شرح العقيدة الطّحاويّة

ابن أبي العزّ الحنفي

شرح العقيدة الطّحاويّة

المؤلف:

ابن أبي العزّ الحنفي


المحقق: الشيخ محمّد ناصر الدين الألباني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بغداد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٤

حتى لا يقبله أحد ، حتى تكون السجدة خيرا من الدنيا وما فيها» (٧٦٤). ثم يقول أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) النساء : ١٥٩. وأحاديث الدجال ، وعيسى بن مريم عليه‌السلام ، ينزل من السماء ويقتله ، ويخرج يأجوج ومأجوج في أيامه بعد قتله الدجال ، فيهلكهم الله أجمعين في ليلة واحدة ببركة دعائه عليهم : ويضيق هذا المختصر عن بسطها.

وأما خروج الدابة وطلوع الشمس من المغرب ـ فقال تعالى : (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) النمل : ٨٢. وقال تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ ، يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً ، قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) الانعام : ١٥٨. وروى البخاري عند تفسير الآية ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا رآها الناس آمن [من] عليها ، فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل» (٧٦٥). وروى

__________________

(٧٦٤) صحيح ورواه مسلّم أيضا (١ / ٩٣ ـ ٩٤) ، وهو مخرج في «الصحيحة» برقم (٢٤٥٧). واعلم أن أحاديث الدجال ونزول عيسى عليه‌السلام متواترة يجب الايمان بها ، ولا تغتر بمن يدعي فيها أنها أحاديث آحاد ، فانهم جهال بهذا العلم ، وليس فيهم من تتبع طرقها ، ولو فعل لوجدها متواترة كما شهد بذلك أئمة هذا العلم كالحافظ ابن حجر وغيره ، ومن المؤسف حقا ان يتجرأ البعض على الكلام فيما ليس من اختصاصهم ، لا سيما والامر دين وعقيدة!

وإن من هؤلاء أخيرا المدعو عز الدين بليق في كتابه «موازين القرآن والسنة» الذي زعم فيه تقليدا لغيره ممن لا معرفة عنده بهذا العلم ـ «أن روايات نزول عيسى بعد الدجال إنما هي من رواية وهي بن منبه وكعب الأخبار» وهذا اختلاق محض ، فلا وجود لهما في شيء منها مطلقا ، وقد كنت قديما خرجت نحو أربعين حديثا ليس لهما فيها ذكر!

(٧٦٥) صحيح ، ورواه مسلّم أيضا (١ / ٩٥) بلفظ : «فاذا طلعت من مغربها آمن الناس كلهم أجمعون ، فيومئذ لا ينفع ...» وهو رواية للبخاري بنحوه. وله عندهما شاهد من حديث أبي ذر.

٥٠١

مسلّم ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : حفظت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديثا لم أنسه بعد ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدابة على الناس ضحى ، وأيهما ما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على إثرها قريبا» (٧٦٦). أي أول الآيات التي ليست مألوفة ، وإن كان الدجال ونزول عيسى عليه‌السلام من السماء قبل ذلك ، وكذلك خروج يأجوج ومأجوج ، كل ذلك أمور مألوفة ، لأنهم بشر ، مشاهدة مثلهم مألوفة ، وأما خروج الدابة بشكل غريب غير مألوف ، ثم مخاطبتها الناس ووسمها إياهم بالإيمان أو الكفر فأمر خارج عن مجاري العادات. وذلك أول الآيات الأرضية ، كما أن طلوع الشمس من مغربها ، على خلاف عادتها المألوفة ـ أول الآيات السماوية. وقد أفرد الناس [في] أحاديث أشراط الساعة مصنفات مشهورة ، يضيق على بسطها هذا المختصر.

قوله : (ولا نصدق كاهنا ولا عرّافا ، ولا من يدعي شيئا يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة).

ش : روى مسلم والإمام أحمد عن صفية بنت أبي عبيد ، عن بعض أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «من أتى عرّافا فسأله عن شيء ، لم يقبل له صلاة أربعين ليلة» (٧٦٧). وروى الامام أحمد في «مسنده» ، عن أبي هريرة ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أتى عرّافا أو كاهنا ، فصدقه بما يقول ، فقد كفر بما أنزل على محمد» (٧٦٨). والمنجم يدخل في اسم «العراف» عند بعض العلماء ، وعند بعضهم هو في معناه. فإذا كانت هذه حال السائل ، فكيف بالمسئول؟ وفي «الصحيحين» و «مسند الامام أحمد» ، عن عائشة ، قالت : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الكهان؟ فقال : «ليسوا بشيء» ، فقالوا : يا رسول الله ، إنهم يحدثون أحيانا بالشيء يكون حقّا؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تلك الكلمة من الحق يخطفها

__________________

(٧٦٦) صحيح مسلّم (٨ / ٢٠٢).

(٧٦٧) صحيح ، وهو مخرج في «غاية المرام» (٢٨٤).

(٧٦٨) صحيح ، وهو مخرج في «آداب الزفاف» ص ٣١ (الطبعة ٣) ، و «غاية المرام» (٢٨٥)

.

٥٠٢

الجني فيقرّها في أذن وليّه ، فيخلطون فيها [أكثر من] مائة كذبة» (٧٦٩). وفي «الصحيح» عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ثمن الكلب خبيث ، ومهر البغي خبيث ، وحلوان الكاهن خبيث» (٧٧٠). وحلوانه : الذي تسميه العامة حلاوته. ويدخل في هذا المعنى ما تعاطاه المنجم وصاحب الأزلام التي يستقسم بها ، مثل الخشبة المكتوب عليها «ا ب ج د» والضارب بالحصى ، والذي يخط في الرمل. وما تعاطاه هؤلاء حرام. وقد حكى الإجماع على تحريمه غير واحد من العلماء ، كالبغوي والقاضي عياض وغيرهما.

