شرح العقيدة الطّحاويّة

ابن أبي العزّ الحنفي

شرح العقيدة الطّحاويّة

المؤلف:

ابن أبي العزّ الحنفي


المحقق: الشيخ محمّد ناصر الدين الألباني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بغداد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٤

والشر ليس أليك» (٦١٤). وكذا في حديث الشفاعة يوم القيامة ، حين يقول الله له : يا محمد ، فيقول : «لبيك وسعديك ، والخير في يديك ، والشر ليس إليك» (٦١٥). وقد أخبر الله تعالى أن تسليط الشيطان إنما هو على الذين يتولونه والذين هم به مشركون ، فلما تولوه دون الله وأشركوا به معه ـ عوقبوا على ذلك بتسليطه عليهم ، وكانت هذه الولاية والإشراك عقوبة خلوّ القلب وفراغه من الإخلاص. فإلهام البر والتقوى ثمرة هذا الإخلاص ونتيجته ، وإلهام الفجور عقوبة على خلوّه من الاخلاص.

فإن قلت : إن كان هذا الترك أمرا وجوديّا عاد السؤال جذعا (٦١٦) ، وإن كان أمرا عدميّا فكيف يعاقب على العدم المحض؟ قيل : ليس هنا ترك هو كفّ النفس ومنعها عما تريده وتحبه ، فهذا قد يقال : إنه أمر وجوديّ ، وإنما هنا عدم وخلو من أسباب الخير ، وهذا العدم هو محض خلوّها مما هو أنفع شيء لها ، والعقوبة على الأمر العدمي هي بفعل السيئات ، لا بالعقوبات التي تناله بعد إقامة الحجة عليه بالرسل. فلله فيه عقوبتان : إحداهما : جعله مذنبا خاطئا ، وهذه عقوبة عدم إخلاصه وإنابته وإقباله على الله ، وهذه العقوبة قد لا يحس بألمها ومضرتها ، لموافقتها شهوته وارادته ، وهي في الحقيقة من أعظم العقوبات. والثانية : العقوبات المؤلمة بعد فعله للسيئات. وقد قرن الله تعالى بين هاتين العقوبتين في قوله تعالى : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) الانعام : ٤٤.

__________________

(٦١٤) صحيح وهو طرف من حديث علي في دعاء الاستفتاح ، وهو مخرج في «صفة الصلاة» (ص ٧٣) الطبعة الحادية عشر ، طبع المكتب الاسلامي.

(٦١٥) رواه البزار عن حذيفة موقوفا ورجاله رجال الصحيح ، والطبراني في «الأوسط» عنه مرفوعا ، وفيه ليث بن أبي سليم وهو مدلس ، وبقية رجاله ثقات ، كذا في «المجمع» (١٠ / ٣٧٧). وقلت ومن طريق [الليث] أخرجه الحاكم أيضا (٤ / ٥٧٤) وقال : «وقد استشهد بليث بن [ابي] سليم».

(٦١٦) قال عفيفي : انظر ص ٣٢٩ من «مختصر الموصلي للصواعق المرسلة» لابن القيم ط مكة ؛ وص ٣٣١ ج ١٤ من «مجموع الفتاوى».

٤٤١

فهذه العقوبة الأولى ، ثم قال : (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) الانعام : ٤٤ ، فهذه العقوبة الثانية.

فإن قيل : فهل كان يمكنهم أن يأتوا بالإخلاص والإنابة والمحبة له وحده ـ من غير أن يخلق ذلك في قلوبهم ويجعلهم مخلصين له منيبين له محبين له؟ أم ذلك محض جعله في قلوبهم وإلقائه فيها؟ قيل : لا ، بل هو محض منّته وفضله ، وهو من أعظم الخير الذي هو بيده ، والخير كله في يديه ، ولا يقدر أحد أن يأخذ من الخير إلا ما أعطاه ، ولا يتقي من الشر إلا ما وقاه.

فإن قيل : فإذا لم يخلق ذلك في قلوبهم ولم يوفقوا له ، ولا سبيل لهم إليه بأنفسهم ، عاد السؤال؟ وكان منعهم منه ظلما ، ولزمكم القول بأن العدل هو تصرف المالك في ملكه بما يشاء ، لا يسأل عما يفعل وهو يسألون؟ قيل : لا يكون سبحانه بمنعهم من ذلك ظالما ، وإنما يكون المانع ظالما إذا منع غيره حقّا لذلك الغير عليه ، وهذا هو الذي حرمه الربّ على نفسه ، وأوجب على نفسه خلافه. وأما اذا منع غيره ما ليس بحق له ، بل هو محض فضله ومنته عليه ـ لم يكن ظالما بمنعه ، فمنع الحق ظلم ، ومنع الفضل والإحسان عدل. وهو سبحانه العدل في منعه ، كما هو المحسن المنّان بعطائه.

فإن قيل : فإذا كان العطاء والتوفيق إحسانا ورحمة ، فهلا كان العمل له والغلبة ، كما أن رحمته تغلب غضبه؟ قيل : المقصود في هذا المقام بيان أن هذه العقوبة المترتبة على هذا المنع ، والمنع المستلزم للعقوبة ـ ليس بظلم ، بل هو محض العدل (٦١٧). وهذا سؤال عن الحكمة التي أوجبت تقديم العدل على الفضل في بعض المحالّ؟ وهلّا سوّى بين العباد في الفضل؟ وهذا السؤال حاصله : لم تفضّل على هذا ولم يتفضل على الآخر؟ وقد تولى الله سبحانه الجواب عنه بقوله : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ، وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) الحديد : ٢١. وقوله : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ ، وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ ، يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ، وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) الحديد : ٢٩. ولمّا سأله اليهود

__________________

(٦١٧) قال عفيفي : انظر ص ٣٣١ ج ١ من «مختصر الموصلي للصواعق المرسلة».

٤٤٢

والنصارى عن تخصيص هذه الأمة بأجرين وإعطائهم هم أجرا أجرا ، قال : «هل ظلمتكم من حقكم شيئا؟ قالوا : لا ، قال : فذلك فضلي أوتيه من أشاء» (٦١٨) وليس في الحكمة اطلاع كل فرد من أفراد الناس على كمال حكمته في عطائه ومنعه ، بل إذا كشف الله عن بصيرة العبد ، حتى أبصر طرفا يسيرا من حكمته في خلقه ، وأمره وثوابه وعقابه ، وتخصيصه وحرمانه ، وتأمل أحوال محالّ ذلك ، استدلّ بما علمه على ما لم يعلمه. ولما استشكل أعداؤه المشركون هذا التخصيص ، قالوا : (أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا)؟ قال تعالى مجيبا لهم : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) الانعام : ٥٣. فتأمل هذا الجواب (٦١٩) ، تر في ضمنه أنه سبحانه أعلم بالمحلّ الذي يصلح لغرس شجرة النعمة فتثمر بالشكر ، من المحل الذي لا يصلح لغرسها ، فلو غرست فيه لم تثمر ، فكان غرسها هناك ضائعا لا يليق بالحكمة ، كما قال تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) الانعام : ١٢٤.

