شرح العقيدة الطّحاويّة

ابن أبي العزّ الحنفي

شرح العقيدة الطّحاويّة

المؤلف:

ابن أبي العزّ الحنفي


المحقق: الشيخ محمّد ناصر الدين الألباني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بغداد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٤

عمران : ٣٣. (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) الحديد : ٢١. وعن النار : (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) آل عمران : ١٣١. (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً لِلطَّاغِينَ مَآباً) النبأ : ٢١ ـ ٢٢. وقال تعالى : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) النجم : ١٣ ـ ١٥. وقد رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سدرة المنتهى ، ورأى عندها جنة المأوى. كما في «الصحيحين» ، من حديث أنس رضي الله عنه ، في قصة الإسراء ، وفي آخره : «ثم انطلق بي جبرائيل ، حتى أتى سدرة المنتهى ، فغشيها ألوان لا أدري ما هي ، قال : ثم دخلت الجنة ، فإذا هي جنابذ اللؤلؤ ، واذا ترابها المسك» (٥٧٩) وفي «الصحيحين» من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي ، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ، يقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة» (٥٨٠). وتقدم حديث البراء بن عازب ، وفيه : «ينادي مناد من السماء : أن صدق عبدي ، فأفرشوه من الجنة ، وافتحوا له بابا الى الجنة ، قال : فيأتيه من روحها وطيبها» (٥٨١). وتقدم حديث أنس بمعنى حديث البراء. وفي «صحيح مسلم» ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكرت الحديث ، وفيه : وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رأيت في مقامي هذا كل شيء وعدتم به ، حتى لقد رأيتني آخذ قطفا من الجنة حين رأيتموني تقدّمت ولقد رأيت النار يحطم بعضها بعضا حين رأيتموني تأخرت» (٥٨٢). وفي «الصحيحين» ، واللفظ للبخاري ، عن عبد الله ابن عباس ، قال : انخسفت الشمس على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكر الحديث ، وفيه : فقالوا : يا رسول الله رأيناك تناولت شيئا في مقامك ، ثم رأيناك تكعكعت؟ فقال : «إني رأيت الجنة ، وتناولت عنقودا ،

__________________

(٥٧٩) صحيح.

(٥٨٠) صحيح ، وأخرجه أحمد أيضا (٢ / ١٦ و ٥١ و ١١٣ و ١٢٣).

(٥٨١) صحيح ، وتقدم الحديث بطوله (رقم ٥٢٥).

(٥٨٢) صحيح وهو طرف من حديث طويل في صلاة الكسوف وهو مخرج عندي في الجزء الخاص بهذه الصلاة.

٤٢١

ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا ، ورأيت النار ، فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع ، ورأيت أكثر أهلها النساء» ، قالوا : بم ، يا رسول الله؟ قال : «بكفرهن» ، قيل : أيكفر بالله؟ قال : «يكفرن العشير ، ويكفرن الإحسان ، لو أحسنت الى إحداهنّ الدهر كله ، ثم رأت منك شيئا ، قالت : ما رأيت خيرا قط!!» (٥٨٣) وفي «صحيح مسلم» من حديث أنس : «وايم الذي نفسي بيده ، لو رأيتم ما رأيت ، لضحكتم قليلا وبكيتم كثيرا». قالوا : وما رأيت يا رسول الله؟ قال : «رأيت الجنة والنار» (٥٨٤) وفي «الموطأ والسنن» ، من حديث كعب ابن مالك ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما نسمة المؤمن طير (٥٨٥) تعلق في شجر الجنة ، حتى يرجعها الله الى جسده يوم القيامة» (٥٨٦). وهذا صريح في دخول الروح الجنة قبل يوم القيامة. وفي «صحيح مسلم» و «السنن» و «المسند». من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لما خلق الله الجنة والنار ، أرسل جبرائيل الى الجنة ، فقال : اذهب فانظر إليها والى ما أعددت لأهلها فيها ، فذهب فنظر إليها والى ما أعد الله لأهلها فيها ، فرجع فقال : وعزتك ، لا يسمع بها أحد إلا دخلها ، فأمر بالجنة ، فحفّت بالمكاره ، فقال : ارجع فانظر إليها والى ما أعددت لأهلها فيها ، قال : فنظر إليها ، ثم رجع فقال : وعزتك ، لقد خشيت أن لا يدخلها أحد ، قال : ثم أرسله الى النار ، قال : اذهب فانظر إليها والى ما أعددت لأهلها فيها ، قال : فنظر إليها ، فاذا هي يركب (٥٨٧) بعضها بعضا ، ثم رجع فقال : وعزتك ، لا يدخلها أحد سمع بها ، فأمر بها فحفّت بالشهوات ، ثم قال : اذهب فانظر الى ما أعددت لأهلها فيها ، فذهب فنظر إليها ، فرجع فقال : وعزتك ، لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد إلا دخلها» (٥٨٨).

__________________

(٥٨٣) صحيح ، وهو مخرج هناك.

(٥٨٤) صحيح.

(٥٨٥) قال عفيفي : هذا المبحث في كتاب «حادي الارواح» لابن القيم.

(٥٨٦) صحيح ، وهو مخرج في «الصحيحة» (٩٩٥).

(٥٨٧) في الاصل : تركب.

(٥٨٨) صحيح ، وصححه الترمذي والحاكم (١ / ٢٦) ووافقه الذهبي ، وعز والمؤلف لمسلم

٤٢٢

ونظائر ذلك في السنة كثيرة.

وأما على قول من قال : إن الجنة الموعود بها هي الجنة التي كان فيها آدم ثم أخرج منها ، فالقول بوجودها الآن ظاهر ، والخلاف في ذلك معروف.

وأما شبهة من قال : إنها لم تخلق بعد ، وهي : أنها لو كانت مخلوقة الآن لوجب اضطرارا أن تفنى يوم القيامة وأن يهلك كل من فيها ويموت ، لقوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) القصص : ٨٨. و (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) آل عمران : ١٨٥ ، وقد روى الترمذي في جامعه ، من حديث ابن مسعود رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقيت إبراهيم ليلة أسري بي ، فقال : يا محمد ، أقرئ أمتك مني السلام ، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة ، عذبة الماء ، وأنها قيعان ، وأن غراسها سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر» (٥٨٩) ، قال : هذا حديث حسن غريب. وفيه أيضا من حديث أبي الزبير ، عن جابر ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «من قال سبحان الله وبحمده ، غرست له نخلة في الجنة» (٥٩٠) ، قال : هذا حديث حسن صحيح ، قالوا : فلو كانت مخلوقة مفروغا منها لم تكن قيعانا ، ولم يكن لهذا الغراس معنى. قالوا : وكذا قوله تعالى عن امرأة فرعون أنها قالت : (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) التحريم : ١١ فالجواب : إنكم إن أردتم بقولكم إنها الآن معدومة بمنزلة النفخ في الصور وقيام الناس من القبور ، فهذا باطل ، يرده ما تقدم من الأدلة وأمثالها مما لم يذكر ، وإن أردتم أنها لم يكمل خلق جميع ما أعد الله فيها لأهلها ، وأنها لا يزال الله يحدث فيها شيئا بعد شيء ، وإذا دخلها المؤمنون أحدث الله فيها عند دخولهم أمورا أخر ـ فهذا حق لا يمكن ردّه ، وأدلتكم هذه إنما تدل على هذا القدر. وأما احتجاجكم بقوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) القصص : ٨٨ ، فأتيتم من سوء فهمكم

__________________

ـ خطأ ، أنظر «صحيح الجامع» (٥٠٨٦) و «المشكاة» (٥٦٩٦). وإنما له منه .. «حفت الجنة .. وحفت النار بالشهوات». وهذا رواه البخاري أيضا.