وفي «الصحيحين» عن زيد بن خالد ، قال : خطبنا رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحديبية ، على إثر سماء كانت من الليل ، فقال : «أتدرون ما ذا قال ربكم الليلة»؟ قلنا : الله ورسوله أعلم ، قال : «[قال] : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته ، فذلك مؤمن بي ، كافر بالكوكب ، [وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا ، فذلك كافر بي ، مؤمن بالكوكب]» (٧٧١). وفي «صحيح مسلّم ومسند الامام أحمد» ، عن أبي مالك الأشعري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أربع في أمتي من أمر الجاهلية ، لا يتركونهن : الفخر في الأحساب ، والطعن في الأنساب ، والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة» (٧٧٢). والنصوص عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وسائر الأئمة ، بالنهي عن ذلك ـ أكثر من أن يتسع هذا الموضع لذكرها. وصناعة التنجيم ، التي مضمونها الأحكام والتأثير ، وهو الاستدلال على الحوادث الأرضية بالأحوال الفلكية أو التمريح بين القرى الفلكية والقوابل الأرضية ـ : صناعة محرمة بالكتاب والسنة ، بل هي محرمة على لسان جميع المرسلين ، قال تعالى :

__________________

(٧٦٩) صحيح ، وهو في «المسند» (٦ / ٨٧).

(٧٧٠) صحيح أخرجه مسلّم من حديث رافع بن خديج دون الجملة الرابعة ، وهي في «الصحيحين» من حديث أبي مسعود البدري مرفوعا بلفظ «نهى عن ثمن الكلب ، ومهر البغي ، وحلوان الكاهن».

(٧٧١) صحيح.

(٧٧٢) صحيح ، وهو مخرج في «أحكام الجنائز» (ص ٢٧) ، و «الأحاديث الصحيحة» (٧٣٤).

٥٠٣

(وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) طه : ٦٩. وقال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) النساء : ٥١. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره : الجبت السحر (٧٧٣). وفي «صحيح البخاري» ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان لأبي بكر غلام يأكل من خراجه ، فجاء يوما بشيء ، فأكل منه أبو بكر ، فقال له الغلام : تدري ممّ هذا؟ قال : وما هو؟ قال :كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية ، وما أحسن الكهانة ، إلا أني خدعته ، فلقيني ، فأعطاني بذلك ، فهذا الذي أكلت منه ، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه (٧٧٤).

والواجب على ولي الأمر وكل قادر أن يسعى في إزالة هؤلاء المنجمين والكهان والعرافين وأصحاب الضرب بالرمل والحصى والقرع والقالات (٧٧٥) ، ومنعهم من الجلوس في الحوانيت والطرقات ، أو يدخلوا على الناس في منازلهم لذلك. ويكفي من يعلم تحريم ذلك ولا يسعى في إزالته ، مع قدرته على ذلك ـ قوله تعالى : (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ ، لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) المائدة : ٧٩. وهؤلاء الملاعين يقولون الإثم ويأكلون السحت ، بإجماع المسلمين. وثبت في «السنن» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم برواية الصديق رضي الله عنه (٧٧٦) ، أنه قال : «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه» (٧٧٧).

وهؤلاء الذين يفعلون هذه الأفعال الخارجة عن الكتاب والسنة ، أنواع : نوع منهم : أهل تلبيس وكذب وخداع ، الذين يظهر أحدهم طاعة الجن له ، أو يدعي الحال من أهل المحال ، من المشايخ النصابين ، والفقراء الكاذبين ، والطرقية المكارين ، فهؤلاء يستحقون العقوبة البليغة التي تردعهم وأمثالهم عن الكذب والتلبيس. وقد يكون في هؤلاء من يستحق القتل ، كمن يدعي النبوة بمثل هذه

__________________

(٧٧٣) في الأصل : السحرة ، وكلاهما مستقيم.

(٧٧٤) صحيح ، وهو في «مناقب الأنصار» (٣٨٤٢) مع شيء من الاختصار.

(٧٧٥) في الاصل : الفالات أو الغالات.

(٧٧٦) قال عفيفي : انظر ص ٤٢٢ ج ٣ من «مجموع الفتاوى» لابن تيمية.

(٧٧٧) صحيح ، وهو مخرج في المشكاة» (٥١٤٢).

٥٠٤

الخزعبلات ، أو يطلب تغيير شيء من الشريعة ، ونحو ذلك. ونوع يتكلم في هذه الأمور على سبيل الجد والحقيقة ، بأنواع السحر. وجمهور العلماء يوجبون قتل الساحر ، كما هو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في المنصوص عنه ، وهذا هو المأثور عن الصحابة ، كعمر وابنه وعثمان وغيرهم. ثم اختلف هؤلاء : هل يستتاب أم لا؟ وهل يكفر بالسحر؟ أم يقتل لسعيه في الأرض بالفساد؟ وقال طائفة : إن قتل بالسحر يقتل ، وإلا عوقب بدون القتل ، إذا لم يكن في قوله وعمله كفر ، وهذا هو المنقول عن الشافعي ، وهو قول في مذهب أحمد.

وقد تنازع العلماء في حقيقة السحر وأنواعه : والأكثرون يقولون : إنه قد يؤثر في موت المسحور ومرضه من غير وصول شيء ظاهر إليه ، وزعم بعضهم أنه مجرد تخييل. واتفقوا كلهم على أن ما كان من جنس دعوة الكواكب السبعة ، أو غيرها ، أو خطابها ، أو السجود لها ، والتقرب إليها بما يناسبها من اللباس والخواتم والبخور ونحو ذلك ـ فإنه كفر ، وهو من أعظم أبواب الشرك ، فيجب علقه ، بل سدّه. وهو من جنس فعل قوم إبراهيم عليه‌السلام ، ولهذا قال ما حكى الله عنه بقوله : (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ. فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) الصافات : ٨٨ ـ ٨٩. وقال تعالى : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً) الانعام : ٧٦ ، الآيات ، الى قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) الانعام : ٨٢. واتفقوا كلهم أيضا على أن كل رقية وتعزيم أو قسم ، فيه شرك بالله ، فإنه لا يجوز التكلم به ، وإن أطاعته به الجن أو غيرهم ، وكذلك كل كلام فيه كفر لا يجوز التكلم به ، وكذلك الكلام الذي لا يعرف معناه لا يتكلم به ، لإمكان أن يكون فيه شرك لا يعرف. ولهذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا» (٧٧٨). ولا يجوز الاستعاذة بالجن ، فقد ذم الله الكافرين على ذلك ، فقال تعالى : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً) الجن : ٦. قالوا : كان الإنسي إذا نزل بالوادي يقول : أعوذ بعظيم هذا الوادي من سفهائه ، فيبيت في أمن وجوار حتى يصبح ، (فَزادُوهُمْ رَهَقاً) الجن : ٦ ، يعني الإنس للجن ،

__________________

(٧٧٨) مسلّم من حديث عوف بن مالك الأشجعي.

