شرح العقيدة الطّحاويّة

ابن أبي العزّ الحنفي

شرح العقيدة الطّحاويّة

المؤلف:

ابن أبي العزّ الحنفي


المحقق: الشيخ محمّد ناصر الدين الألباني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بغداد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٤

من رياض الجنة ، لا يصل من هذا الى جاره شيء من حرّ ناره ، ولا من هذا الى جاره شيء من نعيمه. وقدرة الله أوسع من ذلك وأعجب ، ولكن النفوس مولعة بالتكذيب بما لم تحط به علما. وقد أرانا الله في هذه الدار من عجائب قدرته ما هو أبلغ من هذا بكثير. وإذا شاء الله أن يطلع على ذلك بعض عباده أطلعه وغيّبه عن غيره ، ولو اطلع الله على ذلك العباد كلهم لزالت حكمة التكليف والإيمان بالغيب ، ولما تدافن الناس ، كما في «الصحيح» عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو لا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع» (٥٣٠). ولمّا كانت هذه الحكمة منتفية في حق البهائم سمعته وأدركته.

وللناس في سؤال منكر ونكير : هل هو خاص بهذه الأمة أم لا ثلاثة أقوال : الثالث التوقف ، وهو قول جماعة ، منهم أبو عمر بن عبد البر ، فقال : وفي حديث زيد بن ثابت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «إن هذه الأمة تبتلى في قبورها» (٥٣١) ـ منهم من يرويه «تسأل» ، وعلى هذا اللفظ يحتمل أن تكون هذه الأمة قد خصت بذلك ، وهذا أمر لا يقطع به ، ويظهر عدم الاختصاص ، والله أعلم. وكذلك اختلف في سؤال الأطفال أيضا : وهل يدوم عذاب القبر أو ينقطع؟ جوابه أنه نوعان : منه ما هو دائم ، كما قال تعالى : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا ، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) غافر : ٤٦. وكذلك في حديث البراء بن عازب في قصة الكافر : «ثم يفتح له باب الى النار فينظر الى مقعده فيها حتى تقوم الساعة» (٥٣٢) ، رواه الإمام أحمد في بعض طرقه. والنوع الثاني : أنه مدة ثم ينقطع ، وهو عذاب بعض العصاة الذين خفّت جرائمهم ، فيعذب بحسب جرمه ، ثم يخفف عنه ، كما تقدم ذكره [في] الممحّصات العشرة.

وقد اختلف في مستقرّ الأرواح ما بين الموت الى قيام الساعة : فقيل : أرواح المؤمنين في الجنة ، وأرواح الكافرين في النار ، وقيل : إن أرواح المؤمنين بفناء الجنة

__________________

(٥٣٠) اخرجه مسلم عن أبي سعيد وعن أنس ، لكن دون قوله : «ما اسمع».

(٥٣١) مسلم واحمد ، وهو مخرج في «الصحيحة» (١٥٩).

(٥٣٢) صحيح ، وقد تقدم بتمامه الحديث (رقم ٥٢٥).

٤٠١

على بابها ، يأتيهم من روحها ونعيمها ورزقها. وقيل : على أفنية قبورهم. وقال مالك : بلغني أن الروح مرسلة ، تذهب حيث شاءت. وقالت طائفة : بل أرواح المؤمنين عند الله عزوجل ، ولم يزيدوا على ذلك. وقيل إن أرواح المؤمنين بالجابية من دمشق ، وأرواح الكافرين ببرهوت بئر بحضرموت! وقال كعب : أرواح المؤمنين في عليين في السماء السابعة ، وأرواح الكافرين في سجين في الأرض السابعة تحت خدّ إبليس (٥٣٣)! وقيل : أرواح المؤمنين ببئر زمزم ، وأرواح الكافرين ببئر برهوت. وقيل : أرواح المؤمنين عن يمين آدم ، وأرواح الكفار عن شماله. قال ابن حزم وغيره : مستقرها حيث كانت قبل خلق أجسادها. وقال أبو عمر بن عبد البر : أرواح الشهداء في الجنة ، وأرواح عامة المؤمنين على أفنية قبورهم. وعن ابن شهاب أنه قال : بلغني أن أرواح الشهداء كطير خضر معلّقة بالعرش ، تغدو وتروح الى رياض الجنة ، تأتي ربها كل يوم تسلم عليه. وقالت فرقة : مستقرّها العدم المحض. وهذا قول من يقول : إن النفس عرض من أعراض البدن ، كحياته وإدراكه! وقولهم مخالف للكتاب والسنة. وقالت فرقة : مستقرها بعد الموت أبدان أخر تناسب أخلاقها وصفاتها التي اكتسبتها في حال حياتها ، فتصير كل روح الى بدن حيوان يشاكل تلك الروح! وهذا قول التناسخية منكري المعاد ، وهو قول خارج عن أهل الاسلام كلهم. ويضيق هذا المختصر عن بسط أدلة هذه الأقوال والكلام عليها.

ويتلخص من أدلتها : أن الأرواح في البرزخ متفاوتة أعظم تفاوت ، فمنها : أرواح في أعلى عليين ، في الملأ الأعلى (٥٣٤) ، وهي أرواح الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه ، وهم متفاوتون في منازلهم. ومنها أرواح في حواصل طير خضر ، تسرح في الجنة حيث شاءت ، وهي أرواح بعض الشهداء ، لا كلّهم ، بل من الشهداء من تحبس روحه عن دخول الجنة لدين عليه. كما في «المسند» عن عبد

__________________

(٥٣٣) قال عفيفي : انظر المسألة الثانية عشرة من كتاب «الروح».

(٥٣٤) قال عفيفي : انظر قول العلماء في مستقر الارواح بعد الموت وقبل يوم القيامة في المسألة الخامسة عشرة من كتاب «الروح» لابن القيم.