(٥٨٩) وهو مخرج في «الصحيحة» (١٠٥).

(٥٩٠) صحيح ، وهو مخرج في المصدر السابق (٦٤).

٤٢٣

معنى الآية ، واحتجاجكم بها على عدم وجود الجنة والنار الآن ـ نظير احتجاج إخوانكم على فنائهما وخرابهما وموت أهلهما!! فلم توفقوا أنتم لا إخوانكم لفهم معنى الآية ، وإنما وفق لذلك أئمة الاسلام. فمن كلامهم : أن المراد «كل شيء» مما كتب [الله] عليه الفناء والهلاك «هالك» ، والجنة والنار خلقنا للبقاء لا للفناء ، وكذلك العرش ، فإنه سقف الجنة. وقيل : المراد إلا ملكه. وقيل : إلا ما أريد به وجهه. وقيل : إن الله تعالى أنزل : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) الرحمن : ٢٦ ، فقالت الملائكة : هلك أهل الأرض ، وطمعوا في البقاء ، فأخبر تعالى عن أهل السماء والأرض أنهم يموتون ، فقال : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) القصص : ٨٨ ، لأنه حي لا يموت ، فأيقنت الملائكة عند ذلك بالموت. وإنما قالوا ذلك توفيقا بينها وبين النصوص المحكمة ، الدالة على بقاء الجنة ، وعلى بقاء النار أيضا ، على ما يذكر عن قريب ، إن شاء الله تعالى.

وقوله : لا تفنيان أبدا ولا تبيدان ـ هذا قول جمهور الأئمة من السلف والخلف. وقال ببقاء الجنة وبفناء النار جماعة من السلف والخلف (٥٩١) ، والقولان مذكوران في كثير من كتب التفسير وغيرها. وقال بفناء الجنة والنار الجهم بن صفوان إمام المعطلة ، وليس له سلف قط (٥٩٢) ، لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان ، ولا من أئمة المسلمين ، ولا من أهل السنة. وأنكره عليه عامة أهل السنة ، وكفّروه به ، وصاحوا به وبأتباعه من أقطار الأرض. وهذا قاله لأصله الفاسد الذي اعتقده ، وهو امتناع وجود [ما] لا يتناهى من الحوادث! وهو عمدة أهل الكلام

__________________

(٥٩١) قلت : لم يثبت القول بفناء النار عن أحد من السلف ، وإنما هي آثار واهية لا تقوم بها حجة ، وبعض أحاديثه موضوعة ، لو صحت لم تدل على الفناء المزعوم ، وإنما على بقاء النار ، وخروج الموحدين منها ، وقد كنت خرجت بعض ذلك في «الضعيفة» برقم (٦٠٦ و ٧٠٧). ثم وقفت على رسالة مخطوطة في مكتبة المكتب الاسلامي للعلامة الأمير الصنعاني في هذه المسألة الخطيرة ردّ فيها على ابن القيم رحمه‌الله ، فعلقت عليها وخرجت أحاديثها وقدمت لها بمقدمة ضافية ، وقد طبعت بعناية المكتب الاسلامي.

(٥٩٢) يعني قوله بفناء الجنة ، ونحن نزيد على المؤلف فنقول : وليس له سلفا أيضا في قوله بفناء النار ، كما سبقت الإشارة الى ذلك آنفا.

٤٢٤

المذموم ، التي استدلوا بها على حدوث الأجسام ، وحدوث ما لم يخل من الحوادث ، وجعلوا ذلك عمدتهم في حدوث العالم. فرأى جهم أن ما يمنع من حوادث لا أول لها في الماضي ، يمنعه في المستقبل!! فدوام الفعل عنده على الرب في المستقبل ممتنع ، كما هو ممتنع عنده عليه في الماضي!! وأبو الهذيل العلاف شيخ المعتزلة ، وافقه على هذا الأصل ، لكن قال : إن هذا يقتضي فناء الحركات ، فقال بفناء حركات أهل الجنة والنار ، حتى يصيروا في سكون دائم ، لا يقدر أحد منهم على حركة!! وقد تقدم الإشارة الى اختلاف النار في تسلسل الحوادث في الماضي والمستقبل ، وهي مسألة دوام فاعلية الرب تعالى ، وهو لم يزل ربّا قادرا فعالا لما يريد ، فإنه لم يزل حيّا عليما قديرا. ومن المحال أن يكون الفعل ممتنعا عليه لذاته ، ثم ينقلب فيصير ممكنا لذاته ، من غير تجدد [شيء] ، وليس للأول حد محدود حتى يصير الفعل ممكنا له عند ذلك الحد ، ويكون قبله ممتنعا عليه. فهذا القول تصوره كاف في الجزم بفساده.

فأما أبدية الجنة ، وأنها لا تفنى ولا تبيد ، فهذا مما يعلم بالضرورة أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر به ، قال تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ، عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) هود : ١٠٨ ، أي غير مقطوع ، ولا ينافي [ذلك] قوله : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ). واختلف السلف في هذا الاستثناء : فقيل : معناه إلا مدة مكثهم في النار ، وهذا يكون لمن دخل منهم الى النار ثم أخرج منها ، لا لكلهم. وقيل : إلا مدة مقامهم في الموقف. وقيل : إلا مدة مقامهم في القبور والموقف. وقيل : هو استثناء الرب ولا يفعله ، كما تقول : والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك ، وأنت لا تراه ، بل تحزم بضربه. وقيل : «إلا» بمعنى الواو ، وهذا على قول بعض النحاة ، وهو ضعيف. وسيبويه يجعل إلا بمعنى لكن ، فيكون الاستثناء منقطعا ، ورجحه ابن جرير وقال : إن الله تعالى لا خلف لوعده ، وقد وصل الاستثناء بقوله : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) هود : ١٠٨. قالوا : ونظيره أن تقول : أسكنتك داري حولا إلا ما شئت ، أي سوى ما شئت ، ولكن ما شئت من الزيادة عليه. وقيل : الاستثناء لإعلامهم بأنهم مع