فإن قيل : إذا حكمتم باستحالة الإيجاد من العبد ، فإذا لا فعل للعبد أصلا؟ قيل : العبد فاعل لفعله حقيقة ، [وله قدرة حقيقة]. قال تعالى : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) البقرة : ١٩٧. (فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) هود : ٣٦ ، وأمثال ذلك. وإذا ثبت كون العبد فاعلا ، فأفعاله نوعان : نوع يكون منه من غير اقتران قدرته وإرادته ، فيكون صفة له ولا يكون فعلا ، كحركات المرتعش. ونوع يكون منه مقارنا لإيجاد قدرته واختياره ، فيوصف بكونه صفة وفعلا وكسبا للعبد ، كالحركات الاختيارية. والله تعالى هو الذي جعل العبد فاعلا مختارا ، وهو الذي يقدر على ذلك وحده لا شريك له. ولهذا أنكر السلف الجبر ، فإن الجبر لا يكون إلا من عاجز ، فلا يكون إلّا مع الإكراه ، يقال : للأب [ولاية] إجبار البكر الصغيرة على النكاح (٦٢٠) ، وليس له إجبار الثيّب البالغ ، أي : ليس له أن يزوجها مكرهة. والله تعالى لا يوصف بالإجبار بهذا الاعتبار ، لأنه سبحانه خالق الإرادة

__________________

(٦١٨) البخاري في حديث لابن عمر أوله «انما بقاؤكم ..».

(٦١٩) قال عفيفي : انظر ص ٣٣١ ج ١ من «مختصر الموصلي».

(٦٢٠) قال عفيفي : انظر ص ٣٣٢ ج ١ من «مختصر الموصلي».

٤٤٣

والمراد ، قادر على أن يجعله مختارا بخلاف غيره. ولهذا جاء في ألفاظ الشارع : «الجبل» دون «الجبر» ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأشجّ عبد القيس : «إن فيك لخلتين يحبهما الله : الحلم والأناة» (٦٢١) فقال : أخلقين تخلقت بهما؟ أم خلقين جبلت عليهما؟ فقال : «بل خلقان جبلت عليهما» فقال : الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله تعالى (٦٢٢). والله تعالى إنما يعذب عبده على فعله الاختياري. والفرق بين العقاب على الفعل الاختياري وغير الاختياري مستقر في الفطر والعقول.

وإذا قيل : خلق الفعل مع العقوبة عليه ظلم؟! كان بمنزلة أن يقال : خلق أكل السم ثم حصول الموت به ظلم!! فكما أن هذا سبب للموت ، فهذا سبب للعقوبة ، ولا ظلم فيهما.

فالحاصل : أن فعل العبد فعل له حقيقة (٦٢٣) ، ولكنه مخلوق لله تعالى ، ومفعول لله تعالى ، ليس هو نفس فعل الله. ففرق بين الفعل والمفعول ، والخلق والمخلوق. والى هذا المعنى أشار الشيخ رحمه‌الله بقوله : وأفعال العباد خلق الله وكسب من العباد ـ أثبت للعباد فعلا وكسبا ، وأضاف الخلق لله تعالى. والكسب : هو الفعل الذي يعود على فاعله منه نفع أو ضرر ، كما قال تعالى : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) البقرة : ٢٨٦.

قوله : (ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون ، ولا يطيقون إلا ما كلفهم. وهو تفسير «لا حول ولا قوة الا بالله» ، نقول : لا حيلة لأحد ، [ولا تحوّل لأحد] ، ولا حركة لأحد عن معصية الله ، الا بمعونة الله ، ولا قوة لأحد على إقامة طاعة الله والثبات عليها إلا بتوفيق الله ، وكل شيء يجري بمشيئة الله تعالى وعلمه وقضائه وقدره. غلبت مشيئته المشيئات كلها ، [وعكست إرادته الارادات كلها] ، وغلب

__________________

(٦٢١) قال عفيفي : انظر ص ٣٣٢ ج ١ من «مختصر الموصلي».

(٦٢٢) مسلم وغيره عن ابن عباس ، وهو مخرج في «الروض النضير» (٤٠٦).

(٦٢٣) قال عفيفي : انظر ص ٣٣٣ ج ١ و ٣٢٧ ج ١٤ من «مجموع الفتاوى».

٤٤٤

قضاؤه الحيل كلها. يفعل ما يشاء ، وهو غير ظالم أبدا. (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) الأنبياء : ٢٣).

ش : فقوله : لم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون ـ قال تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) البقرة : ٢٨٦. [(لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها)] الانعام : ١٥٢ والاعراف : ٤٢ والمؤمنون : ٦٢. وعند أبي الحسن الأشعري أن تكليف ما لا يطاق جائز عقلا ، ثم تردد أصحابه [أنه] : هل ورد به الشرع أم لا؟ واحتج من قال بوروده بأمر أبي لهب بالإيمان ، فإنه تعالى أخبر بأنه لا يؤمن ، [وانه سيصلى نارا ذات لهب ، فكان مأمورا بأن يؤمن بأنه لا يؤمن. وهذا تكليف بالجمع بين الضدين ، وهو محال. والجواب عن هذا بالمنع : فلا نسلم بأنه مأمور] بأن يؤمن [بأنه لا يؤمن] ، والاستطاعة التي بها يقدر على الإيمان كانت حاصلة ، فهو غير عاجز عن تحصيل الإيمان (٦٢٤) ، فما كلف إلا ما يطيقه كما تقدم في تفسير الاستطاعة. ولا يلزم قوله تعالى للملائكة : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) البقرة : ٣١. مع عدم علمهم بذلك ، ولا للمصورين يوم القيامة : «احيوا ما خلقتم» ، وأمثال ذلك ـ لأنه ليس بتكليف طلب فعل يثاب فاعله ويعاقب تاركه ، بل هو خطاب تعجيز. وكذا لا يلزم دعاء المؤمنين في قوله تعالى : (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) البقرة : ٢٨٦ ، لأن تحميل ما لا يطاق ليس تكليفا ، بل يجوز أن يحمله جبلا لا يطيقه فيموت. وقال ابن الأنباري : أي لا تحملنا ما يثقل علينا أداؤه وإن كنا مطيقين له على تجشّم وتحمل مكروه ، قال : فخاطب العرب على حسب ما تعقل ، فإن الرجل منهم يقول للرجل يبغضه : ما أطيق النظر إليك ، وهو مطيق لذلك ، لكنه يثقل عليه. ولا يجوز في الحكمة أن يكلفه بحمل جبل بحيث لو فعل يثاب ولو امتنع يعاقب ، كما أخبر سبحانه عن نفسه أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها.

