شرح العقيدة الطّحاويّة

ابن أبي العزّ الحنفي

شرح العقيدة الطّحاويّة

المؤلف:

ابن أبي العزّ الحنفي


المحقق: الشيخ محمّد ناصر الدين الألباني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بغداد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٤

العزيز بن باز ، والشيخ عبد الرزاق عفيفي بارك الله فيهما وغيرهم ، وكذلك الأمر عند علماء سائر الأمصار.

والحقيقة التي تنبه لها بعض الأفاضل أن القصد الكامن وراء ما ادعاه ذلك المتعصب على كتاب «شرح العقيدة الطحاوية» متسترا بالطعن بمخرج أحاديثها إنما هو الطعن في العقيدة نفسها وبمن يؤمن بها في العصر الحاضر ، وخصوصا ، وهي تؤيد عقيدة شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم ، ومجدد دعوة التوحيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليهم ، تعصبا للكوثري ، بل العلقمي ، الذي يتهم هؤلاء الأعلام بالتهم الباطلة ، ويلصق بهم وبعقيدتهم أشنع الأوصاف.

وإلا فما الذي يضر القارئ لو سكت الألباني عن تخريج حديث قال الشارح عنه : متفق عليه عند البخاري ومسلم ، أو قال هو كذلك ، أو قال : صحيح متفق عليه عندهما أو أحدهما ، أو نحو ذلك ، وقد قدمنا الحجة على ذلك!! ومنه تعلم أن هذا لا يضر القارئ ، فكذلك لا يضر الألباني الذي زادت مؤلفاته في الحديث الشريف وفقهه على الخمسين كتابا ، جعلها الله تعالى خالصة لوجهه الكريم ، وتقبلها منه بمنه وفضله ..

وكذلك فلن يضر ذلك ناشر الكتاب ، فإن المكتب الإسلامي ، وصاحبه الأخ السلفي الأستاذ زهير الشاويش ، وقد نشر حتى الآن ما يزيد على أربعمائة كتاب في العقيدة ، والتفسير والحديث ، والفقه ، لن يؤذيه تعطل كتاب له عند الجهة التي قدم المخبر تقريره إليها ، ولن يوقفه ذلك عن نشر كتب السلف بالروح العلمية والاتقان .. التي اشتهر بها ، فإنه مؤمن بهذه العقيدة ، ومن الدعاة إليها ، الذين آمنوا بها منذ نعومة أظفارهم ، خالصا لوجه الله ، دون ما رغبة أو رهبة ، بل نالهم الأذى في بلادهم ، والبلاد التي هاجروا إليها ، وأكثر ما نالهم الأذى بسبب هذه التقارير التي يقدمها الجواسيس والمخبرون ، المنتشرون في كل مكان ، مثل مقدم ذلك التقرير الجائر.

٦١

اسأل الله تعالى أن يطهر قلوبنا من الغل والحقد والحسد ، وأن يعمرها بالايمان والتوحيد الخالص ، مصفى من كل أوضار الشرك والوثنية ، وأن يلهمنا العمل الصالح ، والحب في الله ، والبغض في الله ، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)

بيروت / ١٩ رجب سنة ١٣٩١

محمّد ناصر الدّين الالباني

٦٢

٦٣

٦٤

٦٥

٦٦

٦٧
٦٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وبه نستعين

الحمد لله [، نحمده ، و] نستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا.

أما بعد : فإنه لما كان علم أصول الدين أشرف العلوم ، اذ شرف العلم بشرف المعلوم ، وهو الفقه الاكبر بالنسبة الى فقه الفروع ، ولهذا سمى الامام أبو حنيفة رحمة الله عليه ما قاله وجمعه في أوراق من أصول الدين : «الفقه الأكبر» وحاجة العباد إليه فوق كل حاجة ، وضرورتهم إليه فوق كل ضرورة ، لأنه لا حياة للقلوب ، ولا نعيم ولا طمأنينة ، الا بأن تعرف ربّها ومعبودها وفاطرها ، بأسمائه وصفاته وأفعاله. ويكون مع ذلك كله أحب إليها مما سواه ، ويكون سعيها فيما يقربها إليه دون غيره من سائر خلقه.

