شرح العقيدة الطّحاويّة

ابن أبي العزّ الحنفي

شرح العقيدة الطّحاويّة

المؤلف:

ابن أبي العزّ الحنفي


المحقق: الشيخ محمّد ناصر الدين الألباني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بغداد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٤

لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما» (٤٩٨). وعن عوف بن مالك رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ، وتصلّون عليهم ويصلون عليكم ، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم ، وتلعنونهم ويلعنونكم» ، فقلنا : يا رسول الله ، أفلا ننابذهم بالسيف عند ذلك؟ قال : «لا ، ما أقاموا فيكم الصلاة ألا من ولي عليه وال ، فرآه يأتي شيئا من معصية الله ، [فليكره ما يأتي من معصية الله] ، ولا ينزعنّ يدا من طاعته» (٤٩٩).

فقد دلّ الكتاب والسنة على وجوب طاعة أولي الأمر ، ما لم يأمروا بمعصية ، فتأمل قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) النساء : ٥٩ ـ كيف قال : «وأطيعوا الرسول» ، ولم يقل : وأطيعوا أولي الأمر منكم؟ لأن أولي الأمر لا يفردون بالطاعة ، بل يطاعون فيما هو طاعة لله ورسوله. وأعاد الفعل مع الرسول لأن من يطع الرسول فقد أطاع الله ، فإن الرسول لا يأمر بغير طاعة الله ، بل هو معصوم في ذلك ، وأما وليّ الأمر فقد يأمر بغير طاعة الله ، فلا يطاع إلا فيما هو طاعة لله ورسوله. وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا ، فلأنه يترتب على الخروج من طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم ، بل في الصبر على جورهم تكفير السيئات ومضاعفة الأجور ، فإن الله تعالى ما سلّطهم علينا إلا لفساد أعمالنا ، والجزاء من جنس العمل ، فعلينا الاجتهاد في الاستغفار والتوبة وإصلاح العمل. قال تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) الشورى : ٣٠. وقال تعالى : (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا ، قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) آل عمران : ١٦٥ وقال تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ ، وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) النساء : ٧٩. وقال تعالى : (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) الانعام : ١٢٩. فإذا أراد الرعية أن يتخلّصوا من ظلم الأمير الظالم ، فليتركوا الظلم. وعن مالك بن دينار :

__________________

(٤٩٨) مسلم وعزاه السيوطي في «الجامع الكبير» و «الزيادة على الجامع الصغير» لأحمد أيضا ، ولم نره في «مسنده».

(٤٩٩) مسلم وغيره ، وهو مخرج في «الصحيحة» (٩٠٧).

٣٨١

أنه جاء في بعض كتب الله : «أنا الله مالك الملك ، قلوب الملوك بيدي ، فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة ، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة ، فلا تشغلوا أنفسكم بسبب الملوك ، لكن توبوا أعطفهم عليكم» (٥٠٠).

قوله : (ونتّبع السنة والجماعة ، ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة).

ش : السنة : طريقة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والجماعة : جماعة المسلمين ، وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان الى يوم الدين. فاتباعهم هدى ، وخلافهم ضلال. قال الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ، وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) آل عمران : ٣١. وقال : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) النساء : ١١٥. وقال تعالى : (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ ، وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ، وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) النور : ٥٤. وقال تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ، وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ، ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) الانعام : ١٥٣. وقال تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ ، وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) آل عمران : ١٠٥. وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ، إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ، ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) الانعام : ١٥٩.

وثبت في «السنن» الحديث الذي صححه الترمذي ، عن العرباض بن سارية ، قال : وعظنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم موعظة بليغة ، ذرفت منها العيون ، ووجلت منها القلوب ، فقال قائل : يا رسول الله ، كأن هذه موعظة مودّع؟ فما ذا تعهد إلينا؟ فقال : «أوصيكم بالسمع والطاعة ، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى

__________________

(٥٠٠) هذا من الاسرائيليات ، وقد رفعه بعض الضعفاء الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رواه الطبراني في الاوسط» عن أبي الدرداء ، قال الهيثمي (٥ / ٢٤٩) : «وفيه ابراهيم بن راشد وهو؟؟ مروك».

٣٨٢

اختلافا كثيرا ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، تمسكوا بها ، [وعضّوا عليها] بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة» (٥٠١). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة ، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة ، يعني الأهواء ، كلها في النار إلا واحدة ، وهي الجماعة» (٥٠٢). وفي رواية : قالوا : من هي يا رسول الله؟ قال ؛ «ما أنا عليه وأصحابي» (٥٠٣) فبيّن صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن عامة المختلفين هالكون من الجانبين ، إلا أهل السنة والجماعة.

وما أحسن قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، حيث قال : من كان منكم مستنّا فليستن بمن قد مات ، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة ، أولئك أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كانوا أفضل هذه الأمة ، أبرّها قلوبا ، وأعمقها علما وأقلّها تكلفا ، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه ، فاعرفوا لهم فضلهم ، واتبعوهم في آثارهم ، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم ، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم. وسيأتي لهذا المعنى زيادة بيان إن شاء الله تعالى ، عند قول الشيخ : ونرى الجماعة حقّا وصوابا ، والفرقة زيغا وعذابا.

قوله : (ونحب أهل العدل والامانة ، ونبغض أهل الجور والخيانة).

ش : وهذا من كمال الإيمان وتمام العبودية ، فإن العبادة تتضمن كمال المحبة ونهايتها ، وكمال الذل ونهايته. فمحبة رسل الله وأنبيائه وعباده المؤمنين من محبة الله ، وإن كانت المحبة التي لله لا يستحقها غيره ، فغير الله يحب في الله ، لا مع الله ، فإن

__________________

(٥٠١) صحيح كما قال الترمذي انظر «الارواء» (٢٤٥٥) و «السنة» لابن ابي عاصم (رقم ٢٧ ـ ٣٤).

(٥٠٢) صحيح وهو مخرج في «الصحيحة» (٢٠٣ و ٢٠٤) وفي «تخريج السنة» برقم (٦٣ ـ ٦٩).