ومنهم من يقول : يجوز تكليف الممتنع عادة ، دون الممتنع لذاته ، لأن ذلك لا يتصور وجوده ، فلا يعقل الأمر به ، بخلاف هذا.

__________________

(٦٢٤) قال عفيفي : انظر ص ٣٦ ـ ٣٧ ج ١ من «موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول» لابن تيمية. «منهاج السنة» ج ١ ص ٩٠ ـ ٩١ طبعة المدني وص ٣٤ ، ط بولاق.

٤٤٥

ومنهم من يقول : ما لا يطاق للعجز عنه لا يجوز تكليفه ، بخلاف ما لا يطاق للاشتغال بضده ، فإنه يجوز تكليفه. وهؤلاء موافقون للسلف والأئمة في المعنى ، لكن كونهم جعلوا ما يتركه العبد لا يطاق لكونه تاركا له مشتغلا بضده ـ بدعة في الشرع واللغة. فإن مضمونه أنّ فعل ما لا يفعله العبد لا يطيقه! وهم التزموا هذا ، لقولهم : إن الطاقة ـ التي هي الاستطاعة وهي القدرة ـ لا تكون إلا مع الفعل! فقالوا : كل من لم يفعل فعلا فإنه لا يطيقه! وهذا خلاف الكتاب والسنة وإجماع السلف ، وخلاف ما عليه عامة العقلاء ، كما تقدمت الإشارة إليه عند ذكر الاستطاعة.

وأما ما لا يكون إلا مقارنا للفعل ، فذلك ليس شرطا في التكليف ، مع أنه في الحقيقة [إنما] هناك إرادة الفعل. وقد يحتجون بقوله تعالى : (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) هود : ٢٠ (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) الكهف : ٦٧ ، ٧٢ ، ٧٥. وليس في ذلك إرادة ما سمّوه استطاعة ، وهو ما لا يكون إلا مع الفعل ، فإن الله ذمّ هؤلاء على كونهم لا يستطيعون السمع ، ولو أراد بذلك المقارن لكان جميع الخلق لا يستطيعون السمع قبل السمع! فلم يكن لتخصيص هؤلاء بذلك معنى ، ولكن هؤلاء لبغضهم الحقّ وثقله عليهم ، إما حسدا لصاحبه ، وإما اتّباعا للهوى ـ لا يستطيعون السمع. وموسى عليه‌السلام لا يستطيع الصبر ، لمخالفة ما يراه لظاهر الشرع ، وليس عنده منه علم. وهذه لغة العرب وسائر الأمم ، فمن يبغض غيره يقال : إنه لا يستطيع الإحسان إليه ، ومن يحبه يقال : إنه لا يستطيع عقوبته ، لشدة محبته له ، لا لعجزه عن عقوبته ، فيقال ذلك للمبالغة ، كما تقول (٦٢٥) : لأضربنه حتى يموت ، والمراد الضرب الشديد. وليس هذا عذرا ، فلو لم يأمر العباد إلا بما يهوونه لفسدت السموات والأرض ، قال تعالى : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) المؤمنون : ٧١.

وقوله : ولا يطيقون إلا ما كلفهم به ، الى آخر كلامه ـ أي : ولا يطيقون إلا ما أقدرهم عليه. وهذه الطاقة هي التي من نحو التوفيق ، لا التي من جهة الصحة

__________________

(٦٢٥) في الاصل : يقال

.

٤٤٦

والوسع والتمكن وسلامة الآلات ، و «لا حول ولا قوة إلا بالله» ـ دليل على إثبات القدر. وقد فسرها الشيخ بعدها. ولكن في كلام الشيخ إشكال : فإن التكليف لا يستعمل بمعنى الإقدار ، وإنما يستعمل بمعنى الأمر والنهي ، وهو قد قال : لا يكلفهم إلا ما يطيقون ، ولا يطيقون إلا ما كلفهم. وظاهره أنه يرجع الى معنى واحد ، ولا يصح ذلك ، لأنهم يطيقون فوق ما كلفهم به ، لكنه سبحانه يريد بعباده اليسر والتخفيف ، كما قال تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) البقرة : ١٨٥. وقال تعالى : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) النساء : ٢٨. وقال تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) الحج : ٧٨. فلو زاد فيما كلفنا به لأطقناه ، ولكنه تفضّل علينا ورحمنا ، وخفّف عنا ، ولم يجعل علينا في الدين من حرج. ويجاب عن هذا الإشكال بما تقدم : أن المراد الطاقة التي من نحو التوفيق ، لا من جهة التمكن وسلامة الآلات ، ففي العبارة قلق ، فتأمله.

وقوله : وكل [شيء] يجري بمشيئة الله وعلمه وقضائه وقدره ـ يريد بقضائه القضاء الكوني لا الشرعي ، فإن القضاء يكون كونيّا وشرعيّا ، وكذلك الإرادة والأمر والإذن والكتاب والحكم والتحريم والكلمات ، ونحو ذلك. أما القضاء الكوني ، ففي قوله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) حم السجدة : ١٢. والقضاء الديني الشرعي ، في قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) الاسراء : ٢٣. وأما الإرادة الكونية والدينية ، فقد تقدم ذكرها عند قول الشيخ : ولا يكون إلا ما يريد. وأما الأمر الكوني ، ففي قوله تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) يس : ٨٢. وكذا قوله تعالى : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها ، فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) الاسراء : ١٦ ، في أحد الأقوال ، وهو أقواها. والأمر الشرعي ، في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) النحل : ٩٠ ، الآية. وقوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) النساء : ٥٨. وأما الإذن الكوني ، ففي قوله تعالى : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) البقرة : ١٠٢. والإذن الشرعي ، في قوله تعالى : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ) الحشر : ٥. وأما الكتاب الكوني ، ففي قوله تعالى : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ ،

٤٤٧

إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) فاطر : ١١. وقوله تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) الأنبياء : ١٠٥. والكتاب الشرعي الديني ، في قوله تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) المائدة : ٤٥. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) البقرة : ١٨٣. وأما الحكم الكوني ، ففي قوله تعالى عن ابن يعقوب عليه‌السلام : (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) يوسف : ٨٠. وقوله تعالى : (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ ، وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) الأنبياء : ١١٢. والحكم الشرعي ، في قوله تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ، إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) المائدة : ١. وقال تعالى : (ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) الممتحنة : ١٠. وأما التحريم الكوني ، ففي قوله تعالى : (قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) المائدة : ٢٦. (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) الأنبياء : ٩٥. والتحريم الشرعي ، في قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ]) المائدة : ٣. و (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) النساء : ٢٣ ، الآية. وأما الكلمات الكونية ، ففي قوله تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا) الاعراف : ١٣٧. وفي قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر» (٦٢٦). والكلمات الشرعية الدينية ، في قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ) البقرة : ١٢٤.