٥٠٥

باستعاذتهم بهم ، رهقا ، أي إثما وطغيانا وجراءة وشرّا ، وذلك أنهم قالوا : قد سدنا الجنّ ، والإنس! فالجنّ تعاظم في أنفسها وتزداد كفرا إذا عاملتها الانس بهذه المعاملة. وقد قال تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ، ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ. قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ ، بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ ، أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) سبأ : ٤٠ ـ ٤١. فهؤلاء الذين يزعمون أنهم يدعون الملائكة ويخاطبونهم بهذه العزائم ، وأنها تنزّل عليهم ـ : ضالون ، وإنما تنزّل عليهم الشياطين. وقد قال تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ، يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ ، وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا ، قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ ، إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) الانعام : ١٢٨. فاستمتاع الإنسي بالجني : في قضاء حوائجه ، وامتثال أوامره ، وإخباره بشيء من المغيبات ، ونحو ذلك ، واستمتاع الجنّ بالإنس : تعظيمه إياه ، واستعانته به ، واستغاثته وخضوعه له.

ونوع منهم بالأحوال الشيطانية ، والكشوف ومخاطبته رجال الغيب ، وأن لهم خوارق تقتضي أنهم أولياء الله! وكان من هؤلاء من يعين المشركين على المسلمين! ويقول : إن الرسول أمره بقتال المسلمين مع المشركين ، لكون المسلمين قد عصوا!! وهؤلاء في الحقيقة إخوان المشركين. والناس من أهل العلم فيهم [على] ثلاثة أحزاب : حزب يكذبون بوجود رجال الغيب ، ولكن قد عاينهم [الناس] ، [وثبت عمن عاينهم] أو حدثه الثقات بما رأوه ، وهؤلاء إذا رأوهم وتيقنوا وجودهم خضعوا لهم. وحزب عرفوهم ، ورجعوا الى القدر ، واعتقدوا أن ثم في الباطن طريقا الى الله غير طريقة الأنبياء! وحزب ما أمكنهم أن يجعلوا وليّا خارجا عن دائرة الرسول ، فقالوا : يكون الرسول هو ممدّا للطائفتين. فهؤلاء معظمون للرسول جاهلون بدينه وشرعه ، والحق : أن هؤلاء [من] أتباع الشياطين ، وأن رجال الغيب هم الجن ، ويسمون رجالا ، كما قال تعالى : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً) الجن : ٦. وإلا فالإنس يؤنسون ، أي يشهدون ويرون ، وإنما يحتجب الإنسي أحيانا ، لا يكون دائما محتجبا عن أبصار الإنس ، ومن ظنهم أنهم من «الإنس» فمن غلطه وجهله. وسبب الضلال

٥٠٦

فيهم ، وافتراق هذه الاحزاب الثلاثة ـ عدم الفرقان بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن. ويقول بعض الناس : الفقراء يسلّم إليهم حالهم! وهذا كلام باطل ، بل الواجب عرض أفعالهم وأحوالهم على الشريعة المحمدية ، فما وافقها قبل! وما خالفها ردّ ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» (٧٧٩). وفي رواية : «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد». فلا طريقة إلا طريقة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا حقيقة إلا حقيقته ، ولا شريعة إلا شريعته ، ولا عقيدة إلا عقيدته ، ولا يصل أحد [من الخلق بعده] الى الله والى رضوانه وجنته وكرامته إلا بمتابعته باطنا وظاهرا. ومن لم يكن له مصدقا فيما أخبر ، ملتزما لطاعته فيما أمر ، في الأمور الباطنة التي في القلوب ، والأعمال الظاهرة التي على الأبدان ـ : لم يكن مؤمنا ، فضلا عن أن يكون وليّا لله تعالى ، ولو طار في الهواء ، ومشى على الماء ، وأنفق من الغيب ، وأخرج الذهب من الخشب (٧٨٠) ، ولو حصل له من الخوارق ما ذا عسى أن يحصل!! فإنه لا يكون ، مع تركه الفعل المأمور وعزل المحظور ـ إلا من أهل الأحوال الشيطانية ، المبعدة لصاحبها عن الله تعالى ، المقربة الى سخطه وعذابه. لكن من ليس يكلّف من الأطفال والمجانين ، قد رفع عنهم القلم ، فلا يعاقبون ، وليس لهم من الإيمان بالله والإقرار باطنا وظاهرا ما يكونون به من أولياء الله المقربين ، وحزبه المفلحين ، وجنده الغالبين. لكن يدخلون في الإسلام تبعا لآبائهم ، كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ، كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) الطور : ٢١. فمن اعتقد في بعض البله أو المولعين (٧٨١) ، مع تركه لمتابعة الرسول في أقواله وأفعاله وأحواله ـ أنه من أولياء الله ، ويفضله على متبعي طريقة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهو ضالّ مبتدع ، مخطئ في اعتقاده. فإن ذاك الأبله ، إمّا أن يكون شيطانا زنديقا ، أو

__________________

(٧٧٩) صحيح ، متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها ، وهو مخرج في «الارواء» (٨٨) ، و «غاية المرام» (٥) ورواه ابن أبي عاصم في «السنة» (٥٢ و ٥٣).

(٧٨٠) في الأصل : الجيب.

(٧٨١) في الأصل : المؤلفين.

٥٠٧

روى ريا (٧٨٢) متحيلا ، أو مجنونا معذورا! فكيف يفضّل على من هو من أولياء الله ، المتبعين لرسوله؟! أو يساوى به؟! ولا يقال : يمكن أن يكون هذا متبعا في الباطن وإن كان تاركا للاتباع في الظاهر؟ فإن هذا خطأ أيضا ، بل الواجب متابعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظاهرا وباطنا. قال يونس (٧٨٣) بن عبد الأعلى الصّدفي : قلت للشافعي : إن صاحبنا الليث كان يقول : إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء فلا تغتروا (٧٨٤) به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة؟ فقال الشافعي : قصّر الليث رحمه‌الله ، بل إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ، ويطير في الهواء ، فلا تغتروا (٧٨٤١) به حتى تعرضوا أمره على الكتاب.

