال كلها حق لا تنافي بينها : فان الشهادة تتضمن كلام الشاهد وخبره ، وتتضمن اعلامه واخباره وبيانه.

فلها أربع مراتب : فأول مراتبها : علم ومعرفة واعتقاد لصحة المشهود به وثبوته. وثانيها : تكلمه بذلك ، وان لم يعلم به غيره ، بل يتكلم بها مع نفسه ويتذكرها وينطق بها أو يكتبها. وثالثها : أن يعلم غيره بما يشهد به ويخبره [به] ويبينه له. ورابعها : أن يلزمه بمضمونها ويأمره به.

فشهادة الله سبحانه لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط تضمنت هذه المراتب الاربع : علمه بذلك سبحانه ، وتكلمه به ، واعلامه واخباره لخلقه به ، وأمرهم والزامهم به.

فأما مرتبة العلم فإن الشهادة تضمنتها ضرورة (٢٨) ، والا كان الشاهد شاهدا بما لا علم له به. قال تعالى : (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) الزخرف : ٨٦. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «على مثلها فاشهد» (٢٩) ، وأشار الى الشمس.

__________________

(٢٨) قال عفيفي : ما ذكره الشارح من قوله : انواع التوحيد.

(٢٩) ضعيف. أورده الحافظ ابن حجر في «بلوغ المرام من أدلة الاحكام» بلفظ : «على مثلها فاشهد ، أودع» وقال : «اخرجه ابن عدي باسناد ضعيف ، وصححه الحاكم فأخطأ» وقد خرجته في «الإرواء» (٢٦٦٧).

٩٠

وأما مرتبة التكلم والخبر ، فقال تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) الزخرف : ١٩. فجعل ذلك منهم شهادة ، وان لم يتلفظوا بلفظ الشهادة ولم يؤدوها عند غيرهم.

وأما مرتبة الإعلام والاخبار فنوعان : اعلام بالقول ، واعلام بالفعل. وهذا شأن كل معلم لغيره بأمر : تارة يعلمه به بقوله ، وتارة بفعله. ولهذا كان من جعل داره مسجدا وفتح بابها وأفرزها بطريقها وأذن للناس بالدخول والصلاة فيها ـ : معلما أنها وقف ، وان لم يتلفظ به. وكذلك من وجد متقربا الى غيره بأنواع المسارّ ، يكون معلما له ولغيره أنه يحبه ، وان لم يتلفظ بقوله ، وكذلك بالعكس. وكذلك شهادة الرب عزوجل وبيانه واعلامه ، يكون بقوله تارة ، وبفعله أخرى. فالقول ما أرسل به رسله وأنزل به كتبه. وأما بيانه واعلامه بفعله فكما قال ابن كيسان : شهد الله بتدبيره العجيب وأموره المحكمة عند خلقه ـ : أنه لا إله الا هو. وقال آخر :

وفي كلّ شيء له آية

تدلّ على أنّه واحد

ومما يدل على أن الشهادة تكون بالفعل ، قوله تعالى : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) التوبة : ١٧. [فهذه شهادة منهم على أنفسهم] (٣٠) بما يفعلونه.

[والمقصود أنه سبحانه يشهد بما جعل آياته] (٣١) المخلوقة دالة عليه ، ودلالتها انما هي بخلقه وجعله.

وأما مرتبة الامر بذلك والالزام به ، وأن مجرد الشهادة لا يستلزمه ، لكن الشهادة في هذا الموضع تدل عليه وتتضمنه ـ فانه سبحانه شهد به شهادة من حكم به ، وقضى وأمر وألزم عباده به ، كما قال تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) الاسراء : ٢٣. وقال الله تعالى : (لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) النحل : ٥١. وقال تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) البيّنة : ٥. (وَما أُمِرُوا إِلَّا

__________________

(٣٠) اسقطت هذه العبارة وكلمة : (بالكفر) من الآية ، من الاصل.

(٣١) في الاصل : (والمقصد .. الآية).

٩١

لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً) التوبة : ٣١. وقال تعالى : (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ)؟؟ : ٢٢ و ٣٩. وقال تعالى : (وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) القصص : ٨٨. ومفرد كله شاهد بذلك.