٤٢٥

جلودهم في مشيئة الله ، لأنهم يخرجون (٥٩٣) عن مشيئته ، ولا ينافي ذلك عزيمته وجزمه لهم بالخلود (٥٩٤) ، كما في قوله تعالى : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً) الاسراء : ٨٦ ، وقوله تعالى : (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) الشورى : ٢٤ ، وقوله : (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) يونس : ١٦. ونظائره كثيرة ، يخبر عباده سبحانه أن الأمور كلها بمشيئته ، ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن. وقيل : إن «ما» بمعنى «من» أي : إلا من شاء الله دخوله النار بذنوبه من السعداء (٥٩٥). وقيل غير ذلك. وعلى كل تقدير ، فهذا الاستثناء من المتشابه ، وقوله : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) هود : ١٠٨ ، محكم. وكذلك قوله تعالى : (إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) ص : ٥٤. وقوله : (أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها) الرعد : ٣٥. (٥٩٦) وقوله : (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) الحجر : ٤٨. وقد أكد الله خلود أهل الجنة بالتأبيد في عدة مواضع من القرآن ، وخبر أنهم : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) ، الدخان : ٥٦ ، وهذا الاستثناء منقطع ، وإذا ضممته الى الاستثناء في قوله تعالى : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) هود : ١٠٨ ـ تبين أن المراد من الآيتين استثناء الوقت الذي لم يكونوا فيه في الجنة من مدة الخلود ، كاستثناء الموتة الأولى من جملة الموت ، فهذه موتة تقدمت على حياتهم الأبدية ، وذلك مفارقة للجنة تقدمت على خلودهم فيها.

والأدلة من السنة على أبدية الجنة ودوامها كثيرة : كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس ويخلد ولا يموت» (٥٩٧). وقوله : «ينادي مناد : يا أهل الجنة ، إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا ، وأن تشبّوا فلا تهرموا أبدا ، وأن تحيوا

__________________

(٥٩٣) في الاصل : لا أنهم يخرجون. الجنة الصواب فليراجع «رفع الاستار».

(٥٩٤) قال عفيفي : انظر «مجموع الفتاوى» ص ٤٨ ج ٢.

(٥٩٥) في الاصل : الشعراء.

(٥٩٦) قال عفيفي : انظر ص ٢٥١ من «حادي الأرواح».

(٥٩٧) مسلم ، وهو مخرج في «الصحيحة» (١٠٨٦)

.

٤٢٦

فلا تموتوا أبدا» (٥٩٨). وتقدم ذكر ذبح الموت بين الجنة والنار ، ويقال : «يا أهل الجنة ، خلود فلا موت ، ويا أهل النار ، خلود فلا موت» (٥٩٩).

وأما أبدية النار ودوامها ، فللناس في ذلك ثمانية أقوال : أحدها : أن من دخلها لا يخرج منها أبد الآباد ، وهذا قول الخوارج والمعتزلة. والثاني : أن أهلها يعذبون فيها ، ثم تنقلب طبيعتهم وتبقى طبيعة النارية يتلذذون بها لموافقتها لطبعهم! وهذا قول إمام الاتحادية ابن عربي الطائي!! الثالث : أن أهلها يعذبون فيها الى وقت محدود ، ثم يخرجون منها ، ويخلفهم فيها قوم آخرون (٦٠٠) ، وهذا القول حكاه اليهود للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأكذبهم فيه ، وقد أكذبهم الله تعالى ، فقال عز من قائل : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً ، قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ ، أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ. بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) البقرة : ٨٠ ـ ٨١. الرابع : يخرجون منها ، وتبقى على حالها ليس فيها أحد. الخامس : أنها تفنى بنفسها ، لأنها حادثة وما ثبت حدوثه استحال بقاؤه!! وهذا قول الجهم وشيعته ، ولا فرق عنده في ذلك بين الجنة والنار ، كما تقدم. السادس : تفنى حركات أهلها ويصيرون جمادا ، لا يحسّون بألم ، وهذا قول أبي الهذيل العلّاف كما تقدم. السابع : أن الله يخرج منها من يشاء ، كما ورد في الحديث ، ثم يبقيها شيئا ، ثم يفنيها ، فإنه جعل لها أمدا تنتهي إليه. الثامن : أن الله تعالى يخرج منها من شاء ، كما ورد في السنة ، ويبقى فيها الكفار ، بقاء لا انقضاء له ، كما قال الشيخ رحمه‌الله. وما عدا هذين القولين الأخيرين ظاهر البطلان.

وهذان القولان لأهل السنة ينظر في أدلتهما.

__________________

(٥٩٨). اخرجه مسلم (٨ / ١٤٨) عن أبي سعيد وأبي هريره معا بتقديم الجملة الأخيرة على التي قبلها ، وزاد : «وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا ، فذلك قوله عزوجل : (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)».

(٥٩٩) متفق عليه.

(٦٠٠) قال عفيفي : انظر الباب السابع والستين من «حادي الأرواح» ص (٢٩٨).

٤٢٧

فمن أدلة القول الأول منهما : قوله تعالى : (قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) الانعام : ١٢٨. وقوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ. خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) هود : ١٠٦ ـ ١٠٧. ولم يأت بعد هذين الاستثناءين ما أتى بعد الاستثناء المذكور لأهل الجنة ، وهو قوله : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) هود : ١٠٨. وقوله تعالى : (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) النبأ : ٢٣. وهذا القول ، أعني القول بفناء النار دون الجنة ـ منقول عن عمر ، وابن مسعود ، وأبي هريرة ، وأبي سعيد ، وغيرهم. وقد روى عبد بن حميد في تفسيره المشهور ، بسنده الى عمر رضي الله عنه ، أنه قال : «لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج ، لكان لهم على ذلك وقت يخرجون فيه» (٦٠١) ، ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى :

__________________

(٦٠١) ضعيف لأنه من رواية الحسن قال : قال عمر : والحسن لم يدرك عمر رضي الله عنه. وقال ابن القيم في «حادي الارواح» (٢ / ٧١ طبع الكردي) عقبه : والحسن لم يسمع من عمر. ومع ذلك فقد حاول تقويته بكلام خطابي ، لا غناء فيه. «وحسبك بهذا الاسناد جلالة (!) والحسن وإن لم يسمع من عمر فإنما رواه عن بعض التابعين ، ولو لم يصح عنده ذلك عن عمر لما جزم به ، وقال : قال عمر بن الخطاب»!