ومن المحال أن تستقل العقول بمعرفة ذلك وادراكه على التفصيل ، فاقتضت رحمة العزيز الرحيم أن بعث الرسل به معرّفين ، وإليه داعين ، ولمن أجابهم مبشرين ، ولمن خالفهم منذرين ، وجعل مفتاح دعوتهم ، وزبدة رسالتهم ، معرفة المعبود سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله ، اذ على هذه المعرفة تبنى مطالب الرسالة كلها من أولها الى آخرها.

ثم يتبع ذلك أصلان عظيمان :

٦٩

أحدهما : تعريف الطريق الموصل إليه ، [وهي شريعته المتضمنة لامره ونهيه.

والثاني : تعريف السالكين ما لهم بعد الوصول إليه] من النعيم المقيم. فأعرف الناس بالله عزوجل أتبعهم للطريق الموصل إليه ، وأعرفهم بحال السالكين عند القدوم عليه. ولهذا سمى الله ما أنزله على رسوله روحا ، لتوقف الحياة الحقيقية عليه ، ونورا لتوقف الهداية عليه. فقال الله تعالى : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) المؤمن : ١٥. وقال تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) الشورى : ٥٢ ، ٥٣. ولا روح الا فيما جاء به الرسول ، ولا نور الا في الاستضاءة به ، وسماه الشفاء ، كما قال تعالى : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) فصلت : ٤٤. فهو وان كان هدى وشفاء مطلقا ، لكن لما كان المنتفع بذلك هم المؤمنين ، خصوا بالذكر.

والله تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ، فلا هدى الا فيما جاء به.

ولا ريب أنه يجب على كل أحد أن يؤمن بما جاء به الرسول ايمانا عاما مجملا ، ولا ريب أن معرفة ما جاء به الرسول على التفصيل فرض على الكفاية ، فان ذلك داخل في تبليغ ما بعث الله به رسوله ، وداخل في تدبّر القرآن وعقله وفهمه ، وعلم الكتاب والحكمة ، وحفظ الذكر ، والدعاء الى الخير ، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والدعاء الى سبيل الرب بالحكمة والموعظة الحسنة ، والمجادلة بالتي هي أحسن ، ونحو ذلك مما (١) أوجبه الله على المؤمنين ، فهو واجب على الكفاية منهم.

وأما ما يجب على أعيانهم : فهذا يتنوع بتنوع قدرهم ، وحاجتهم ومعرفتهم ، وما أمر به أعيانهم ، ولا يجب على العاجز عن سماع بعض العلم أو عن فهم دقيقه ما يجب على القادر على ذلك. ويجب على من سمع النصوص وفهمها من علم التفصيل ما لا يجب على من لم يسمعها ، ويجب على المفتي والمحدّث والحاكم ما لا يجب على من ليس كذلك.

__________________

(١) في الاصل : ما.

٧٠

وينبغي أن [يعرف] أن عامة من ضل في هذا الباب أو عجز فيه عن معرفة الحق ، فإنما هو لتفريطه في اتباع ما جاء به الرسول ، وترك النظر والاستدلال الموصل الى معرفته. فلما أعرضوا عن كتاب الله ضلوا ، كما قال تعالى : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى. وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى. قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً. قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) طه : ١٢٣ ـ ١٢٦.

قال ابن عباس رضي الله عنهما : تكفّل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ، [أن] لا يضل في الدنيا ، ولا يشقى في الآخرة ثم قرأ هذه الآيات. وكما في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «انها ستكون فتن» قلت : فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال : «كتاب الله ، فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، هو الفصل ، ليس بالهزل ، من تركه من جبّار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، وهو الذي لا تزيغ به الاهواء ، ولا تلتبس به الالسن ، ولا تنقضي عجائبه ، ولا تشبع (٢) منه العلماء ، من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعا إليه هدي الى صراط مستقيم» (٣) الى غير ذلك من الآيات والاحاديث ، الدالة على مثل هذا المعنى.