ووجه استلزام شهادته سبحانه لذلك : أنه اذا شهد أنه لا إله الا هو ، فقد أخبر وبيّن وأعلم وحكم وقضى أن ما سواه ليس بإله ، أو آلهية ما سواه باطلة ، فلا يستحق العبادة سواه ، كما لا تصلح الالهية لغيره ، وذلك يستلزم الامر باتخاذه وحده إلها ، والنهي عن اتخاذ غيره معه إلها ، وهذا يفهمه المخاطب من هذا النفي والاثبات ، كما اذا رأيت رجلا يستفتي رجلا أو يستشهده أو يستطبه وهو ليس أهلا لذلك ، ويدع من هو أهل له ، فتقول : هذا ليس بمفت ولا شاهد ولا طبيب ، المفتي فلان ، والشاهد فلان ، والطبيب فلان ، فإن هذا أمر منه ونهي.

وأيضا : فالآية دلت على أنه وحده المستحق للعبادة ، فاذا أخبر أنه هو وحده المستحق للعبادة ، تضمن هذا الاخبار أمر العباد والزامهم بأداء ما يستحق الرب تعالى عليهم ، وأن القيام بذلك هو خالص حقه عليهم.

وأيضا : فلفظ «الحكم» و «القضاء» يستعمل في الجملة الخبرية ، ويقال للجملة الخبرية : قضية ، وحكم ، وقد حكم فيها بكذا. قال تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ. وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ. ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) الصافات : ١٥١ ـ ١٥٤. فجعل هذا الاخبار المجرد منهم حكما وقال تعالى : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ. ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) القلم : ٣٥ ـ ٣٦. لكن هذا حكم لا الزام معه.

والحكم والقضاء بأنه لا إله الا هو متضمن الالزام. ولو كان المراد مجرد شهادة لم يتمكنوا من العلم بها ، [ولم ينتفعوا بها ،] ولم تقم عليهم بها الحجة. بل قد تضمنت البيان للعباد ودلالتهم وتعريفهم بما شهد به ، كما أن الشاهد من العباد اذا كانت عنده شهادة ولم يبينها بل كتمها ، لم ينتفع بها أحد ، ولم تقم بها حجة.

٩٢

واذا كان لا ينتفع بها الا ببيانها ، فهو سبحانه قد بينها غاية البيان بطرق ثلاثة : السمع ، والبصر ، والعقل.

أما السمع : فبسمع آياته المتلوة المبينة لما عرفنا اياه من صفات كماله كلها الوحدانية وغيرها ، غاية البيان ، لا كما يزعمه الجهمية ومن وافقهم من المعتزلة ومعطلة بعض الصفات من دعوى احتمالات توقع في الحيرة ، تنافي البيان ال؟؟ وصف الله به كتابه العزيز ورسوله الكريم ، كما قال تعالى : (حم. وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) الزخرف : ١ ، ٢. (الر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) يوسف : ١ ، ٢ (الر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) الحجر : ١ ، ٢. (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) آل عمران : ١٣٨. (فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) المائدة ٩٢. والتغابن : ١٢. (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) النحل : ٤٤. وكذلك السنة تأتي مبينة أو مقررة لما دل عليه القرآن ، لم يحوجنا ربنا سبحانه وتعالى الى رأي فلان ، [ولا الى ذوق فلان] ووجب في أصول ديننا.

ولهذا نجد من خالف الكتاب والسنة مختلفين مضطرين. بل قد قال تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) المائدة : ٣. فلا يحتاج في تكميله الى أمر خارج عن الكتاب والسنة.

والى هذا المعنى أشار الشيخ أبو جعفر الطحاوي فيما يأتي من كلامه من قوله : لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا ، فإنه ما سلم في دينه الا من سلم لله عزوجل ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأما آياته العيانية الخلقية : فالنظر فيها والاستدلال بها يدل على ما تدل عليه آياته القولية السمعية ، والعقل يجمع بين هذه وهذه ، ويجزم بصحة ما جاءت به الرسل ، فتتفق شهادة السمع والبصر والعقل والفطرة.

فهو سبحانه لكمال عدله ورحمته واحسانه وحكمته ومحبته للعذر واقامة الحجة ـ لم يبعث نبيّا إلا ومعه آية تدل على صدقه فيما أخبر به ، قال تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) الحديد : ٢٥.