قلت : وهذا كلام عجيب من مثل ابن القيم رحمه‌الله ، لأن معناه الاحتجاج بحديث التابعي المجهول العين! لأنه إذا كان الحسن قد أخذه من بعض التابعين ، فمن هو؟ وما حاله في الحديث حفظا وضبطا؟ أليس منطق ابن القيم هذا يؤدي الى قلب القواعد الأصولية الحديثية التي تجعل حديث المجهول ضعيفا ، والحديث المرسل والمنقطع ضعيفا كذلك ، لأنهما يرجعان إلى راو لم يذكر ولم يسم؟! ويؤدي كذلك الى قبول أحاديث الحسن البصري المعنعنة ، فضلا عن المنقطعة والمرسلة ، مثل حديثه عن سمرة «لما حملت حواء طاف بها إبليس ، وكان لا يعيش لها ولد ، فقال : سميه عبد الحارث ، فسمته عبد الحارث ، فعاش ، وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره».

وهو حديث ضعيف ، بل باطل ، ولا علة فيه سوى عنعنة الحسن البصري ، وقد فسر هو الآية التي يفسرها بعض المفسرين بهذا الحديث ، فسرها الحسن نفسه بغير ما دل عليه حديثه ، وتبعه على ذلك بعض المحققين ، منهم ابن القيم نفسه ، كما بينت ذلك في «سلسلة الأحاديث الضعيفة» (رقم الحديث ٣٤٢).

٤٢٨

(لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) النبأ : ٢٣. قالوا : والنار موجب غضبه ، والجنة موجب رحمته. وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لما قضى الله الخلق ، كتب كتابا ، فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي سبقت غضبي» (٦٠٢). وفي رواية : «تغلب غضبي». رواه البخاري في «صحيحه» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قالوا : والله سبحانه يخبر عن العذاب أنه : (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) الانعام : ١٥. و (أَلِيمٍ) هود : ٢٦. و (عَقِيمٍ) الحج : ٥٥. [ولم يخبر] ولا في موضع واحد عن النعيم أنه نعيم يوم. وقد قال تعالى : (عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) (٦٠٣) ، وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ الأعراف : ١٥٦. وقال تعالى حكاية عن الملائكة : (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) غافر : ٧. فلا بد أن تسع رحمته هؤلاء المعذّبين ، فلو بقوا في العذاب لا الى غاية لم تسعهم رحمته. وقد ثبت في «الصحيح» تقدير يوم القيامة بخمسين ألف سنة (٦٠٤) ، والمعذّبون فيها متفاوتون في مدة لبثهم في العذاب بحسب جرائمهم ،

__________________

ـ ومثل حديثه المرسل في ابطال الوضوء بالقهقهة ، وهو ضعيف باتفاق المحدثين!.

سامح الله ابن القيم وغفر له ، فإنه بتصحيحه لمثل هذا الأثر عن عمر رضي الله عنه يفتح بابا كبيرا لبعض الفرق الضالة يلجون فيه إلى تأييد ضلالهم ، كالعاديانية ، فإن من خلالهم القول بفناء النار ، وانتهاء عذاب الكفار ، كما بينته في «السلسلة» المشار إليها ، عند الكلام على الحديث الذي في معنى هذا الأثر. وكنت أشرت إليه في الكلام على هذا الأثر. فلما وقفت على إسناده تكلمت عليه بتفصيل ، وألحقته بالحديث المشار إليه.

وجملة القول : أن هذا الأثر لا يصح عن عمر ، كما لا يصح عن غيره مرفوعا ، والله ولي التوفيق. وراجع لهذا البحث كتاب «رفع الاستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار». للعلامة الصنعاني بتقديمي وتعليقي.

وقد روي نحوه عن عبد الله بن عمرو موقوفا بسنده ضعيف ، وأبي أمامة مرفوعا بسند فيه تالف ، وقد تكلمت عليه في «سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة» كما تقدم قريبا.

(٦٠٢) متفق عليه وقد تقدم الحديث (رقم ٣٠٨).

(٦٠٣) قال عفيفي : انظر (٢٥٤ ـ ٢٧٩) من «أحاديث الأرواح».

(٦٠٤) صحيح أخرجه مسلم في حديث لأبي هريرة في عقوبة مانع الزكاة يوم القيامة. وفي الباب عن ابن عمرو عند الحاكم. (٤ / ٥٧٢) وصححه ووافقه الذهبي.

٤٢٩

وليس في حكمة أحكم الحاكمين ورحمة أرحم الراحمين أن يخلق خلقا يعذبهم أبد الآباد عذابا سرمدا لا نهاية له. وأما أنه يخلق خلقا ينعم عليهم ويحسن إليهم نعيما سرمدا ، فمن مقتضى الحكمة. والإحسان مراد لذاته ، والانتقام مراد بالعرض. قالوا : وما ورد من الخلود فيها ، والتأبيد ، وعدم الخروج ، وأن عذابها مقيم ، وأنه غرام ـ : كله حق مسلّم ، لا نزاع فيه ، وذلك يقتضي الخلود في دار العذاب ما دامت باقية ، وإنما يخرج منها في حال بقائها أهل التوحيد. ففرق بين من يخرج من الحبس وهو حبس على حاله ، وبين من يبطل حبسه بخراب الحبس وانتقاضه.

ومن أدلة القائلين ببقائها وعدم فنائها : قوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) المائدة : ٣٧ (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) الزخرف : ٧٥. (فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) النبأ : ٣٠ (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) البينة : ٨. (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) (٦٠٥) الحجر : ٤٨. (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) البقرة : ١٦٧ (لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) الاعراف : ٤٠. (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ، وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) فاطر : ٣٦. (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) الفرقان : ٦٥ ، أي مقيما لازما. وقد دلت السنة المستفيضة أنه يخرج من النار من قال : لا إله إلا الله : وأحاديث الشفاعة (٦٠٦) صريحة في خروج عصاة الموحدين من النار ، وأن هذا حكم مختصّ بهم ، فلو خرج الكفار منها لكانوا بمنزلتهم ، ولم يختصّ الخروج بأهل الإيمان. وبقاء الجنة والنار ليس لذاتهما ، بل بإبقاء الله لهما (٦٠٧).

وقوله : وخلق لهما أهلا ـ قال تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِ

__________________

(٦٠٥) هذه الآية في أهل الجنة كما تقدم (ص ٤٢٦) فلعله أراد آية المائدة ٣٧ (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) ، وقد وقع هذا الوهم لابن القيم وغيره فانظر تعليقي على «رفع الاستار لإبطال ادلة القائلين بفناء النار» (ص).

(٦٠٦) آخر الجزء الأول من «مختصر الموصلي للصواعق المرسلة».