٤٠٢

الله بن جحش (٥٣٥) : أن رجلا جاء الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا رسول الله : ما لي إن قتلت في سبيل الله؟ قال : «الجنة» ، فلما ولىّ ، قال : «إلا الدّين ، سارني به جبرائيل آنفا» (٥٣٦). ومن الأرواح من يكون محبوسا على باب الجنة ، كما في الحديث [الذي] قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رأيت صاحبكم محبوسا على باب الجنة» (٥٣٧) ومنهم من يكون محبوسا في قبره ، ومنهم من يكون في الارض ، ومنها أرواح في تنوّر الزّناة والزواني ، وأرواح في نهر الدم تسبح فيه وتلقم الحجارة ، كل ذلك تشهد له السّنة ، والله أعلم. وأما الحياة التي اختص بها الشهيد وامتاز بها عن غيره ، في قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) آل عمران : ١٦٩ ، وقوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) البقرة : ١٥٤ ـ [فهي] : أن الله تعالى جعل أرواحهم في أجواف طير خضر. كما في حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لما أصيب إخوانكم ، يعني يوم أحد ، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ، ترد أنهار الجنة ، وتأكل من ثمارها ، وتأوي الى قناديل من ذهب مظلّة في ظل العرش» (٥٣٨) ، الحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود ، وبمعناه في حديث ابن مسعود ، رواه مسلم. فإنهم لما بذلوا أبدانهم لله عزوجل حتى أتلفها أعداؤه فيه ، أعاضهم منها في البرزخ أبدانا خيرا منها ، تكون فيها الى يوم القيامة ، ويكون تنعمها بواسطة تلك الأبدان ، أكمل من تنعّم الأرواح المجردة عنها. ولهذا كانت نسمة المؤمن في صورة طير ، أو كطير ، ونسمة الشهيد في جوف طير. وتأمل لفظ الحديثين ، ففي الموطأ أن كعب بن مالك كان يحدث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «إن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة ، حتى يرجعه

__________________

(٥٣٥) في الاصل : عن محمد بن عبد الله بن محسن.

(٥٣٦) صحيح ، «مسند أحمد» (٤ / ١٣٩ و ٣٥٠).

(٥٣٧) صحيح «أحكام الجنائز» (١٥).

(٥٣٨) صحيح ، واخرجه الحاكم ، وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبى ، وانظر «المشكاة» (٣٨٥٣).

٤٠٣

[الله] الى جسده يوم يبعثه» (٥٣٩). فقوله «نسمة المؤمن» تعم الشهيد وغيره ، ثم خص الشهيد بأن قال : «هي في جوف طير خضر» ، ومعلوم أنها إذا كانت في جوف طير صدق عليها أنها طير ، فتدخل في عموم الحديث الآخر بهذا الاعتبار ، فنصيبهم من النعيم في البرزخ أكمل من نصيب غيرهم من الأموات على فرشهم ، وإن كان الميت أعلى درجة من كثير منهم ، فلهم نعيم يختص به لا يشاركه فيه من هو دونه ، والله أعلم. وحرم الله على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ، كما روي في «السنن». وأما الشهداء فقد شوهد منهم بعد مدد من دفنه كما هو لم يتغير ، فيحتمل بقاؤه كذلك في تربته الى يوم محشره ، ويحتمل أنه يبلى مع طول المدة ، والله أعلم. وكأنه ـ والله أعلم ـ كلما كانت الشهادة أكمل ، والشهيد أفضل ، كان بقاء جسده أطول.

قوله : ونؤمن بالبعث وجزاء الأعمال يوم القيامة ، والعرض والحساب ، وقراءة الكتاب ، والثواب والعقاب ، والصراط والميزان.

ش : الإيمان بالمعاد مما دل عليه الكتاب والسنة ، والعقل والفطرة السليمة. فأخبر الله سبحانه عنه في كتابه العزيز ، وأقام الدليل عليه ، وردّ على منكريه في غالب سور القرآن. وذلك : أن الأنبياء عليهم‌السلام كلهم متفقون على الإيمان بالله (٥٤٠) ، فإن الاقرار بالربّ عام في بني آدم ، وهو فطريّ ، كلهم يقرّ بالرب ، إلا من عاند ، كفرعون ، بخلاف الإيمان باليوم الآخر ، فإن منكريه كثيرون ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما كان خاتم الأنبياء ، وكان قد بعث هو والساعة كهاتين ، وكان هو الحاشر المقفّي ـ بيّن تفضيل الآخرة بيانا لا يوجد في شيء من كتب الأنبياء. ولهذا ظن طائفة من المتفلسفة ونحوهم ، أنه لم يفصح بمعاد الأبدان إلا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجعلوا هذه حجة لهم في أنه من باب التخييل والخطاب الجمهوري.

والقرآن بيّن معاد النفس عند الموت ، ومعاد البدن عند القيامة الكبرى في غير موضع. وهؤلاء ينكرون القيامة الكبرى ، وينكرون معاد الأبدان ، ويقول من يقول منهم : إنه لم يخبر به إلا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على طريق التخييل! وهذا كذب ، فإن

__________________

(٥٣٩) صحيح وقد مضى الحديث (برقم ٥١٨).

(٥٤٠) في الاصل : بالآخرة.

٤٠٤

القيامة الكبرى هي معروفة عند الأنبياء ، من آدم الى نوح ، الى ابراهيم وموسى وعيسى وغيرهم عليهم‌السلام ، وقد أخبر الله بها من حين أهبط آدم ، فقال تعالى : (قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ، وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) الاعراف : ٢٤ (قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) الاعراف : ٢٥. ولما قال إبليس اللعين : (رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ، قالَ : فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) ص : ٧٩ ـ ٨١. وأما نوح عليه‌السلام فقال : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً. ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) نوح : ١٧ ـ ١٨. وقال ابراهيم عليه‌السلام : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) الشعراء : ٨٢. الى آخر القصة. وقال : (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) ابراهيم : ٤١. وقال : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) الآية ، البقرة : ٢٦٠ ، وأما موسى عليه‌السلام ، فقال الله تعالى لما ناجاه : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها. لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى. فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى) طه : ١٥ ـ ١٦. بل مؤمن آل فرعون كان يعلم المعاد ، وإنما آمن بموسى ، قال تعالى حكاية عنه : (وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ ، يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ. وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) غافر : ٣٢ ـ ٣٣ ، الى قوله تعالى : (يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) غافر : ٣٩ ، الى قوله : (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) غافر : ٤٦. وقال موسى : (وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ. إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) الاعراف : ١٥٦. وقد أخبر الله في قصة البقرة : (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها. كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) البقرة : ٧٣. وقد أخبر الله أنه أرسل الرسل مبشرين ومنذرين ، في آيات [من] القرآن ، وأخبر عن أهل النار أنهم إذا قال لهم خزنتها : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا؟ قالُوا : بَلى ، وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) الزمر : ٧١. وهذا اعتراف من أصناف الكفار الداخلين جهنم أن الرسل أنذرتهم لقاء يومهم هذا. فجميع الرسل أنذروا بما أنذر به خاتمهم ، من عقوبات المذنبين في الدنيا والآخرة. فعامة سور القرآن التي فيها ذكر الوعد والوعيد ، يذكر ذلك فيها : في الدنيا والآخرة. وأمر نبيه أن يقسم به

