شرح العقيدة الطّحاويّة

ابن أبي العزّ الحنفي

شرح العقيدة الطّحاويّة

المؤلف:

ابن أبي العزّ الحنفي


المحقق: الشيخ محمّد ناصر الدين الألباني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بغداد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٤

وقولهم : إن اقتضت المشيئة المطلوب فلا حاجة الى الدعاء؟ قلنا : بل قد تكون إليه حاجة ، من تحصيل مصلحة أخرى عاجلة وآجلة ، ودفع مضرة أخرى عاجلة وآجلة. وكذلك قولهم : وإن لم تقتضه فلا فائدة فيه؟ قلنا : بل فيه فوائد عظيمة ، من جلب منافع ، ودفع مضارّ ، كما نبه عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بل ما يعجل للعبد ، من معرفته بربه ، وإقراره به ، وبأنه سميع قريب قدير عليم رحيم ، وإقراره بفقره إليه واضطراره إليه ، وما يتبع ذلك من العلوم العلية والأحوال الزكية ، التي هي من أعظم المطالب. فإن قيل : إذا كان إعطاء الله معللا بفعل العبد ، كما يفعل من إعطاء المسئول للسائل ، كان السائل قد أثّر في المسئول حتى أعطاه؟! قلنا : الرب سبحانه هو الذي حرّك العبد الى دعائه ، فهذا الخير منه ، وتمامه عليه. كما قال عمر رضي الله عنه : «إني لا أحمل همّ الإجابة ، وإنما أحمل همّ الدعاء ، ولكن إذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه. وعلى هذا قوله تعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ، ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) الم السجدة : ٥. فأخبر سبحانه أنه يبتدئ بتدبير [الأمر] ، ثم يصعد إليه الأمر الذي دبّره ، فالله سبحانه هو الذي يقذف في قلب العبد حركة الدعاء ، ويجعلها سببا للخير الذي يعطيه إياه ، كما في العمل والثواب ، فهو الذي وفق العبد للتوبة ثم قبلها ، [وهو الذي وفّقه للعمل ثم أثابه] ، وهو الذي وفقه للدعاء ثم أجابه ، فما أثّر فيه شيء من المخلوقات ، بل هو جعل ما يفعله سببا لما يفعله. قال مطرّف بن عبد الله بن الشّخّير ، أحد أئمة التابعين : نظرت في هذا الأمر ، فوجدت مبدأه من الله ، وتمامه على الله ، ووجدت ملاك ذلك الدّعاء.

وهنا سؤال معروف ، وهو : أن من الناس من قد يسأل الله فلا يعطى شيئا ، أو يعطى غير ما سأل؟ وقد أجيب عنه بأجوبة ، فيها ثلاثة أجوبة محققة ـ :

أحدها : أن الآية لم تتضمن عطية السؤال مطلقا ، وإنما تضمنت إجابة الداعي ، والداعي أعمّ من السائل ، وإجابة الداعي أعم من إعطاء السائل. ولهذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ينزل ربنا كل ليلة الى السماء الدنيا فيقول : من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟» (٦٥٥). ففرق بين

__________________

(٦٥٥) صحيح متواتر ، ذكرت بعض طرقه (ارواء الغليل» (٤٥٠).

٤٦١

الداعي والسائل ، وبين الإجابة والإعطاء ، وهو فرق بين العموم والخصوص ، كما اتبع ذلك بالمستغفر ، وهو نوع من السائل ، فذكر العام ثم الخاص ثم الأخص. واذا علم العباد أنه قريب ، يجيب دعوة الداعي ، علموا قربه منهم ، وتمكنهم من سؤاله ـ : وعلموا علمه ورحمته وقدرته ، فدعوه دعاء العبادة في حال ، ودعاء المسألة في حال ، [وجمعوا بينهما في حال] ، إذ الدعاء اسم يجمع العبادة والاستعانة ، وقد فسر قوله : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) غافر : ٦٠ ـ بالدعاء ، الذي هو العبادة ، والدعاء الذي هو الطلب. وقوله بعد ذلك : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي) غافر : ٦٠ ـ يؤيد المعنى الأول.

الجواب الثاني : أن إجابة دعاء السؤال أعمّ من إعطاء عين السؤال ، كما فسره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه مسلم في «صحيحه» ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من رجل يدعو الله بدعوة ليس فيها اثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه بها إحدى ثلاث خصال : إما أن يعجل له دعوته ، أو يدّخر له من الخير مثلها ، أو يصرف عنه من الشر مثلها» ، قالوا : يا رسول الله ، إذا نكثر ، قال : «الله أكثر» (٦٥٦). فقد أخبر الصادق المصدوق أنه لا بد في الدعوة الخالية عن العدوان من إعطاء السؤال معجلا ، أو مثله من الخير مؤجلا ، أو يصرف عنه من السوء مثله.

الجواب الثالث : أن الدعاء سبب مقتض لنيل المطلوب ، والسبب له شروط وموانع ، فإذا حصلت شروطه وانتفت موانعه حصل المطلوب ، وإلا فلا يحصل ذلك المطلوب ، بل قد يحصل غيره. وهكذا سائر الكلمات الطيبات ، من الأذكار المأثورة المعلّق عليها جلب منافع أو دفع مضارّ ، فإن الكلمات بمنزلة الآلة في يد الفاعل ، تختلف باختلاف قوته وما يعنيها ، وقد يعارضها مانع من الموانع. ونصوص الوعد والوعيد المتعارضة في الظاهر ـ : من هذا الباب. وكثيرا ما تجد أدعية دعا بها قوم

__________________

(٦٥٦) صحيح ، ولكنه ليس في «صحيح مسلم» ، وأنما أخرجه أحمد وغيره من حديث أبي سعيد الخدري ، وصححه الحاكم والذهبي وهو كما قال ، وإنما رواه مسلم من حديث أبي هريرة مختصرا ، ورواه الترمذي مطولا ، إلا أنه قال في الخصلة الثالثة : «وإما أن يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا» ، وهو منكر بهذا اللفظ ، ولذلك خرجته في «الضعيفة» (٤٤٨٣) ، وذكرت تحته ما صحّ منه كحديث أبي سعيد هذا.