(٥٠٣) هذه الرواية فيها ضعف ، وحسنها الترمذي في «الإيمان» ، وهو ممكن باعتبار شواهده كما تقدم بيان في التعليق عليه (رقم ٢٦٣) ، وقد ذكرت لها شاهدا في «الصحيحة» تحت الحديث (٢٠٤) ص ١٧.

٣٨٣

المحب يحب ما يحب محبوبه ، ويبغض ما يبغض ، ويوالي من يواليه ، ويعادي من يعاديه ، ويرضى لرضائه ، ويغضب لغضبه ، ويأمر بما يأمر به ، وينهى عما ينهى عنه ، فهو موافق لمحبوبه في كل حال. والله تعالى يحب المحسنين ، ويحب المتقين ، ويحب التوابين ، ويحب المتطهرين ، ونحن نحب من أحبّه الله. والله لا يحب الخائنين ، ولا يحب المفسدين ، ولا يحب المستكبرين ، ونحن لا نحبهم أيضا ، ونبغضهم ، موافقة له سبحانه وتعالى. وفي «الصحيحين» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما ، ومن كان يحبّ المرء لا يحبه إلا لله ، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه ، كما يكره أن يلقى في النار» (٥٠٤). فالمحبة التامة مستلزمة لموافقة المحبوب في محبوبه ومكروهه ، وولايته وعداوته. ومن المعلوم أن من أحب الله المحبة الواجبة فلا بد أن يبغض أعداءه ، ولا بد أن يحب ما يحبه من جهادهم ، كما قال تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) الصف : ٤. والحب والبغض بحسب ما فيهم من خصال الخير والشر ، فإن العبد يجتمع فيه سبب الولاية وسبب العداوة ، والحبّ والبغض ، فيكون محبوبا من وجه ومبغوضا من وجه ، والحكم للغالب. وكذلك حكم العبد عند الله ، فإن الله قد يحب الشيء من وجه ويكرهه من وجه آخر ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيما يروي عن ربه عزوجل : «وما تردّدت في شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن ، يكره الموت ، وأنا أكره مساءته ، ولا بد له منه» (٥٠٥). فبين أنه يتردد ، لأن التردد تعارض إرادتين ، وهو سبحانه يحب ما يحب عبده المؤمن ، ويكره ما يكرهه ، وهو يكره الموت فهو يكرهه ، كما قال : «وأنا أكره مساءته» ، وهو سبحانه قضى بالموت فهو يريد كونه ، فسمى ذلك ترددا ، ثم بيّن أنه لا بد من وقوع ذلك ، إذ هو يفضي الى ما أحب منه.

__________________

(٥٠٤) أخرجه الشيخان عن أنس.

(٥٠٥) صحيح ، وهو طرف من حديث تقدم بتمامه (رقم ٤٥٨) ، وتكلمت عليه هناك.

٣٨٤

قوله : (ونقول : الله أعلم ، فيما اشتبه علينا علمه).

ش : تقدم في كلام الشيخ رحمه‌الله أنه ما سلم في دينه إلا من سلّم لله عزوجل ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وردّ علم ما اشتبه عليه الى عالمه. ومن تكلم بغير علم فإنما يتبع هواه ، وقد قال تعالى : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) القصص : ٥٠. وقال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ ، كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) الحج : ٣ ـ ٤. وقال تعالى : (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا ، كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) غافر : ٣٥. وقال تعالى : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ ، وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً ، وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) الاعراف : ٣٣. وقد أمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرد علم ما لم يعلم إليه ، فقال تعالى : (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا ، لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الكهف : ٢٦. (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ) الكهف : ٢٢. وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما سئل عن أطفال المشركين : «الله أعلم بما كانوا عاملين» (٥٠٦). وقال عمر رضي الله عنه : اتهموا الرأي في الدين ، فلو رأيتني يوم أبي جندل ، فلقد رأيتني وإني لأردّ أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم برأيي ، فأجتهد ولا آلو ، وذلك يوم أبي جندل ، والكتاب يكتب ، وقال : اكتب (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، قال : اكتب باسمك اللهم ، فرضي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكتب وأبيت ، فقال : «يا عمر تراني قد رضيت وتأبى؟» (٥٠٧). وقال أيضا رضي الله عنه : السنة ما سنّه الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : أيّ أرض تقلّني ، وأي سماء تظلّني ، إن قلت في آية

__________________

(٥٠٦) متفق عليه من حديث ابي هريرة ، وابن عباس رضي الله عنهما.

(٥٠٧) الطبراني في «الكبير» (١ / ٥ / ١) وابن حزم في «الاحكام» (٦ / ٤٦) ورجاله ثقات غير ان فضالة بن مبارك مدلس كما في «التقريب» وقد عنعنه ، وقال الهيثمي في «المجمع» (١ / ١٧٩) : «رواه ابو يعلى ورجاله موثوقون وان كان فيهم مبارك بن فضالة». وقال في موضع آخر (٦ / ١٤٥ ـ ١٤٦) وقد ساقه بأطول من هذا ، لكنه لم يذكره بتمامه : «رواه البزار ورجاله رجال الصحيح» ، وطرفه الأول في «الصحيحين» من قول سهل بن حنيف

.

٣٨٥

من كتاب الله برأيي ، أو بما لا أعلم. وذكر الحسن بن علي الحلواني ، حدثنا عارم ، حدثنا حمّاد بن زيد ، عن سعيد بن أبي صدقة ، عن ابن سيرين قال : لم يكن أحد أهيب لما لا يعلم من أبي بكر ، ولم يكن بعد أبي بكر أهيب لما لا يعلم من عمر رضي الله عنه ، وإن أبا بكر نزلت به قضية ، فلم يجد في كتاب الله منها أصلا ، ولا في السنة أثرا ، فاجتهد برأيه ، ثم قال : هذا رأيي ، فإن يكن صوابا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمني ، وأستغفر الله.

قوله : (ونرى المسح على الخفين ، في السفر والحضر ، كما جاء في الاثر).