٩٣

وقال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) النحل : ٤٣ ، ٤٤. [وقال تعالى : (قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) آل عمران : ١٨٣.] وقال تعالى : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) آل عمران : ١٨٤. وقال تعالى : (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ) الشورى : ١٧. حتى ان من أخفى آيات الرسل آيات هود ، حتى قال له قومه : يا هود ما جئتنا ببينة ، ومع هذا فبينته من أوضح البينات لمن وفّقه الله لتدبرها ، وقد أشار إليه بقوله : (إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) هود : ٥٤ ـ ٥٦. فهذا من أعظم الآيات : أن رجلا واحدا يخاطب أمة عظيمة بهذا الخطاب ، غير جزع ولا فزع ولا خوّار ، بل هو واثق بما قاله ، جازم به ، فأشهد الله أولا على براءته من دينهم وما هم عليه ، اشهاد واثق به معتمد عليه ، معلم لقومه أنه وليه وناصره وغير مسلّط لهم عليه. ثم أشهدهم اشهاد مجاهر لهم بالمخالفة أنه بريء من دينهم وآلهتهم التي يوالون عليها ويعادون عليها ويبذلون دماءهم وأموالهم في نصرتهم لها ، ثم أكد ذلك عليهم بالاستهانة لهم واحتقارهم وازدرائهم. ولو يجتمعون كلهم على كيده وشفاء غيظهم منه ، ثم يعاجلونه ولا يمهلونه [لم يقدروا على ذلك الا ما كتبه الله عليه]. ثم قرر دعوتهم أحسن تقرير ، وبين أن ربه تعالى وربهم الذي نواصيهم بيده هو وليه ووكيله القائم بنصره وتأييده ، وأنه على صراط مستقيم ، فلا يخذل من توكل عليه وأقر به ، ولا يشمت به أعداءه.

فأي آية وبرهان أحسن من آيات الأنبياء عليهم‌السلام وبراهينهم وأدلتهم؟ وهي شهادة من الله سبحانه لهم بينها لعباده غاية البيان.

ومن أسمائه تعالى «المؤمن» وهو في أحد التفسيرين : المصدق الذي يصدق الصادقين مما يقيم لهم من شواهد صدقهم ، فإنه لا بد أن يري العباد من الآيات الافقية والنفسية ما يبين لهم أن الوحي الذي بلّغه رسله حق [قال] تعالى :

٩٤

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) فصلت : ٥٣. أي القرآن ، فانه هو المتقدم في قوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) فصلت : ٥٢. ثم قال : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فصلت : ٥٣. فشهد سبحانه لرسوله بقوله أن ما جاء به حق ، ووعد أنه يري العباد من آياته الفعلية الخلقية ما يشهد بذلك أيضا. ثم ذكر ما هو أعظم من ذلك كله وأجلّ ، وهو شهادته سبحانه [بأنه] على كل شيء شهيد ، فإن من أسمائه الشهيد الذي لا يغيب عنه شيء ، ولا يعزب عنه ، بل هو مطلع على كل شيء مشاهد له ، عليم بتفاصيله. وهذا استدلال بأسمائه وصفاته ، والاول استدلال بقوله وكلماته ، واستدلاله بالآيات الافقية والنفسية استدلال بأفعاله ومخلوقاته.

فإن قلت : كيف يستدل بأسمائه وصفاته ، فإن الاستدلال بذلك لا يعهد في الاصطلاح؟

فالجواب : أن الله تعالى قد أودع في الفطرة التي لم تتنجس بالجحود والتعطيل ، ولا بالتشبيه والتمثيل ، أنه سبحانه الكامل في أسمائه وصفاته ، وأنه الموصوف بما وصف به نفسه ووصفه به رسله ، وما خفي عن الخلق من كماله أعظم وأعظم مما يعرفونه منه. ومن كماله المقدّس شهادته على كل شيء واطلاعه عليه ، بحيث لا يغيب عنه ذرة في السموات ولا في الارض باطنا وظاهرا. ومن هذا شأنه كيف يليق بالعباد أن يشركوا به ، وأن يعبدوا غيره ويجعلوا معه إلها آخر؟ وكيف يليق بكماله أن يقرّ من يكذب عليه أعظم الكذب ، ويخبر عنه بخلاف ما الامر عليه ، ثم ينصره على ذلك ويؤيده ويعلي شأنه ويجيب دعوته ويهلك عدوه ، ويظهر على دينه من الآيات والبراهين ما يعجز عن مثله قوى البشر ، وهو مع ذلك كاذب غير مفتر؟!