٤٦٢

فاستجيب لهم ، ويكون قد اقترن بالدعاء ضرورة صاحبه وإقباله على الله ، أو حسنة تقدمت منه ، جعل الله سبحانه إجابة دعوته شكر الحسنة ، أو صادف وقت إجابة ، ونحو ذلك ـ فأجيبت دعوته ، فيظن أن السر في ذلك الدعاء ، فيأخذه مجردا عن تلك الأمور التي قارنته من ذلك الداعي. وهذا كما إذ استعمل رجل دواء نافعا في الوقت الذي ينبغي ، فانتفع به ، فظن آخر ان استعمال هذا الدواء بمجرده كاف في حصول المطلوب ، وكان غالطا. وكذا قد يدعو باضطرار عند قبر ، فيجاب ، فيظنّ أن السرّ للقبر ، ولم يدر أن السر للاضطرار وصدق اللجء (٦٥٧) الى الله تعالى ، فإذا حصل ذلك في بيت من بيوت الله تعالى كان أفضل وأحبّ الى الله تعالى. فالأدعية والتعوذات والرّقي بمنزلة السلاح ، والسلاح بضاربه ، لا بحده فقط ، فمتى كان السلاح سلاحا تامّا والساعد ساعدا قويّا ، والمحلّ قابلا ، والمانع مفقودا ـ : حصلت به النّكاية في العدو ، ومتى تخلّف واحد من هذه الثلاثة تخلف التأثير. فإذا كان الدعاء في نفسه غير صالح ، أو الداعي لم يجمع بين قلبه ولسانه في الدعاء ، أو كان ثمّ مانع من الإجابة ـ : لم يحصل الأثر.

قوله : (ويملك كل شيء ، ولا يملكه شيء. ولا غنى عن الله تعالى طرفة عين ، ومن استغنى عن الله طرفة عين ، فقد كفر وصار من أهل الحين).

ش : كلام حق ظاهر لا خفاء فيه. والحين ، بالفتح : الهلاك.

قوله : (والله يغضب ويرضى ، لا كأحد من الورى).

ش : قال تعالى : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) المائدة : ١١٩ والتوبة : ١٠٠ والمجادلة : ٢٢ والبينة : ٨. (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) الفتح : ١٨. وقال تعالى : (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) المائدة : ٦٠. ([وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ] وَلَعَنَهُ) النساء : ٩٣. (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) البقرة : ٦١. ونظائر ذلك كثيرة. ومذهب السلف وسائر الأئمة إثبات صفة الغضب ، والرضى ، والعداوة ، والولاية ، والحب ، والبغض ، ونحو ذلك من

__________________

(٦٥٧) «اللجء» ـ بفتح اللام وسكون الجيم : مصدر ، كاللجوء.

٤٦٣

الصفات ، التي ورد بها الكتاب والسنة ، ومنع التأويل الذي يصرفها عن حقائقها اللائقة (٦٥٨) بالله تعالى. كما يقولون مثل ذلك في السمع والبصر والكلام وسائر الصفات ، كما أشار إليه الشيخ فيما تقدم بقوله : إذا كان تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يضاف الى الربوبية ـ ترك التأويل ، ولزوم التسليم ، وعليه دين المسلمين (٦٥٩). وانظر الى جواب الإمام مالك رضي الله عنه في صفة [الاستواء] كيف قال : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول. وروي أيضا عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفا عليها ، ومرفوعا الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٦٦٠). وكذلك قال الشيخ رحمه‌الله فيما تقدم : «من لم يتوقّ النفي والتشبيه ، زلّ ولم يصب التنزيه». ويأتي في كلامه «أن الإسلام بين الغلو والتقصير ، وبين التشبيه والتعطيل». فقول الشيخ رحمه‌الله : لا كأحد من الورى ، نفى التشبيه. ولا يقال : إن الرضى إرادة الإحسان ، والغضب إرادة الانتقام ـ فإن هذا نفي للصفة. وقد اتفق أهل السنة على أن الله يأمر بما يحبه ويرضاه ، وإن كان لا يريده ولا يشاؤه ، وينهى عما يسخطه ويكرهه ، ويبغضه ويغضب على فاعله ، وإن كان قد شاءه وأراده. فقد يحبّ عندهم ويرضى ما لا يريده ، ويكره ويسخط لما أراده.

ويقال لمن تأويل الغضب والرضى بإرادة الإحسان : لم تأولت ذلك؟ فلا بد أن يقول : إن الغضب غليان دم القلب ، والرضى الميل والشهوة ، وذلك لا يليق بالله تعالى! فيقال له : غليان دم القلب في الآدمي أمر ينشأ عن صفة الغضب ، لا أنّه الغضب. ويقال له أيضا : وكذلك الإرادة والمشيئة فينا ، فهي ميل الحي الى الشيء أو الى ما يلائمه ويناسبه ، فإن الحي منا لا يريد إلا ما يجلب له منفعة أو يدفع عنه مضرة ، وهو محتاج الى ما يريده ومفتقر إليه ، ويزداد بوجوده ، وينتقص بعدمه. فالمعنى الذي صرفت إليه اللفظ كالمعنى الذي صرفته عنه سواء ، فإن جاز هذا جاز ذاك ، وثان امتنع هذا امتنع ذاك.

__________________

(٦٥٨) في الاصل : اللائقة بما.

(٦٥٩) في الاصل : المرسلين.

(٦٦٠) قلت : لا يصح مرفوعا.

٤٦٤

فإن قال : [الإرادة] التي يوصف الله بها مخالفة للإرادة التي يوصف بها العبد ، وان كان كل منهما حقيقة؟ قيل له : فقل : إن الغضب والرضى الذي يوصف الله به مخالف لما يوصف به العبد ، وإن كان كل منهما حقيقة. فإذا كان ما يقوله في الإرادة يمكن أن يقال في هذه الصفات ، لم يتعين التأويل ، بل يجب تركه ، لأنك تسلم من التناقض ، وتسلم أيضا من تعطيل معنى أسماء الله تعالى وصفاته بلا موجب. فإن صرف القرآن عن ظاهره وحقيقته بغير موجب حرام ، ولا يكون الموجب للصرف ما دلّه عليه عقله ، إذ العقول مختلفة ، فكلّ يقول إن عقله دلّه على خلاف ما يقوله الآخر!

وهذا الكلام يقال لكل من نفى صفة من صفات الله تعالى ، لامتناع مسمى ذلك في المخلوق ، فإنه لا بد أن يثبت شيئا لله تعالى على خلاف ما يعهده حتى في صفة الوجود ، فإن وجود العبد كما يليق به ، ووجود الباري تعالى كما يليق به ، فوجوده تعالى يستحيل عليه العدم ، ووجود المخلوق لا يستحيل عليه العدم ، وما سمى به الرب نفسه وسمى به مخلوقاته ، مثل الحي والعليم والقدير ، أو سمى به بعض صفاته ، كالغضب والرضى ، وسمى به بعض صفات عباده ـ : فنحن نعقل بقلوبنا معاني هذه الأسماء في حق الله تعالى ، وأنه حق ثابت موجود ، ونعقل أيضا معاني هذه الأسماء في حق المخلوق ، ونعقل أن بين المعنيين قدرا مشتركا ، لكن هذا المعنى لا يوجد في الخارج مشتركا ، إذ المعنى المشترك الكلي لا يوجد مشتركا إلا في الأذهان ، ولا يوجد في الخارج إلا معينا مختصّا. فيثبت [في] كل منهما كما يليق به. بل لو قيل : غضب مالك خازن النار وغضب غيره من الملائكة ـ : لم يجب أن يكون مماثلا لكيفية غضب الآدميين ، لأن الملائكة ليسوا من الأخلاط الاربعة ، حتى تغلي دماء قلوبهم كما يغلي دم قلب الإنسان عند غضبه. فغضب الله أولى.