وقوله : يفعل ما يشاء ، وهو غير ظالم أبدا ـ الذي دل عليه القرآن من تنزيه الله نفسه عن ظلم العباد ، يقتضي قولا وسطا بين قولي القدرية والجبرية ، فليس ما كان من بني آدم ظلما وقبيحا يكون منه ظلما وقبيحا ، كما تقوله القدرية والمعتزلة ونحوهم! فإن ذلك تمثيل لله بخلقه! وقياس له عليهم! هو الرب الغني القادر ، وهم العباد الفقراء المقهورون. وليس الظلم عبارة عن الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة ، كما يقوله من يقوله من المتكلمين وغيرهم ، يقولون : إنه يمتنع أن يكون

__________________

(٦٢٦) صحيح ، وتقدم الحديث (برقم ١٤٨).

٤٤٨

[في] الممكن المقدور ظلم! بل كان ما كان ممكنا فهو منه ـ لو فعله ـ عدل ، إذ الظلم لا يكون إلا من مأمور من غيره منهي ، والله ليس كذلك. فإن قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) ، طه : ١١٢ ، وقوله تعالى : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ق : ٢٩ ، وقوله تعالى :(وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) الزخرف : ٧٦ ، وقوله عالى : (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) الكهف : ٤٩ ، وقوله تعالى : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ، لا ظُلْمَ الْيَوْمَ ، إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) غافر : ١٧. يدل على نقيض هذا القول.

ومنه قوله الذي رواه عنه رسوله : «يا عبادي ، إني حرّمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرما ، فلا تظالموا» (٦٢٧). فهذا دل على شيئين : أحدهما : أنه حرم على نفسه الظلم ، والممتنع لا يوصف بذلك. الثاني : أنه أخبر أنه حرّمه على نفسه ، كما أخبر أنه كتب على نفسه الرحمة ، وهذا يبطل احتجاجهم بأن الظلم لا يكون إلا من مأمور منهي ، والله ليس كذلك. فيقال لهم : هو سبحانه كتب على نفسه الرحمة ، وحرّم على نفسه الظلم ، وإنما كتب على نفسه وحرّم على نفسه ما هو قادر عليه ، لا ما هو ممتنع عليه.

وأيضا : فإن قوله : (فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) طه : ١١٢ ـ قد فسره السلف ، بأن الظلم : أن توضع عليه سيئات غيره ، والهضم : أن ينقص من حسناته ، كما قال تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) الاسراء : ١٥.

وأيضا فإن الإنسان لا يخاف الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة حتى يأمن من ذلك ، وإنما يأمن مما يمكن ، فلما آمنه من الظلم بقوله : (فَلا يَخافُ) طه : ١١٢ ـ علم أنه ممكن مقدور عليه. وكذا قوله : (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ) ق : ٢٨ ، الى قوله : (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ق : ٢٩ ـ لم يعن بها نفي ما لا يقدر عليه ولا يمكن منه ، وإنما نفى ما هو مقدور عليه ممكن ، وهو أن يجزوا بغير أعمالهم. فعلى قول هؤلاء ليس الله منزها عن شيء من الأفعال أصلا ، ولا مقدسا عن أن يفعله ،

__________________

(٦٢٧) مسلم وتقدم الحديث (برقم ٥٦) ، «مختصر صحيح مسلم» (١٨٢٨).

٤٤٩

بل كل ممكن فإنه لا ينزه عن فعله ، بل فعله حسن ، ولا حقيقة للفعل السّوء ، بل ذلك ممتنع ، والممتنع لا حقيقة له!! والقرآن يدل على نقيض هذا القول ، في مواضع ، نزّه الله نفسه فيها عن فعل ما لا يصلح له ولا ينبغي له ، فعلم أنه منزّه مقدّس عن فعل السوء والفعل المعيب المذموم ، كما أنه منزه مقدّس عن وصف السوء والوصف المعيب المذموم. وذلك كقوله تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) المؤمنون : ١١٥. فإنه نزّه نفسه عن خلق الخلق عبثا ، وأنكر على من حسب ذلك ، وهذا فعل. وقوله تعالى : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) القلم : ٣٥. وقوله تعالى : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) ص : ٢٨ ـ إنكار منه على من جوّز أن يسوّي الله بين هذا وهذا. وكذا قوله : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) (٦٢٨) ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ الجاثية : ٢١ ـ إنكار على من حسب أنه يفعل هذا ، وإخبار أن هذا حكم سيئ قبيح ، وهو مما ينزه الرب عنه.

وروى أبو داود ، والحاكم في «المستدرك» ، من حديث ابن عباس ، وعبادة بن الصامت ، وزيد بن ثابت ، وزيد بن ثابت ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو أنّ الله عذّب أهل سماواته وأهل أرضه ، لعذّبهم وهو غير ظالم لهم ، ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم» (٦٢٩). وهذا الحديث مما يحتج به الجبرية ، وأما القدرية فلا يتأتى على أصولهم الفاسدة! ولهذا قابلوه إما بالتكذيب أو بالتأويل!! وأسعد الناس به أهل السنة ، الذين قابلوه بالتصديق ، وعلموا من عظمة الله وجلاله ، قدر نعم الله على خلقه ، وعدم قيام الخلق بحقوق نعمه عليهم ، إما عجزا ، وإما جهلا ، وإما تفريطا واضاعة ، وإما تقصيرا في المقدور من الشكر ، ولو من بعض الوجوه. فإن حقه على أهل السموات والأرض أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر ،

__________________

(٦٢٨) قال عفيفي : انظر ص ٣١٥ ـ ٣٢٩ ج ١ من «مختصر الموصلي للصواعق المرسلة» لابن القيم. وص ١٢٥ ج ٦ من «مجموعة الفتاوى».

(٦٢٩) صحيح وقد خرجته في «تخريج السنة» (٢٤٥).