وأما ما يقوله بعض الناس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «اطّلعت على أهل الجنة فرأيت أكثر أهلها البله» (٧٨٥) فهذا لا يصح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا ينبغي

__________________

(٧٨٢) قال الشيخ أحمد شاكر : هذه لفظة مولدة. وفي «شرح القاموس» ٣ : ٢٤٠. الزواكرة : من يتلبس فيظهر النسك والعبادة ، ويبطن الفسق والفساد». نقله المقري في «نفح الطيب».

(٧٨٣) في الأصل : ويس ، وفي المطبوعة : موسى ، والصواب ما أثبتناه لما في تفسير ابن كثير ج ١ ص ٧٨.

(٧٨٤) في الأصل : تعتبروا ، وما أثبتناه أصح وأقوم وموافق لما في ابن كثير

(٧٨٥) ضعيف ، رواه أبو بكر الكلاباذي في «مفتاح المعاني» (ق ٢٧٥ / ١) وابن عساكر (١٢ / ٣٤٥ / ٢) ، وقال : «قال ابن شاهين تفرد به مصعب بن ماهان» قلت : وهو صدوق كثير الخطأ ، كما في «التقريب» قلت : لكن في الطريق إليه احمد بن عيسى الخشاب ، قال ابن عدي : له مناكير ، ثم ساق له هذا الحديث وقال : فهذا باطل بهذا السند» ، ثم رواه ابن عدي (ق ١٦٦ / ٢) وغيره من حديث أنس بن مالك مرفوعا : «أكثر أهل الجنة البله» وقال : «منكر بهذا الاسناد ، لم يروه غير سلامة بن روح». قلت : وهو ضعيف لسوء حفظه. وتابعه سفيان ابن عيينة عند أبي موسى المديني في «اللطائف» (ق ٧٥ / ١) ولكنه قال : «حديث غريب جدا من حديث ابن عيينة عن الزهري ، وانما يعرف هذا من رواية سلامة بن روح».

وروي مرسلا من وجهين : الأول عن محمد بن المنكدر ، فقال المعافى بن عمران في «الزهد» (ق ٢٤٩ / ١) : حدثنا محمد بن أبي حميد المدني عن محمد بن المنكدر مرفوعا به : والمدني هذا ضعيف كما في «التقريب». والاخر عن عمر بن عبد العزيز مرسلا مرفوعا به ـ

٥٠٨

نسبته إليه ، فإن الجنة إنما خلقت لأولي الألباب ، الذين أرشدتهم عقولهم وألبابهم الى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وقد ذكر الله أهل الجنة بأوصافهم في كتابه ، فلم يذكر في أوصافهم البله ، الذي هو ضعف العقل ، وإنما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء» (٧٨٦). ولم يقل البله!

والطائفة الملاميّة ، وهم الذين يفعلون ما يلامون عليه ، ويقولون نحن متبعون في الباطن ، ويقصدون إخفاء المرائين! ردوا باطلهم بباطل آخر!! والصراط المستقيم بين ذلك. وكذلك الذين يصعقون عند سماع الأنغام الحسنة ، مبتدعون ضالون! وليس للإنسان أن يستدعي ما يكون سبب زوال عقله! ولم يكن في الصحابة والتابعين من يفعل ذلك ، ولو عند سماع القرآن ، بل كانوا كما وصفهم الله تعالى : (إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً ، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) الانفال : ٢. وكما قال تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ ، تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ، ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) الزمر : ٢٣.

__________________

ـ وزاد : «وأعلى عليين لأولي الالباب». رواه عبد الوهاب الكلابي في «حديثه» (ق ١٧٦ / ٢) بسنده عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن أبيه. وعبد العزيز صدوق يخطئ كما في «التقريب» وفيه من لم أجد من ترجمه. وفي هذه الرواية رد على من قال إن هذه الزيادة لم يوجد لها أصل وأنها مدرجة من كلام أحمد بن أبي الحواري ، فإن أحمد هذا ليس له ذكر في هذه الرواية.

وانما اطلت الكلام على هذا الحديث لأني رأيت الشيخ أحمد شاكر رحمه‌الله علق عليه بقوله : «ومجموع ما قيل فيه : انه لا اصل له»! ولا أعلم أحدا من العلماء أطلق هذا القول على الحديث ، وانما قال ذلك بعضهم في الزيادة المذكورة كما تقدم واذا كان مردودا فيها ، فرده عن أصل الحديث أولى وأخرى ، ولا يجوز في اصطلاح المحدثين أن يقال في حديث له سند واحد أو أكثر ولو كان ضعيفا : لا أصل له. فليعلم ذلك.

(٧٨٦) أخرجه مسلّم من حديث ابن عباس ، والبخاري عن عمران ، وهما مخرجان في «الضعيفة» (٢٨٠٠) تحت حديث آخر وقع فيه زيادة منكرة.

٥٠٩

وأما الذين ذكرهم العلماء بخير من عقلاء المجانين ، فأولئك كان فيهم خير ، ثم زالت عقولهم. ومن علامة هؤلاء ، أنه إذا حصل في جنونهم نوع من الصّحو ، تكلموا بما كان في قلوبهم من الإيمان. ويهتدون بذلك في حال زوال عقلهم. بخلاف من كان قبل جنونه كافرا أو فاسقا ، لم يكن حدوث جنونه مزيلا لما ثبت من كفره أو فسقه. وكذلك من جنّ من المؤمنين المتقين ، يكون محشورا مع المؤمنين المتقين. وزوال العقل بجنون أو غيره ، [سواء] سمي صاحبه مولعا أو متولها لا يوجب مزيد حال ، [بل] حال صاحبه من الإيمان والتقوى يبقى على ما كان عليه من خير وشر ، لا أنه يزيده أو ينقصه ، ولكن جنونه يحرمه الزيادة من الخير ، كما أنه يمنع عقوبته على الشر ، ولا يمحو عنه ما كان عليه قبله.