ولا يقبل الله من الاولين والآخرين دينا يدينون به ، الا أن يكون موافقا لدينه الذي شرعه على ألسنة رسله عليهم‌السلام.

وقد نزّه الله تعالى نفسه عما يصفه العباد ، الا ما وصفه به المرسلون بقوله سبحانه : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ

__________________

(٢) في الاصل : يشبع. وفي «سنن الترمذي» بالياء والتاء.

(٣) هذا حديث جميل المعنى ، ولكن اسناده ضعيف ، فيه الحارث الاعور ، وهو لين ، بل اتهمه بعض الأئمة بالكذب ، ولعل أصله موقوف على علي رضي الله عنه ، فأخطأ الحارث فرفعه الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد ضعفه محرجه الترمذي نفسه فقال : «لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وإسناده مجهول ، وفي الحارث مقال».

٧١

لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) الصافات : ١٨٠ ـ ١٨٢. فنزّه نفسه سبحانه عما يصفه به الكافرون ، ثم سلّم على المرسلين ، لسلامة ما وصفوه به من النقائص والعيوب ، ثم حمد نفسه على تفرده بالاوصاف التي يستحق عليها كمال الحمد.

ومضى على ما كان عليه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم خير القرون ، وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان ، يوصي به الأول الآخر (٤) ويقتدي فيه اللاحق بالسابق. وهم في ذلك كله بنبيهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقتدون ، وعلى منهاجه سالكون ، كما قال تعالى في كتابه العزيز : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) يوسف : ١٠٨. فان كان قوله : (ومن اتّبعني) معطوفا على الضمير في (أدعو) ، فهو دليل على أن أتباعه هم الدعاة الى الله (٥). وان كان معطوفا على الضمير المنفصل ، فهو صريح أن أتباعه هم أهل البصيرة فيما جاء به دون غيرهم ، وكلا المعنيين حق.

وقد بلّغ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم البلاغ المبين ، وأوضح الحجة للمستبصرين ، وسلك سبيله خير ـ القرون.

ثم خلف من بعدهم خلف اتبعوا أهواءهم ، وافترقوا ، فأقام الله لهذه الامة من يحفظ عليها أصول دينها ، كما أخبر الصادق صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خذلهم» (٦).

وممن قام بهذا الحق من علماء المسلمين : الامام أبو جعفر احمد بن محمد بن سلامة الازدي الطحاوي ، تغمده الله برحمته ، بعد المائتين ، فإن مولده سنة تسع وثلاثين ومائتين ، ووفاته [سنة احدى وعشرين] وثلاثمائة (٧).

__________________

(٤) في الاصل : للآخر.

(٥) قال الشيخ عبد الرزاق عفيفي : انظر «موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول» لشيخ الاسلام ابن تيمية ص ٢٧ / ٣٠ و ٩٥ الجزء الأول.

كل تعليقات استاذنا الشيخ عبد الرزاق عفيفي محالة على طبعة «السنة النبوية» بتحقيق الشيخ حامد الفقي ـ رحمه‌الله ـ ولكن الكتاب طبع بتحقيق جديد متقن من قبل الدكتور محمد رشاد سالم بأحد عشر مجلدا باسم «درء تعارض العقل والنقل».

(٦) متفق عليه من حديث جمع من الصحابة ، «الصحيحة» (٢٧٠).

(٧) تجد ترجمته مفصلة في : «تذكرة الحفاظ» للذهبي ٣ : ٢٨ ـ ٢٩ و «تاريخ ابن كثير» ـ

٧٢

فأخبر رحمه‌الله عما كان عليه السلف ، ونقل عن الامام أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي ، وصاحبيه أبي سوف يعقوب بن ابراهيم الحميري الانصاري ، ومحمد بن الحسن الشيباني رضي الله عنهم ـ ما كانوا يعتقدون من أصول الدين ، ويدينون به رب العالمين.