٤٠٥

على المعاد ، فقال : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ، قُلْ : بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ) سبأ : ٣ ، الآيات. وقال تعالى : (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ؟ قُلْ : إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) يونس : ٥٣. وقال تعالى : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا. قُلْ : بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ، ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) التغابن : ٧. وأخبر عن اقترابها ، فقال : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) القمر : ١. (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) الأنبياء : ١ ، (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ) المعارج : ١ ـ ٢ ، الى أن قال : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) المعارج : ٦ ـ ٧. وذم المكذبين بالمعاد ، فقال : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) يونس : ٤٥ [(حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها)] الانعام : ٣١. (أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) الشورى : ١٨. (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) النمل : ٦٦. (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) النحل : ٣٨ ، الى أن قال : (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ) النحل : ٣٩. (إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) غافر : ٥٩. (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) الإسراء. ٩٧. (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) الاسراء : ٩٨. (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً) الاسراء : ٩٩. (قالُوا : أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً. قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا؟ قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ ، وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ؟ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً. يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) الاسراء : ٤٩ ـ ٥٢.

فتأمل ما أجيبوا به عن كل سؤال على التفصيل : فإنهم قالوا أولا : (أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً)؟! الاسراء : ٤٩ ، فقيل لهم في جواب هذا السؤال : إن كنتم تزعمون أنه لا خالق لكم ولا رب لكم ، فهلا كنتم خلقا لا يفنيه

٤٠٦

الموت ، كالحجارة والحديد وما هو أكبر في صدوركم من ذلك؟! فإن قلتم : كنا خلقا على هذه الصفة التي لا تقبل البقاء ـ فما الذي يحول بين خالقكم ومنشئكم وبين إعادتكم خلقا جديدا؟! وللحجة تقدير آخر ، وهو : لو كنتم من حجارة أو حديد أو خلق أكبر منهما ، [فإنه] قادر على أن يفنيكم ويحيل ذواتكم ، وينقلها من حال الى حال ، ومن يقدر على التصرف في هذه الأجسام ، مع شدتها وصلابتها ، بالإفناء والإحالة ـ فما الذي يعجزه فيما دونها؟ ثم أخبر أنهم يسألون آخرا بقولهم : من يعيدنا اذا استحالت جسومنا وفنيت؟ فأجابهم بقوله : (قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) الاسراء : ٥١. فلما أخذتهم الحجة ، ولزمهم حكمها ، انتقلوا الى سؤال آخر يتعللون به بعلل المنقطع ، وهو قولهم : متى هو؟ فأجيبوا بقوله : (عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً).

ومن هذا قوله : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ ، قالَ : مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) يس : ٧٨؟ الى آخر السورة. فلو رام أعلم البشر وأفصحهم وأقدرهم على البيان ، أن يأتي بأحسن من هذه الحجة ، أو بمثلها بألفاظ تشابه هذه الألفاظ في الإيجاز ووضح الأدلة وصحة البرهان لما قدر. فإنه سبحانه افتتح هذه الحجة بسؤال أورده ملحد ، اقتضى جوابا ، فكان في قوله : (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) يس : ٧٨ ما وفىّ بالجواب. وأقام الحجة وأزال الشبهة لما أراد سبحانه من تأكيد الحجة وزيادة تقريرها فقال : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) يس : ٧٩ ، فاحتج بالإبداء على الإعادة ، وبالنشأة الأولى على النشأة الأخرى. إذ كل عاقل يعلم ضروريّا أنّ من قدر على هذه قدر على هذه ، وأنه لو كان عاجزا عن الثانية لكان عن الأولى أعجز وأعجز. ولما كان الخلق يستلزم قدرة الخالق على المخلوق ، وعلمه بتفاصيل خلقه أتبع ذلك بقوله : (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) يس : ٧٩. فهو عليم بتفاصيل الخلق الأول وجزئياته ، ومواده وصورته ، فكذلك الثاني. فإذا كان تام العلم ، كامل القدرة ، كيف يتعذر عليه أن يحيي العظام وهي رميم؟ ثم أكد الأمر بحجة قاهرة ، وبرهان ظاهر ، يتضمن جوابا عن سؤال ملحد آخر يقول : العظام اذا صارت رميما عادت طبيعتها باردة يابسة ، والحياة لا بد أن تكون مادتها وحاملها طبيعة حارة رطبة بما يدل على أمر البعث ، ففيه الدليل والجواب معا ، فقال : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ

٤٠٧

الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) يس : ٨٠. فأخبر سبحانه بإخراج هذا العنصر ، الذي هو في غاية الحرارة واليبوسة ، من الشجر الأخضر الممتلئ بالرطوبة والبرودة ، فالذي يخرج الشيء من ضده ، وتنقاد له مواد المخلوقات وعناصرها [و] لا تستعصي عليه هو الذي يفعل ما أنكره الملحد ودفعه ، من إحياء العظام وهي رميم. ثم أكد هذا بأخذ الدلالة من الشيء الأجلّ الأعظم ، [على] الأيسر الأصغر ، فإن كل عاقل يعلم أن من قدر على العظيم الجليل فهو على ما دونه بكثير أقدر وأقدر ، فمن قدر على حمل قنطار فهو على حمل أوقية أشد اقتدارا ، فقال : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ)؟ يس : ٨١ فأخبر أن الذي أبدع السموات والأرض ، (٥٤١) على جلالتهما ، وعظم شأنهما ، وكبر أجسامها ، وسعتهما ، وعجيب خلقهما ، أقدر على أن يحيي عظاما قد صارت رميما ، فيردها الى حالتها الأولى. كما قال في موضع آخر : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) غافر : ٥٧. وقال : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ؟ بَلى ، وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) يس : ٨١. ثم أكد سبحانه ذلك وبينه ببيان آخر ، وهو أنه ليس فعله بمنزلة غيره ، الذي يفعل بالآلات والكلفة ، والنصب والمشقة ، ولا يمكنه الاستقلال بالفعل ، بل لا بدّ معه من آلة ومعين ، بل يكفي في خلقه لما يريد أن يخلقه ويكوّنه نفس إرادته ، وقوله للمكوّن : «كن» ، فإذا هو كائن كما شاءه وأراده. ثم ختم هذه الحجة بإخباره أن ملكوت كل شيء بيده ، فيتصرف فيه بفعله وقوله : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يس : ٨٣. ومن هذا قوله سبحانه : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً. أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى. ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى. فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى. أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) القيامة : ٣٦ ـ ٤٠. فاحتج سبحانه على أنه لا يتركه مهملا عن الأمر والنهي ، والثواب والعقاب ، وأن حكمته وقدرته تأبى ذلك أشد الإباء ، كما قال تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) المؤمنون : ١١٥ ، الى آخر السورة. فإن من نقله من النطفة الى العلقة ، ثم الى

__________________

(٥٤١) قال عفيفي : انظر مختصر الموصلي للصواعق المرسلة ١٠٦ ـ ١٠٧ من ج ١ ط مكة.