٤٥٠

وتكون قوة الحب والإنابة ، والتوكل والخشية والمراقبة والخوف والرجاء ـ : جميعها متوجهة إليه ، ومتعلقة به ، بحيث يكون القلب عاكفا على محبته وتأليهه ، بل على إفراده بذلك ، واللسان محبوسا على ذكره ، والجوارح وقفا على طاعته. ولا ريب أن هذا مقدور في الجملة ، ولكن النفوس تشحّ به ، وهي في الشح على مراتب لا يحصيها إلا الله تعالى. وأكثر المطيعين تشحّ به نفسه من وجه ، وإن أتى به من وجه آخر. فأين الذي لا تقع منه إرادة تزاحم مراد الله وما يحبه منه؟ ومن [ذا] الذي لم يصدر منه خلاف ما خلق له ، ولو في وقت من الأوقات؟ فلو وضع الربّ سبحانه عدله على أهل سماواته وأرضه ، لعذبهم بعدله ، ولم يكن ظالما لهم. وغاية ما يقدّر ، توبة العبد من ذلك واعترافه ، وقبول التوبة محض فضله وإحسانه ، وإلا فلو عذّب عبده على جنايته لم يكن ظالما ولو قدّر أنه تاب منها. لكن أوجب على نفسه ـ بمقتضى فضله ورحمته ـ أنه لا يعذب من تاب ، وقد كتب على نفسه الرحمة ، فلا يسع الخلائق إلا رحمته وعفوه ، ولا يبلغ عمل أحد منهم أن ينجو به من النار ، أو يدخل الجنة ، كما قال أطوع الناس لربه ، وأفضلهم عملا ، وأشدّهم تعظيما لربه وإجلالا : «لن ينجي أحدا منكم عمله» ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : «ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» (٦٣٠) وسأله الصّديق دعاء يدعو به في صلاته ، فقال : «قل : اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ، ولا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني ، إنك الغفور الرحيم» (٦٣١). فإذا كان هذا حال الصديق ، الذي هو أفضل الناس بعد الأنبياء والمرسلين ـ فما الظنّ بسواه؟ بل إنما صار صدّيقا بتوفيته هذا المقام حقه ، الذي يتضمن معرفة ربه ، وحقه وعظمته ، وما ينبغي له ، وما يستحقه على عبده ، ومعرفة تقصيره. فسحقا وبعدا لمن زعم أن المخلوق يستغني عن مغفرة ربه ولا يكون به حاجة إليها! وليس وراء هذا الجهل بالله وحقه غاية!! فإن لم يتسع فهمك لهذا ،

__________________

(٦٣٠) متفق عليه من حديث أبي هريرة ، وتقدم بنحوه الحديث (برقم ٦١٣).

(٦٣١) متفق عليه من حديث أبي بكر الصديق (انظر مسند أبي بكر الصديق طبع المكتب الاسلامي ص ١٢٢).

٤٥١

فانزل الى وطأة النعم ، وما عليها من الحقوق ، ووازن من (٦٣٢) شكرها وكفرها ، فحينئذ تعلم أنه سبحانه لو عذّب أهل سماواته وأرضه ، لعذّبهم وهو غير ظالم لهم.

قوله : وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم للأموات.

ش : اتفق أهل السنة أن الأموات ينتفعون من سعي الأحياء بأمرين : أحدهما : ما تسبب إليه الميت في حياته (٦٣٣). والثاني : دعاء المسلمين واستغفارهم له ، والصدقة والحج ، على نزاع فيما يصل إليه من ثواب الحج : فعن محمد بن الحسن : أنه إنما يصل الى الميت ثواب النفقة ، والحجّ للحاجّ. وعند عامة العلماء : ثواب الحج للمحجوج عنه ، وهو الصحيح. واختلف في العبادات البدنية ، كالصوم والصلاة وقراءة القرآن والذكر : فذهب أبو حنيفة وأحمد وجمهور السلف الى وصولها ، والمشهور من مذهب الشافعي ومالك عدم وصولها. وذهب بعض أهل البدع من أهل الكلام الى عدم وصول شيء البتة ، لا الدعاء ولا غيره. وقولهم مردود بالكتاب والسنة ، لكنهم استدلوا بالمتشابه من قوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) النجم : ٣٩. وقوله : (وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) يس : ٥٤. قوله : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) البقرة : ٢٨٦. وقد ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو ولد صالح يدعو له ، أو علم ينتفع به من بعده» (٦٣٣١). فأخبر أنه إنما ينتفع بما كان تسبب فيه في الحياة ، وما لم يكن تسبب فيه في الحياة فهو منقطع عنه. واستدل المقتصرون على وصول العبادات التي [لا] تدخلها النيابة بحال ، كالإسلام والصلاة والصوم وقراءة القرآن ، [وأنه] يختص ثوابها بفاعله لا يتعداه ، كما أنه في الحياة لا يفعله أحد عن أحد ، ولا ينوب فيه عن فاعله غيره ـ بما روى النسائي بسنده ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «لا يصلي أحد

__________________

(٦٣٢) في الاصل : بين.

(٦٣٣) قال عفيفي : انظر ص ٣٣٥ ج ١ من «مختصر الصواعق».

(٦٣٣١) مسلم وغيره من حديث أبي هريرة ، وهو مخرج في «أحكام الجنائز» ، ص ١٧٤).

٤٥٢

عن أحد ، ولا يصوم أحد عن أحد ، ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مدّا من حنطة» (٦٣٤).

والدليل على انتفاع الميت بغير ما تسبب فيه ، الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح. أما الكتاب ، فقال تعالى : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) الحشر : ١٠. فأثنى عليهم باستغفارهم للمؤمنين قبلهم ، فدل على انتفاعهم باستغفار الأحياء. وقد دل على انتفاع الميت بالدعاء إجماع الأمة على الدعاء له في صلاة الجنازة ، والأدعية التي وردت بها السنة في صلاة الجنازة مستفيضة. وكذا الدعاء له بعد الدفن ، ففي «سنن أبي داود» ، من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه ، قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال : «استغفروا لأخيكم ، واسألوا له التثبيت ، فإنه الآن يسأل» (٦٣٥). وكذلك الدعاء لهم عند زيارة قبورهم ، كما في «صحيح مسلم» ، من حديث بريدة بن الحصيب ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلمهم اذا خرجوا الى المقابر أن يقولوا : «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، وإنا ان شاء الله بكم لاحقون ، نسأل الله لنا ولكم العافية» (٦٣٦). وفي «صحيح مسلم» أيضا ، عن عائشة رضي الله عنها : سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كيف تقول إذا استغفرت لأهل (٦٣٧) القبور؟ قال : «قولي : السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، ويرحم الله المستقدمين منا [ومنكم] والمستأخرين ، وإنا ان شاء الله بكم لاحقون» (٦٣٨).

__________________

(٦٣٤) لا اعرف له أصلا مرفوعا ، لا عند النسائي ولا عند غيره ، وانما رواه النسائي في الكبرى» (٤ / ٤٣ / ١) والطحاوي في «مشكل الآثار» (٣ / ١٤١) عن ابن عباس موقوفا عليه. وسنده صحيح.

(٦٣٥) صحيح ، وهو مخرج في «أحكام الجنائز» (ص ١٥٥).

قال عفيفي : انظر ص ٣٣١ ج ١ من «مختصر الصواعق».