وقد نفى الجهم ومن وافقه كلّ ما وصف الله به نفسه ، من كلامه ورضاه وغضبه وحبه وبغضه وأسفه ونحوه ذلك ، وقالوا : إنما هي أمور مخلوقة منفصلة عنه ، ليس هو في نفسه متصفا بشيء من ذلك!! وعارض هؤلاء من الصفاتية ابن كلاب ومن وافقه ، فقالوا : لا يوصف الله بشيء يتعلق بمشيئته وقدرته أصلا ، بل جميع هذه الأمور صفات لازمة لذاته ، قديمة أزلية ، فلا يرضى في وقت دون وقت ، ولا

٤٦٥

يغضب في وقت دون وقت : كما قال في حديث الشفاعة : «إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله» (٦٦١) وفي «الصحيحين» عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تعالى يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة ، فيقولون : لبيك ربّنا وسعديك والخير في يديك ، فيقول : هل رضيتم؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى يا رب؟ وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ، فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون : يا رب ، وأيّ شيء أفضل من ذلك؟ فيقول : أحلّ عليكم رضواني ، فلا أسخط عليكم بعده أبدا» (٦٦٢). فيستدل به على أنه يحل رضوانه في وقت دون وقت ، وأنه قد يحل رضوانه ثم يسخط ، كما يحل السخط ثم يرضى ، لكن هؤلاء أحل عليهم رضوانا لا يتعقبه سخط وهم قالوا : لا يتكلم إذا شاء ، ولا يضحك اذا شاء ، ولا يغضب اذا شاء ، ولا يرضى اذا شاء ، بل إما أن يجعلوا الرضى والغضب والحب والبغض هو الإرادة ، أو يجعلوها صفات أخرى ، وعلى التقديرين فلا يتعلق شيء من ذلك لا بمشيئته ولا بقدرته ، إذ لو تعلّق بذلك لكان محلّا للحوادث!! فنفى هؤلاء الصفات الفعلية الذاتية بهذا الأصل ، كما نفى أولئك الصفات مطلقا بقولهم ليس محلا للأعراض. وقد يقال : بل هي أفعال ، ولا تسمى حوادث ، كما سميت تلك صفات ، ولم تسمّ أعراضا. وقد تقدمت الإشارة الى هذا المعنى ، ولكن الشيخ رحمه‌الله لم يجمع الكلام في الصفات في المختصر في مكان واحد ، وكذلك الكلام في القدر ونحو ذلك ، ولم يعتن فيه بترتيب. وأحسن ما يرتب عليه كتاب أصول الدين ترتيب جواب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجبريل عليه‌السلام ، حين سأله عن الإيمان ، فقال : «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر [خيره وشره]» (٦٦٣) ، الحديث ـ فيبدأ بالكلام على التوحيد والصفات وما يتعلق بذلك ، ثم بالكلام على الملائكة ، ثم وثم ، الى آخره.

__________________

(٦٦١) متفق عليه من حديث أبي هريرة وقد مضى لفظه بتمامه (رقم ١٩٨).

(٦٦٢) صحيح ، وهو مخرج في «صحيح الجامع الصغير» (١٩٠٧).

(٦٦٣) متفق عليه ، على ما سبق بيانه.

٤٦٦

وقوله : (ونحب أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا نفرط في حب أحد منهم ، ولا نتبرأ من أحد منهم. ونبغض من يبغضهم ، وبغير الخير يذكرهم. ولا نذكرهم إلا بخير. وحبهم دين وإيمان وإحسان ، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان).

ش : يشير الشيخ رحمه‌الله الى الرد على الروافض والنواصب. وقد أثنى الله تعالى على الصحابة هو ورسوله ، ورضي عنهم ، ووعدهم الحسنى ، كما قال تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ ، وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ، وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ ، خالِدِينَ فِيها [أَبَداً] ، ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) التوبة : ١٠٠. وقال تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ، وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ، تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) الفتح : ٢٩ ، الى آخر السورة. وقال تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) الفتح : ١٨. وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا ، أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) الانفال : ٧٢. الى آخر السورة. وقال تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ ، أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) (٦٦٤) ، وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ الحديد : ١٠. وقال تعالى : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ ، يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً ، وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ ، وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا ، وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ ، وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ ، وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا ، رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) الحشر : ٨ ـ ١٠. وهذه الآيات تتضمن الثناء على المهاجرين والأنصار ، وعلى الذين جاءوا من بعدهم ، يستغفرون لهم ، ويسألون الله أن لا يجعل في قلوبهم غلّا لهم ، وتتضمن أن هؤلاء [هم] المستحقون للفيء. فمن كان في قلبه غلّ للذين

__________________

(٦٦٤) قال عفيفي : انظر ص ٦٦٢ ج ٧ من «مجموع الفتاوى»

.

٤٦٧

آمنوا ولم يستغفر لهم لا يستحق في الفيء نصيبا ، بنص القرآن. وفي «الصحيحين» عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، قال : كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء ، فسبّه خالد ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تسبوا أحدا من أصحابي ، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ، ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه» (٦٦٥). انفرد مسلم بذكر سب خالد لعبد الرحمن ، دون البخاري. فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لخالد ونحوه : «لا تسبوا أصحابي» ، يعني عبد الرحمن وأمثاله ، لأن عبد الرحمن ونحوه هم السابقون الأولون ، وهم الذين أسلموا من قبل الفتح وقاتلوا ، وهم أهل بيعة الرضوان ، [فهم أفضل وأخص بصحبته ممن أسلم بعد بيعة الرضوان] ، وهم الذين أسلموا بعد الحديبية ، وبعد مصالحة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل مكة ، ومنهم خالد بن الوليد ، وهؤلاء أسبق ممن تأخر إسلامهم الى فتح مكة ، وسموا الطلقاء ، منهم أبو سفيان وابناه يزيد ومعاوية ، والمقصود أنه نهى من له صحبة آخرا أن يسب من له صحبة أولا ، لامتيازهم عنهم من الصحبة بما لا يمكن أن يشركوهم فيه ، حتى لو أنفق أحدهم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه. فإذا كان هذا حال الذين أسلموا بعد الحديبية ، وإن كان قبل فتح مكة فكيف حال من ليس من الصحابة بحال مع الصحابة؟ رضي الله عنهم أجمعين.