٤٠٨

المضغة ، ثم شقّ سمعه وبصره ، وركّب فيه الحواسّ والقوى (٥٤٢) ، والعظام والمنافع ، والأعصاب والرباطات التي هي أشده ، وأحكم خلقه غاية الإحكام ، وأخرجه على هذا الشكل والصورة ، التي هي أتمّ الصور وأحسن الأشكال كيف يعجز عن إعادته وإنشائه مرة ثانية؟ أم كيف تقتضي حكمته وعنايته أن يتركه سدى؟ فلا يليق ذلك بحكمته ، ولا تعجز عنه قدرته. فانظر الى هذا الاحتجاج العجيب ، بالقول الوجيز ، الذي لا يكون أوجز منه ، والبيان الجليل ، الذي لا يتوهم أوضح منه ، ومأخذه لقريب ، الذي لا تقع الظنون على أقرب منه.

وكم في القرآن [من] مثل هذا الاحتجاج ، كما في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) الحج : ٥ ، الى أن قال : (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) الحج : ٧. وقوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) المؤمنون : ١٢ ، الى أن قال : (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) المؤمنون : ١٦. وذكر قصة أصحاب الكهف ، وكيف أبقاهم موتى ثلاثمائة سنة شمسية ، وهي ثلاثمائة وتسع سنين قمرية ، وقال فيها : (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها) الكهف : ٢١.

والقائلون بأن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة ، لهم في المعاد خبط واضطراب. وهم فيه على قولين : منهم من يقول : تعدم الجواهر ثم تعاد. ومنهم من يقول : تفرّق الأجزاء ثم تجمع. فأورد عليهم : الإنسان الذي يأكله حيوان ، وذلك الحيوان أكله إنسان ، فإن أعيدت تلك الأجزاء من هذا ، لم تعد من هذا؟ وأورد عليهم : أن الإنسان يتحلل دائما ، فما ذا الذي يعاد؟ أهو الذي كان وقت الموت؟ فإن قيل بذلك ، لزم أن يعاد على صورة ضعيفة ، وهو خلاف ما جاءت به النصوص ، وإن كان غير ذلك ، فليس بعض الأبدان بأولى من بعض! فادعى بعضهم أن في الإنسان أجزاء أصلية لا تتحلل ، ولا يكون فيها شيء من ذلك الحيوان الذي أكله الثاني! والعقلاء يعلمون أن بدن الإنسان نفسه كله يتحلل ،

__________________

(٥٤٢) قال عفيفي : انظر «مختصر الصواعق المرسلة» ١٠٤ ـ ١٠٦ ج ١.

٤٠٩

ليس فيه شيء باق ، فصار ما ذكروه في المعاد مما قوّى شبهة المتفلسفة في إنكار معاد الأبدان.

والقول الذي عليه السلف وجمهور العقلاء : أن الأجسام تنقلب (٥٤٣) من حال الى حال ، فتستحيل ترابا ، ثم ينشئها الله نشأة أخرى ، كما استحال في النشأة الأولى : فإنه كان نطفة ، ثم صار علقة ، ثم صار مضغة ، ثم صار عظاما ولحما ، ثم أنشأه خلقا سويّا. كذلك الإعادة : يعيده الله بعد أن يبلى كله إلا عجب (٥٤٤) الذنب ، كما ثبت في «الصحيح» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب ، منه خلق ابن آدم ، ومنه يركب» (٥٤٥). وفي حديث آخر : «إن السماء (٥٤٦) تمطر مطرا كمني الرجال ، ينبتون في القبور كما ينبت النبات» (٥٤٧). فالنشأتان نوعان تحت جنس (٥٤٨) ، يتفقان ويتماثلان من وجه ، ويفترقان ويتنوعان من وجه. والمعاد هو الأول بعينه ، وإن كان بين لوازم الإعادة ولوازم البداءة فرق ، فعجب الذنب هو الذي يبقى ، وأما سائره فيستحيل ، فيعاد من المادة التي استحال

__________________

(٥٤٣) في الاصل : تتقلب.

(٥٤٤) «العجب» ، بفتح المهملة وسكون الجيم بعدها موحدة : عظم لطيف في أصل الصلب ، وهو رأس العصعص ، وهو مكان رأس الذنب من ذوات الاربع. قاله الحافظ في «الفتح».

(٥٤٥) البخاري ومسلم وأحمد واللفظ له في بعض رواياته (٢ / ٤٢٨) وزاد : «ويأكله التراب» وسنده جيد.

(٥٤٦) في الاصل : الارض.

(٥٤٧) ضعيف ، أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (١ / ٤٦ / ١ ـ ٢) في حديث طويل عن أبي الزعراء قال ذكروا عند عبد الله الدجال ، فقال : فذكره بطوله موقوفا ، وله حكم المرفوع لكنه منقطع بين أبي الزعراء واسمه يحيى بن الوليد ، لم يرو عن أحد من الصحابة ، بل عن بعض التابعين ، ثم أن في الحديث فقرة لم تذكر هنا مخالفة لحديث صحيح فيه عليه الهيثمي (١٠ / ٣٣٠) وقد أخرجه الحاكم (٤ / ٦٠٠) وصححه على شرطهما ورده الذهبي بأنهما ما احتجا بأبي الزعراء ، وفاته انه منقطع كما بينا.

(٥٤٨) قال عفيفي : انظر «مختصر الصواعق المرسلة» ١٠٧ ـ ١٠٨ ج ١.