وكلما بعد العهد ، ظهرت البدع ، وكثر التحريف ، الذي سماه أهله تأويلا ليقبل ، وقل من يهتدي الى الفرق بين التحريف والتأويل. اذ قد يسمى (٨) صرف الكلام عن ظاهره الى معنى آخر يحتمله اللفظ في الجملة تأويلا ، وان لم يكن ثمّ قرينة توجب ذلك ، ومن هنا حصل الفساد. فإذا سموه تأويلا قبل وراج على من لا يهتدي الى الفرق بينهما.

فاحتاج المؤمنون بعد ذلك الى إيضاح الادلة ، ودفع الشبه الواردة عليها ، وكثر الكلام والشغب ، وسبب ذلك اصغاؤهم الى شبه المبطلين ، وخوضهم في الكلام المذموم ، الذي عابه السلف ، ونهوا عن النظر فيه والاشتغال به والاصغاء إليه ، امتثالا لامر ربهم ، حيث قال : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) الانعام : ٦٨. فان معنى الآية يشملهم. وكلّ من التحريف والانحراف على مراتب : فقد يكون كفرا ، وقد يكون فسقا ، وقد يكون معصية ، وقد يكون خطأ.

فالواجب اتباع المرسلين ، واتباع ما أنزله الله عليهم. و [قد] ختمهم الله بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجعله آخر الأنبياء ، وجعل كتابه مهيمنا على ما بين يديه من كتب السماء ، وأنزل عليه الكتاب والحكمة ، وجعل دعوته عامة لجميع الثقلين ، الجن والانس ، باقية الى يوم القيامة ، وانقطعت به حجة العباد على الله. وقد بيّن الله به كل شيء ،

__________________

ـ ١١ : ١٧٤. و «المنتظم» لابن الجوزي ٦ : ٢٥. و «شذرات الذهب» ٢ : ٢٨٨. و «اللباب» لابن الاثير ٢ : ٨٢. و «الجواهر المضية» لابن أبي الوفاء : ١ : ١٠٢ ـ ١٠٥. و «الفوائد البهية» : ٣١ ـ ٣٤. «ولسان الميزان» ١ : ٢٧٤ ـ ٢٨٢. و «تهذيب تاريخ ابن عساكر» ٢ : ٥٤ ـ ٥٥. و «ابن خلكان» ١ : ٥٣ ـ ٥٥ طبعة مكتبة النهضة بمصر.

(٨) في الاصل : سمي.

٧٣

وأكمل له ولأمته الدين خبرا وأمرا ، وجعل طاعته طاعة له ، ومعصيته معصية له ، وأقسم بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يحكموه فيما شجر بينهم ، وأخبر أن المنافقين يريدون أن يتحاكموا الى غيره ، وأنهم اذا دعوا الى الله والرسول ، وهو الدعاء الى كتاب الله وسنة رسوله ـ صدوا صدودا ، وأنهم يزعمون أنهم انما أرادوا احسانا وتوفيقا ، كما يقوله كثير من المتكلمة والمتفلسفة وغيرهم : انما نريد أن نحس الاشياء بحقيقتها ، أي ندركها ونعرفها ، ونريد التوفيق بين الدلائل التي يسمونها العقليات ، ـ وهي في الحقيقة : جهليات ـ وبين الدلائل النقلية المنقولة عن الرسول ، أو نريد التوفيق بين الشريعة والفلسفة. وكما يقوله كثير من المبتدعة ، من المتنسّكة والمتصوفة : انما نريد الاعمال بالعمل الحسن ، والتوفيق بين الشريعة وبين ما يدّعونه من الباطل ، الذي يسمونه : حقائق وهي جهل وضلال. وكما يقوله كثير من المتكلمة والمتأثرة : انما نريد الاحسان بالسياسة الحسنة ، والتوفيق بينها وبين الشريعة ، ونحو ذلك.