ش : تواترت السنة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمسح على الخفين وبغسل الرجلين ، والرافضة تخالف هذه السنة المتواترة ، فيقال لهم : الذين نقلوا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الوضوء قولا وفعلا ، والذين تعلموا الوضوء منه توضئوا على عهده وهو يراهم ويقرهم ، ونقلوه الى من بعدهم ـ : أكثر عددا من الذين نقلوا لفظ هذه الآية. فإن جميع المسلمين كانوا يتوضئون على عهده ، ولم يتعلموا الوضوء إلا منه ، فإن هذا العمل لم يكن معهودا عندهم في الجاهلية ، وهم قد رأوه يتوضأ ما لا يحصي عدده إلا الله تعالى ، ونقلوا عنه ذكر غسل الرجلين في ما شاء الله من الحديث ، حتى نقلوا عنه من غير وجه ، في كتب الصحيح وغيرها ، أنه قال : «ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار» (٥٠٨).

مع أن الفرض اذا كان مسح ظاهر القدم ، كان غسل الجميع كلفة لا تدعو إليها الطباع ، كما تدعو الطباع الى طلب الرئاسة والمال ، فلو جاز الطعن في تواتر صفة الوضوء ، لكان في نقل لفظ آية [الوضوء] أقرب الى الجواز ، واذا قالوا : لفظ الآية ثبت بالتواتر الذي لا يمكن فيه الكذب ولا الخطأ ، فثبوت التواتر في نقل الوضوء عنه أولى وأكمل ، ولفظ الآية لا يخالف ما تواتر من السنة ، فإن المسح كما يطلق ويراد به الإصابة ـ كذلك يطلق ويراد به الإسالة ، كما تقول [العرب] : تمسّحت للصلاة ، وفي الآية ما يدل على أنه لم يرد بمسح الرجلين المسح الذي هو قسيم الغسل ، بل

__________________

(٥٠٨) متفق عليه دون قوله : «وبطون الاقدام» وهو عند أحمد (٤ / ١٩١) بسند صحيح من حديث عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي.

٣٨٦

المسح الذي الغسل قسم منه ، فإنه قال : (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) المائدة : ٦ ، ولم يقل : الى الكعاب ، كما قال : (إِلَى الْمَرافِقِ) المائدة : ٦ ، فدل على أنه ليس في كل رجل كعب واحد ، كما في كل يد مرفق واحد ، بل في كل رجل كعبان ، فيكون تعالى قد أمر بالمسح الى العظمين الناتئين ، وهذا هو الغسل ، فإن من يسمح المسح الخاص يجعل المسح لظهور القدمين ، وجعل الكعبين في الآية غاية يردّ قولهم. فدعواهم أن الفرض مسح الرجلين الى الكعبين ، اللذين هما مجتمع الساق والقدم عند معقد الشّراك ـ مردود بالكتاب والسنة.

وفي الآية قراءتان مشهورتان : النصب والخفض ، وتوجيه إعرابهما مبسوط في موضعه. وقراءة النصب نص في وجوب الغسل ، لأن العطف على المحل إنما يكون اذا كان المعنى واحدا ، كقوله :

فلسنا بالجبال ولا الحديدا

وليس معنى : مسحت برأسي ورجلي ـ هو معنى : مسحت رأسي ورجلي ، بل ذكر الباء يفيد معنى زائدا على مجرد المسح ، وهو إلصاق شيء من الماء بالرأس ، فتعين العطف على قوله : (وَأَيْدِيَكُمْ). فالسنة المتواترة تقضي على ما يفهمه بعض الناس من ظاهر القرآن ، فإن الرسول بيّن للناس لفظ القرآن ومعناه. كما قال أبو عبد الرحمن السلمي : حدثنا الذين كانوا يقرءوننا القرآن : عثمان بن عفان ، وعبد الله بن مسعود ، وغيرهما : أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا معناها. وفي ذكر المسح في الرجلين تنبيه على قلة الصبّ في الرجلين ، فإن السرف يعتاد فيهما كثيرا. والمسألة معروفة ، والكلام عليها في كتب الفروع.

قوله : (والحج والجهاد ماضيان مع أولي الامر من المسلمين ، برّهم وفاجرهم ، الى قيام الساعة ، لا يبطلهما شيء ولا ينقضهما).

ش : يشير الشيخ رحمه‌الله الى الرد على الرافضة ، حيث قالوا : لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج الرضى من آل محمد ، وينادي مناد من السماء : اتبعوه!! وبطلان هذا القول أظهر من أن يستدلّ عليه بدليل. وهم شرطوا في الإمام أن

٣٨٧

يكون معصوما ، اشتراطا ، من غير دليل! بل في «صحيح مسلم» عن عوف بن مالك الأشجعي ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ، [وتصلّون عليهم] ويصلون عليكم ، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم ، وتلعنونهم ويلعنونكم» ، قال : قلت : يا رسول الله ، أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال : «لا ، ما أقاموا فيكم الصلاة ، ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله ، فليكره ما يأتي من معصية الله ، ولا ينزعنّ يدا من طاعته» (٥٠٩). وقد تقدم بعض نظائر هذا الحديث في الإمامة. ولم يقل : إن الإمام يجب أن يكون معصوما. والرافضة أخسر الناس صفقة في هذه المسألة ، لأنهم جعلوا الإمام المعصوم هو الإمام المعدوم ، الذي لم ينفعهم في دين ولا دنيا!! فإنهم يدعون أنه الإمام المنتظر ، محمد بن الحسن العسكري ، الذي دخل السرداب في زعمهم ، سنة ستين ومائتين ، أو قريبا من ذلك بسامرّا! وقد يقيمون هناك دابة ، إما بغلة وإما فرسا ، ليركبها إذا خرج! ويقيمون هناك في أوقات عينوا فيها من ينادي عليه بالخروج. يا مولانا ، اخرج! يا مولانا ، اخرج! ويشهرون السلاح ، ولا أحد هناك يقاتلهم! الى غير ذلك من الأمور التي يضحك عليهم منها العقلاء!!

وقوله : مع أولي الأمر برّهم وفاجرهم ـ لأن الحج والجهاد فرضان يتعلقان بالسفر ، فلا بد من سائس يسوس الناس فيهما ، ويقاوم العدو ، وهذا المعنى كما يحصل بالإمام البرّ يحصل بالإمام الفاجر.

قوله : (ونؤمن بالكرام الكاتبين ، فان الله قد جعلهم علينا حافظين).