والسابقون الأولون ـ من المهاجرين والأنصار ـ هم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا ، وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم ، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة. وقيل : إن السابقين الأولين من صلى الى القبلتين ، وهذا ضعيف (٦٦٦). فإن الصلاة الى القبلة المنسوخة ليس بمجردة فضيلة ، لأن النسخ ليس من فعلهم ، ولم يدل على التفضيل به دليل شرعي ، كما دل على التفضيل بالسبق الى الإنفاق والجهاد والمبايعة التي كانت تحت الشجرة.

وأما ما يروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أصحابي كالنجوم ، بأيهم اقتديتم

__________________

(٦٦٥) صحيح ورواه مسلم من حديث أبي هريرة أيضا ، وهو مخرج في «ظلال الجنة» (٩٨٨ ـ ٩٩١) ، وفيه بيان أنه ذكر أبي هريرة فيه شاذ ، فراجعه إن شئت.

(٦٦٦) قال عفيفي : انظر ص ٣٩٨ وما بعدها ج ٤ من «مجموع الفتاوى» لابن تيمية.

٤٦٨

اهتديتم» (٦٦٧) ـ فهو حديث ضعيف ، قال البزار : هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وليس هو في كتب الحديث المعتمدة.

وفي «صحيح مسلم» عن جابر ، قال : قيل لعائشة رضي الله عنها : إن ناسا يتناولون أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أبا بكر وعمر! فقالت : وما تعجبون من هذا! انقطع عنهم العمل ، فأحبّ الله أن لا يقطع عنهم الأجر (٦٦٨). وروى ابن بطة بإسناد صحيح ، عن ابن عباس ، أنه قال : لا تسبوا أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلمقام أحدهم ساعة يعني مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، خير من عمل أحدكم أربعين سنة (٦٦٩). وفي رواية وكيع : خير من عبادة أحدكم عمره. وفي «الصحيحين» من حديث عمران بن حصين وغيره ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم» ، قال عمران : فلا أدري : أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة (٦٧٠) ، الحديث. وقد ثبت في «صحيح مسلم» عن جابر ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة» (٦٧١). وقال تعالى : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) التوبة : ١١٧ ، الآيات. ولقد صدق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في وصفهم ، حيث قال : إن

__________________

(٦٦٧) بل هو حديث باطل كما بينته في «الاحاديث الضعيفة والموضوعة» (رقم ٥٨).

(٦٦٨) هذا حديث غريب عندي ، وعزوه لمسلم أغرب فإني لم أقف عليه فيه ، بعد الاستعانة عليه بكل الوسائل الممكنة ، ولم يتيسر لي مراجعته في مصادر أخرى من كتب الحديث ، فإني على وشك السفر الى المدينة المنورة إن شاء الله تعالى. ثم تيقنت عدم وجوده فيه بعد أن فرغت منذ بضع سنين من اختصار «صحيح مسلم» وأنا الآن في صدد اختصار «صحيح البخاري» على منهج علمي دقيق.

ثم صدر المجلد الأول منه ، وفيه قرابة ألف حديث من الأحاديث المسندة. و (٣١٨) من الأحاديث المعلقة ، و (٤٠٩) من الآثار الموقوفة.

(٦٦٩) صحيح ، وهو مخرج في «الظلال» (١٠٠٦).

(٦٧٠) صحيح ، ورواه ابن أبي عاصم في «السنة» من طرق (١٤٦٨ ـ ١٤٧٢) ، وصحح أحدها ابن حبان ، وهو مخرج في «الصحيحة» (٦٩٩).

(٦٧١) صحيح.

٤٦٩

الله نظر في قلوب العباد ، فوجد قلب محمد خير قلوب العباد ، فاصطفاه لنفسه ، وابتعثه برسالته ، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد ، فجعلهم وزراء نبيه ، يقاتلون على دينه ، فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ، وما رأوه سيئا فهو عند الله سيئ (٦٧٢). [وفي رواية] : وقد رأى أصحاب محمد جميعا أن يستخلفوا أبا بكر. وتقدم قول ابن مسعود : من كان منكم مستنّا فليستن بمن قد مات ، إلخ ـ عند قول الشيخ : ونتبع السنة والجماعة.

فمن أضلّ ممن يكون في قلبه غل على خيار المؤمنين ، وسادات أولياء الله تعالى بعد النبيين؟ بل قد فضلهم اليهود والنصارى بخصلة ، قيل لليهود : من خير أهل ملتكم؟ قالوا : أصحاب موسى ، وقيل للنصارى : من خير أهل ملتكم؟ قالوا : أصحاب عيسى ، وقيل للرافضة : من شرّ أهل ملتكم؟ قالوا : أصحاب محمد!! لم يستثنوا منهم إلا القليل ، وفيمن سبّوهم من هو خير ممن استثنوهم بأضعاف مضاعفة.

وقوله : ولا نفرط في حب أحد منهم ـ أي لا نتجاوز الحد في حب أحد منهم ، كما تفعل الشيعة ، فنكون من المعتدين. قال تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) النساء : ١٧١.

وقوله : ولا نتبرأ [من أحد] منهم ـ كما فعلت الرافضة! فعندهم لا ولاء إلا ببراء ، أي لا يتولى أهل البيت حتى يتبرأ من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما!! وأهل السنة يوالونهم كلهم ، وينزلونهم منازلهم التي يستحقونها ، بالعدل والإنصاف ، لا بالهوى والتعصب. فإن ذلك كله من البغي الذي هو مجاوزة الحد ، كما قال تعالى : (فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) الجاثية : ١٧. وهذا معنى قول من قال من السلف : الشهادة بدعة ، والبراءة بدعة. يروى ذلك عن جماعة من السلف ، من الصحابة والتابعين ، منهم : أبو سعيد الخدري ، والحسن

__________________

(٦٧٢) حسن موقوفا ، أخرجه الطيالسي وأحمد وغيرهما بسند حسن ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي ، واشتهر على الألسنة مرفوعا ، وفي سنده كذاب ، والصحيح وقفه ، وهما مخرجان في «الضعيفة» (٥٣٢ و ٥٣٣).

٤٧٠

البصري ، وإبراهيم النخعي ، والضحاك ، وغيرهم. ومعنى الشهادة : أن يشهد على معيّن من المسلمين أنه من أهل النار ، أو أنه كافر ، بدون العلم بما ختم الله [له] به

وقوله : وحبهم دين وإيمان وإحسان ـ لأنه امتثال لأمر الله فيما تقدم من النصوص. وروى الترمذي عن عبد الله بن مغفل ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «الله الله في أصحابي ، لا تتخذوهم غرضا [بعدي] ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله [تعالى] ، [ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه» (٦٧٣). وتسمية حب الصحابة إيمانا مشكل على الشيخ رحمه‌الله ، لأن الحب عمل القلب ، وليس هو التصديق ، فيكون العمل داخلا في مسمى الإيمان. وقد تقدم في كلامه : أن الإيمان هو الاقرار باللسان والتصديق بالجنان ، ولم يجعل العمل داخلا في مسمى الايمان ، وهذا هو المعروف من مذهب أهل السنة ، إلا أن تكون هذه التسمية مجازا.