٤١٠

إليها. ومعلوم أن من رأى شخصا وهو صغير ، ثم رآه وقد صار شيخا ، علم أن هذا هو ذاك ، مع أنه دائما في تحلل واستحالة. وكذلك سائر الحيوان والنبات ، فمن رأى شجرة وهي صغيرة ، ثم رآها كبيرة ، قال : هذه تلك. وليست [صفة] تلك النشأة الثانية مماثلة لصفة هذه النشأة ، حتى يقال إن الصفات هي المغيّرة ، لا سيما أهل الجنة إذا دخلوها فإنهم يدخلونها على صورة آدم ، طوله ستون ذراعا ، كما ثبت في «الصحيحين» وغيرهما ، وروي : أن عرضه سبعة أذرع. وتلك نشأة باقية غير معرّضة للآفات ، وهذه النشأة فانية (٥٤٩) معرضة للآفات.

وقوله : وجزاء الأعمال ـ قال تعالى : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) الفاتحة : ٣. (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) النور : ٢٥. [والدّين : الجزاء ، يقال : كما تدين تدان ، أي كما تجازي تجازى] ، وقال تعالى : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) السجدة : ١٧ والاحقاف : ١٤ والواقعة : ٢٤ (جَزاءً وِفاقاً) النبأ : ٢٦. (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ، وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها ، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) الانعام : ١٦٠ ، (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها ، وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ. وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ، هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) النمل : ٨٩ ـ ٩٠. (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها ، وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) القصص : ٨٤. وأمثال ذلك. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيما يروي عن ربه عزوجل ، من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه : «يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه» (٥٥٠). وسيأتي لذلك زيادة بيان عن قريب ، إن شاء الله تعالى.

وقوله : والعرض والحساب ، وقراءة الكتاب ، والثواب والعقاب. قال تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ. وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ. وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ. يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ)

__________________

(٥٤٩) في الاصل : فاسدة.

(٥٥٠) اخرجه مسلم وأحمد من حديث أبي ذر.

٤١١

الحاقة : ١٥ ـ ١٨ ، الى آخر السورة. (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ. فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً. وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً. وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً وَيَصْلى سَعِيراً. إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً. إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ. بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) الانشقاق : ٦ ـ ١٥. (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا ، لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) الكهف : ٤٨. (وَوُضِعَ الْكِتابُ ، فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ، وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ، وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً ، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) الكهف : ٤٩. (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ [وَالسَّماواتُ] ، وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) ابراهيم : ٤٨ ، الى آخر السورة. (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ [ذُو الْعَرْشِ ، يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ]) غافر : ١٥ ، الى قوله : (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) غافر : ١٧. (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ، ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) البقرة : ٢٨١. وروى البخاري رحمه‌الله في «صحيحه» ، عن عائشة ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك ، فقلت : يا رسول الله ، أليس قد قال الله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) الانشقاق : ٧ ـ ٨ ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما ذلك العرض (٥٥١) ، وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذّب» (٥٥٢). يعني أنه لو ناقش في حسابه لعبيده لعذّبهم وهو غير ظالم لهم ، ولكنه تعالى يعفو ويصفح. وسيأتي لذلك زيادة [بيان] ، إن شاء الله تعالى. وفي «الصحيح» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «إن الناس يصعقون يوم القيامة ، فأكون أول من يفيق ، فإذا موسى آخذ بقائمة العرش ، فلا أدري أفاق قبلي ، أم جوزي بصعقة يوم الطور؟» (٥٥٣) وهذا صعق في موقف القيامة ، إذا جاء الله لفصل القضاء ، وأشرقت الأرض بنوره ، فحينئذ يصعق الخلائق كلهم. فإن قيل : كيف

__________________

(٥٥١) في الاصل : للعرض.

(٥٥٢) صحيح.

(٥٥٣) متفق عليه ، وقد تقدم الحديث (برقم ٢٩٧)

.

٤١٢

تصنعون بقوله في الحديث : «إن الناس يصعقون يوم القيامة ، فأكون أول من تنشق عنه الارض ، فأجد موسى باطشا بقائمة العرش (٥٥٣١)؟ قيل : لا ريب أن هذا اللفظ قد ورد هكذا ، ومنه نشأ الإشكال. ولكنه دخل فيه على الراوي حديث في حديث ، فركب بين اللفظين ، فجاء هذان الحديثان هكذا : أحدهما : «أن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق» ، كما تقدم ، والثاني : «أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة» (٥٥٤) ، فدخل على الراوي هذا الحديث في الآخر. وممن نبه على هذا أبو الحجاج المزّي ، وبعده الشيخ شمس الدين بن القيم ، وشيخنا الشيخ عماد بن كثير ، رحمهم‌الله. وكذلك اشتبه على بعض الرواة ، فقال : «فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله عزوجل» (٥٥٥)؟ والمحفوظ

__________________

(٥٥٣١) صحيح. أخرجه البخاري في أول كتاب «الخصومات» من حديث وهيب ، حدثنا عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد الخدري مرفوعا في قصة ضرب الصحابي لليهودي بلفظ : «لا تخيروا بين الأنبياء فان الناس يصعقون يوم القيامة ، فأكون أول من تنشق عنه الارض فاذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش ، فلا أدري أكان فيمن صعق أم حوسب بصعقته الاولى».

وأخرجه مسلم رقم (٢٣٧٤) من طريق سفيان عن عمرو بن يحيى به. لكنه لم يسق لفظه بتمامه ، وقد ساقه أحمد (٣ / ٣٣) من هذه الطريق بلفظ : «وأنا أول من تنشق عنه الارض يوم القيامة فأفيق ، فأجد موسى ..» الحديث.

ويشهد لهذه الرواية حديث أبي هريرة عند مسلم (٢٣٧٣) بلفظ : «لا تفضلوا بين أنبياء الله ، فانه ينفخ في الصور فيصعق من في السموات ومن في الارض إلا من شاء الله ، قال : ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من بعث ، أو في أول من بعث ، فاذا موسى عليه‌السلام آخذ بالعرش ، فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطور ، أو بعث قبلي».

ومن هذين الحديثين يتبين أن هذه الصعقة الثانية انما هي صعقة البعث ، المذكورة في الآية ، وليست صعقة تقع لفصل القضاء كما ذكر الشارح تبعا للامام ابن القيم. وعلى ذلك فلا اشكال في الحديث والله أعلم.

(٥٥٤) رواه مسلم رقم (٢٢٧٨) باب تفضيل نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلفظ : «وأول من ينشق عنه القبر». وأبو داود والترمذي وأحمد.