ش : قال تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ ، كِراماً كاتِبِينَ ، يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) الانفطار : ١٠ ـ ١٢ وقال تعالى : (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ ، عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ. ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ق : ١٧ ـ ١٨. وقال تعالى : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ، يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) الرعد : ١١. وقال تعالى : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ ، بَلى ، وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) الزخرف : ٨٠. وقال تعالى : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ ، إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ

__________________

(٥٠٩) صحيح ، وقد تقدم بالحديث (رقم ٤٩٩).

٣٨٨

ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الجاثية : ٢٨. وقال تعالى : (إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) يونس : ٢١. وفي «الصحيح» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر ، فيصعد إليه الذين كانوا فيكم ، فيسألهم ، والله أعلم بهم : كيف تركتم عبادي؟ فيقولون : أتيناهم وهم يصلون ، وفارقناهم وهم يصلون» (٥١٠). وفي الحديث الآخر : إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء وعند الجماع ، فاستحيوهم ، أكرموهم» (٥١١). جاء في التفسير : اثنان عن اليمين وعن الشمال ، يكتبان لأعمال ، صاحب اليمين يكتب الحسنات ، وصاحب الشمال يكتب السيئات ، وملكان آخران يحفظانه ويحرسانه ، واحد من ورائه ، وواحد أمامه ، فهو بين أربعة ملاك بالنهار ، وأربعة آخرين بالليل ، بدلا ، حافظان وكاتبان ، وقال عكرمة عن ابن عباس : (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) الرعد : ١١ ، قال : ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه ، فإذا جاء قدر الله خلّوا عنه.

وروى مسلم والإمام أحمد عن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن ، وقرينه من الملائكة» ، قالوا : وإياك يا رسول الله؟ قال : «وإياي ، لكن الله أعانني عليه فأسلم ، فلا يأمرني إلا بخير» (٥١٢). الرواية بفتح الميم من «فأسلم» [ومن رواه «فأسلم» برفع الميم ـ فقد حرّف لفظه. ومعنى «فأسلم»] ، أي : فاستسلم وانقاد لي ، في أصح القولين ، ولهذا قال : «فلا يأمرني إلا بخير» ، ومن قال : إن الشيطان صار مؤمنا ـ فقد حرّف معناه ، فإن الشيطان لا يكون مؤمنا (٥١٣). ومعنى : (يَحْفَظُونَهُ

__________________

(٥١٠) متفق عليه عن ابي هريرة ، وهو مخرج في «الظلال» (٤٩١).

(٥١١) ضعيف ، «الضعيفة» رقم (٢٢٤١).

(٥١٢) عبد الله هو ابن مسعود ، واخرجه الدارمي عنه أيضا في «الرقاق» وقال : من الناس من يقول «اسلم» : استسلم ، يقول : ذل.

(٥١٣) قال الشيخ أحمد شاكر : والخلاف في ضبط الميم من «فأسلم» ـ خلاف قديم والراجح فيها الفتح : كما قال الشارح ، ولكن المعنى الذي رجحه غير راجح. فقال القاضي عياض ، في «مشارق الانوار» (٢ / ٢١٨) : «رويناه بالضم والفتح. فمن ضم رد ذلك الى

٣٨٩

مِنْ أَمْرِ اللهِ) الرعد : ١١ ـ قيل : حفظهم له من أمر الله ، أي الله أمرهم بذلك ، يشهد لذلك قراءة من قرأ : يحفظونه بأمر الله.

ثم قد ثبت بالنصوص المذكورة أن الملائكة تكتب القول والفعل. وكذلك النية ، لأنها فعل القلب ، فدخلت في عموم (يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) الانفطار : ١٢. ويشهد لذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قال الله عزوجل : إذا همّ عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه ، فإن عملها فاكتبوها عليه سيئة ، وإذا هم عبدي بحسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة ، فإن عملها فاكتبوها عشرا» (٥١٣١). وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قالت الملائكة : ذاك عبد يريد أن يعمل سيئة ، وهو أبصر به ، فقال : ارقبوه ، فإن عملها فاكتبوها بمثلها ، وإن تركها فاكتبوها له حسنة ، إنما تركها من جرّائي» (٥١٣٢) خرجاهما في «الصحيحين» واللفظ لمسلم.

قوله : (ونؤمن بملك الموت ، الموكل بقبض أرواح العالمين).

ش : قال تعالى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) الم. السجدة : ١١. ولا تعارض هذه الآية قوله : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) الانعام : ٦١ ، وقوله تعالى : (اللهُ

__________________

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي : فأنا أسلم منه. ومن فتح رده الى القرين ، أي : أسلم من الاسلام. وقد روي في غير هذه الأمهات : فاستسلم. يريد بالامهات : «الموطأ» و «الصحيحين» ، التي بنى عليها كتابه ، وان كان هذا الحديث لم يروه مالك ولا البخاري.

وقال النووي في شرح مسلم : «هما روايتان مشهورتان. واختلفوا في الارجح منهما ، فقال الخطابي : الصحيح المختار الرفع ، ورجح القاضي عياض الفتح.

وأما الحافظ ابن حبان ، فانه روى الحديث في صحيحه (٢ / ٢٨٣ ، من المخطوطة المصورة) ، وجزم برواية فتح الميم ، وقال : «في هذا الخبر دليل على أن شيطان المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسلم حتى لم يكن يأمره الا بخير ، لا أنه كان يسلم منه وان كان كافرا». وهذا هو الصحيح الذي ترجحه الدلائل. وادعاء الشارح أن هذا تحريف للمعنى. «فأن الشيطان لا يكون مؤمنا». انتقال نظر. فأولا : أن اللفظ في الحديث «قرينه من الجن» ، لم يقل : «شيطانه». وثانيا : ان الجن فيهم المؤمن والكافر. والشياطين هم كفارهم ، فمن آمن منهم لم يسم شيطانا.

(٥١٣١) متفق عليه من ابي هريرة.

(٥١٣٢) متفق عليه من أبي هريرة.

٣٩٠

يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها ، فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ. وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) الزمر : ٤٢ ـ : لأن ملك الموت يتولى قبضها واستخراجها ، ثم يأخذها منه ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب ، ويتولّونها بعده ، كل ذلك بإذن الله وقضائه وقدره ، وحكمه وأمره ، فصحّت إضافة التوفي الى كل بحسبه.