فكل من طلب أن يحكّم في شيء من أمر الدين غير ما جاء به الرسول ، ويظن أن ذلك حسن ، وأن ذلك جمع بين ما جاء به الرسول وبين ما يخالفه ـ فله نصيب من ذلك ، بل ما جاء به الرسول كاف كامل ، يدخل فيه كل حق ، وانما وقع التقصير من كثير من المنتسبين إليه ، فلم يعلم ما جاء به الرسول في كثير من الامور الكلامية الاعتقادية ، ولا في كثير من الاحوال العبادية ، ولا في كثير من الامارة السياسية ، أو نسبوا الى شريعة الرسول ، بظنهم وتقليدهم ، ما ليس منها ، وأخرجوا عنها كثيرا مما هو منها.

فبسبب جهل هؤلاء وضلالهم وتفريطهم ، وبسبب عدوان أولئك وجهلهم ونفاقهم ، كثر النفاق ، ودرس كثير من علم الرسالة.

بل [انما يكون] البحث التام ، والنظر القوي ، والاجتهاد الكامل ، فيما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ليعلم ويعتقد ، ويعمل به ظاهرا وباطنا فيكون قد تلي حق تلاوته ، وأن لا يهمل منه شيء.

وان كان العبد عاجزا عن معرفة بعض ذلك أو العمل به ، فلا ينهي عما عجز عنه مما جاء به الرسول ، بل حسبه أن يسقط عنه اللوم لعجزه ، لكن عليه أن يفرح

٧٤

بقيام غيره به ، ويرضى بذلك ، ويود أن يكون قائما به ، وأن لا يؤمن ببعضه ويترك بعضه ، بل يؤمن بالكتاب كله ، وأن يصان عن أن يدخل فيه ما ليس منه ، من رواية أو رأي ، أو يتّبع ما ليس من عند الله ، اعتقادا أو عملا ، كما قال تعالى : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) البقرة : ٤٢.

وهذه كانت طريقة السابقين الاولين ، [وهي طريقة التابعين لهم بإحسان الى يوم القيامة. وأولهم السلف القديم من التابعين الاولين] ، ثم من بعدهم. ومن هؤلاء أئمة الدين المشهود لهم عند الامة الوسط (٩) بالامامة.

فعن أبي يوسف رحمه‌الله تعالى أنه قال لبشر المريسي (١٠) : العلم بالكلام هو الجهل ، والجهل بالكلام هو العلم ، واذا صار الرجل رأسا في الكلام قيل : زنديق ، أو رمي بالزندقة. أراد بالجهل به اعتقاد عدم صحته ، فإن ذلك علم نافع ، أو أراد به الاعراض عنه أو ترك الالتفات الى اعتباره. فان ذلك يصون علم الرجل وعقله فيكون علما بهذا الاعتبار. والله أعلم.

وعنه أيضا أنه قال : من طلب العلم بالكلام تزندق ، ومن طلب المال بالكيميا أفلس ، ومن طلب غريب الحديث كذب.

وقال الامام الشافعي رحمه‌الله تعالى : حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ، ويطاف بهم في العشائر [والقبائل] ، ويقال : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام.

وقال أيضا رحمه‌الله تعالى (شعرا) :

كل العلوم سوى القرآن مشغلة

الا الحديث والا الفقه في الدين

العلم ما كان فيه قال حدثنا

وما سوى ذاك وسواس الشياطين

__________________

(٩) الوسط هنا : خيار الناس وعدو لهم ، كما في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً).

(١٠) هو بشر بن غياث المريسي ابو عبد الرحمن فقيه معتزلي يرمى بالزندقة أخذ الفقه عن أبي يوسف وهو رأس الطائفة المريسية قال عنه في «اللسان» : مبتدع ضال لا ينبغي أن يروى عنه ولا كرامة.