ومعلوم أن؟؟ سبحانه على كل شيء وقدرته وحكمته وعزته وكماله المقدس يأبى ذلك. ومن جوّز ذلك فهو من أبعد الناس عن معرفته.

والقرآن مملوء من هذه الطريق ، وهي طريق الخواص ، يستدلون بالله على أفعاله وما يليق به أن يفعل [ولا يفعله] ، قال تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ.

٩٥

لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) الحاقة ٤٤ ـ ٤٧. وسيأتي لذلك زيادة بيان ان شاء الله تعالى. ويستدل أيضا بأسمائه وصفاته على وحدانيته وعلى بطلان الشرك ، كما في قوله تعالى : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) الحشر : ٢٣. وأضعاف ذلك في القرآن. وهذه الطريق قليل سالكها ، لا يهتدي إليها الا الخواصّ. وطريقة الجمهور الاستدلال بالآيات المشاهدة ، لانها أسهل تناولا وأوسع. والله سبحانه يفضّل بعض خلقه على بعض.

فالقرآن العظيم قد اجتمع فيه ما لم يجتمع في غيره ، فانه الدليل والمدلول عليه ، والشاهد والمشهود له. قال تعالى لمن طلب آية تدل على صدق رسوله : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) العنكبوت : ٥١ الآيات.

واذا عرف أن توحيد الالهية هو التوحيد الذي أرسلت به الرسل وأنزلت به الكتب ، كما تقدمت إليه الاشارة ـ فلا يلتفت الى قول من قسم التوحيد الى ثلاثة أنواع ، وجعل هذا النوع توحيد العامة ، والنوع الثاني توحيد الخاصة ، وهو الذي يثبت بالحقائق ، والنوع الثالث توحيد قائم بالقدم ، وهو توحيد خاصة الخاصة ، فإن أكمل الناس توحيد الأنبياء [صلوات الله عليهم ،] والمرسلون منهم أكمل في ذلك ، وأولو العزم من الرسل أكملهم توحيدا ، وهم : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد ، صلى الله وسلم عليهم أجمعين. وأكملهم توحيدا الخليلان : محمد وإبراهيم ، صلوات الله عليهما وسلامه ، فانهما قاما من التوحيد بما لم يقم به غيرهما علما ، ومعرفة ، وحالا ، ودعوة للخلق وجهادا ، فلا توحيد أكمل من الذي قامت به الرسل ، ودعوا إليه ، وجاهدوا الامم عليه. ولهذا أمر سبحانه نبيه ان يقتدي بهم فيه ، كما قال تعالى ، بعد ذكر مناظرة ابراهيم قومه في بطلان الشرك وصحة التوحيد وذكر الأنبياء من ذريته : ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) الانعام : ٩٠. فلا أكمل من توحيد من أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقتدي بهم. وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلم أصحابه اذا أصبحوا أن يقولوا : «أصبحنا على فطرة الاسلام

٩٦

وكلمة الاخلاص ودين نبينا محمد وملة أبينا ابراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين» (٣٢). فملة ابراهيم : التوحيد ، ودين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما جاء به من عند الله قولا وعملا واعتقادا. وكلمة الاخلاص : هي شهادة أن لا إله الا الله. وفطرة الاسلام : هي ما فطر عليه عباده من محبته وعبادته وحده لا شريك له ، والاستسلام له عبودية وذلا وانقيادا وإنابة.

فهذا توحيد خاصة الخاصة ، الذي من رغب عنه فهو من أسفه السفهاء. قال تعالى : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) البقرة : ١٣١ ، ١٣٢. وكل من له حس سليم وعقل يميز به ، لا يحتاج في الاستدلال الى اوضاع أهل الكلام والجدل واصطلاحهم وطرقهم البتة ، بل ربما يقع بسببها في شكوك وشبه يحصل له بها الحيرة والضلال والريبة ، فإن التوحيد انما ينفع اذا سلم قلب صاحبه من ذلك ، وهذا هو القلب السليم الذي لا يفلح الا من أتى الله به. ولا شك أن النوع الثاني والثالث من التوحيد الذي ادعوا انه توحيد الخاصة وخاصة الخاصة ، ينتهي الى الفناء الذي يشمّر إليه غالب الصوفية ، وهو درب خطر ، يفضي الى الاتحاد. انظر الى ما أنشد شيخ الاسلام ابو اسماعيل الانصاري رحمه‌الله تعالى حيث يقول :