(٦٠٧) قلت : وهذه الأدلة قاطعة في بقاء النار وأهلها فيها من الكفار ، بخلاف أدلة القول الذي قبله ، فليس فيها شيء صريح ، كما بسطه الإمام الصنعاني في «رفع الاستار» ، فكن رجلا يعرف الحق بدليله وليس بالرجال ، فكل أحد يؤخذ من قوله ويرد الا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٤٣٠

وَالْإِنْسِ) الاعراف : ١٧٩ ، الآية. وعن عائشة رضي الله عنها ، قالت : دعي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار ، فقلت : يا رسول الله ، طوبى لهذا ، عصفور من عصافير الجنة ، لم يعمل سوءا ولم يدركه ، فقال : «أو غير ذلك يا عائشة ، إن الله خلق للجنة أهلا ، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق للنار أهلا ، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم» (٦٠٨). رواه مسلّم وأبو داود والنسائي. وقال تعالى : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ ، فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً. إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ ، إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) الدهر : ٢ ـ ٣. والمراد الهداية العامة ، وأعم منها الهداية المذكورة في قوله تعالى : (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) طه : ٥٠. فالموجودات نوعان : أحدهما مسخّر بطبعه ، والثاني متحرك بإرادته فهدى الأول لما سخّره له طبيعة ، وهدى الثاني هداية إرادية تابعة لشعوره وعلمه بما ينفعه ويضره. ثم قسم هذا النوع الى ثلاثة أنواع : نوع لا يريد إلا الخير ولا يتأتى منه إرادة سواه ، كالملائكة ، ونوع لا يريد إلا الشر ولا يتأتى منه إرادة سواه ، كالشياطين ، ونوع يتأتى منه إرادة القسمين ، كالإنسان. ثم جعله ثلاثة أصناف : صنفا يغلب إيمانه ومعرفته وعقله هواه وشهوته ، فيلتحق بالملائكة. وصنفا عكسه ، فيلتحق بالشياطين. وصنفا تغلب شهوته البهيمية عقله ، فيلتحق بالبهائم. والمقصود : أنه سبحانه أعطى الوجودين : العيني والعلمي ، فكما أنه لا موجود إلا بإيجاده ، فلا هداية إلا بتعليمه ، وذلك كله من الأدلة على كمال قدرته ، وثبوت وحدانيته ، وتحقيق ربوبيته ، سبحانه وتعالى.

وقوله : فمن شاء منهم الى الجنة فضلا منه ، ومن شاء منهم الى النار عدلا منه ، الخ ـ مما يجب أن يعلم : أن الله تعالى لا يمنع الثواب إلا اذا منع سببه ، وهو العمل الصالح ، فإنه : (مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) طه : ١١٢. وكذلك لا يعاقب أحدا إلا بعد حصول سبب العقاب ، فإن الله تعالى يقول : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ، وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) الشورى : ٣٠. وهو سبحانه المعطي المانع ، لا مانع لما أعطى ، ولا معطي لما منع.

__________________

(٦٠٨) صحيح ، وهو مخرج في «ظلال الجنة تخريج السنة» لابن أبي عاصم (٢٥١).

٤٣١

لكن إذا من على الإنسان بالإيمان [والعمل] الصالح ، فلا (٦٠٩) يمنعه موجب ذلك أصلا ، بل يعطيه من الثواب والقرب ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. وحيث منعه ذلك فلانتفاء سببه ، وهو العمل الصالح. ولا ريب أنه يهدي من يشاء ، ويضل من يشاء ، لكن ذلك كله حكمة منه وعدل ، فمنعه للأسباب التي هي الأعمال الصالحة من حكمته وعدله. وأما المسببات بعد وجود أسبابها ، فلا يمنعها بحال ، إذا لم تكن أسبابا غير صالحة ، إما لفساد في العمل ، وإما لسبب يعارض موجبه ومقتضاه ، فيكون ذلك لعدم المقتضي ، أو لوجود المانع. وإذا كان منعه وعقوبته من عدم الإيمان والعمل الصالح ، وهو لم يعط ذلك [ابتلاء] وابتداء [إلا] حكمة منه وعدلا. فله الحمد في الحالين ، وهو المحمود على كل حال ، كل عطاء منه فضل ، وكل عقوبة منه عدل ، فإن الله تعالى حكيم يضع الأشياء في مواضعها التي تصلح لها ، كما قال تعالى : (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ، اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) الانعام : ١٢٤. وكما قال تعالى : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ، لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا ، أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) الانعام : ٥٣. ونحو ذلك. وسيأتي [لذلك] زيادة ، إن شاء الله تعالى.

قوله : (والاستطاعة التي يجب بها الفعل ، من نحو التوفيق الذي لا [يجوز أن] يوصف المخلوق به ـ [تكون] مع الفعل .. وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع ، والتمكن (٦١٠) وسلامة الآلات ـ فهي قبل الفعل ، وبها يتعلق الخطاب ، وهو كما قال تعالى (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) البقرة : ٢٨٦ ..

ش : الاستطاعة والطاقة والقدرة والوسع ، ألفاظ متقاربة. وتنقسم الاستطاعة الى قسمين ، كما ذكره الشيخ رحمه‌الله ، وهو قول عامة أهل السنة ، وهو الوسط. وقالت القدرية والمعتزلة : لا تكون القدرة الا قبل الفعل. وقابلهم طائفة من أهل السنة [فقالوا لا تكون إلا مع الفعل.

__________________

(٦٠٩) في الاصل : لا.

(٦١٠) في الاصل : والتمكين.

٤٣٢

والذي قاله عامة أهل السنة] : أن للعبد قدرة هي مناط الأمر ولنهي ، وهذه قد تكون قبله ، لا يجب أن تكون معه ، والقدرة التي بها الفعل لا بد أن تكون مع الفعل ، لا يجوز أن يوجد الفعل بقدرة معدومة.

وأما القدرة التي من جهة الصحة والوسع ، والتمكن وسلامة الآلات ـ فقد تتقدم الأفعال. وهذه القدرة المذكورة في قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) آل عمران : ٩٧. فأوجب الحج على المستطيع ، فلو لم يستطع إلا من حج لم يكن الحجّ قد وجب إلّا على من حج ، ولم يعاقب أحدا على ترك الحج! وهذا خلاف المعلوم بالضرورة من دين الاسلام. وكذلك قوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) التغابن : ١٦. فأوجب التقوى بحسب الاستطاعة ، فلو كان من لم يتق الله لم يستطع التقوى ، لم يكن قد أوجب التقوى إلا على من اتقى ، ولم يعاقب من لم يتق! وهذا معلوم الفساد. وكذا قوله تعالى : (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً). المجادلة : ٤. والمراد منه استطاعة الأسباب والآلات وكذا ما حكاه سبحانه من قول المنافقين : (لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) التوبة : ٤٣. وكذّبهم في ذلك القول ، ولو كانوا أرادوا الاستطاعة التي هي حقيقة قدرة الفعل ـ ما كانوا بنفيهم عن أنفسهم كاذبين ، وحيث كذّبهم دل [على] أنهم أرادوا بذلك المرض أو فقد المال ، على ما بين تعالى بقوله : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى) التوبة : ٩١ ، الى أن قال : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ) التوبة : ٩٣. وكذلك قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) النساء : ٢٥. والمراد : استطاعة الآلات والأسباب. ومن ذلك قول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمران بن حصين : «صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فعلى جنيب» (٦١١). إنما نفى استطاعة الفعل معها.