٧٥

وذكر الاصحاب في الفتاوى : أنه لو أوصى لعلماء بلده : لا يدخل المتكلمون ، وأوصى انسان أن يوقف من كتبه ما هو من كتب العلم ، فأفتى السلف أن يباع ما فيها من كتب الكلام. ذكر ذلك بمعناه في «الفتاوى الظهيرية».

فكيف يرام الوصول الى علم الاصول ، بغير اتباع ما جاء به الرسول؟! ولقد أحسن القائل :

أيّها المغتدي ليطلب علما

كلّ علم عبد لعلم الرسول

تطلب الفرع تصحّح أصلا

كيف أغفلت علم أصل الاصول

ونبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوتي فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه ، فبعث بالعلوم الكلية والعلوم الاولية والاخروية على أتم الوجوه ، ولكن كلما ابتدع شخص بدعة اتسعوا في جوابها ، فلذلك صار كلام المتأخرين كثيرا ، قليل البركة ، بخلاف كلام المتقدمين ، فإنه قليل ، كثير البركة ، [لا] كما يقوله ضلال المتكلمين وجهلتهم : أن طريقة القوم من المنتسبين الى الفقه : انهم لم يتفرغوا لاستنباط الفقه وضبط قواعده وأحكامه اشتغالا منهم بغيره! والمتأخرون تفرغوا لذلك ، فهم أفقه!!

فكل هؤلاء محجوبون عن معرفة مقادير السلف ، وعمق علومهم ، وقلة تكلفهم ، وكمال بصائرهم. وتالله ما امتاز عنهم المتأخرون الا بالتكلف والاشتغال بالاطراف التي كانت همة القوم مراعاة أصولها ، وضبط قواعدها ، وشد معاقدها ، وهممهم مشمّرة الى المطالب العالية في كل شيء. فالمتأخرون (١١) في شأن ، والقوم في شأن آخر ، وقد جعل الله لكل شيء قدرا.

وقد شرح هذه العقيدة غير واحد من العلماء ، ولكن رأيت بعض الشارحين قد أصغى الى أهل الكلام المذموم ، واستمد منهم ، وتكلم بعباراتهم.

والسلف لم يكرهوا التكلم بالجوهر والجسم والعرض ونحو ذلك لمجرد كونه اصطلاحا جديدا على معان صحيحة ، كالاصطلاح على ألفاظ العلوم الصحيحة ، ولا كرهوا أيضا الدلالة على الحق والمحاجة لأهل الباطل ، بل كرهوه لاشتماله على

__________________

(١١) في الاصل : والمتأخرون.

٧٦

أمور كاذبة مخالفة للحق ، ومن ذلك مخالفتها الكتاب والسنة ، ولهذا لا تجد عند أهلها من اليقين والمعرفة ما عند عوام المؤمنين ، فضلا عن علمائهم.

ولاشتمال مقدماتهم على الحق والباطل ، كثر المراء والجدال ، وانتشر القيل والقال ، وتولد [لهم] عنها من الاقوال المخالفة للشرع الصحيح والعقل الصريح ما يضيق عنه المجال. وسيأتي لذلك زيادة بيان عند قوله : «فمن رام علم ما حظر عنه علمه».

وقد أحببت أن أشرحها سالكا طريق السلف في عباراتهم ، وأنسج على منوالهم ، متطفلا عليهم ، لعلي أن أنظم في سلكهم ، وأدخل في عدادهم ، وأحشر في زمرتهم (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) النساء : ٦٩. ولما رأيت النفوس مائلة الى الاختصار ، آثرته على التطويل والاسهاب. (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) هود : ٨٨. [هو حسبنا ونعم الوكيل].

قوله : (نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله أن الله واحد لا شريك له).