ما وحد الواحد من واحد

اذ كل من وحده جاحد

توحيد من ينطق عن نعته

عارية أبطلها الواحد

توحيده اياه توحيده

ونعت من ينعته لاحد

__________________

(٣٢) حديث صحيح. أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد «المسند» (٥ / ١٢٣) عن عبد الرحمن بن أبزى عن أبي بن كعب قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلمنا اذا أصبحنا : أصبحنا على فطرة الاسلام .. الحديث. وفي آخره : واذا أمسينا مثل ذلك. وسنده ضعيف. لكن أخرجه أحمد (٣ / ٤٠٦ ، ٤٠٧) والدارمي (٢ / ٢٩٢) وابن السني في «اليوم والليلة» (رقم ٣٢) من طريقين آخرين عن عبد الرحمن بن أبزى قال : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اذا أصبح قال» فذكره. وسنده صحيح.

٩٧

وان كان قائله رحمه‌الله لم يرد به الاتحاد ، لكن ذكر لفظا مجملا محتملا جذبه به الاتحادي إليه ، وأقسم بالله جهد أيمانه أنه معه ، ولو سلك الالفاظ الشرعية التي لا أجمال فيها كان أحق ، مع أن المعنى الذي حام حوله لو كان مطلوبا منا لنبّه الشارع عليه ودعا الناس إليه وبيّنه ، فإن على الرسول البلاغ المبين ، فأين قال الرسول : هذا توحيد العامة ، وهذا توحيد الخاصة ، وهذا توحيد خاصة الخاصة؟ أو ما يقرب من هذا المعنى؟ أو أشار الى هذه النقول والعقول حاضرة.

فهذا كلام الله المنزل على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذه سنة الرسول ، وهذا كلام خير القرون بعد الرسول ، وسادات العارفين من الأئمة ، هل جاء ذكر الفناء فيها ، وهذا التقسيم عن أحد منهم؟ وانما حصل هذا من زيادة الغلو في الدين ، المشبه لغلو [الخوارج ، بل] لغلو النصارى في دينهم. وقد ذم الله تعالى الغلو في الدين ونهى عنه ، فقال : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) النساء : ١٧١. (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) المائدة : ٧٧. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تشددوا فيشدد الله عليكم ، فإن من كان قبلكم شدّدوا فشدّد الله عليهم ، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات ، رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم» رواه أبو داود (٣٣).

قوله : (ولا شيء مثله).

ش : اتفق أهل السنة على أن الله ليس كمثله شيء ، لا في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله. ولكن لفظ التشبيه قد صار في كلام الناس لفظا مجملا يراد به المعنى الصحيح ، وهو ما نفاه القرآن ودل عليه العقل ، من أن خصائص الرب تعالى لا يوصف بها شيء من المخلوقات ، ولا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من صفاته : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) الشورى : ١١ ، ردّ على الممثلة المشبهة (وَهُوَ

__________________

(٣٣) (رقم ٤٩٠٤) وفيه سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء لم يوثقه غير ابن حبان ، ولم يرو عنه سوى اثنين وقد خرجته في «الضعيفة» (٣٤٦٨).