وقوله : وبغضهم كفر ونفاق وطغيان ـ تقدم الكلام في تكفير أهل البدع ، وهذا الكفر نظير الكفر المذكور في قوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) المائدة : ٤٤. وقد تقدم الكلام في ذلك.

قوله : (ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولا لأبي بكر الصديق رضي الله عنه ، تفضيلا له وتقديما على جميع الأمة).

ش : اختلف أهل السنة في خلافة الصديق رضي الله عنه : هل كانت بالنص ، أو بالاختيار؟ فذهب الحسن البصري وجماعة من أهل الحديث الى أنها ثبتت بالنص الخفي والإشارة ، ومنهم من قال بالنص الجلي. وذهب جماعة من أهل الحديث والمعتزلة والأشعرية الى أنها ثبتت بالاختيار.

والدليل على إثباتها بالنص أخبار : من ذلك ما أسنده البخاري عن جبير بن مطعم ، قال : أتت امرأة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمرها أن ترجع إليه ، قالت : أرأيت إن

__________________

(٦٧٣) ضعيف ، وقال الترمذي «غريب» وهو مخرج في «الأحاديث الضعيفة» (٢٩٠١).

٤٧١

جئت فلم أجدك؟ كأنها تريد الموت ، قال : «إن لم تجديني فأتي أبا بكر» (٦٧٤). وذكر له سياق آخر ، وأحاديث أخر. وذلك نص على إمامته. وحديث حذيفة بن اليمان ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اقتدوا باللذين من بعدي : أبي بكر وعمر» (٦٧٥). رواه أهل السنن. وفي «الصحيحين» عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها ، قالت : دخل عليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في اليوم الذي بدئ فيه ، فقال : ادعي لي أباك وأخاك ، حتى أكتب لأبي بكر كتابا ، ثم قال : يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر» (٦٧٦). وفي رواية : «فلا يطمع في هذا الأمر طامع». وفي رواية : قال : «ادعي لي عبد الرحمن بن أبي بكر ، لأكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه ، ثم قال : معاذ الله أن يختلف المؤمنون في أبي بكر». وأحاديث تقديمه في الصلاة مشهورة معروفة ، وهو يقول : «مروا أبا بكر فليصلّ بالناس» (٦٧٧). وقد روجع في ذلك مرة بعد مرة ، فصلى بهم مدة مرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفي «الصحيحين» عن أبي هريرة ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «بينا أنا نائم رأيتني على قليب ، عليها دلو ، فنزعت منها ما شاء الله ، ثم أخذها ابن أبي قحافة ، فنزع منها ذنوبا أو ذنوبين ، وفي نزعه ضعف ، والله يغفر له ، ثم استحالت غربا ، فأخذها ابن الخطاب ، فلم أر عبقريّا من الناس يفري فريّه ، حتى ضرب الناس بعطن» (٦٧٨). وفي «الصحيح» أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال على منبره : «لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، لا يبقينّ في المسجد خوخة إلا سدّت ، إلا خوخة أبي بكر» (٦٧٩). وفي «سنن أبي داود» وغيره ، من حديث الأشعث عن الحسن عن أبي بكرة ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ذات يوم : «من رأى منكم رؤيا؟ فقال رجل أنا :

__________________

(٦٧٤) صحيح ، وهو مخرج في «ظلال الجنة» (١١٥١).

قال عفيفي : انظر خطبة كتاب «منهاج السنة» لابن تيمية.

(٦٧٥) صحيح ، وهو مخرج في «الصحيحة» (١٢٣٣).

(٦٧٦) صحيح ، وهو مخرج في «الصحيحة» (٦٩٠). ، وأنظر «ظلال الجنة» (١١٥٦).

(٦٧٧) متفق عليه ، وهو مخرج في «الظلال» (١١٦٤ ، ١١٦٧) وانظر (١١٥٩ و ١١٦٠).

(٦٧٨) صحيح ، ورواه ابن أبي عاصم في «السنة» (١٤٥٧).

(٦٧٩) متفق عليه ، ونقدم بنحوه الحديث (رقم ١٣٦).

٤٧٢

رأيت ميزانا [أنزل] من السماء ، فوزنت أنت وأبو بكر ، فرجحت أنت بأبي بكر ، ثم وزن عمر وأبو بكر ، فرجح أبو بكر ، ووزن عمر وعثمان ، فرجح عمر ، ثم رفع ، فرأيت الكراهة في وجه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «خلافة نبوّة ، ثم يؤتي الله الملك من يشاء» (٦٨٠).

فبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن ولاية هؤلاء خلافة نبوة ، ثم بعد ذلك ملك. وليس فيه ذكر علي رضي الله عنه ، لأنه لم يجتمع الناس في زمانه ، بل كانوا مختلفين ، لم ينتظم فيه خلافة النبوة ولا الملك. وروى أبو داود أيضا عن جابر رضي الله عنه ، أنه كان يحدث ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أري الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونيط عمر بأبي بكر ، ونيط عثمان بعمر» ، قال جابر : فلما قمنا من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قلنا : أما الرجل الصالح فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأما المنوط بعضهم ببعض فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه (٦٨١). وروى أبو داود أيضا عن سمرة بن جندب : أن رجلا قال : يا رسول الله ، رأيت كأنّ دلوا دلي من السماء ، فجاء أبو بكر فأخذ بعراقيها ، فشرب شربا ضعيفا ، ثم جاء عمر فأخذ بعراقيها فشرب حتى نضلّع ، ثم جاء عثمان فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلّع ، ثم جاء علي فأخذ بعراقيها ، فانتشطت منه ، فانتضح عليه منها شيء (٦٨٢). وعن سعيد بن جمهان ، عن سفينة. قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خلافة النبوة ثلاثون سنة ، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء» (٦٨٣). أو «الملك».

__________________

(٦٨٠) صحيح رواه أبو داود (٤٦٣٤ ، ٤٦٣٥) من طريقين عن أبي بكرة ، واللفظ الذي في الكتاب هو عنده من طريق الأشعث التي ذكرها المؤلف ، لكن ليس فيها قوله في آخره : خلافة .. وهذه الزيادة عنده من الطريق الاخرى ، وفيها علي بن زيد وهو ابن جدعان وفيه ضعف ، لكن يشهد لها حديث سفينته الآتي بعد حديثين. والحديث مخرج في «ظلال الجنة» (١١٣١ ـ ١١٣٣ و ١١٣٥ و ١١٣٦).