وأما ثبوت الاستطاعة التي هي حقيقة القدرة ، فقد ذكروا فيها قوله تعالى : (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) هود : ٢٠. والمراد نفي حقيقة

__________________

(٦١١) البخاري وغيره «صفة الصلاة» (ص ٥٨ ـ الطبعة الحادية عشرة)

.

٤٣٣

القدرة ، لا نفي الأسباب والآلات ، لأنها كانت ثابتة. وسيأتي لذلك زيادة بيان عند قوله : ولا يطيقون إلا ما كلفهم ، إن شاء الله تعالى. وكذا قول صاحب موسى : (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) الكهف : ٦٧. وقوله : (أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) الكهف : ٧٥. والمراد منه حقيقة قدرة الصبر ، لا أسباب [الصبر] وآلاته ، فإن تلك كانت ثابتة له ، ألا ترى أنه عاتبه على ذلك؟ ولا يلام من عدم آلات الفعل وأسبابه على عدم الفعل ، وإنما يلام من امتنع من الفعل لتضييع قدرة الفعل ، لاشتغاله بغير ما أمر به ، أو [لعدم] شغله إيّاها بفعل ما أمر به. ومن قال : إن القدرة لا تكون إلا حين الفعل ـ يقولون : ان القدرة لا تصلح للضدين ، فإن القدرة المقارنة للفعل لا تصلح إلا لذلك الفعل ، وهي مستلزمة له ، لا توجد بدونه. وما قالته القدرية ـ بناء على أصلهم الفاسد ، وهو إقدار (٦١٢) الله للمؤمن والكافر والبر والفاجر سواء ، فلا يقولون إن الله خص المؤمن المطيع بإعانة حصّل بها الإيمان ، بل هذا بنفسه رجح الطاعة ، وهذا بنفسه رجح المعصية! كالوالد الذي أعطى كل واحد من بنيه سيفا ، فهذا جاهد به في سبيل الله ، وهذا قطع به الطريق ـ : وهذا القول فاسد باتفاق أهل السنة والجماعة المثبتين للقدر ، فإنهم متفقون على أن لله على عبده المطيع نعمة دينية ، خصه بها دون الكافر ، وأنه أعانه على الطاعة إعانة لم يعن بها الكافر. كما قال تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ، وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ ، أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) الحجرات : ٧ ، فالقدرية يقولون : إنّ هذا التحبيب والتزيين عامّ في كل الخلق ، وهو بمعنى البيان وإظهار دلائل الحق. والآية تقتضي أن هذا خاصّ بالمؤمن ، ولهذا قال : (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) الحجرات : ٧. والكفار ليسوا راشدين. وقال تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ، وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ ، كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) الانعام : ١٢٥. وأمثال هذه الآية في القرآن كثير ، يبين أن سبحانه هدى هذا وأضل هذا. قال تعالى : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ، وَمَنْ يُضْلِلْ

__________________

(٦١٢). في الاصل : اقرار.

٤٣٤

فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) الكهف : ١٧. وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان ، إن شاء الله تعالى.

وأيضا فقول القائل : يرجح بلا مرجح ـ إن كان لقوله : يرجح ، معنى زائد على الفعل ، فذاك هو السبب المرجح ، وان لم يكن له معنى زائد كان حال الفاعل قبل وجود الفعل كحاله عند الفعل ، ثم الفعل حصل في إحدى الحالتين دون الأخرى بلا مرجح! وهذا مكابرة للعقل!! فلما كان أصل قول القدرية أن فاعل الطاعات وتاركها كلاهما في الإعانة والإقدار سواء ـ امتنع على أصلهم أن يكون مع الفعل قدرة تخصّه ، لأن القدرة التي تخص الفعل لا تكون للتارك ، وإنما تكون للفاعل ، ولا تكون القدرة إلا من الله تعالى. وهم لما رأوا أن القدرة لا بد أن تكون قبل الفعل ، قالوا : لا تكون مع الفعل ، لأن القدرة هي التي يكون بها الفعل والترك ، وحال وجود الفعل يمتنع الترك ، فلهذا قالوا : القدرة لا تكون إلا قبل الفعل! وهذا باطل مطلقا ، فإن وجود الأمر مع عدم بعض شروطه الوجودية ممتنع ، بل لا بد أن يكون جميع ما يتوقف عليه الفعل من الأمور الوجودية موجودا عند الفعل. فنقيض قولهم حق ، وهو : أن الفعل لا بد أن يكون معه قدرة.

لكن صار أهل الإثبات هنا حزبين : حزب قالوا : لا تكون القدرة إلا معه ، ظنّا منهم أن القدرة نوع واحد لا يصلح للضدين ، وظنّا من بعضهم أن القدرة عرض ، فلا تبقى زمانين ، فيمتنع وجودها قبل الفعل. والصواب : أن القدرة نوعان كما تقدم : نوع مصحح للفعل ، يمكن معه الفعل والترك ، وهذه هي التي يتعلق بها الأمر والنهي ، وهذه تحصل للمطيع والعاصي ، وتكون قبل الفعل ، وهذه تبقى الى حين الفعل ، إما بنفسها عند من يقول ببقاء الأعراض ، وإما بتجدد أمثالها عند من يقول إن الأعراض لا تبقى زمانين ، وهذه قد تصلح للضدّين ، وأمر الله مشروط بهذه الطاقة ، فلا يكلف الله من ليس معه هذه الطاقة ، وضد هذه العجز ، كما تقدم. وأيضا : فالاستطاعة المشروطة في الشرع أخص من الاستطاعة التي يمتنع الفعل مع عدمها ، فإن الاستطاعة الشرعية قد تكون ما يتصوّر الفعل مع عدمها وإن لم يعجز عنه. فالشارع ييسر على عباده ، ويريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر ، وما جعل عليكم في الدين من حرج ، والمريض قد يستطيع القيام مع زيادة