ش : اعلم أن التوحيد أول دعوة الرسل ، وأول منازل الطريق ، وأول مقام يقوم فيه السالك الى الله عزوجل. قال تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) الاعراف : ٥٩. وقال هود عليه‌السلام لقومه : (اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) الاعراف : ٦٥. وقال صالح عليه‌السلام لقومه : (اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) الاعراف : ٧٣. وقال شعيب عليه‌السلام لقومه : (اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) الاعراف : ٨٥. وقال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) النحل : ٣٦. وقال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) الأنبياء : ٢٥. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله الا الله ، وأن محمدا رسول الله» (١٢). ولهذا كان الصحيح أن

__________________

(١٢) متفق عليه من حديث ابن عباس وغيره من الاصحاب وهو مخرج في «الصحيحة» (٤٠٦).

٧٧

أول واجب يجب على المكلف شهادة أن لا إله الا الله ، لا النظر ، ولا القصد الى النظر ، ولا الشك ، كما هي أقوال لارباب الكلام المذموم. بل أئمة السلف كلهم متفقون على أن أول ما يؤمر به العبد الشهادتان ، ومتفقون على أن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك عقيب بلوغه ، بل يؤمر بالطهارة والصلاة اذا بلغ أو ميز عند من يرى ذلك. ولم يوجب أحد منهم على وليه أن يخاطبه حينئذ بتجديد الشهادتين ، وان كان الاقرار بالشهادتين واجبا باتفاق المسلمين ، ووجوبه يسبق وجوب الصلاة ، لكن هو أدى هذا الواجب قبل ذلك.

وهنا مسائل تكلم فيها الفقهاء : كمن صلى ولم يتكلم بالشهادتين ، أو أتى [بغير ذلك من خصائص الاسلام ، ولم يتكلم بهما ، هل يصير مسلما أم لا؟ والصحيح أنه يصير مسلما بكل ما هو من خصائص الاسلام. فالتوحيد أول ما يدخل به في الاسلام ، وآخر ما يخرج به من الدنيا ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كان آخر كلامه لا إله الا الله دخل الجنة» (١٣)]. وهو أول واجب وآخر واجب.

فالتوحيد أول الامر وآخره ، أعني : توحيد الالهية ، فإن التوحيد يتضمن ثلاث أنواع :

أحدها : الكلام في الصفات (١٣١) .. والثاني : توحيد الربوبية ، وبيان أن الله وحده خالف كل شيء. والثالث : توحيد الالهية ، وهو استحقاقه سبحانه وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له.

أما الأول : فإن نفاة الصفات أدخلوا نفي الصفات [في] مسمى التوحيد ، كجهم بن صفوان (١٤) ومن وافقه ، فإنهم قالوا : اثبات الصفات يستلزم تعدد الواجب ، وهذا القول معلوم الفساد بالضرورة ، فإن اثبات ذات مجردة عن جميع الصفات لا يتصور لها وجود في الخارج ، وانما الذهن قد يفرض المحال ويتخيله وهذا غاية التعطيل. وهذا القول قد أفضى بقوم الى القول بالحلول والاتحاد ، وهو

__________________

(١٣) حديث حسن أو صحيح. رواه الحاكم وغيره ، وقد خرجته في «ارواء الغليل» (رقم ٦٨٧).

(١٣١) قال عفيفي : انظر ص ١٤٠ ج ١ من «موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول».

(١٤) هو ابو محرز جهم بن صفوان السمرقندي الضال المبتدع.

٧٨

أقبح من كفر النصارى ، فإن النصارى خصوه بالمسيح ، وهؤلاء عموا (١٥) جميع المخلوقات. ومن فروع هذا التوحيد : أن فرعون وقومه كاملو الايمان ، عارفون بالله على الحقيقة.

ومن فروعه : أن عبّاد الاصنام على الحق والصواب ، وأنهم انما عبدوا الله لا غيره.

ومن فروعه : أنه لا فرق في التحريم التحليل بين الام والاخت والاجنبية ، ولا فرق بين الماء والخمر ، والزنا والنكاح ، والكل من عين واحدة ، لا بل هو العين الواحدة.

ومن فروعه : أن الأنبياء ضيقوا على الناس.