وقد اختلف في حقيقة النفس ما هي؟ وهل هي جزء من أجزاء البدن؟ أو عرض من أعراضه؟ أو جسم مساكن له مودع فيه؟ أو جوهر مجرد؟ وهل هي الروح أو غيرها؟ وهل الأمّارة ، و [هل] اللوّامة ، والمطمئنة ـ نفس واحدة ، أم هي ثلاثة أنفس؟ وهل تموت الروح ، أو الموت للبدن وحده؟ وهذه المسألة تحتمل مجلدا ، ولكن أشير الى الكلام عليها مختصرا ، إن شاء الله تعالى :

فقيل : الروح قديمة ، وقد أجمعت الرسل على أنها محدثة مخلوقة مصنوعة مربوبة مدبّرة. وهذا معلوم بالضرورة من دينهم ، أن العالم محدث ، ومضى على هذا الصحابة والتابعون ، حتى نبغت نابغة ممن قصر فهمه في الكتاب والسنة ، فزعم أنها قديمة ، واحتج بأنها من أمر الله ، وأمره غير مخلوق! وبأن الله أضافها إليه بقوله : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) الاسراء : ٨٥ ، وبقوله : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) الحجر : ٢٩ ، كما أضاف إليه علمه وقدرته وسمعه وبصره ويده. وتوقف آخرون. واتفق أهل السنة والجماعة أنها مخلوقة. وممن نقل الإجماع على ذلك : محمد بن نصر المروزي ، وابن قتيبة وغيرهما. ومن الأدلة [على] أن الروح مخلوقة ، قوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) الرعد : ١٨ والزمر : ٦٢ ، فهذا عامّ لا تخصيص فيه بوجه ما ، ولا يدخل في ذلك صفات الله تعالى ، فإنها داخلة في مسمى اسمه. فالله تعالى هو الإله الموصوف بصفات الكمال ، فعلمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره وجميع صفاته ـ داخل في مسمى اسمه فهو سبحانه بذاته وصفاته الخالق ، وما سواه مخلوق ، ومعلوم قطعا أن الروح ليس هي الله ، ولا صفة من صفاته ، وإنما هي من مصنوعاته. ومنها قوله تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) الدهر : ١. وقوله تعالى لزكريا : (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) مريم : ٩. والإنسان اسم لروحه وجسده ، والخطاب

٣٩١

لزكريا ، لروحه وبدنه ، والروح توصف بالوفاة والقبض [والإمساك] والإرسال ، وهذا شأن المخلوق المحدث. وأما احتجاجهم بقوله : (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) الاسراء : ٨٥ ـ فليس المراد هنا بالأمر الطلب ، بل المراد به المأمور ، والمصدر يذكر ويراد به اسم المفعول ، وهذا معلوم مشهور. وأما استدلالهم بإضافتها إليه بقوله : (مِنْ رُوحِي) الحجر : ٢٩ ـ فينبغي أن يعلم أن المضاف الى الله نوعان : صفات لا تقوم بأنفسها ، كالعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر ، فهذه إضافة صفة الى الموصوف بها ، فعلمه وكلامه وقدرته وحياته صفات له ، وكذا وجهه ويده سبحانه. والثاني : إضافة أعيان منفصلة عنه ، كالبيت والناقة والعبد والرسول والروح ، فهذه إضافة مخلوق الى خالقه ، لكن إضافة تقتضي تخصيصا وتشريفا ، يتميز بها المضاف عن غيره.

واختلف في الروح : هل هي مخلوقة قبل الجسد أم بعده؟ وقد تقدم عند ذكر الميثاق الإشارة الى ذلك.

واختلف في الروح : ما هي؟ فقيل : هي جسم ، وقيل : عرض ، وقيل : لا ندري ما الروح ، أجوهر أم عرض؟ وقيل : ليس الروح شيئا أكثر من اعتدال الطبائع الأربع ، وقيل : هي الدم الصافي الخالص من الكدرة والعفونات (٥١٤) ، وقيل : هي الحرارة الغريزية ، وهي الحياة ، وقيل : [هو] جوهر بسيط منبث في العالم كله من الحيوان ، على جهة الإعمال له والتدبير ، [وهي] على ما وصفت من الانبساط في العالم ، غير منقسمة الذات والبنية ، وأنها في كل حيوان العالم بمعنى واحد لا غير ، وقيل : النفس هي النسيم الداخل والخارج بالتنفس ، وقيل غير ذلك. وللناس في مسمى الإنسان : هل هو الروح فقط ، أو البدن فقط ، أو مجموعهما ، أو كل منهما؟ وهذه الأقوال الأربعة لهم في كلامه : هل هو اللفظ ، أو المعنى فقط ، أو هما ، أو كل منهما؟ (٥١٥) فالخلاف بينهم في الناطق ونطقه. والحق : أن الإنسان اسم لهما ، وقد يطلق على أحدهما بقرينة ، وكذا الكلام.

__________________

(٥١٤) في الاصل : الكدر.

(٥١٥) قال عفيفي : انظر مباحث الروح من الصفحة ٢١٦ ج ٤ من «مجموع الفتاوى»

.

٣٩٢

والذي يدل عليه الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل : أن النفس جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس ، وهو جسم نوراني علوي ، خفيف حي متحرك ، ينفذ في جوهر الأعضاء ، ويسري فيها سريان الماء في الورد ، وسريان الدهن في الزيتون ، والنار في الفحم. فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف ، بقي ذلك الجسم اللطيف ساريا في هذه الأعضاء ، وأفادها هذه الآثار ، من الحسّ والحركة الإرادية ، وإذا فسدت هذه ، بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها ، وخرجت عن قبول تلك الآثار ، فارق الروح البدن ، وانفصل الى عالم الأرواح. والدليل على ذلك قوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) الزمر : ٤٢ ، الآية. ففيها الإخبار بتوفّيها وإمساكها وإرسالها. وقوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ ، أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) الانعام : ٩٣ ، ففيها بسط الملائكة أيديهم لتناولها ، ووصفها بالإخراج والخروج ، والإخبار بعذابها ذلك اليوم ، والإخبار عن مجيئها الى ربها. وقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ، ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) الانعام : ٦٠ ، الآية. ففيها الإخبار بتوفي النفس بالليل ، وبعثها الى أجسادها بالنهار ، وتوفي الملائكة لها عند الموت. وقوله تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ. ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً. فَادْخُلِي فِي عِبادِي. وَادْخُلِي جَنَّتِي) الفجر : ٢٧ ـ ٣٠. ففيها وصفها بالرجوع والدخول والرضى. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الروح إذا قبض تبعه البصر» (٥١٦). ففيه وصفه بالقبض ، وأن البصر يراه. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث بلال : «قبض أرواحكم وردّها عليكم» (٥١٧). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة» (٥١٨). وسيأتي في الكلام على عذاب القبر أدلة كثيرة من خطاب ملك الموت لها ، وأنها تخرج تسيل كما تسيل القطرة من فيّ