(٦٨١) ضعيف ، وبيانه في «ظلال الجنة» (١١٣٤).

(٦٨٢) ضعيف ، فيه عبد الرحمن الجرمي ، فيه جهالة ، ومن طريقه أيضا أخرجه أحمد (٥ / ٢١).

و (العراقي) جمع (عرقوة) وهي أعواد يخالف بينها ثم تشد في عرى الدلو ويعلق بها الحبل.

(٦٨٣) حسن يشهد له ما قبله بحديثين.

٤٧٣

واحتج من قال لم يستخلف ، بالخبر المأثور ، عن عبد الله بن عمر ، عن عمر رضي الله عنهما ، أنه قال : «إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني ، يعني أبا بكر ، وإن لا أستخلف ، فلم يستخلف من هو خير [مني] ، يعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، [قال عبد الله : فعرفت أنه حين ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير مستخلف] (٦٨٤). وبما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت من كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستخلفا لو استخلف. والظاهر ـ والله أعلم ـ أن المراد أنه لم يستخلف بعهد مكتوب ، ولو كتب عهدا لكتبه لأبي بكر ، بل قد أراد كتابته ثم تركه ، وقال : «يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر» (٦٨٥). فكان هذا أبلغ من مجرد العهد ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دلّ المسلمين على استخلاف أبي بكر ، وأرشدهم إليه بأمور متعددة ، من أقواله وأفعاله ، وأخبر بخلافته إخبار راض بذلك ، حامد له ، وعزم على أن يكتب بذلك عهدا ، ثم علم أن المسلمين يجتمعون عليه ، فترك الكتاب اكتفاء بذلك ، ثم عزم على ذلك في مرضه يوم الخميس ، ثم لما حصل لبعضهم شكّ : هل ذلك القول من جهة المرض؟ أو هو قول يجب اتباعه؟ ترك الكتابة ، اكتفاء بما علم أن الله يختاره والمؤمنون من خلافة أبي بكر. فلو كان التعيين مما يشتبه على الأمة لبينه بيانا قاطعا للعذر ، لكن لما دلهم دلالات متعددة على أن أبا بكر المتعين ، وفهموا ذلك ـ حصل المقصود. ولهذا قال عمر رضي الله عنه ، في خطبته التي خطبها بمحضر من المهاجرين والأنصار : أنت خيرنا وسيدنا وأحبنا الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم ينكر ذلك منهم أحد ، ولا قال أحد من الصحابة إن غير أبي بكر من المهاجرين أحق بالخلافة منه ، ولم ينازع أحد في خلافته إلا بعض الأنصار ، طمعا في أن يكون من الانصار أمير ومن المهاجرين أمير ، وهذا مما ثبت بالنصوص المتواترة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطلانه. ثم الأنصار كلهم بايعوا أبا بكر ، إلا سعد بن عبادة ، لكونه هو الذي كان يطلب الولاية. ولم يقل أحد من الصحابة قط أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نصّ على غير أبي بكر ، لا عليّ ، ولا العباس ، ولا غيرهما ، كما قد قال أهل البدع! وروى ابن بطة بإسناده :

__________________

(٦٨٤) متفق عليه ، واللفظ المسلم.

(٦٨٥) مسلم وغيره ، ومضى (برقم ٦٧٦). وهو مخرج في «الظلال» (٢ / ٥٣٥)

.

٤٧٤

أن عمر بن عبد العزيز بعث محمد بن الزبير الحنظلي الى الحسن ، فقال : هل كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم استخلف أبا بكر؟ فقال : أو في شكّ صاحبك؟ نعم ، والله الذي لا إله إلا هو استخلفه ، لهو كان أتقى لله من أن يتوثب عليها.

وفي الجملة : فجميع من نقل عنه أنه طلب تولية غير أبي بكر ، لم يذكر حجة شرعية ، ولا ذكر أن غير أبي بكر أفضل منه ، أو أحقّ بها ، وإنما نشأ من حب قبيلته وقومه فقط ، وهم كانوا يعلمون فضل أبي بكر رضي الله عنه ، وحبّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم له. ففي «الصحيحين» ، عن عمرو بن العاص : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل ، فأتيته ، فقلت : أي الناس أحبّ إليك؟ قال : «عائشة» ، قلت : من الرجال؟ قال : «أبوها» ، قلت : ثم من؟ قال : «عمر ، وعدّ رجالا» (٦٨٦). وفيهما أيضا ، عن أبي الدرداء ، قال : كنت جالسا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ أقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه ، حتى أبدى عن ركبتيه ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمّا صاحبكم فقد غامر» ، فسلّم ، وقال : [يا رسول الله] ، إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه ، ثم ندمت ، فسألته أن يغفر لي [فأبى عليّ ، فأقبلت أليك] ، فقال : «يغفر الله لك يا أبا بكر ، ثلاثا» ، ثم إن عمر ندم ، فأتى منزل أبي بكر ، فسأل : أثمّ أبو بكر؟ فقالوا : لا ، فأتى الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، [فسلّم عليه] ، فجعل وجه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتمعّر ، حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه ، فقال : يا رسول الله ، والله أنا كنت أظلم ، مرتين] ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله بعثني إليكم ، فقلتم : كذبت ، وقال أبو بكر : صدق ، وواساني بنفسه وماله ، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ مرتين ، فما أوذي بعدها» (٦٨٧). ومعنى : غامر : غاضب وخاصم. ويضيق هذا المختصر عن ذكر فضائله.

وفي «الصحيحين» أيضا ، عن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(٦٨٦) صحيح ، وهو في «كتاب السنة» لابن أبي عصم من طرق عن عمرو (١٢٣٣ ـ ١٢٣٦).

(٦٨٧) البخاري عن أبي الدرداء ، ولم أره عند مسلم ، ولم يعزه إليه في «الذخائر» ، ولا في «الجامع الكبير» ورواه ابن أبي عاصم (١٢٢٣) مقتصرا على المرفوع منه.

٤٧٥

مات وأبو بكر بالسنح (٦٨٨) ـ فذكرت الحديث ـ الى أن قالت : واجتمعت الأنصار الى سعد بن عبادة ، في سقيفة بني ساعدة ، فقالوا : منا أمير ، ومنكم أمير! فذهب إليهم أبو بكر [الصديق] ، وعمر بن الخطاب ، وأبو عبيدة بن الجرّاح ، فذهب عمر يتكلم ، فأسكته أبو بكر ، وكان عمر يقول : والله ما أردت بذلك إلّا أني [قد] هيأت في نفسي كلاما قد أعجلني ، خشيت أن لا يبلغه أبو بكر! ثم تكلم أبو بكر ، فتكلم أبلغ الناس ، فقال في كلامه : نحن الأمراء ، وأنتم الوزراء ، فقال حباب ابن المنذر : لا والله لا نفعل ، منا أمير ومنكم أمير. فقال أبو بكر : لا ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء. هم أوسط العرب ، وأعزهم أحسابا ، فبايعوا عمر [بن الخطاب] ، أو أبا عبيدة بن الجراح ، فقال عمر : بل نبايعك ، فأنت سيدنا ، وخيرنا ، وأحبّنا الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخذ عمر بيده ، فبايعه ، وبايعه الناس ، فقال قائل : قتلتم سعدا ، فقال عمر : قتله الله (٦٨٩). والسّنح : العالية ، وهي حديقة بالمدينة معروفة بها.