٩٨

السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ، رد على النفاة المعطلة ، فمن جعل صفات الخالق مثل صفات المخلوق ، فهو المشبّه المبطل المذموم ، ومن جعل صفات المخلوق مثل صفات الخالق ، فهو نظير النصارى في كفرهم ، ويراد به أنه لا يثبت لله شيء من الصفات ، فلا يقال : [له] قدرة ، ولا علم ، ولا حياة ، لأن العبد موصوف بهذه الصفات! ولازم هذا القول أنه لا يقال له : حي ، عليم ، قدير ، لأن العبد يسمى بهذه الاسماء ، وكذلك كلامه وسمعه وبصره (٣٤) [وارادته] وغير ذلك. وهم يوافقون أهل السنة على أنه موجود ، عليم قدير ، حي. والمخلوق يقال له : موجود حي عليم قدير ، ولا يقال : هذا تشبيه يجب نفيه ، وهذا مما دل عليه الكتاب والسنة وصريح العقل ، ولا يخالف فيه عاقل ، فإن الله سمى نفسه بأسماء ، وسمى بعض عباده بها ، وكذلك سمى صفاته بأسماء ، وسمى ببعضها صفات خلقه ، وليس المسمّى كالمسمي فسمى نفسه : حيا ، عليما ، قديرا ، رءوفا ، رحيما ، عزيزا ، حكيما ، سميعا ، بصيرا ، ملكا ، مؤمنا ، جبارا ، متكبرا. وقد سمى بعض عباده بهذه الاسماء فقال : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) الانعام : ٩٥ والروم : ١٩. (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) الذاريات : ٢٨. (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) الصافات : ١٠١. (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) التوبة : ١٢٨. (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً). الدهر : ٢. (قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ) يوسف : ٥١. (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ) الكهف : ٧٩. (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً) السجدة : ١٨. (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) المؤمن : ٣٥. ومعلوم أنه لا يماثل الحيّ الحيّ ، ولا العليم العليم ، ولا العزيز العزيز ، وكذلك سائر الاسماء ، وقال تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) البقرة : ٢٥٥. (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) النساء : ١٦٦. (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) فاطر : ١١ (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) الذاريات : ٥٨. (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) حم السجدة : ١٥. وعن جابر رضي الله عنه قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلمنا الاستخارة في الامور

__________________

(٣٤) في الاصل : وبصره ورؤيته وهما واحد ، ولعل المقصود بصره وإرادته كما هو في احدى النسخ المطبوعة.

٩٩

كلها كما يعلمنا السورة من القرآن ، يقول : اذا همّ أحدكم بالامر فليركع ركعتين من غير الفريضة ، ثم ليقل : اللهم اني أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم (٣٥) ، وأنت علام الغيوب ، اللهم ان كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ـ أو قال : عاجل أمري وآجله ـ فاقدره لي ، ويسره (٣٦) لي ، ثم بارك لي فيه ، وان كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ـ أو قال : عاجل أمري وآجله ـ فاصرفه عني ، واصرفني عنه ، واقدر لي الخير حيث كان ، ثم رضّني به. قال : «ويسمي حاجته» (٣٧) ، رواه البخاري. وفي حديث عمار بن ياسر الذي رواه النسائي وغيره ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه كان يدعو بهذا الدعاء : «اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق ، أحيني ما كانت الحياة خيرا لي ، وتوفّني اذا كانت الوفاة خيرا لي ، اللهم اني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة ، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضى ، وأسألك القصد في الغنى والفقر ، وأسألك نعيما لا ينفد ، وقرة عين لا تنقطع ، وأسألك الرضى بعد القضاء ، وأسألك برد العيش بعد الموت ، وأسألك لذة النظر الى وجهك الكريم ، والشوق الى لقائك ، غير ضرّاء مضرة ، ولا فتنة مضلة ، اللهم زينا بزينة الايمان ، واجعلنا هداة مهتدين» (٣٨). فقد سمى الله ورسوله صفات الله علما وقدرة وقوة. وقال تعالى : (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) الروم : ٥٤. (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ) يوسف : ٦٨. ومعلوم

__________________

(٣٥) في المطبوعة : فإنك تعلم ولا اعلم ، وتقدر ولا أقدر ، وما أثبتناه هو الموافق لرواية البخاري.

(٣٦) في الاصل : ويسر : بدل : ويسره لي.

(٣٧) صحيح ، وحسبك ان البخاري اخرجه في «صحيحه» ، وقول أحمد في أحد رواته : «روى حديثا منكرا» يعني هذا ، لا يضره بعد قول احمد فيه «لا بأس به» ، وانما يضر ذلك فيما اذا خالف من هو أوثق منه ، وليس شيء من ذلك هنا. ثم وجدت له شاهدا من حديث أبي هريرة صححه ابن حبان ، وقد خرجته في «الضعيفة» (٢٣٠٥) لزيادة فيه عنده.

(٣٨) حديث صحيح ، وأخرجه الحاكم أيضا وصححه ووافقه الذهبي ، وهو مخرج في «الكلم الطيب» (١٠٥) و «ظلال الجنة في تخريج السنة» (١٢٩)

١٠٠