__________________

(٥١٦) مسلم عن أمّ سلمة «أحكام الجنائز» (ص ٢٥)

(٥١٧) صحيح اخرجه البخاري من حديث ابي قتادة وليس من حديث بلال كما هو ظاهر كلام المؤلف. وكذلك أخرجه احمد وغيره. «صحيح ابي داود» (٤٦٥).

(٥١٨) «الصحيحة» (٩٩٥).

٣٩٣

السقاء ، وأنها تصعد ويوجد منها [من المؤمن] كأطيب ريح ، ومن الكافر كأنتن ريح ، الى غير ذلك ، من الصفات. وعلى ذلك أجمع السلف ودل العقل ، وليس مع من خالف سوى الظنون الكاذبة ، والشبه الفاسدة ، التي لا يعارض بها ما دل عليه نصوص الوحي والأدلة العقلية.

وأما اختلاف الناس في مسمى النفس والروح : هل هما متغايران ، أو مسمّاهما واحد؟ فالتحقيق : أن النفس تطلق على أمور ، وكذلك الروح ، فيتحد مدلولهما تارة ، ويختلف تارة. فالنفس تطلق على الروح ، ولكن غالب ما يسمّى نفسا إذا كانت متصلة بالبدن ، وأما إذا أخذت مجردة فتسمية الروح أغلب عليها. ويطلق على الدم ، ففي الحديث : «ما لا نفس له سائلة لا ينجس الماء إذا مات فيه» (٥١٩). والنفس : العين ، يقال : أصابت فلانا نفس ، أي عين. والنفس : الذات ، (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) النور : ٦١ (لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) النساء : ٢٨ ، ونحو ذلك. وأما الروح فلا يطلق على البدن ، لا بانفراده ، ولا مع النفس. وتطلق الروح على القرآن ، وعلى جبرائيل ، (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) الشورى : ٥٢. (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) الشعراء : ١٩٣. ويطلق الروح على الهواء المتردد في بدن الإنسان أيضا. وأما ما يؤيد الله به أولياءه ، فهي روح أخرى ، كما قال تعالى : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) المجادلة : ٢٢. وكذلك القوى التي في البدن ، فإنها أيضا تسمى أرواحا ، فيقال : الروح الباصر ، والروح السامع ، والروح الشامّ (٥٢٠). ويطلق الروح على أخص من هذا كله ، وهو : قوة المعرفة بالله والإنابة إليه ومحبته وانبعاث الهمة الى طلبه وإرادته. ونسبة هذا الروح الى الروح ، كنسبة الروح الى البدن ، فالعلم روح ، والإحسان روح ، والمحبة روح ، والتوكل روح ، والصدق روح والناس متفاوتون في هذه الروح : فمن الناس من تغلب عليه هذه الأرواح فيصير روحانيا ، ومنهم من يفقدها أو أكثرها فيصير أرضيّا بهميّا. وقد وقع في كلام كثير من الناس أن لابن آدم

__________________

(٥١٩) لا أعرف له أصلا ، وانما هو من كلام الفقهاء.

(٥٢٠) قال عفيفى : انظر «العقل والنقل. لابن تيمية ص ١٧٧ ج ٢

٣٩٤

ثلاثة أنفس : مطمئنة ، ولوّامة ، وأمّارة ، قالوا : وإن منهم من تغلب عليه هذه ، ومنهم من تغلب عليه هذه ، كما قال تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) الفجر : ٢٧. (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) القيامة : ٢. (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) يوسف : ٥٣. والتحقيق : أنها نفس واحدة ، لها صفات ، فهي أمّارة بالسوء ، فإذا عارضها الإيمان صارت لوّامة ، تفعل الذنب ثم تلوم صاحبها ، وتلوم بين الفعل والترك ، فإذا قوي الإيمان صارت مطمئنة. ولهذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سرّته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن» (٥٢١). مع قوله : «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» (٥٢٢) ، الحديث.

واختلف الناس : هل تموت الروح أم لا؟ فقالت طائفة : تموت ، لأنها نفس ، وكل نفس ذائقة الموت ، وقد قال تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ. وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) الرحمن : ٢٦ ـ ٢٧. وقال تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) القصص : ٨٨. قالوا : وإذا كانت الملائكة تموت ، فالنفوس البشرية أولى بالموت. وقال آخرون : لا تموت الأرواح ، فإنها خلقت للبقاء ، وإنما تموت الأبدان. قالوا : وقد دل على ذلك الأحاديث الدالة على نعيم الأرواح وعذابها بعد المفارقة إلى أن يرجعها الله في أجسادها. والصواب أن يقال : موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها ، فإن أريد بموتها هذا القدر ، فهي ذائقة الموت ، وإن أريد أنها تعدم وتفنى بالكلية ، فهي لا تموت بهذا الاعتبار ، بل هي باقية بعد خلقها في نعيم أو في عذاب ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وقد أخبر سبحانه أن أهل الجنة (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) الدخان : ٥٦ ، وتلك الموتة هي مفارقة الروح للجسد. وأما قول أهل النار : (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) المؤمن : ١١ ، وقوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) (٥٢٣) ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ البقرة : ٢٨ ـ فالمراد : أنهم كانوا أمواتا

__________________

(٥٢١) «الصحيحة» (٥٥٠).

(٥٢٢) متفق عليه ، وقد مضى الحديث (برقم ٣٧٣).