(٥٥٥) صحيح وهو آخر حديث أبي هريرة المذكور قبله في رواية عنه عند البخاري ، والمراد

٤١٣

الذي تواطأت عليه الروايات الصحيحة هو الأول ، وعليه المعنى الصحيح ، فإن الصعق يوم القيامة لتجلي الله لعباده إذا لفصل القضاء ، فموسى عليه‌السلام إن كان لم يصعق معهم ، فيكون قد جوزي بصعقة يوم تجلى ربه للجبل فجعله دكّا ، فجعلت صعقة هذا التجلي عوضا عن صعقة الخلائق لتجلي ربه يوم القيامة. فتأمل هذا المعنى العظيم ولا تهمله. وروى الإمام أحمد ، والترمذي ، وأبو بكر بن أبي الدنيا ، عن الحسن ، قال : سمعت أبا موسى الأشعري يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات ، فعرضتان جدال ومعاذير ، وعرضة تطاير الصحف ، فمن أوتي كتابه بيمينه ، وحوسب حسابا يسيرا ، دخل الجنة ، ومن أوتي كتابه بشماله ، دخل النار» (٥٥٦). وقد روى ابن أبي الدنيا [عن ابن المبارك] : أنه أنشد في ذلك شعرا :

وطارت الصحف في الأيدي منشّرة

فيها السرائر والأخبار تطّلع (٥٥٧)

فكيف سهوك والأنباء واقعة

عما قليل ، ولا تدري بما تقع

أفي الجنان وفوز لا انقطاع له

أم الجحيم فلا تبقي ولا تدع

تهوي بساكنها طورا وترفعهم

إذا رجوا مخرجا من غمها قمعوا

طال البكاء (٥٥٨) فلم يرحم تضرّعهم

فيها ، ولا رقية (٥٥٩) تغني ولا جزع

لينفع العلم قبل الموت عالمه

قد سال قوم بها الرّجعى فما رجعوا

__________________

بقوله : «ممن استثنى الله» أي لا تصيبه النفخة ، كما صرحت به رواية ابن أبي الدنيا في كتاب البعث» عن الحسن مرسلا ، كما في «الفتح».

(٥٥٦) ضعيف ، لأن الحسن البصري مدلس وقد عنعنه ، وهذه علة ، وان ثبت سماعه من ابي هريرة وأبي موسى ، فان ثبوت مطلق السماع لا يغني في رواية المدلس حتى يصرح بالتحديث كما هو مقرر في «المصطلح» ، إلا اذا ثبتت رواية الكتاب التي فيها التصريح بسماع الحسن من ابى موسى.

(٥٥٧) قال عفيفي : انظر المسألة الرابعة من كتاب «الروح» لابن القيم.

(٥٥٨) في الأصل : الكلام.

(٥٥٩) في الاصل : رفه.

٤١٤

قوله : والصراط ، أي : وتؤمن بالصراط ، وهو جسر على جهنم ، اذا انتهى الناس بعد مفارقتهم مكان الموقف الى الظلمة التي دون الصراط ، كما قالت عائشة رضي الله عنها : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل : أين الناس يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسموات؟ فقال : «هم في الظلمة دون الجسر» (٥٦٠). وفي هذا الموضع يفترق المنافقون عن المؤمنين ، ويتخلفون عنهم ، ويسبقهم المؤمنون ، ويحال بينهم بسور يمنعهم من الوصول إليهم. وروى البيهقي بسنده ، عن مسروق ، عن عبد الله ، قال : «يجمع الله الناس يوم القيامة» ، الى أن [قال] : «فيعطون نورهم على قدر أعمالهم ، وقال : فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل بين يديه ، ومنهم من يعطى نوره فوق ذلك ، ومنهم من يعطى نوره مثل النخلة بيمينه ، ومنهم من يعطى دون ذلك بيمينه ، حتى يكون آخر من يعطى نوره على إبهام قدمه ، يضيء مرة ويطفأ مرة ، إذا أضاء قدّم قدمه ، وإذا طفئ قام ، قال : فيمرّ ويمرون على الصراط ، والصراط كحد السيف ، دحض ، مزلة ، فيقال لهم : امضوا على قدر نوركم ، فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب ، ومنهم من يمر كالريح ، ومنهم من يمر كالطرف ، ومنهم من يمر كشدّ الرّجل ، يرمل رملا ، فيمرون على قدر أعمالهم ، حتى يمر الذي نوره على إبهام قدمه ، تخرّ يد ، وتعلق يد ، وتخر (٥٦١) رجل ، وتعلق رجل ، وتصيب جوانبه النار ، فيخلصون ، فإذا خلصوا قالوا : الحمد لله الذي نجّانا منك بعد أن أراناك ، لقد أعطانا الله ما لم يعط أحد» (٥٦٢) ... الحديث.

__________________

(٥٦٠) رواه مسلم (١ / ١٧٣).

(٥٦١) في الاصل : تجرّ.

(٥٦٢) صحيح. وأخرجه الحاكم (٢ / ٣٧٦) ، وأظن أن البيهقي من طريقه رواه ، وقال الحاكم : «صحيح على شرط الشيخين». ووافقه الذهبي! قلت : وفيه يزيد بن عبد الرحمن أبو خالد الدالاتي ، ولم يخرج له الشيخان شيئا ، ثم هو وان كان صدوقا ، فقد كان يخطئ كثيرا ، وكان يدلس ، كما في «التقريب». وقد صرح في هذا الاثر بالتحديث ، فأمنا بذلك تدليسه ، فإنما يخشى منه الخطأ فيه ، لكنه قد توبع كما يأتي ، فأمّنا بذلك خطأه أيضا ، وقد أخرجه الحاكم أيضا (٤ / ٥٩٠ ـ ٥٩٢) بتمامه مطولا ، وكذلك الطبراني في «المعجم الكبير» (٣ / ٤٦ / ٢ ـ ٤٧ / ٢) من طريق أبي خالد هذا عن ابن مسعود مرفوعا وقد تابعه زيد بن أبي أنيسة مرفوعا أيضا