وما يحصل لبعضهم عند سماع الأنغام المطربة ، من الهذيان ، والتكلم لبعض اللغات المخالفة للسانه المعروف منه!! فذلك شيطان يتكلم على لسانه ، كما يتكلم على لسان المصروع ، وذلك كله من الأحوال الشيطانية! وكيف يكون زوال العقل سببا أو شرطا أو تقربا الى ولاية الله ، كما يظنه كثير من أهل الضلال؟! حتى قال قائلهم :

هم معشر حلوا النظام وخرقوا ال

سياج فلا فرض لديهم ولا نفل

مجانين ، إلا أن سرّ جنونهم

عزيز على أبوابه يسجد العقل

وهذا كلام ضال ، بل كافر ، يظن أن [في] الجنون سرّا يسجد العقل على بابه!! لما رآه من بعض المجانين من نوع مكاشفة ، أو تصرف عجيب خارق للعادة ، ويكون ذلك سبب ما اقترن به من الشياطين ، كما يكون للسحرة والكهان! فيظن هذا الضال أن كل من خبل أو خرق عادة (٧٨٧) كان وليّا لله!! ومن اعتقد هذا فهو كافر ، فقد قال تعالى : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ. تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) الشعراء : ٢٢١ ـ ٢٢٢. فكل من تنزل عليه الشياطين لا بد أن يكون عنده كذب وفجور.

__________________

(٧٨٧) في الاصل : كاشف أو خرق العادة.

٥١٠

وأما الذين يتعبدون بالرياضات والخلوات ، ويتركون الجمع والجماعات ، فهم الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، قد طبع الله على قلوبهم. كما قد ثبت في «الصحيح» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من ترك ثلاث جمع تهاونا من غير عذر ، طبع الله على قلبه» (٧٨٨). وكل من عدل عن اتباع سنة الرسول ، إن كان عالما بها فهو مغضوب عليه ، وإلا فهو ضال. ولهذا شرع الله لنا أن نسأله في كل صلاة أن يهدينا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم عليهم ، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقا ، غير المغضوب عليهم ولا الضالين.

وأما من يتعلق بقصة موسى مع الخضر عليه‌السلام ، في تجويز الاستغناء عن الوحي بالعلم اللدني ، الذي يدعيه بعض من عدم التوفيق ـ : فهو ملحد زنديق. فإن موسى عليه‌السلام لم يكن مبعوثا الى الخضر ، ولم يكن الخضر مأمورا بمتابعته. ولهذا قال له : أنت موسى بني إسرائيل؟ قال : نعم (٧٨٩). ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبعوث الى جميع الثقلين ، ولو كان موسى وعيسى حيّين (٧٩٠) لكانا من أتباعه ، وإذا نزل عيسى عليه‌السلام الى الأرض ، إنما يحكم بشريعة محمد ، فمن ادعى أنه مع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كالخضر مع موسى ، أو جوّز ذلك لأحد من الأمة ـ : فليجدد إسلامه ، وليشهد شهادة الحق ، فإنه مفارق لدين الإسلام بالكلية ، فضلا عن أن يكون من أولياء الله ، وإنما هو من أولياء الشيطان. وهذا الموضع مفرق بين زنادقة القوم وأهل

__________________

(٧٨٨) صحيح ، لكنه لم يروه أحد من أهل «الصحيح» والمراد به البخاري أو مسلّم ، خلافا لما أفاده الشارح وانما رواه أبو داود والنسائي وأحمد وغيرهم وصححه الحاكم على شرط مسلم ، فوهم. وسنده حسن ، وله شواهد في «الترغيب» وغيره.

(٧٨٩) هو قطعة من حديث الخضر مع موسى عليهما‌السلام ، رواه البخاري في مواضع من «صحيحه» منها «الأنبياء».

(٧٩٠) كذا الأصل ، وكأنه يشير إلى الحديث الذي ذكره شيخه ابن كثير في تفسير سورة (الكهف) بلفظ : «لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي». وهو حديث محفوظ ، دون ذكر عيسى فيه ، فإنه منكر عندي لم أره في شيء من طرقه ، وهي مخرجة في «الإرواء» (١٥٨٩).

٥١١

الاستقامة ، وحرك تر. وكذا من يقول بأن الكعبة تطوف برجال منهم حيث كانوا!! فهلا خرجت الكعبة الى الحديبية فطافت برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أحصر عنها ، وهو يودّ منها نظرة؟! وهؤلاء لهم شبه بالذين وصفهم الله تعالى حيث يقول : (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) المدثّر : ٥٢ ، الى آخر السورة.

[قوله] : (ونرى الجماعة حقّا وصوابا ، والفرقة زيغا وعذابا).

ش : قال الله تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) آل عمران : ١٠٣. وقال تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ ، وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) آل عمران : ١٠٥. وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ، إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ، ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) الانعام : ١٥٩. وقال تعالى : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) هود : ١١٩. فجعل أهل الرحمة مستثنين من الاختلاف. وقال تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ ، وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) البقرة : ١٧٦. وقد تقدم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة ، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة ، يعني الأهواء ، كلها في النار إلا واحدة ، وهي الجماعة» (٧٩١). وفي رواية : قالوا : من هي يا رسول الله؟ قال : «ما أنا عليه وأصحابي». فبيّن أن عامة المختلفين هالكون إلا أهل السنة والجماعة ، وأن الاختلاف واقع لا محالة. وروى الامام أحمد عن معاد بن جبل ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن [الشيطان] ذئب الانسان ، كذئب الغنم ، يأخذ الشاة القاصية ، [والناحية] ، فإياكم والشعاب ، وعليكم بالجماعة ، والعامة. والمسجد» (٧٩٢). وفي «الصحيحين» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه قال لما نزل

__________________

(٧٩١) صحيح ، رواه أبو داود وغيره ، وقد مضى (ص ٢٦٠) ، وأما الرواية التي بعدها ففيها ضعف كما تقدم هناك.

(٧٩٢) صحيح الاسناد ، وأقول الآن : كلا ، ولا أدري كيف وقع هذا ، فالسند ضعيف كما هو مبين في «تخريج المشكاة» (١٨٤) ثم في الأحاديث «الضعيفة» (٣٠١٦) و «ضعيف الجامع الصغير» (١٤٧٧).