(٥٢٣) قال عفيفي : انظر ص ٢٦٤ من كتاب «الروح».

٣٩٥

وهم نطف في أصلاب آبائهم وفي أرحام أمهاتهم ، ثم أحياهم بعد ذلك ، ثم أماتهم ، ثم يحييهم يوم النشور ، وليس في ذلك إماتة أرواحهم قبل يوم القيامة ، وإلا كانت ثلاث موتات. وصعق الأرواح عند النفخ في الصور لا يلزم منه موتها ، فإن الناس يصعقون يوم القيامة إذا جاء الله لفصل القضاء ، وأشرقت الأرض بنوره ، وليس ذلك بموت. وسيأتي ذكر ذلك ، إن شاء الله تعالى. وكذلك صعق موسى عليه‌السلام لم يكن موتا ، والذي يدل عليه أن نفخة الصعق ـ والله أعلم ـ موت كل من لم يذق الموت قبلها من الخلائق ، وأما من ذاق الموت ، أو لم يكتب عليت الموت من الحور والولدان وغيرهم ، فلا تدل الآية على أنه يموت موتة ثانية. والله أعلم.

قوله : (وبعذاب القبر لمن كان له أهلا ، وسؤال منكر ونكير في قبره عن ربه ودينه ونبيه ، على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعن الصحابة رضوان الله عليهم. والقبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النيران).

ش : قال تعالى : (وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ. النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) غافر : ٤٥ ـ ٤٦. وقال تعالى : (فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ. يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ. وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الطور : ٤٥ ـ ٤٧. وهذا يحتمل أن يراد به عذابهم بالقتل وغيره في الدنيا ، وأن يراد به عذابهم في البرزخ ، وهو أظهر ، لأن كثيرا منهم مات ولم يعذّب في الدنيا ، أو المراد أعم من ذلك. وعن البراء بن عازب رضي الله عنه ، قال : كنا في جنازة في بقيع الغرقد ، فأتانا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقعد وقعدنا حوله ، كأنّ على رءوسنا الطير ، وهو يلحد له ، فقال : «أعوذ بالله من عذاب القبر» ، ثلاث مرات ، ثم قال : «إن العبد [المؤمن] إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا ، نزلت إليه الملائكة ، كأن على وجوههم الشمس ، معهم كفن من أكفان الجنة ، وحنوط من حنوط الجنة ، فجلسوا منه مدّ البصر ، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه ، فيقول : يا أيتها النفس الطيبة ، اخرجي الى مغفرة من الله

٣٩٦

ورضوان» ، قال : «فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فيّ السقاء ، فيأخذها ، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين ، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط ، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض ، قال : فيصعدون بها ، فلا يمرون بها ، يعني على ملأ من الملائكة ، إلا قالوا : ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون : فلان ابن فلان ، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا ، حتى ينتهوا بها الى السماء ، فيستفتحون له ، فيفتح له ، فيشيعه من كل سماء مقربوها ، الى السماء التي تليها ، حتى ينتهي بها الى السماء التي فيها الله ، فيقول الله عزوجل : اكتبوا كتاب عبدي في عليين ، وأعيدوه الى الأرض ، فإني منها خلقتهم ، وفيها أعيدهم ، ومنها أخرجهم تارة أخرى ، قال : فتعاد روحه في جسده ، فيأتيه ملكان ، فيجلسانه ، فيقولان له : من ربّك؟ فيقول ربي الله ، فيقولان له : ما دينك؟ فيقول : ديني الإسلام ، فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول : هو رسول الله ، فيقولان له : ما علمك؟ فيقول : قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت ، فينادي مناد من السماء : أن صدق عبدي ، فافرشوه من الجنة ، وافتحوا له بابا الى الجنة ، قال : فيأتيه من روحها وطيبها ، ويفسح له في قبره مدّ بصره ، قال : ويأتيه رجل حسن الوجه ، حسن الثياب ، طيب الريح ، فيقول : ابشر بالذي يسرّك هذا يومك الذي كنت توعد ، فيقول له : من أنت؟ فوجهك الوجه [الذي] يجيء بالخير ، فيقول : أنا عملك الصالح ، فيقول : يا ربّ ، أقم الساعة حتى أرجع الى أهلي ومالي ، قال :

وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة ، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه ، معهم المسوح ، فيجلسون منه مدّ البصر ، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه ، فيقول : أيتها النفس الخبيثة ، اخرجي الى سخط من الله وغضب ، قال : فتتفرق في جسده ، فينتزعها كما ينتزع السّفود من الصوف المبلول ، فيأخذها ، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين ، حتى يجعلوها في تلك المسوح ، ويخرج منها كأنتن ريح خبيثة وجدت على وجه الأرض ، فيصعدون بها ، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا : ما هذا الروح

٣٩٧

الخبيث؟ (٥٢٤) فيقولون فلان ابن فلان ، بأقبح أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا ، حتى ينتهي بها الى السماء الدنيا ، فيستفتح له ، فلا يفتح له ، ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ ، وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) الاعراف : ٤٠ ، فيقول الله عزوجل : اكتبوا كتابه في سجّين ، في الأرض السفلى ، فتطرح روحه طرحا ، ثم قرأ : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) الحج : ٣١ ، فتعاد روحه في جسده ، ويأتيه ملكان فيجلسانه ، فيقولان له : من ربك؟ فيقول : هاه ، هاه ، لا أدري ، فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ، فيقول : هاه هاه ، لا أدري ، فينادي مناد من السماء : أن كذب ، فافرشوه من النار ، وافتحوا له بابا الى النار ، فيأتيه من حرّها وسمومها ، ويضيق عليه قبره ، حتى تختلف أضلاعه ، ويأتيه رجل قبيح الوجه ، قبيح الثياب منتن الريح ، فيقول : ابشر بالذي يسوؤك ، هذا يومك الذي كنت توعد ، فيقول : من أنت ، فوجهك الوجه [الذي] يجيء بالشرّ ، فيقول : أنا عملك الخبيث ، فيقول ربّ لا تقم الساعة» (٥٢٥). رواه الإمام أحمد وأبو داود ، وروى النسائي وابن ماجة أوّله ورواه الحاكم وأبو عوانة الأسفرائيني في «صحيحيهما» ، وابن حبان.