قوله : (ثم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه).

ش : أي ونثبت الخلافة بعد أبي بكر رضي الله عنه ، [لعمر رضي الله عنه]. وذلك بتفويض أبي بكر الخلافة إليه ، واتفاق الأمة بعده عليه. وفضائله رضي الله عنه أشهر من أن تنكر ، وأكثر من أن تذكر. فقد روي عن محمد بن الحنفية أنه قال : قلت لأبي : فقلت يا أبت ، من خير الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال : يا بني ، أوما تعرف؟ فقلت ؛ لا ، قال : أبو بكر ، قلت : ثم من؟ قال : عمر ، وخشيت أن يقول : ثم عثمان! فقلت : ثم أنت؟ فقال : ما أنا إلا رجل من

__________________

(٦٨٨) «السنح» ، بضم السين المهملة وسكون النون ـ ويجوز ضمها ـ وآخره حاء مهملة : طرف من أطراف المدينة بعواليها ، كان بينها وبين منزل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ميل ، وكان بها منزل أبي بكر.

(٦٨٩) صحيح ، أخرجه البخاري دون مسلم خلافا للمصنف رحمه‌الله ، وروى طرفه الأخير ابن أبي عاصم (١١٦٦). ثم روى قصته قول الانصار : «منا أمير ومنكم أمير» من حديث ابن مسعود (١١٥٩) وكذلك رواه أحمد وغيره ، وهو مخرج في «الظلال».

٤٧٦

المسلمين (٦٩٠). وتقدم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اقتدوا باللذين من بعدي : أبي بكر وعمر» (٦٩١). وفي «صحيح مسلم» ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : وضع عمر على سريره ، فتكنّفه الناس يدعون ويثنون ويصلون عليه ، قبل أن يرفع ، وأنا فيهم ، فلم يرعني إلا برجل قد أخذ بمنكبي من ورائي ، فالتفت إليه ، فإذا هو علي ، فترحم على عمر ، وقال : ما خلّفت أحدا أحبّ إليّ أن ألقى الله بمثل عمله منك ، وايم الله ، إن كنت [لأظنّ أن يجعلك الله مع صاحبيك ، وذلك أني كنت] كثيرا ما أسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : جئت أنا وأبو بكر وعمر ، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر ، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر ، فإن كنت لأرجو ، أو لأظنّ أن يجعلك الله معهما (٦٩٢). وتقدم حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، في رؤيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونزعه من القليب ، ثم نزع أبي بكر ، ثم استحالت الدلو غربا ، فأخذها ابن الخطاب ، فلم أر عبقريّا من الناس ينزع نزع عمر ، حتى ضرب الناس بعطن (٦٩٣). وفي «الصحيحين» ، من حديث سعد بن أبي وقاص : قال : استأذن عمر بن الخطاب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعنده نساء من قريش ، يكملنه ، عالية أصواتهن ـ الحديث ، وفيه ـ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إيه يا ابن الخطاب! والذي نفسي بيده ، ما لقيك الشيطان سالكا فجّا إلّا سلك فجّا غير فجك» (٦٩٤). وفي «الصحيحين» أيضا ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه كان يقول : «قد كان في الأمم قبلكم محدّثون ، فإن يكن في أمتي منهم أحد ، فإن عمر بن الخطاب منهم» (٦٩٥). قال ابن وهب : تفسير «محدّثون» ـ ملهمون.

__________________

(٦٩٠) صحيح ، وتصدير المؤلف اياه ب (روي) المشعر اصطلاحا بالتضعيف ليس بجيد ، فقد أخرجه البخاري وغيره من طرق عن ابن الحنفية ، وهو مخرج في «الظلال» (١٢٠٤ و ١٢٠٦ و ١٢٠٧).

(٦٩١) صحيح ، وقد مضى الحديث (برقم ٦٧٥).

(٦٩٢) صحيح ، ورواه ابن أبي عاصم (١٢١٠).

(٦٩٣) صحيح ، وقد مضى الحديث (برقم ٦٧٨).

(٦٩٤) متفق عليه ، ورواه ابن أبي عاصم (١٢٥٤ و ١٢٦٠).

(٦٩٥) متفق عليه ، ورواه ابن أبي عاصم (١٢٦١ و ١٢٦٢).

٤٧٧

قوله : (ثم لعثمان رضي الله عنه).

ش : أي وثبت الخلافة بعد عمر لعثمان رضي الله عنهما ، وقد ساق البخاري رحمه‌الله قصة قتل عمر رضي الله عنه ، وأمر الشورى والمبايعة لعثمان ، في «صحيحه» ، فأحببت أن أسردها ، كما رواها بسنده : عن عمرو بن ميمون ، قال :

«رأيت عمر [بن الخطاب] رضي الله عنه قبل أن يصاب بأيام بالمدينة ، وقف على حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف ، فقال : كيف فعلتما؟ أتخافان أن تكونا قد حملتما الأرض ما لا تطيق؟ قالا : حملناها أمرا هي له مطيقة ، ما فيها كبير فضل ، قال : انظر أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق؟ قالا : لا ، فقال عمر : لئن سلمني الله لأدعنّ أرامل أهل العراق لا يحتجن الى رجل بعدي أبدا ، قال : فما أتت عليه [إلا] أربعة حتى أصيب ، قال :

إني لقائم ما بيني وبينه إلا عبد الله بن عباس غداة أصيب ، وكان إذا مرّ بين الصفين قال : استووا ، حتى إذا لم ير فيهنّ خللا تقدم [فكبر ، وربما قرأ سورة يوسف ، أو النحل ، أو نحو ذلك في الركعة الأولى ، حتى يجتمع الناس ، فما هو إلا أن كبّر] ، فسمعته يقول : قتلني ، أو أكلني الكلب ، حين طعنه ، فطار العلج بسكين ذات طرفين ، لا يمر على أحد يمينا وشمالا إلا طعنه ، حتى طعن ثلاثة عشر رجلا ، مات منهم سبعة ، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين ، طرح عليه برنسا ، فلما ظن [العلج] أنه مأخوذ ، نحر نفسه ، وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف ، فقدّمه ، فمن يلي عمر فقد رأى الذي أرى ، وأما نواحي المسجد ، فإنهم لا يدرون غير أنهم قد فقدوا صوت عمر ، وهم يقولون : سبحان الله ، سبحان الله ، فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة ، فلما انصرفوا ، قال : يا ابن عباس انظر من قتلني؟ فجال ساعة ، ثم جاء فقال : غلام المغيرة ، قال : الصّنع (٦٩٦)؟ قال : نعم ، قال : قاتله! لقد أمرت به معروفا! الحمد لله الذي لم يجعل منيّتي على يد رجل

__________________

(٦٩٦) : رجل صنع وامرأة صناع ، إذا كان لهما صنعة يعملانها بأيديهما ويكسبان بها «نهاية».