(٦٣٦) صحيح ، وهو مخرج في «أحكام الجنائز» (١٨٩ ـ ١٩٠).

(٦٣٧) قال عفيفي : انظر ص ٣٥٤ ج ١ من «مختصر الصواعق».

(٦٣٨) صحيح ـ وهو مخرج في «أحكام الجنائز» (١٨١ ـ ١٨٣)

.

٤٥٣

وأما وصول ثواب الصدقة (٦٣٩) ، ففي «الصحيحين» ، عن عائشة رضي الله عنها : أن رجلا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا رسول الله ، إن أمي افتلتت نفسها ، ولم توص ، وأظنها لو تكلمت تصدقت ، أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال : «نعم» (٦٤٠). وفي «صحيح البخاري» ، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : أن سعد بن عبادة توفيت أمه وهو غائب عنها فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا رسول الله ، ان أمي توفيت وأنا غائب عنها ، فهل ينفعها إن تصدقت؟ قال : «نعم» ، قال : فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها (٦٤١). وأمثال ذلك كثيرة في السنة.

وأما وصول ثواب الصوم ، ففي «الصحيحين» ، عن عائشة رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من مات وعليه صيام صام عنه وليّه» (٦٤٢). وله نظائر في «الصحيح». ولكن أبو حنيفة رحمه‌الله قال بالإطعام عن الميت دون الصيام عنه ، لحديث ابن عباس المتقدم (٦٤٣). والكلام على ذلك معروف في كتب الفروع.

وأما وصول ثواب الحج ، ففي «صحيح البخاري» ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن امرأة من جهينة جاءت الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت : إن أمي نذرت أن تحجّ فلم تحج حتى ماتت ، أفأحج عنها؟ قال : «حجي عنها ، أرأيت لو كان على أمك دين ، أكنت قاضيته؟ اقضوا الله ، فالله أحق بالوفاء» (٦٤٤). ونظائره أيضا كثيرة. وأجتمع المسلمون على أن قضاء الدين يسقطه من ذمة الميت ، ولو كان من أجنبي ، ومن غير تركته. وقد دل على ذلك حديث أبي قتادة ، حيث ضمن الدينارين عن

__________________

(٦٣٩) قال عفيفي : انظر المسألة السادسة عشر من كتاب «الروح» لابن القيم.

(٦٤٠) صحيح ، وهو مخرج في «أحكام الجنائز» (١٧٢).

(٦٤١) صحيح ، وهو مخرج هناك (١٧٢).

(٦٤٢) صحيح ، وهو مخرج هناك (١٦٩).

(٦٤٣) الحديث (رقم ٦٣٤) ، وقد عرفت أنه موقوف.

(٦٤٤) صحيح ، وهو مخرج في «الإرواء» (٩٩٣) ، قلت : وانظر تحقيق المراد منه في كلام ابن القيم في «أحكام الجنائز» في فصل ما ينتفع به الميت (ص ١٧٠ ـ ١٧١).

٤٥٤

الميت ، فلما قضاهما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الآن بردت عليه جلدته» (٦٤٥). وكل ذلك جار على قواعد الشرع. وهو محض القياس ، فإن الثواب حق العامل ، فإذا وهبه لأخيه المسلم لم يمنع من ذلك ، كما لم يمنع من هبة ماله في حياته ، وإبرائه له منه بعد وفاته. وقد نبه الشارع بوصول ثواب الصوم على وصول ثواب القراءة ونحوها من العبادات البدنية. يوضحه : أن الصوم كفّ النفس عن المفطرات بالنية ، وقد نص الشارع على وصول ثوابه الى الميت ، فكيف بالقراءة التي هي عمل ونية؟!

والجواب عما استدلوا به من قوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) النجم : ٣٩ ـ قد أجاب العلماء بأجوبة : أصحها جوابان :

أحدهما : أن الإنسان بسعيه وحسن عشرته اكتسب الأصدقاء ، وأولد الأولاد ، ونكح الازواج ، وأسدى الخير وتودّد الى الناس ، فترحمّوا عليه ، ودعوا له ، وأهدوا له ثواب الطاعات ، فكان ذلك أثر سعيه ، بل دخول المسلم مع جملة المسلمين في عقد الاسلام من أعظم الأسباب في وصول نفع كلّ من المسلمين الى صاحبه ، في حياته وبعد مماته ، ودعوة المسلمين تحيط من ورائهم. يوضحه : أن الله تعالى جعل الإيمان سببا لانتفاع صاحبه بدعاء إخوانه من المؤمنين وسعيهم ، فإذا أتى به فقد سعى في السبب الذي يوصل إليه ذلك.

الثاني ، وهو أقوى منه ـ : أن القرآن لم ينف انتفاع الرجل بسعي غيره وإنما نفى ملكه لغير سعيه ، وبين الأمرين فرق لا يخفى. فأخبر تعالى أنه لا يملك إلا سعيه ، وأما سعي غيره فهو ملك لساعيه ، فإن شاء أن يبذله لغيره ، وإن شاء أن يبقيه لنفسه.

وقوله سبحانه : (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى. وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) النجم : ٣٨ ـ ٣٩. آيتان محكمتان ، مقتضيتان عدل الرب تعالى : فالأولى تقتضي أنه لا يعاقب أحدا بجرم غيره ، ولا يؤاخذه بجريرة غيره ، كما يفعله ملوك الدنيا. والثانية تقتضي أنه لا يفلح إلا بعمله ، لينقطع طمعه من نجاته بعمل آبائه وسلفه

__________________

(٦٤٥) حسن رواه الحاكم وغيره. وهو مخرج في «أحكام الجنائز» (ص ١٦).

٤٥٥

ومشايخه ، كما عليه أصحاب الطمع الكاذب ، وهو سبحانه لم يقل لا ينتفع إلا بما سعى.

وكذلك قوله تعالى : (لَها ما كَسَبَتْ) البقرة : ٢٨٦. وقوله : (وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) يس : ٥٤. على أن سياق هذه الآية يدل على أن المنفي عقوبة العبد بعمل غيره ، فإنه تعالى قال : (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ، وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) يس : ٥٤.

وأما استدلالهم بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله» (٦٤٦) فاستدلال ساقط ، فإنه لم يقل انقطاع انتفاعه ، وإنما أخبر عن انقطاع عمله. وأما عمل غيره فهو لعامله ، [فإن] وهبه له وصل إليه ثواب عمل العامل ، لا ثواب عمله هو ، وهذا كالدّين يوفيه الإنسان عن غيره ، فتبرأ ذمته ، ولكن ليس له ما وفّى به (٦٤٧) الدين.