٥١٢

قوله تعالى : (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) الانعام : ٦٥ ، قال : «أعوذ بوجهك» (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) الانعام : ٦٥ ـ قال : «هاتان أهون» (٧٩٣). فدل على أنه لا بد أن يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض ، مع براءة الرسول من هذه الحال ، وهم فيها في جاهلية. ولهذا قال الزهري : وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم متوافرون ، فأجمعوا على أن كل دم أو مال أو قرح أصيب بتأويل القرآن ـ : فهو هدر ، انزلوهم منزلة الجاهلية. وقد روى مالك (٧٩٤) بإسناده الثابت عن عائشة رضي الله عنها ، أنها كانت تقول : ترك الناس العمل بهذه الآية ، يعني قوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) الحجرات : ٩. فإن المسلمين لما اقتتلوا كان الواجب الإصلاح بينهم كما أمر الله تعالى ، فلما لم يعمل بذلك صارت فتنة وجاهلية ، وهكذا تسلسل النزاع.

[والأمور] التي تتنازع فيها الأمة ، في الأصول والفروع ـ إذا لم تردّ الى الله والرسول ، لم يتبين فيها الحق ، بل يصير فيها المتنازعون على غير بيّنة من أمرهم ، فإن رحمهم‌الله أقرّ بعضهم بعضا ، ولم يبغ بعضهم على بعض ، كما كان الصحابة في خلافة عمر وعثمان يتنازعون في بعض مسائل الاجتهاد ، فيقر بعضهم بعضا ، ولا يعتدي ولا يعتدى عليه ، وإن لم يرحموا وقع بينهم الاختلاف المذموم ، فبغى بعضهم على بعض ، إما بالقول ، مثل تكفيره وتفسيقه ، وإما بالفعل ، مثل حبسه وضربه وقتله. والذين امتحنوا الناس بخلق القرآن ، كانوا من هؤلاء ، ابتدعوا بدعة ، وكفّروا من خالفهم فيها ، واستحلوا منع حقه وعقوبته.

فالناس إذا خفي عليهم بعض ما بعث الله به الرسول : إما عادلون وإما ظالمون ، فالعادل فيهم : الذي يعمل بما وصل إليه من آثار الأنبياء ، ولا يظلم

__________________

(٧٩٣) صحيح ، وعزوه ل «الصحيحين» وهم ، فإنه من افراد البخاري كما يدل على ذلك تخريج ابن كثير إياه في «التفسير» ، والحافظ المزي في «التحفة» (٢ / ٢٥١).

(٧٩٤) لم أجده في «الموطأ».

٥١٣

غيره ، والظالم : الذي يعتدي على غيره. وأكثرهم إنما يظلمون مع علمهم بأنهم يظلمون ، كما قال تعالى : (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) آل عمران : ١٩. وإلا فلو سلكوا ما علموه من العدل ، أقرّ بعضهم بعضا ، كالمقلدين لأئمة العلم ، الذين يعرفون من أنفسهم أنهم عاجزون عن معرفة حكم الله ورسوله في تلك المسائل ، فجعلوا أئمتهم نوابا عن الرسول ، وقالوا : هذا غاية ما قدرنا عليه ، فالعادل منهم لا يظلم الآخر ، ولا يعتدي عليه بقول ولا فعل ، مثل أن يدعي أن قول مقلّده هو الصحيح بلا حجة يبديها ، ويذم من خالفه ، مع أنه معذور.

ثم إن أنواع الافتراق والاختلاف في الأصل قسمان :

اختلاف تنوع ، واختلاف تضاد.

واختلاف التنوع على وجوه :

منه ما يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حقّا مشروعا ، كما في القراءات التي اختلف فيها الصحابة رضي الله عنهم ، حتى زجرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال : «كلاكما محسن» (٧٩٥) ، ومثله اختلاف الأنواع في صفة الأذان ، والإقامة ، والاستفتاح ، ومحل سجود السهو ، والتشهد ، وصلاة الخوف ، وتكبيرات العيد ، ونحو ذلك ، مما قد شرع جميعه ، وإن كان بعض أنواعه أرجح أو أفضل. ثم تجد لكثير من الأمة في ذلك من الاختلاف ما أوجب اقتتال طوائف منهم على شفع الإقامة وإيتارها ونحو ذلك! وهذا عين المحرم. وكذا تجد كثيرا منهم في قلبه من الهوى لأحد هذه الأنواع ، والإعراض عن الآخر والنهي عنه ـ : ما دخل به فيما نهى عنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومنه ما يكون كل من القولين هو في المعنى القول الآخر ، لكن العبارتان مختلفتان ، كما قد يختلف كثير من الناس في ألفاظ الحدود ، وصيغ الأدلة ، والتعبير عن المسميات ، ونحو ذلك. ثم الجهل أو الظلم يحمل على حمد إحدى المقالتين وذمّ الأخرى والاعتداء على قائلها! ونحو ذلك.

__________________

(٧٩٥) البخاري من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

٥١٤

وأما اختلاف التضادّ ، فهو القولان المتنافيان ، إما في الأصول ، وإمّا في الفروع ، عند الجمهور الذين يقولون : المصيب واحد. والخطب في هذا أشد ، لأن القولين يتنافيان ، لكن نجد كثيرا من هؤلاء قد يكون القول الباطل الذي مع منازعه فيه حقّ ما ، أو معه دليل يقتضي حقّا ما ، فيردّ الحق مع الباطل ، حتى يبقى هذا مبطلا في البعض ، كما كان الأول مبطلا في الأصل ، وهذا يجري كثيرا لأهل السنة.

وأما أهل البدعة ، فالأمر فيهم ظاهر. ومن جعل الله له هداية ونورا رأى من هذا ما تبين له منفعة ما جاء في الكتاب والسنة من النهي عن هذا وأشباهه ، وإن كانت القلوب الصحيحة تنكر هذا ، لكن نور على نور.

والاختلاف الأول ، الذي هو اختلاف التنوع ، الذمّ فيه واقع على من بغى على الآخر فيه. وقد دلّ القرآن على حمد كل واحدة من الطائفتين في مثل ذلك ، إذا لم يحصل بغي ، كما في قوله تعالى : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ) الحشر : ٥. وقد كانوا اختلفوا في قطع الأشجار ، فقطع قوم ، وترك آخرون. وكما في قوله تعالى : (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ ، إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ. فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ ، وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) الأنبياء : ٧٨ ـ ٧٩ ، فخص سليمان بالفهم وأثنى عليهما بالحكم والعلم. وكما في إقرار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بني قريظة لمن صلى العصر في وقتها ، ولمن أخّرها الى أن وصل الى بني قريظة (٧٩٦). وكما في قوله : «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» (٧٩٧).