٤٧٨

يدّعي الإسلام ، قد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة ، وكان العباس أكثرهم رقيقا ، فقال : إن شئت فعلت؟ أي : إن شئت قتلنا؟ قال : كذبت! بعد ما تكلموا بلسانكم ، وصلّوا قبلتكم ، وحجّوا حجكم؟ فاحتمل الى بيته ، فانطلقنا معه ، وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ ، فقائل يقول : لا بأس عليه ، وقائل يقول : أخاف عليه ، فأتي بنبيذ فشربه ، فخرج من جوفه ، ثم أتى بلبن فشربه ، فخرج من جوفه ، فعرفوا أنه ميت ، فدخلنا عليه ، وجاء الناس يثنون عليه ، وجاء رجل شاب ، فقال : أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك ، من صحبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقدم (٦٩٧) في الاسلام ما قد علمت ، ثم وليت فعدلت ، ثم شهادة ، قال : وددت أن ذلك كفاف ، لا عليّ ولا لي ، فلما أدبر إذا إزاره يمسّ الأرض ، قال : ردّوا عليّ الغلام ، قال : يا ابن أخي ، «ارفع ثوبك ، فإنه أنقى لثوبك ، وأتقى لربك» (٦٩٨) ، يا عبد الله بن عمر ، انظر ما عليّ من الدين؟ فحسبوه ، فوجدوه ستة وثمانون ألفا أو نحوه ، قال : [إن] وفي له مال آل عمر ، [فأدّه من أموالهم] ، وإلا فسل في بني عدي بن كعب ، فإن لم تف أموالهم ، فسل في قريش ، ولا تعدهم الى غيرهم ، فأدّ عني هذا المال ، انطلق الى عائشة أم المؤمنين ، فقل : يقرأ عليك عمر السلام ، ولا تقل : أمير المؤمنين ، فإني لست اليوم للمؤمنين أميرا ، وقل : يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه ، فسلّم واستأذن ، ثم دخل عليها ، فوجدها قاعدة تبكي ، فقال : يقرأ عليك عمر [بن الخطاب] السلام ، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه ، فقالت : كنت أريده لنفسي ، ولأوثرنّ به اليوم على نفسي ، فلما أقبل ، قيل : هذا عبد الله [بن عمر] قد جاء ، قال : ارفعوني ، فأسنده رجل إليه ، قال : ما لديك؟ قال : الذي تحبّ يا أمير المؤمنين أذنت ، قال : الحمد لله ، ما كان شيء أهم إليّ من ذلك ، فإذا أنا قضيت فاحملوني ، ثم سلّم فقل : يستأذن عمر بن الخطاب ، فإن أذنت لي فأدخلوني ، وإن ردتني فردوني الى مقابر

__________________

(٦٩٧) بفتح القاف وكسرها ، فالأول بمعنى الفضل ، والآخر بمعنى السبق.

(٦٩٨) ما بين الهلالين المزدوجين حديث مرفوع أخرجه الترمذي في «الشمائل» (رقم ٩٧ ـ مختصرة) وهو تحت الطبع ، وبعضه في «الصحيحة» (١٤٤١).

٤٧٩

المسلمين ، وجاءت أمّ المؤمنين حفصة والنساء يسرّن معها (٦٩٩) ، فلما رأيناها قمنا ، فولجت عليه ، فبكت عنده ساعة ، واستأذن الرجال ، فولجت داخلا لهم ، فسمعنا بكاءها من الداخل ، فقالوا : أوص يا أمير المؤمنين ، استخلف؟ قال : ما أجد (٧٠٠) أحقّ بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو الرهط ، الذين توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو عنهم راض ، فسمى عليّا ، وعثمان ، والزبير ، وطلحة ، وسعدا ، وعبد الرحمن ، وقال : يشهدكم عبد الله بن عمر ، وليس له من الأمر شيء ، كهيئة التعزية له ، فإن أصابت الإمارة سعدا فهو ذاك ، وإلا فليستعن به أيكم ما أمر ، فإني لم أعزله من عجز ولا خيانة ، وقال : أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين ، أن يعرف لهم حقهم ، ويحفظ لهم حرمتهم ، وأوصيه بالأنصار خيرا ، الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم ، أن يقبل من محسنهم ، ويتجاوز عن مسيئهم. وأوصيه بأهل الأمصار خيرا ، فإنهم ردء الإسلام ، وجباة الأموال ، وغيظ العدو ، وأن لا يأخذ منهم إلا فضلهم ، عن رضاهم ، وأوصيه بالأعراب خيرا ، فإنهم أصل العرب ، ومادة الإسلام ، أن يأخذ من حواشي أموالهم ، وأن تردّ على فقرائهم ، وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله ، أن يوفى لهم بعهدهم ، وأن يقاتل من ورائهم ، ولا يكلّفوا [إلا طاقتهم] ، فلما قبض خرجنا به ، فانطلقنا نمشي ، فسلّم عبد الله بن عمر ، قال : يستأذن عمر بن الخطاب؟ قالت : أدخلوه ، فأدخل ، فوضع هنالك مع صاحبيه ، فلما فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط ، فقال عبد الرحمن : اجعلوا أمركم الى ثلاثة منكم ، قال الزبير : [قد جعلت أمري الى علي ، فقال طلحة] : قد جعلت أمري الى عثمان ، وقال سعد : قد جعلت أمري الى عبد الرحمن [بن عوف] ، فقال عبد الرحمن : أيكما تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه؟ والله عليه والاسلام لينظرنّ أفضلهم في نفسه ، فأسكت الشيخان ، فقال عبد الرحمن : أفتجعلونه إليّ؟ والله عليّ أن لا آلو عن أفضلكم؟ قالا : نعم ، فأخذ بيد أحدهما ، فقال : لك قرابة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقدم في الاسلام ما قد علمت ، فالله عليك ،

__________________

(٦٩٩) كذا الأصل ، وفي البخاري : «تسير معها».

(٧٠٠) في الاصل ؛ ما أحد.

٤٨٠