وأما تفريق من فرق بين العبادات المالية والبدنية ـ فقد شرع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الميت ، كما تقدم ، مع أن الصوم لا تجزئ فيه النيابة ، وكذلك حديث جابر رضي الله عنه ، قال : صليت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عيد الاضحى ، فلما انصرف اتى بكبش فذبحه ، فقال : «بسم الله والله أكبر ، اللهم هذا عني وعمن لم يضحّ من أمتي» (٦٤٨) ، رواه أحمد وأبو داود والترمذي ، وحديث الكبشين اللذين قال في أحدهما : «اللهم هذا عن أمتي جميعا» (٦٤٩) ، وفي الآخر : «اللهم هذا عن محمد وآل محمد» ، رواه أحمد. والقربة في الاضحية إراقة الدم ، وقد جعلها لغيره.

وكذلك عبادة الحج بدنية ، وليس [المال] ركنا فيه ، وإنما هو وسيلة ، ألا ترى أن المكي يجب عليه الحج إذا قدر على المشي الى عرفات ، من غير شرط المال. وهذا هو الأظهر ، أعني أن الحج غير مركب من مال وبدن ، بل بدني محض ، كما قد نص

__________________

(٦٤٦) صحيح ومضى قريبا (برقم ٦٣٣).

(٦٤٧) في الاصل : هذا.

(٦٤٨) صحيح لشواهده. انظر «المجمع» (٤ / ٢٢ ـ ٢٣) ، ومن شواهده الذي بعده. ثم حققت في «الإرواء» أنه صحيح لذاته ، فليراجعه من شاء الوقوف على الحقيقة (رقم ١١٣٨).

(٦٤٩) حسن ، وهو في «المسند» (٦ / ٣٩١ ـ ٣٩٢) وفي إسناده اختلاف بينته هناك.

٤٥٦

عليه جماعة من أصحاب أبي حنيفة المتأخرين. وانظر الى فروض الكفايات : كيف قام فيها البعض عن الباقين؟ ولأن هذا اهداء ثواب ، وليس من باب النيابة ، كما أن الأجير الخاصّ ليس له أن يستنيب عنه ، وله أن يعطي أجرته لمن شاء. (٦٥٠).

وأما استئجار قوم يقرءون القرآن ويهدونه للميت!! فهذا لم يفعله أحد من السلف ولا أمر به أحد من أئمة الدين ، ولا رخص فيه. والاستئجار على نفس التلاوة غير جائز بلا خلاف. وإنما اختلفوا في جواز الاستئجار على التعليم ونحوه ، مما فيه منفعة تصل الى الغير. والثواب لا يصل الى الميت إلا إذا كان العمل لله ، وهذا لم يقع عبادة خالصة ، فلا يكون [له من] ثوابه ما يهدى الى الموتى!! ولهذا لم يقل أحد أنه يكتري من يصوم ويصلي ويهدي ثواب ذلك الى الميت ، لكن إذا أعطى لمن يقرأ القرآن ويعلمه ويتعلمه معونة لأهل القرآن على ذلك ، كان هذا من جنس الصدقة عنه ، فيجوز. وفي الاختيار : لو أوصى بأن يعطى شيء من ماله لمن يقرأ القرآن على قبره ، فالوصية باطلة ، لأنه في معنى الأجرة ، انتهى. وذكر الزاهدي في «الغنية» : أنه لو وقف على من يقرأ عند قبره ، فالتعيين باطل.

وأما قراءة القرآن وإهداؤها له تطوّعا بغير أجرة ، فهذا يصل إليه ، كما يصل ثواب الصوم والحج. فإن قيل : هذا لم يكن معروفا في السلف ، ولا أرشدهم إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فالجواب : إن كان مورد هذا السؤال معترفا بوصول ثواب الحج والصيام والدعاء ، قيل له : ما الفرق بين ذلك وبين وصول ثواب قراءة القرآن؟ وليس كون السلف لم يفعلوه حجة في عدم الوصول ، ومن أين لنا هذا النفي العام؟ فإن قيل : فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرشدهم الى الصوم والحج والصدقة دون القراءة؟ قيل : هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يبتدئهم بذلك ، بل خرج ذلك منه مخرج الجواب لهم ، فهذا سأله عن الحج عن ميته فأذن له فيه ، وهذا سأله عن الصوم عنه ، فأذن له فيه ، ولم يمنعهم مما سوى ذلك ، وأي فرق بين وصول ثواب الصوم ـ الذي هو مجرد نية وإمساك ـ وبين وصول ثواب القراءة والذكر؟ فإن قيل : ما تقولون في الإهداء إلى رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟

__________________

(٦٥٠) في هذا الكلام نظر لا يخفى على المتأمل ، وقد حققت القول في المسألة بما يشرح الصدر ، ويثلج القلب في الفصل المشار إليه أنفا (ص ٤٥٤ ـ ٤٥٥) ، فراجعه فإنه مهم.

٤٥٧

قيل : من المتأخرين من استحبه ، ومنهم من رآه بدعة ، لأن الصحابة لم يكونوا يفعلونه ، ولأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم له مثل أجر كل من عمل خيرا من أمته ، من غير أن ينقص من أجر العامل شيء ، لأنه هو الذي دل أمته على كل خير ، وأرشدهم إليه.

ومن قال : إن الميت ينتفع بقراءة القرآن عنده ، باعتبار سماعه كلام الله ـ فهذا لم يصحّ عن أحد من الأئمة المشهورين. ولا شك في سماعه ، (٦٥١) ولكن انتفاعه بالسماع لا يصح ، فإن ثواب الاستماع مشروط بالحياة ، فإنه عمل اختياريّ ، وقد انقطع بموته ، بل ربما يتضرر ويتألم ، لكونه لم يمتثل أوامر الله ونواهيه ، أو لكونه لم يزدد من الخير.

واختلف العلماء في قراءة القرآن عند القبور ، على ثلاثة أقوال : هل تكره ، أم لا بأس بها وقت الدفن ، وتكره بعده؟ فمن قال بكراهتها ، كأبي حنيفة ومالك وأحمد في رواية ـ قالوا : لأنه محدّث ، لم ترد به السنة ، والقراءة تشبه الصلاة ، والصلاة عند القبور منهيّ عنها ، فكذلك القراءة. ومن قال : لا بأس بها ، كمحمد بن الحسن وأحمد في رواية ـ استدلوا بما نقل عن ابن عمر رضي الله عنه : أنه أوصى أن يقرأ على قبره وقت الدفن بفواتح سورة البقرة وخواتمها (٦٥٢). ونقل أيضا عن بعض المهاجرين قراءة سورة البقرة. (٦٥١١). ومن قال : لا بأس بها وقت الدفن فقط ، وهو رواية عن أحمد ـ أخذ بما نقل عن عمر وبعض المهاجرين (٦٥١٢). وأما بعد ذلك ، كالذين يتناوبون القبر للقراءة عنده ـ فهذا مكروه ، فإنه لم تأت به السنة ، ولم ينقل عن أحد من السلف مثل ذلك أصلا. وهذا القول لعله أقوى من غيره ، لما فيه من التوفيق بين الدليلين.