والاختلاف الثاني ، هو ما حمد فيه إحدى الطائفتين ، وذمّت الأخرى ، كما في قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ ، وَلكِنِ اخْتَلَفُوا ، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) البقرة : ٢٥٣. وقوله تعالى :

__________________

(٧٩٦) البخاري ومسلّم عن ابن عمر.

(٧٩٧) البخاري ومسلّم وأحمد وغيرهم عن حديث أبي هريرة وعمرو بن العاص

.

٥١٥

(هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ، فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) الحج : ١٩ ، الآيات.

وأكثر الاختلاف الذي يؤول الى الأهواء بين الأمة ـ من القسم الأول ، وكذلك الى سفك الدماء واستباحة الأموال والعداوة والبغضاء. لأن إحدى الطائفتين لا تعترف للأخرى بما معها من الحق ، ولا تنصفها ، بل تزيد على ما مع نفسها من الحق زيادات من الباطل ، والأخرى كذلك. ولذلك جعل الله مصدره البغي في قوله : (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) البقرة : ٢١٣. لأن البغي مجاوزة الحد ، وذكر هذا في غير موضع من القرآن ليكون عبرة لهذه الأمة. وقريب من هذا الباب ما خرجاه في «الصحيحين» ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» (٧٩٨). فأمرهم بالإمساك عما لم يؤمروا به ، معللا بأن سبب هلاك الأولين إنما كان كثرة السؤال ثم الاختلاف على الرسل بالمعصية.

ثم الاختلاف في الكتاب ، من الذين يقرّون به ـ على نوعين : أحدهما اختلاف في تنزيله ، والثاني اختلاف في تأويله. وكلاهما فيه إيمان ببعض دون بعض :

فالأول كاختلافهم في تكلم الله بالقرآن وتنزيله ، فطائفة قالت : هذا الكلام حصل بقدرته ومشيئته لكونه مخلوقا في غيره لم يقم به ، وطائفة قالت : بل هو صفة له قائم بذاته ليس بمخلوق ، لكنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته. وكل من الطائفتين جمعت في كلامها بين حق وباطل ، فآمنت ببعض الحق ، وكذّبت بما تقوله الأخرى من الحق ، وقد تقدمت الإشارة الى ذلك.

وأما الاختلاف في تأويله ، الذي يتضمن الإيمان ببعضه دون بعض ، فكثير ،

__________________

(٧٩٨) صحيح ، وهو مخرج في «الأحاديث الصحيحة» (٨٥٠) برواية الترمذي وتصحيحه ، وفي «الإرواء» (١٥٥ و ٣١٤) برواية الشيخين وغيرهما ، وقد ذكرت له فيه سبع طرق أخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه.

٥١٦

كما في حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أصحابه ذات يوم وهم يختصمون في القدر ، هذا ينزع بآية وهذا ينزع بآية ، فكأنما فقئ في وجهه حبّ الرمان ، فقال : «أبهذا أمرتم؟ أم بهذا وكلتم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ انظروا ما أمرتم به فاتّبعوه ، وما نهيتم عنه فانتهوا» (٧٩٩). وفي رواية : «يا قوم بهذا ضلت الأمم قبلكم ، باختلافهم على أنبيائهم وضربهم الكتاب بعضه ببعض ، وإن القرآن لم ينزل لتضربوا بعضه ببعض ، ولكن نزل القرآن يصدق بعضه بعضا ، ما عرفتم منه فاعملوا به ، وما تشابه فآمنوا به». وفي رواية : «فإن الأمم قبلكم لم يلعنوا حتى اختلفوا ، وإن المراء في القرآن كفر» (٨٠٠). وهو حديث مشهور ، مخرج في «المسانيد والسنن». وقد روى أصل الحديث مسلّم في «صحيحه» ، من حديث عبد الله بن رباح الأنصاري ، أن عبد الله بن عمرو قال : هجّرت الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما ، فسمع صوت رجلين اختلفا في آية ، فخرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرف في وجهه لغضب ، فقال : «إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب» (٨٠١).

وجميع أهل البدع مختلفون في تأويله ، مؤمنون ببعضه دون بعض ، يقرون بما يوافق رأيهم من الآيات ، وما يخالفه : إما أن يتأوله تأويلا يحرّفون فيه الكلم عن مواضعه ، وإما أن يقولوا : هذا متشابه لا يعلم أحد معناه ، فيجحدون ما أنزله من معانيه! وهو في معنى الكفر بذلك ، لأن الإيمان باللفظ بلا معنى هو من جنس إيمان أهل الكتاب ، كما قال تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) الجمعة : ٥. وقال تعالى : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ) البقرة : ٧٨ ، أي : إلا تلاوة من غير فهم معناه. وليس هذا كالمؤمن الذي فهم ما فهم من القرآن فعمل به ، واشتبه عليه بعضه فوكل علمه الى

__________________

(٧٩٩) صحيح وقد مضى ص ٢٠١.

(٨٠٠) صحيح.

(٨٠١) صحيح لإخراج مسلّم إياه.

٥١٧

الله ، كما امره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «فما عرفتم منه فاعملوا به ، وما جهلتم منه فردوه الى عالمه» (٨٠٢) ، فامتثل ما أمر به صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله : (ودين الله في الأرض والسماء واحد ، وهو دين الإسلام ، قال الله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) آل عمران : ١٩. وقال تعالى : (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) المائدة : ٣. وهو بين [الغلو و] التقصير ، وبين التشبيه والتعطيل ، وبين الجبر والقدر ، وبين الأمن والإياس).