تعالى الله عما يقولون علوّا كبيرا.

وأما الثاني : وهو توحيد الربوبية ، كالاقرار بأنه خالق كل شيء ، وأنه ليس للعالم صانعان متكافئان في الصفات والافعال ، وهذا التوحيد حق لا ريب فيه ، وهو الغاية عند كثير من أهل النظر والكلام وطائفة من الصوفية ، وهذا التوحيد لم يذهب الى نفيضة طائفة معروفة من بني آدم ، بل القلوب مفطورة على الاقرار به أعظم من كونها مفطورة على الاقرار بغيره من الموجودات ، كما قالت الرسل فيما حكى الله عنهم : (قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ابراهيم : ١٠.

وأشهر من عرف تجاهله وتظاهره بانكار الصانع فرعون ، وقد كان مستيقنا به في الباطن ، كما قال له موسى : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) الاسراء : ١٠٢. وقال تعالى عنه وعن قومه : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) النمل : ١٤. ولهذا [لما] قال : وما رب العالمين؟ على وجه الانكار له تجاهل العارف ، قال [له] موسى : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ. قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ. قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ

__________________

(١٥) في الاصل : عمموا

.

٧٩

الْأَوَّلِينَ. قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ. قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) الشعراء : ٢٤ ـ ٢٨.

وقد زعم طائفة أن فرعون سأل موسى مستفهما عن الماهية ، وأن المسئول عنه لما لم تكن له ماهية عجز موسى عن الجواب وهذا غلط. وانما هذا استفهام انكار وجحد ، كما دل سائر آيات القرآن على أن فرعون كان جاحدا لله نافيا له ، لم يكن مثبتا له طالب للعلم بماهيته. فلهذا بيّن لهم موسى أنه معروف ، وأن آياته ودلائل ربوبيته أظهر وأشهر من أن يسأل عنه بما هو؟ بل هو سبحانه أعرف وأظهر وأبين من أن يجهل ، بل معرفته مستقرة في الفطر أعظم من معرفة كل معروف. ولم يعرف عن أحد من الطوائف أنه قال : ان العالم له صانعان متماثلان في الصفات والافعال ، فان الثنوية من المجوس ، والمانوية القائلين بالاصلين : النور والظلمة ، وأن العالم صدر عنهما ـ : متفقون على أن النور خير من الظلمة ، وهو الاله المحمود ، وأن الظلمة شريرة مذمومة ، وهم متنازعون في الظلمة ، هل هي قديمة أو محدثة؟ فلم يثبتوا ربّين متماثلين.

وأما النصارى القائلون بالتثليث ، فانهم لم يثبتوا للعالم ثلاثة أرباب ينفصل بعضهم عن بعض ، بل متفقون على أن صانع العالم واحد ، ويقولون : باسم الابن والأب وروح القدس إله واحد. وقولهم في التثليث متناقض في نفسه ، وقولهم في الحلول أفسد منه ، ولهذا كانوا مضطربين في فهمه ، وفي التعبير عنه ، لا يكاد واحد منهم يعبر عنه بمعنى معقول ، ولا يكاد اثنان يتفقان على معنى واحد ، فانهم يقولون : هو واحد بالذات ، ثلاثة بالاقنوم! والاقانيم يفسرونها تارة بالخواص ، وتارة بالصفات ، وتارة بالاشخاص. وقد فطر الله العباد على فساد [هذه] الاقوال بعد التصور التام. وبالجملة فهم لا يقولون باثبات خالقين متماثلين.

والمقصود هنا : أنه ليس في الطوائف من يثبت للعالم صانعين متماثلين ، مع أن كثيرا من أهل الكلام والنظر والفلسفة تعبوا في اثبات هذا المطلوب وتقريره. ومنهم من اعترف بالعجز عن تقرير هذا بالعقل ، وزعم أنه يتلقى من السمع.

والمشهور عند أهل النظر اثباته بدليل التمانع ، وهو : أنه لو كان للعالم صانعان

٨٠