[قوله] : (والله تعالى يستجيب الدعوات ، ويقضي الحاجات).

ش : قال تعالى : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) غافر : ٦٠. (وَإِذا

__________________

(٦٥١) لم أره بلفظ «المهاجرين» ، وانما بلفظ «الأنصار» ، ذكره ابن القيم وفي ثبوت ذلك عنهم نظر بينته في «أحكام الجنائز» (ص ١٩٣)

(٦٥٢) قلت : لا يصح إسناده ، فيه من يجهل كما مر مبين في «أحكام الجنائز» (ص ١٩٢ ـ طبع المكتب الاسلامي).

٤٥٨

سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ، أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) البقرة : ١٨٦. والذي عليه أكثر الخلق من المسلمين وسائر أهل الملل وغيرهم ـ : أن الدعاء من أقوى الأسباب في جلب المنافع ودفع المضارّ ، وقد أخبر تعالى عن الكفار أنهم اذا مسّهم الضرّ في البحر دعوا الله مخلصين له الدين ، وأن الإنسان اذا مسه الضر دعاه لجنبه أو قاعدا أو قائما. وإجابة الله لدعاء العبد ، مسلما كان أو كافرا ، وإعطاؤه سؤله ـ : من جنس رزقه لهم ، ونصره لهم. وهو مما توجبه الربوبية للعبد مطلقا ، ثم قد يكون ذلك فتنة في حقه ومضرة عليه ، إذ كان كفره وفسوقه يقتضي ذلك. وفي «سنن ابن ماجه» من حديث أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من لم يسأل الله [يغضب عليه» (٦٥٣). وقد نظم بعضهم هذا المعنى ، فقال :

الرب يغضب إن تركت سؤاله

وبنيّ آدم حين يسأل يغضب

قال ابن عقيل : قد ندب الله تعالى الى الدعاء ، وفي ذلك معان : أحدها : الوجود ، فإن ليس بموجود لا يدعى. الثاني : الغنى ، فإن الفقير لا يدعى. الثالث : السمع ، فإن الأصم لا يدعى. الرابع : الكرم ، فإن البخيل لا يدعى. الخامس : الرحمة ، فإن القاسي لا يدعى. السادس : القدرة ، فإن العاجز لا يدعى. ومن يقول بالطبائع يعلم أن النار لا يقال لها : كفي! ولا النجم يقال

__________________

(٦٥٣) صحيح ، وهو مخرج في «المشكاة» (٢٢٣٨) الطبعة الثانية.

كذا وقع في «الطبعة السادسة» من «شرح العقيدة الطحاوية» ، لكن لي موضع آخر منها متقدم على هذا بصفحتين (٥١٦) ما نصه : «ضعيف الإسناد ، فيه أبو صالح الخوزي. قال في «التقريب» : «لين الحديث» ، وأما الحاكم فقال في هذا الحديث (١ / ٤٩١) : «صحيح الاسناد» ، وسكت عليه الذهبي! وقال الترمذي : «لا نعرفه إلا من هذا الوجه».

وليست في متناول يدي نسختي من «المشكاة» التي عليها التحقيق الثاني ، لأقابل ما بينته وبين التضعيف المذكور ، ثم أثبت هنا الصواب منهما ، ويبدو لي الآن ـ والله أعلم ـ أن التضعيف هو المعتمد ، فقد خرجت الحديث في «الضعيفة» برقم (٤٠٤٠) ، وأحلت عليه في المجلد الأول منه (ص ٥٤٢) منبها على خطأ ما جاء في (ص ٢٩) منه من التحسين ، فوجب التنبيه على ذلك كله. والمعصوم من عصمه الله تعالى.

٤٥٩

له : أصلح مزاجي!! لأن هذه عندهم مؤثرة طبعا لا اختيارا ، فشرع الدعاء وصلاة الاستسقاء ليبين كذب أهل الطبائع.

وذهب قوم من المتفلسفة وغالية المتصوفة [الى] (٦٥٤) أن الدعاء لا فائدة فيه! قالوا : لأن المشيئة الإلهية إن اقتضت وجود المطلوب فلا حاجة الى الدعاء ، وإن لم تقتضه فلا فائدة في الدعاء!! وقد يخص بعضهم بذلك خواصّ العارفين! ويجعل الدعاء علة في مقام الخواص!! وهذا من غلطات بعض الشيوخ. فكما أنه معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام ـ فهو معلوم الفساد بالضرورة العقلية ، فإن منفعة الدعاء أمر أنشئت (٦٥٤٢) عليه تجارب الأمم ، حتى إن الفلاسفة تقول : ضجيج الأصوات في هياكل العبادات ، بفنون اللغات ، يحلل ما عقدته الأفلاك المؤثرات!! هذا وهم مشركون.

وجواب الشبهة بمنع المقدمتين (٦٥٤١) : فإن قولهم عن المشيئة الإلهية : إما أن تقتضيه أولا ـ [ف] ثمّ قسم ثالث ، وهو : أن تقتضيه بشرط لا تقتضيه مع عدمه ، وقد يكون الدعاء من شرطه ، كما توجب الثواب مع العمل الصالح ، ولا توجبه مع عدمه ، وكما توجب الشبع والريّ عند الأكل والشرب ، ولا توجبه مع عدمهما ، وحصول الولد بالوطء ، والزرع بالبذر. فإذا قدّر وقوع المدعوّ به بالدعاء لم يصحّ أن يقال لا فائدة في الدعاء ، كما [لا] يقال لا فائدة في الأكل والشرب والبذر وسائر الأسباب. فقول هؤلاء ـ كما أنه مخالف للشرع ، فهو مخالف للحسّ والفطرة.

ومما ينبغي أن يعلم ، ما قاله طائفة من العلماء ، وهو : أن الالتفات الى الأسباب شرك في التوحيد! ومحو الأسباب أن تكون أسبابا نقص في العقل ، والإعراض عن الاسباب كالكلية قدح في الشرع. ومعنى التوكل والرجاء ، يتألف من وجوب التوحيد والعقل والشرع.

وبيان ذلك : أن الالتفات الى السبب هو اعتماد القلب عليه ورجاؤه والاستناد إليه. وليس في المخلوقات ما يستحق هذا ، لأنه ليس بمستقلّ ، ولا بدّ له من شركاء وأضداد مع هذا كله ، فإن لم يسخّره مسبب الأسباب لم يسخّر.

__________________

(٦٥٤) كذا الاصل ، ولعل الصواب يمنع الحصر في المقدمتين ، كما يدل عليه السياق

(*) في الأصل : متفق

.

٤٦٠