٤٣٥

المرض وتأخر برئه ، فهذا في الشرع غير مستطيع ، لأجل حصول الضرر عليه ، وإن كان قد يسمى مستطيعا. فالشارع لا ينظر في الاستطاعة الشرعية الى مجرد إمكان الفعل ، بل ينظر الى لوازم ذلك ، فإن كان الفعل ممكنا مع المفسدة الراجحة لم تكن هذه استطاعة شرعية ، كالذي يقدر على الحج مع ضرر يلحقه في بدنه أو ماله ، أو يصلي قائما مع زيادة مرضه ، أو يصوم الشهرين مع انقطاعه عن معيشته ، ونحو ذلك. فإذا كان الشارع قد اعتبر في المكنة عدم المفسدة الراجحة ، فكيف يكلّف مع العجز؟ ولكن هذه الاستطاعة ـ مع بقائها الى حين الفعل لا تكفي في وجود الفعل ، ولو كانت كافية لكان التارك كالفاعل ، بل لا بد من إحداث إعانة أخرى تقارن ، مثل جعل الفاعل مريدا ، فإن الفعل لا يتم إلا بقدرة واردة ، والاستطاعة المقارنة تدخل فيها الإرادة الجازمة ، بخلاف المشروطة في التكليف ، فإنه لا يشترط فيها الإرادة. فالله تعالى يأمر بالفعل من لا يريده ، لكن لا يأمر به من لو أراده لعجز عنه. وهكذا أمر الناس بعضهم لبعض ، فالانسان يأمر عبده بما لا يريده العبد ، لكن لا يأمره بما يعجز عنه العبد ، وإذا اجتمعت الإرادة الجازمة والقوة التامة ، لزم وجود الفعل. وعلى هذا ينبني تكليف ما لا يطاق ، فإن من قال : القدرة لا تكون إلا مع الفعل ـ يقول : كل كافر وفاسق قد كلّف ما لا يطيق. وما لا يطاق يفسّر بشيئين : بما لا يطاق للعجز عنه ، فهذا لم يكلفه الله أحدا ، ويفسّر بما لا يطاق للاشتغال بضده ، فهذا هو الذي وقع فيه التكليف ، كما في أمر العباد بعضهم بعضا ، فإنهم يفرقون بين هذا وهذا ، فلا يأمر السيد عبده الأعمى بنقط المصاحف! ويأمره إذا كان قاعدا أن يقوم ، ويعلم الفرق بين الأمرين بالضرورة.

قوله : (وأفعال العباد [هي] خلق الله وكسب من العباد).

ش : اختلف الناس في أفعال العباد الاختيارية. فزعمت الجبرية ورئيسهم الجهم بن صفوان السمرقندي : أن التدبير في أفعال الخلق كلها لله تعالى ، وهي كلها اضطرارية ، كحركات المرتعش ، والعروق النابضة ، وحركات الأشجار ، وإضافتها الى الخلق مجاز! وهي على حسب ما يضاف الشيء الى محله دون ما يضاف الى محصله! وقابلتهم المعتزلة ، فقالوا : إن جميع الأفعال الاختيارية من جميع الحيوانات بخلقها ، لا تعلق لها بخلق الله تعالى. واختلفوا فيما بينهم : أن الله تعالى

٤٣٦

يقدر على أفعال العباد أم لا؟!

وقال أهل الحق : أفعال العباد بها صاروا مطيعين وعصاة ، وهي مخلوقة لله تعالى ، والحق سبحانه وتعالى منفرد بخلق المخلوقات ، لا خالق لها سواه. فالجبرية غلوا في إثبات القدر ، فنفوا صنع العبد [أصلا] ، كما عملت المشبهة في إثبات الصفات ، فشبهوا. والقدرية نفاة القدر جعلوا العباد خالقين مع الله تعالى. ولهذا كانوا «مجوس هذه الأمة» ، بل أردأ من المجوس ، من حيث إن المجوس أثبتوا خالقين ، وهم أثبتوا خالقين!! وهدى الله المؤمنين أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ، والله يهدي من يشاء الى صراط مستقيم. فكل دليل صحيح يقيمه الجبري ، فإنما يدل على أن الله خالق كل شيء ، وأنه على كل شيء قدير ، وأن أفعال العباد من جملة مخلوقاته ، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، ولا يدل على أن العبد ليس بفاعل في الحقيقة ولا مريد ولا مختار ، وأن حركاته الاختيارية بمنزلة حركة المرتعش وهبوب الرياح وحركات الأشجار. وكل دليل صحيح يقيمه القدري فإنما يدل على أن العبد فاعل لفعله حقيقة ، وأنه مريد له مختار له حقيقة ، وأن إضافته ونسبته إليه إضافة حق ، ولا يدل على أنه غير مقدور لله تعالى وأنه واقع بغير مشيئته وقدرته. فإذا ضممت ما مع كل طائفة منهما من الحق الى حق الأخرى ـ فإنما يدل ذلك على ما دل عليه القرآن وسائر كتب الله المنزلة ، من عموم قدرة الله ومشيئته لجميع ما في الكون من الأعيان والافعال ، وأن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة ، وأنهم يستوجبون عليها المدح والذم.

وهذا هو الواقع في نفس الأمر ، فإن أدلة الحق لا تتعارض ، والحق يصدّق بعضه بعضا. ويضيق هذا المختصر عن ذكر أدلة الفريقين ، ولكنها تتكافأ وتتساقط ، ويستفاد من دليل كل فريق بطلان قول الآخر. ولكن أذكر شيئا مما استدل به كل من الفريقين ، ثم أبيّن أنه لا يدل على ما استدل عليه من الباطل :

فما استدلت به الجبرية ، قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) الانفال : ١٧. فنفى الله عن نبيه الرمي ، وأثبته لنفسه سبحانه ، فدل على أنه لا صنع للعبد. قالوا : والجزاء غير مرتب على الأعمال ، بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لن يدخل أحد الجنة بعمله» ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : «ولا أنا ، إلّا أن

٤٣٧

يتغمدني الله برحمة منه وفضل» (٦١٣).

ومما استدل به القدرية ، قوله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) المؤمنون : ١٤. قالوا : والجزاء مرتب على الأعمال ترتب العوض ، كما قال تعالى : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) الم السجدة : ١٧ والأحقاف : ١٤ والواقعة : ٢٤. (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الاعراف : ٤٢. ونحو ذلك.

فأما ما استدلت به الجبرية من قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) الانفال : ١٧ ـ فهو دليل عليهم ، لأنه تعالى أثبت لرسوله [صلى‌الله‌عليه‌وسلم] رميا ، بقوله : (إِذْ رَمَيْتَ) ، فعلم أن المثبت غير المنفي ، وذلك أن الرمي له ابتداء وانتهاء : فابتداؤه الحذف ، وانتهاؤه الإصابة ، وكل منهما يسمى رميا ، فالمعنى حينئذ ـ والله تعالى أعلم : وما أصبت إذ حذفت ولكن الله أصاب. وإلا فطرد قولهم : وما صليت إذ صليت ولكن الله صلى! وما صمت إذ صمت! وما زنيت إذ زنيت! وما سرقت اذ سرقت!! وفساد هذا ظاهر.