وذهب الى موجب هذا الحديث جميع أهل السنة والحديث ، وله شواهد من الصحيح. فذكر البخاري رحمه‌الله عن سعيد عن قتادة عن أنس ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه ، إنه ليسمع فرع نعالهم ، فيأتيه ملكان ، فيقعدانه ، فيقولان له : ما كنت تقول في هذا الرجل ، محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فأما المؤمن فيقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله ، فيقول له : انظر الى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعدا من الجنة ، فيراهما جميعا» (٥٢٦). قال قتادة : وروي لنا أنه يفسح له في قبره ، وذكر الحديث. وفي «الصحيحين» عن ابن

__________________

(٥٢٤) قال عفيفي : انظر المسألة الرابعة في الكلام على موت الروح «لابن القيم».

(٥٢٥) صحيح ، انظر «احكام الجنائز» (ص ١٥٦ ـ ١٥٩).

(٥٢٦) «الصحيحة» (١٣٤٤).

٣٩٨

عباس رضي الله عنهما : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر بقبرين ، فقال : «إنهما ليعذّبان ، وما يعذّبان في كبير ، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول ، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة ، فدعا بجريدة رطبة ، فشقها نصفين ، وقال : لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا» (٥٢٧). وفي «صحيح» أبي حاتم عن أبي هريرة ، قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا قبر أحدكم ، أو الإنسان أتاه ملكان أسودان أزرقان. يقال لأحدهما المنكر ، وللآخر : النكير» (٥٢٨) ، وذكر الحديث إلخ ..

وقد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلا ، وسؤال الملكين ، فيجب اعتقاد ثبوت ذلك والإيمان به ، ولا تتكلّم في كيفيته ، إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته ، لكونه لا عهد له به في هذا الدار ، والشرع لا يأتي بما تحيله العقول ، ولكنه قد يأتي بما تحار فيه العقول. فإن عود الروح الى الجسد ليس على الوجه المعهود في الدنيا ، بل تعاد الروح إليه إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا. فالروح لها بالبدن خمسة أنواع من التعلق ، متغايرة الأحكام : أحدها : تعلقها به في بطن الأم جنينا. الثاني : تعلقها به بعد خروجه الى وجه الأرض. الثالث : تعلقها به في حال النوم ، فلها به تعلق من وجه ، ومفارقة من وجه. الرابع : تعلقها به في البرزخ ، فإنها وإن فارقته وتجردت عنه فإنها لم تفارقه فراقا كليّا بحيث لا يبقى لها إليه التفات البتة ، فإنه ورد ردها إليه وقت سلام المسلّم ، وورد أنه يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه. وهذا الردّ إعادة خاصة لا يوجب حياة البدن قبل يوم القيامة. الخامس : تعلقها به يوم بعث الأجساد ، وهو أكمل أنواع تعلقها البدن ، ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق إليه ، إذ هو تعلق لا يقبل البدن معه موتا ولا نوما ولا فسادا ، فالنوم أخو الموت. فتأمل هذا يزح عنك إشكالات كثيرة.

__________________

(٥٢٧) متفق عليه «صحيح ابي داود» (١٥).

(٥٢٨) حسن ، أخرجه الترمذي أيضا (١ / ١١٩) وقال «حديث حسن غريب» ، قلت واسناده حسن ، وفيه رد على من انكر من المعاصرين تسمية الملكين ب : «المنكر» و «النكير» وهو مخرج فى «الصحيحة» (١٣٩١)

.

٣٩٩

وليس السؤال في القبر للروح وحدها ، كما قال ابن حزم وغيره ، وأفسد منه قول من قال : إنه للبدن بلا روح! والأحاديث الصحيحة ترد القولين. وكذلك عذاب القبر يكون للنفس والبدن جميعا ، باتفاق أهل السنة والجماعة ، تنعم النفس وتعذب مفردة عن البدن ومتصلة به.

واعلم أن عذاب القبر هو عذاب البرزخ ، فكل من مات وهو مستحق للعذاب ناله نصيبه منه ، [قبر أو لم يقبر] ، أكلته السباع أو احترق حتى صار رمادا ونسف في الهواء ، أو صلب أو غرق في البحر ـ وصل الى روحه وبدنه من العذاب ما يصل الى المقبور. وما ورد من إجلاسه واختلاف أضلاعه ونحو ذلك ـ فيجب أن يفهم عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مراده من [غير] غلوّ ولا تقصير ، فلا يحمّل كلامه ما لا يحتمله ، ولا يقصر به عن مراده وما قصده من الهدى والبيان ، فكم حصل بإهمال ذلك والعدول عنه من الضلال والعدول عن الصواب ما لا يعلمه إلا الله. بل سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام ، وهو أصل كل خطأ في الفروع والأصول ، ولا سيما إن أضيف إليه سوء القصد. والله المستعان.

فالحاصل أن الدّور ثلاث : دار الدنيا ، ودار البرزخ ، ودار القرار. وقد جعل الله لكل دار أحكاما تخصها ، وركّب هذا الإنسان من بدن ونفس ، وجعل أحكام الدنيا على الأبدان ، والأرواح تبع لها ، وجعل أحكام البرزخ على الأرواح ، والأبدان تبع لها ، فإذا جاء يوم حشر الأجساد وقيام الناس من قبورهم ـ صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد جميعا. فإذا تأملت هذا المعنى حقّ التأمل ، ظهر لك أن كون القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار مطابق للعقل ، وأنه حق (٥٢٩) لا مرية فيه ، وبذلك يتميز المؤمنون بالغيب من غيرهم. ويجب أن يعلم أن النار التي في القبر والنعيم ، ليس من جنس نار الدنيا ولا نعيمها ، وإن كان الله تعالى يحمي عليه التراب والحجارة التي فوقه وتحته حتى يكون أعظم حرّا من جمر الدنيا ، ولو مسها أهل الدنيا لم يحسّوا بها. بل أعجب من هذا أن الرجلين يدفن أحدهما الى جنب صاحبه ، وهذا في حفرة من النار ، وهذا في روضة

__________________

(٥٢٩) في الاصل : لا حق.

٤٠٠