٤١٥

واختلف المفسرون في المراد بالورود المذكور في قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) مريم : ٧١ ، ما هو؟ والأظهر والأقوى أنه المرور الصراط ، قال تعالى : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) مريم : ٧٢. وفي «الصحيح» أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «والذي نفسي بيده ، لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة» ، قالت حفصة : فقلت : يا رسول الله ، أليس الله يقول : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) مريم : ٧١ ، فقال : «ألم تسمعيه قال : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) مريم : ٧٢» (٥٦٣). أشار صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى أن ورود النار لا يستلزم دخولها ، وأن النجاة من الشر لا تستلزم حصوله ، بل تستلزم انعقاد سببه ، فمن طلبه عدوّه ليهلكوه ولم يتمكنوا منه ، يقال : نجاه الله منهم. ولهذا قال تعالى : (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً) هود : ٥٨. (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً) هود : ٦٦. (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً) هود : ٩٤. ولم يكن العذاب أصابهم ، ولكن أصاب غيرهم ، ولو لا ما خصهم الله به من أسباب النجاة لأصابهم ما أصاب أولئك. وكذلك حال الوارد في النار ، يمرون فوقها على الصراط ، ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيّا. فقد بين صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث جابر المذكور : أن الورود هو الورود على الصراط. وروى الحافظ أبو نصر الوائلي (٥٦٤) ، عن أبي هريرة رضي الله

__________________

ـ بتمامه عند الطبراني ، وزيد ثقة ، فصح بذلك الحديث والحمد لله.

١ ـ كذا في الرواية الموقوفة عند الحاكم ، وفي المرفوعة عنده : «دون» وعند الطبراني «أصغر» ولعل هذه الرواية أولى لأن السياق يدل عليها.

٢ ـ كذا في «الموقوفة» وفي المرفوعة عند الحاكم والطبراني : «فيمرون».

٣ ـ وكذا في «المستدرك» و «المعجم» وأما الرواية التي علقها هنا الشيخ أحمد شاكر رحمه‌الله بلفظ : «ثم كشد الرجال ، ثم كمشيهم» فهي رواية أخرى للحاكم (٢ / ٢٧٥) من طريق غير الدالاتي ، وهذه الطريق لم يقع بصر الشيخ عليها ، مع أنها في الصفحة التي تلي صفحة الرواية الاخرى. والموفق الله تبارك وتعالى.

(٥٦٣) صحيح ، رواه مسلم ، وأحمد نحوه من حديث أم مبشر.

(٥٦٤) هو الحافظ الوائلي البكري ، أبو نصر السجزي ، المتوفى سنة ٤٤٤. ترجمه الذهبي في «تذكرة الحفاظ» ٣ : ٢٧٩ ـ ٢٩٨.

٤١٦

عنه ، قال : قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «علّم الناس سنتي وإن كرهوا ذلك ، وإن أحببت أن لا توقف على الصراط طرفة عين حتى تدخل الجنة ، فلا تحدثن في دين الله حدثا برأيك» (٥٦٥). أورد القرطبي. وروى أبو بكر بن أحمد بن سليمان النجار ، عن يعلى بن منية ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «تقول النار للمؤمن يوم القيامة : جز يا مؤمن ، فقد أطفأ نورك لهبي» (٥٦٦).

وقوله : والميزان ، أي : ونؤمن بالميزان. قال تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها ، وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) الأنبياء : ٤٧. وقال تعالى : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) المؤمنون : ١٠٢ ـ ١٠٣. قال القرطبي : قال العلماء : إذا انقضى الحساب كان بعده وزن الأعمال ، لأن الوزن للجزاء ، فينبغي أن يكون بعد المحاسبة ، فإن المحاسبة لتقرير الأعمال ، والوزن لإظهار مقاديرها ليكون الجزاء بحسبها. قال : وقوله : تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) الأنبياء : ٤٧. يحتمل أن يكون ثمّ موازين متعددة توزن فيها الأعمال ، ويحتمل أن يكون المراد الموزونات ، فجمع باعتبار تنوع الأعمال الموزونة ، والله أعلم.

والذي دلت عليه السنة : أن ميزان الأعمال له كفتان حسيتان مشاهدتان. روى الإمام أحمد ، من حديث أبي عبد الرحمن الحبلي ، قال سمعت عبد الله بن عمرو يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله سيخلّص رجلا من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة ، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا ، كل سجل مدّ البصر ، ثم يقول له : أتنكر من هذا شيئا أظلمتك كتبتي الحافظون؟ قال : لا ، يا رب ، فيقول : ألك عذر أو حسنة؟ فيبهت الرجل ، فيقول : لا يا رب ، فيقول : بلى ، إن لك عندنا حسنة واحدة ، لا ظلم اليوم عليك ، فتخرج له بطاقة فيها : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، فيقول أحضروه ، فيقول : يا رب ، وما

__________________

(٥٦٥) موضوع ، وهو قطعة من حديث رواه أبو نعيم والخطيب عن أبي هريرة مرفوعا ، وذكره ابن الجوزي في «الموضوعات» ، وتكلمت عليه في «الاحاديث الضعيفة» (٢٦٥).

(٥٦٦) ضعيف ، رواه الطبراني وابن عدي وأبو نعيم وغيرهم بسند فيه ضعف وانقطاع.

٤١٧

هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال : إنك لا تظلم ، قال : فتوضع السجلات في كفة ، [والبطاقة في كفة] ، قال : فطاشت السجلات ، وثقلت البطاقة ، ولا يثقل شيء بسم الله الرّحمن الرّحيم» (٥٦٧). وهكذا روى الترمذي ، وابن ماجه ، وابن أبي الدنيا ، من حديث الليث ، زاد الترمذي : «ولا يثقل مع اسم الله شيء». وفي سياق آخر : «توضع الموازين يوم القيامة ، فيؤتى بالرجل فيوضع في كفة» (٥٦٨) وفي هذا السياق فائدة جليلة ، وهي أن العامل يوزن مع عمله ، ويشهد له ما روى البخاري عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «أنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة ، لا يزن عند الله جناح بعوضة ، وقال : اقرءوا إن شئتم : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) الكهف : ١٠٦» (٥٦٩). وروى الإمام أحمد ، عن ابن مسعود : «أنه كان يجني (٥٧٠) سواكا من الأراك ، وكان دقيق الساقين ، فجعلت الريح تكفئه ، فضحك القوم منه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ممّ تضحكون»؟ قالوا : يا نبي الله ، من دقة ساقية ، فقال : «والذي نفسي بيده ، لهما أثقل في الميزان من أحد» (٥٧١). وقد وردت الأحاديث أيضا بوزن الأعمال أنفسها ، كما في «صحيح مسلم» ، عن أبي مالك الأشعري ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الطهور شطر الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان» (٥٧٢). وفي «الصحيح» ، وهو خاتمة كتاب البخاري ، قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلمتان خفيفتان على اللسان ، حبيبتان الى الرحمن ، ثقيلتان في الميزان : سبحان الله وبحمده ، سبحان

__________________

(٥٦٧) صحيح ، وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي ، وحسنه الترمذي وفي روايتيهما : «فلا يثقل مع اسم الله شيء» وأما رواية الكتاب فهي رواية لأحمد (٢ / ٢١٣) وهي شاذة. وقد تكلمت على اسناد الحديث في «سلسلة الاحاديث الصحيحة» (١٣٥).