وأما ترتّب الجزاء على الأعمال ، فقد ضلت فيه الجبرية والقدرية ، وهدى الله أهل السنة ، وله الحمد والمنّة. فإن الباء التي في النفي غير الباء التي في الإثبات ، فالمنفي في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لن يدخل الجنة أحد بعمله» ـ باء العوض ، وهو أن يكون العمل كالثمن لدخول الرجل الى الجنة ، كما زعمت المعتزلة أن العامل مستحقّ دخول الجنة على ربه بعمله! بل ذلك برحمة الله وفضله. والباء التي في قوله تعالى :

(جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) الم السجدة : ١٧ وغيرها ، باء السبب ، أي بسبب عملكم ، والله تعالى هو خالق الأسباب والمسببات ، فرجع الكل الى محض فضل الله ورحمته.

وأما استدلال المعتزلة بقوله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) المؤمنون :

١٤ ـ فمعنى الآية : أحسن المصوّرين المقدّرين. و «الخلق» يذكر ويراد به التقدير ، وهو المراد هنا ، بدليل قوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) الرعد : ١٨

__________________

(٦١٣) مسلم عن حديث أبي هريرة وجابر وعائشة بألفاظ متقاربة.

٤٣٨

والزمر : ٦٢ ، أي الله خالق كل شيء مخلوق ، فخدلت أفعال العباد في عموم : كل. وما أفسد قولهم في إدخال كلام الله تعالى في عموم : كل ، الذي هو صفة من صفاته ، يستحيل عليه أن يكون مخلوقا! وأخرجوا أفعالهم التي هي مخلوقة من عموم : كل!! وهل يدخل في عموم : كل إلا ما هو مخلوق؟! فذاته المقدسة وصفاته غير داخلة في هذا العموم ، ودخل سائر المخلوقات في عمومها. وكذا قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) الصافات : ٩٦. ولا نقول إن : «ما» مصدرية ، أي خلقكم وعملكم ـ إذ سياق الآية يأباه ، لأن ابراهيم عليه‌السلام إنما أنكر عليهم عبادة المنحوت ، لا النحت ، والآية تدل على أن المنحوت مخلوق لله تعالى ، وهو ما صار منحوتا إلا بفعلهم ، فيكون ما هو من آثار فعلهم مخلوقا لله تعالى ، ولو لم يكن النحت مخلوقا لله تعالى لم يكن المنحوت مخلوقا له ، بل الخشب أو الحجر لا غير. وذكر أبو الحسين البصري إمام المتأخرين من المعتزلة : أن العلم بأن العبد يحدث فعله ـ ضروري. وذكر الرازي أن افتقار الفعل المحدث الممكن الى مرجّح يجب وجوده عنده ويمتنع عنده عدمه ـ ضروري ، وكلاهما صادق فيما ذكره من العلم الضروري ، ثم ادعاء كل منهما أن هذا العلم الضروري يبطل ما ادعاه الاخر من الضرورة ـ غير مسلّم ، بل كلاهما صادق فيما ادعاه من العلم الضروري ، وإنما وقع غلطه في إنكاره ما مع الآخر من الحق. فإنه لا منافاة بين كون العبد محدثا لفعله وكون هذا الإحداث وجب وجوده بمشيئة الله تعالى ، كما قال تعالى : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها. فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) الشمس : ٧ ـ ٨. فقوله : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) الشمس : ٨ ـ إثبات للقدر بقوله : (فَأَلْهَمَها) ، وإثبات لفعل العبد بإضافة الفجور والتقوى الى نفسه ، ليعلم أنها هي الفاجرة والمتقية. وقوله بعد ذلك : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) الشمس : ٩ ـ ١٠ ـ إثبات أيضا لفعل العبد. ونظائر ذلك كثيرة.

وهذه شبهة أخرى من شبه القوم التي فرّقتهم ، بل مزّقتهم كل ممزّق ، وهي : أنهم قالوا : كيف يستقيم الحكم على قولكم بأن الله يعذب المكلفين على ذنوبهم وهو خلقها فيهم؟ فأين العدل في تعذيبهم على ما هو خالقه وفاعله فيهم؟ وهذا السؤال لم يزل مطروقا في العالم على ألسنة الناس ، وكل منهم يتكلم في جوابه

٤٣٩

بحسب علمه ومعرفته ، وعنه تفرقت بهم الطرق : فطائفة أخرجت أفعالهم عن قدرة الله تعالى ، وطائفة أنكرت الحكم والتعليل ، وسدّت باب السؤال. وطائفة أثبتت كسبا لا يعقل! جعلت الثواب [والعقاب] عليه. وطائفة التزمت لأجله وقوع مقدور بين قادرين ، ومفعول بين فاعلين! وطائفة التزمت الجبر ، وأن الله يعذبهم على ما لا يقدرون عليه! وهذا السؤال هو الذي أوجب التفرق والاختلاف.

والجواب الصحيح عنه ، أن يقال : إن ما يبتلى به العبد من الذنوب الوجودية ، وإن كانت خلقا لله تعالى ، فهي عقوبة له على ذنوب قبلها ، فالذنب يكسب الذنب ، ومن عقاب السيئة السيئة بعدها. فالذنوب كالأمراض التي يورث بعضها بعضا. يبقى أن يقال : فالكلام في الذنب الأول الجالب لما بعده من الذنوب؟ يقال : هو عقوبة أيضا على عدم فعل ما خلق له وفطر عليه ، فإن الله سبحانه خلقه لعبادته وحده لا شريك له ، وفطره على محبته وتأليهه والإنابة إليه ، كما قال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ، فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) الروم : ٣٠. فلما لم يفعل ما خلق له وفطر عليه ، من محبة الله وعبوديته ، والإنابة إليه ـ عوقب على ذلك بأن زين له الشيطان ما يفعله من الشرك والمعاصي ، فإنه صادف قلبا خاليا قابلا للخير والشر ، ولو كان فيه الخير الذي يمنع ضدّه لم يتمكن منه الشر ، كما قال تعالى : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) يوسف : ٢٤. وقال إبليس : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) ص : ٨٢ ـ ٨٣. وقال الله عزوجل : (هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ. إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) الحجر : ٤١ ـ ٤٢. والإخلاص : خلوص القلب من تأليه ما سوى الله تعالى وإرادته ومحبته ، فخلص لله ، فلم يتمكن منه الشيطان. وأما إذا صادفه فارغا من ذلك ، تمكن منه بحسب فراغه ، فيكون جعله مذنبا مسيئا في هذه الحال عقوبة له على عدم هذا الإخلاص. وهي محض العدل.

فإن قلت : فذلك العدم من خلقه فيه؟ قيل : هذا سؤال فاسد ، فإن العدم كاسمه ، لا يفتقر الى تعلق التكوين والإحداث به ، فإن عدم الفعل ليس أمرا وجوديّا حتى يضاف الى الفاعل ، بل هو شر محض ، والشر ليس الى الله سبحانه ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث الاستفتاح : «لبيك وسعديك ، والخير كله في يديك ،

٤٤٠