ش : ثبت في «الصحيح» عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد» (٨٠٣). وقوله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) آل عمران : ٨٥ ـ عامّ في كل زمان ، ولكن الشرائع تتنوع ، كما قال تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) المائدة : ٤٨. فدين الاسلام هو ما شرعه الله سبحانه وتعالى لعباده على ألسنة رسله ، وأصل هذا الدين وفروعه روايته عن الرسل ، وهو ظاهر غاية الظهور ، يمكن كل مميز من صغير وكبير ، وفصيح وأعجم ، وذكي وبليد ـ : أن يدخل فيه بأقصر زمان ، وإنه يقع الخروج منه بأسرع من ذلك ، من إنكار كلمة ، أو تكذيب ، أو معارضة ، أو كذب على الله ، أو ارتياب في قول الله تعالى ، أو ردّ لما أنزل ، أو شكّ فيما نفى الله عنه الشك ، أو غير ذلك مما في معناه. فقد دلّ الكتاب والسنة على ظهور دين الإسلام ، وسهولة تعلمه ، وأنه يتعلمه الوافد ثم يولي في وقته. واختلاف تعليم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض الالفاظ بحسب من يتعلم ، فإن كان بعيد الوطن ، كضمام بن ثعلبة النجدي ، ووفد عبد القيس ، علّمهم ما لم يسعهم جهله ، مع علمه أن دينه سينشر في الآفاق ، ويرسل إليهم من يفقههم في سائر ما يحتاجون إليه ، ومن كان قريب الوطن يمكنه الإتيان كل وقت ، بحيث يتعلم على التدريج ، أو كان قد علم فيه أنه قد عرف ما لا بد منه ـ أجابه بحسب حاله وحاجته ، على ما تدل قرينة حال السائل ، كقوله : «قل آمنت بالله ثم استقم». وأما من شرع دينا لم يأذن به

__________________

(٨٠٢) صحيح ، وهو رواية عند أحمد (٢ / ١٨١) في الحديث (٤٦٢).

(٨٠٣) متفق عليه بنحوه ، وتجد لفظه في «صحيح الجامع الصغير» (١٤٦٥).

٥١٨

الله ، فمعلوم أن أصوله المستلزمة له لا يجوز أن تكون منقولة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا عن غيره من المرسلين ، إذ هو باطل ، وملزوم الباطل باطل ، كما أن لازم الحق حق.

وقوله : بين الغلو والتقصير ـ قال تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِ) المائدة ٧٧. وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ، وَلا تَعْتَدُوا ، إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً ، وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) المائدة : ٨٧ ـ ٨٨. وفي «الصحيحين» عن عائشة رضي الله عنها : أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سألوا أزواج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن عمله في السر؟ فقال بعضهم : لا آكل اللحم ، وقال بعضهم : لا أتزوج النساء ، وقال بعضهم : لا أنام على فراش ، فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا؟! لكني أصوم وأفطر ، وأنام وأقوم ، وآكل اللحم ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (٨٠٤). وفي غير «الصحيحين» : «سألوا عن عبادته في السر ، فكأنهم تقالّوها» (٨٠٥). وذكر في سبب نزول الآية الكريمة : عن ابن جريج ، عن عكرمة أن عثمان بن مظعون ، وعلي بن أبي طالب ، وابن مسعود ، والمقداد بن الأسود ، وسالما مولى أبي حذيفة ، رضي الله عنهم في أصحابه ـ تبتّلوا ، فجلسوا في البيوت ، واعتزلوا النساء ، ولبسوا المسوح ، وحرّموا طيبات الطعام واللباس ، إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني اسرائيل ، وهموا بالاختصاء ، وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار ، فنزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ، وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) المائدة : ٨٧ ، يقول : لا تسيروا بغير سنة المسلمين ، يريد ما حرموا من النساء والطعام واللباس ، وما أجمعوا له من قيام الليل وصيام النهار ، وما هموا به من الاختصاء ، فلما نزلت فيهم ، بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم ، فقال : «إن لأنفسكم

__________________

(٨٠٤) صحيح ، ولكنه عندهما من حديث أنس ، وليس من حديث عائشة ، وانما لها عندهما حديث آخر بغير هذا السياق ، وفيه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما بال أقوام يرغبون عما رخص لي فيه ، فو الله لأنا أعلمهم بالله وأشدهم له خشية» وليس فيه «فمن رغب ...».

(٨٠٥) قلت : بل هو عند البخاري في أول «النكاح» في القصة التي قبلها ، دون قوله «في السر». وهذا عند أحمد (٣ / ٢٥٩).

٥١٩

عليكم حقّا ، وإن لأعينكم حقّا ، صوموا وأفطروا ، وصلوا وناموا ، فليس منا من ترك سنتنا» فقالوا : اللهم سلّمنا واتبعنا ما أنزلت (٨٠٦).

وقوله : وبين التشبيه والتعطيل ـ تقدم أن الله سبحانه وتعالى يحب أن يوصف بما وصف به نفسه ، وبما وصفه به رسوله ، من غير تشبيه ، فلا يقال : سمع كسمعنا ، ولا بصر كبصرنا ، ونحوه ، ومن غير تعطيل ، فلا ينفي عنه ما وصف به نفسه ، أو وصفه به أعرف الناس (٨٠٧) به : رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن ذلك تعطيل ، وقد تقدم الكلام في هذا المعنى. ونظير هذا القول قوله : ومن لم يتوقّ النفي والتشبيه ، زل ولم يصب التنزيه. وهذا المعنى مستفاد من قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الشورى : ١١. فقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) الشورى : ١١ ـ رد على المشبهة ، وقوله : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الشورى : ١١ ـ رد على المعطلة. وقوله : وبين الجبر والقدر ـ تقدم الكلام أيضا على هذا المعنى ، وأن العبد غير مجبور على أفعاله وأقواله ، وأنها [ليست] بمنزلة حركات المرتعش وحركات الأشجار بالرياح وغيرها ، وليست مخلوقة للعباد ، بل هي فعل العبد وكسبه وخلق الله تعالى.

وقوله : وبين الأمن والإياس ـ تقدم الكلام أيضا على هذا المعنى ، وأنه يحب أن يكون العبد خائفا من عذاب ربه ، راجيا رحمته ، وأن الخوف والرجاء بمنزلة الجناحين للعبد ، في سيره الى الله تعالى والدار الآخرة.

قوله : (فهذا ديننا واعتقادنا ظاهرا وباطنا ، ونحن براء الى الله تعالى من كل من خالف الذي ذكرناه وبيناه ، ونسأل الله تعالى أن يثبتنا على الايمان ، ويختم لنا به ويعصمنا من الأهواء المختلفة ، والآراء المتفرقة ، والمذاهب الردّية ، مثل المشبهة ، والمعتزلة ، والجهمية ، والجبرية ، والقدرية ، وغيرهم ، من الذين خالفوا السنة والجماعة ، وحالفوا الضلالة ، ونحن منهم براء وهم عندنا ضلال وأردياء. وبالله العصمة والتوفيق).

__________________

(٨٠٦) ضعيف بهذا السياق ، وهو مرسل.

(٨٠٧) في الاصل : الخلق.

٥٢٠