(٥٦٨) هو الحديث المتقدم ، وهذا لفظ آخر له ، ولا يصح من قبل سنده ، لأن فيه ابن لهيعة وهو سيئ الحفظ فلا يحتج بما تفرد به ، أخرجه أحمد (٢ / ٢٢١).

(٥٦٩) صحيح ، ورواه مسلم أيضا (٨ / ١٢٥).

(٥٧٠) في «المسند» : يجتني.

(٥٧١) حسن ، رواه أحمد في «المسند» (١ / ٤٥٠) بسند حسن.

(٥٧٢) صحيح ، وهو مخرج في «تخريج مشكلة الفقر» برقم (٥٩).

٤١٨

الله العظيم» (٥٧٣). وروى الحافظ أبو بكر البيهقي ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «يؤتى بابن آدم يوم القيامة ، فيوقف بين كفتي الميزان ، ويوكل به ملك ، فإن ثقل ميزانه ، نادى الملك بصوت يسمع الخلائق : سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدا ، وإن خف ميزانه ، نادى الملك بصوت يسمع الخلائق : شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدا» (٥٧٤). فلا يلتفت الى ملحد معاند يقول : الأعمال أعراض لا تقبل الوزن ، وإنما يقبل الوزن الأجسام!! فإن الله يقلب الأعراض أجساما ، كما تقدم ، وكما روى الإمام أحمد ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يؤتى بالموت كبشا أغر (٥٧٥) ، فيوقف بين الجنة والنار ، فيقال ، يا أهل الجنة ، فيشرئبون وينظرون ، ويقال : يا أهل النار ، فيشرئبون وينظرون ، ويرون أن قد جاء الفرج ، فيذبح ، ويقال : خلود لا موت» (٥٧٦). ورواه البخاري بمعناه. فثبت وزن الأعمال والعامل وصحائف الأعمال ، وثبت أن الميزان له كفتان. والله تعالى أعلم بما وراء ذلك من الكيفيات.

فعلينا الإيمان بالغيب ، كما أخبرنا الصادق صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من غير زيادة ولا نقصان. ويا خيبة من ينفي وضع الموازين القسط ليوم القيامة كما أخبر الشارع (٥٧٧) ، لخفاء الحكمة عليه ، ويقدح في النصوص بقوله : لا يحتاج الى الميزان إلا البقال والفوّال!! وما أحراه بأن يكون من الذين لا يقيم الله لهم يوم القيامة وزنا. ولو لم يكن من الحكمة في وزن الأعمال إلا ظهور عدله سبحانه لجميع عباده ، [فإنه] لا أحد أحبّ إليه العذر من الله ، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين. فكيف ووراء ذلك من الحكم ما لا اطلاع لنا عليه. فتأمل قول الملائكة ، لما قال

__________________

(٥٧٣) متفق عليه ، وتقدم.

(٥٧٤) موضوع ، ورواه أبو نعيم أيضا في «الحلية» (٦ / ١٧٤) وقال «تفرد به داود بن المحبر» قلت : وهو متروك متهم بالوضع.

(٥٧٥) في الاصل : أغبر.

(٥٧٦) صحيح ، أخرجه في «المسند» (٢ / ٤٢٣) بسند صحيح.

(٥٧٧) قال عفيفي : انظر أحاديث الوعيد في ص ٣٩٥ ـ ٣٩٧ ج ١ من «مدارج السالكين»

.

٤١٩

[الله] لهم : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ، قالُوا : أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ، قالَ : إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) البقرة : ٣٠ وقال تعالى : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) الاسراء : ٨٥. وقد تقدم عند ذكر الحوض كلام القرطبي رحمه‌الله ، أن الحوض قبل الميزان ، والصراط بعد الميزان. ففي «الصحيحين» : أن المؤمنين إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار ، فيقتصّ لبعضهم من بعض ، فإذا هذبوا ونقّوا أذن لهم في دخول الجنة (٥٧٨). وجعل القرطبي في «التذكرة» هذه القنطرة صراطا ثانيا للمؤمنين خاصة ، وليس يسقط منه أحد في النار ، والله تعالى أعلم.

وقوله : (والجنة والنار مخلوقتان ، لا تفنيان أبدا ولا تبيدان ، فإن الله تعالى خلق الجنة والنار قبل الخلق ، وخلق لهما أهلا ، فمن شاء منهم الى الجنة فضلا منه ، ومن شاء منهم الى النار عدلا منه ، وكل يعمل لما [قد] فرغ له ، وصائر الى ما خلق له ، والخير والشر مقدّران على العباد).

ش : أما قوله : إن الجنة والنار مخلوقتان ، فاتفق أهل السنة على أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن ، ولم يزل أهل السنة على ذلك ، حتى نبغت نابغة من المعتزلة والقدرية ، فأنكرت ذلك ، وقالت : بل ينشئهما الله يوم القيامة!! وحملهم على ذلك أصلهم الفاسد الذي وضعوا به شريعة لما يفعله الله ، وأنه ينبغي أن يفعل كذا ، ولا ينبغي له أن يفعل كذا!! وقاسوه على خلقه في أفعالهم ، فهم مشبهة في الأفعال ، ودخل التجهم فيهم ، فصاروا مع ذلك معطلة! وقالوا : خلق الجنة قبل الجراء عبث! لأنها تصير معطلة مددا متطاولة!! فردوا من النصوص ما خالف هذه الشريعة الباطلة التي وضعوها للرب تعالى ، وحرفوا النصوص عن مواضعها ، وضللوا وبدّعوا من خالف شريعتهم.

فمن نصوص الكتاب : قوله تعالى عن الجنة : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) آل

__________________

(٥٧٨) اخرجه «البخاري في أول المظالم» وأحمد (٣ / ١٣ / ٦٣ / ٧٤) من حديث أبي سعيد الخدري ، ولم أره في «مسلم».

٤٢٠