شرح العقيدة الطّحاويّة

ابن أبي العزّ الحنفي

شرح العقيدة الطّحاويّة

المؤلف:

ابن أبي العزّ الحنفي


المحقق: الشيخ محمّد ناصر الدين الألباني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بغداد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٤

الناس بهذه الآية لكفتهم» (٤٦٠). فالمتقون يجعل الله لهم مخرجا مما ضاق على الناس ، ويرزقهم من حيث لا يحتسبون ، فيدفع الله عنهم المضار ، ويجلب لهم المنافع ، ويعطيهم الله أشياء يطول شرحها ، من المكاشفات والتأثيرات.

قوله : (وأكرمهم عند الله أطوعهم وأتبعهم للقرآن).

ش : أراد أكرم المؤمنين هو الأطوع لله والأتبع للقرآن ، وهو الأتقى ، والاتقى هو الأكرم ، قال تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) الحجرات : ١٣. وفي «السنن» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم انه قال : «لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا لأبيض على أسود ، ولا لأسود على أبيض ـ : إلا بالتقوى ، الناس من آدم ، وآدم من تراب» (٤٦١). وبهذا الدليل يظهر ضعف تنازعهم في مسألة الفقير الصابر والغني الشاكر ، وترجيح أحدهما على الآخر ، وأن التحقيق أن التفضيل لا يرجع الى ذات الفقر والغنى ، وإنما يرجع الى الأعمال والأحوال والحقائق ، فالمسألة فاسدة في نفسها. فإن التفضيل عند الله بالتقوى وحقائق الإيمان ، لا بفقر ولا غنى. ولهذا ـ والله أعلم ـ قال عمر رضي الله عنه : الغنى والفقر مطيتان ، لا أبالي أيهما ركبت. والفقر والغنى ابتلاء من الله تعالى لعبده ، كما قال تعالى : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ : رَبِّي أَكْرَمَنِ) الفجر : ١٥ ، الآية. فإن استويا ، الفقير الصابر والغنيّ الشاكر ـ في التقوى ، استويا في الدرجة ، وإن فضل أحدهما فيها فهو الأفضل عند الله ، فإن الفقر والغنى لا يوزنان ، وإنما يوزن الصبر والشكر. ومنهم من أحال المسألة من وجه آخر : وهو أن الإيمان [نصف] صبر ونصف شكر ، فكل منهما لا بد له من صبر وشكر. وإنما أخذ الناس فرعا من الصبر وفرعا من الشكر ، وأخذوا في الترجيح ، فجرّدوا غنيّا

__________________

(٤٦٠) ضعيف ، رواه أحمد والحاكم بسند فيه انقطاع.

(٤٦١) صحيح ، لكن عزوه للسنن وهم ، فإنه لم يروه أحد منهم ، وانما هو في مسند الإمام أحمد. وقد كنت توقفت فيه قبل سنين ، ثم يسر الله تعالى لي جمع كثير من طرقه ، وحققت الكلام عليها ، فتبين لي انه صحيح بمجموعها ، وأودعت تفصيل ذلك في الموضع المشار إليه ، وعليه استجزت ايراده في كتابي الكبير «صحيح الجامع الصغير وزياداته» ١٧٨٠.

٣٦١

منفقا متصدقا باذلا ماله في وجوب القرب شاكرا لله عليه ، وفقيرا متفرغا لطاعة الله ولأداء العبادات صابرا على فقره. وحينئذ يقال : إن أكملهما أطوعهما وأتبعهما ، فإن تساويا تساوت درجتهما. والله أعلم. ولو صح التجريد ، لصح أن يقال : أيما أفضل معافى شاكر ، أو مريض صابر ، أو مطاع شاكر ، أو مهان صابر ، أو آمن شاكر ، أو خائف صابر؟ ونحو ذلك.

قوله : (والايمان : هو الايمان بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، والقدر ، خيره وشره ، وحلوه ومره ، من الله تعالى).

ش : تقدم ان هذه الخصال هي أصول الدين ، وبها أجاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث جبرائيل المشهور المتفق على صحته ، حين جاء الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على صورة رجل اعرابي ، وسأله عن الإسلام؟ فقال : «أن تشهد لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا» (٤٦٢). وسأله عن الإيمان؟ فقال : «أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر ، خيره وشره». وسأله عن الإحسان؟ فقال : «أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك». وقد ثبت كذلك في «الصحيح» عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه كان يقرأ في ركعتي الفجر تارة بسورتي الإخلاص : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) الكافرون : ١ ، و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) الاخلاص : ١. وتارة بآيتي الإيمان والإسلام : التي في سورة البقرة : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) البقرة : ١٣٦ ، الآية ، والتي في آل عمران : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) (٤٦٣) آل عمران : ٦٤ ، الآية. [و] فسر صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإيمان في حديث وفد عبد القيس ، المتفق على صحته ، حيث قال لهم : «آمركم بالإيمان بالله وحده ، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ،

__________________

(٤٦٢) متفق عليه ، وقد تقدم.

(٤٦٣) مسلم ، وهو في «صفة الصلاة» (ص ٩٢).

٣٦٢

وأن تؤدوا خمس ما غنمتم» (٤٦٤). ومعلوم أنه لم يرد [أن] هذه الأعمال تكون إيمانا بالله بدون إيمان القلب ، لما قد أخبر في غير موضع أنه لا بد من إيمان القلب. فعلم أن هذه مع إيمان القلب هو الإيمان ، وقد تقدم الكلام على هذا.

والكتاب والسنة مملوءان بما يدل على أن الرجل لا يثبت له حكم الإيمان إلا بالعمل مع التصديق ، وهذا أكثر من معنى الصلاة والزكاة ، فإن تلك إنما فسرتها السنة ، والإيمان بين معناه الكتاب والسنة. فمن الكتاب قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) الانفال : ٢ ، الآية. وقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) الحجرات : ١٥ ، الآية. وقوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) النساء : ٦٥ ، فنفي الإيمان حتى توجد هذه الغاية ـ : دل على أن هذه الغاية فرض على الناس ، فمن تركها كان من أهل الوعيد [و] لم يكن قد أتى بالإيمان الواجب ، الذي وعد أهله بدخول الجنة بلا عذاب. ولا يقال إن بين تفسير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإيمان في حديث جبرائيل وتفسيره إياه في حديث وفد عبد القيس معارضة ، لأنه فسر الإيمان في حديث جبرائيل بعد تفسير الإسلام ، فكان المعنى أنه الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر مع الأعمال التي ذكرها في تفسير الإسلام ، كما أن الإحسان متضمن للإيمان الذي قدم تفسيره قبل ذكره. بخلاف حديث وفد عبد القيس ، لأنه فسره ابتداء ، لم يتقدم قبله تفسير الإسلام. ولكن هذا الجواب لا يتأتى على ما ذكره الشيخ رحمه‌الله من تفسير الإيمان ، فحديث وفد عبد القيس مشكل عليه.

ومما يسأل عنه : أنه إذا كان ما أوجبه الله من الأعمال الظاهرة أكثر من الخصال الخمس التي أجاب [بها] النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث جبرائيل المذكور ، فلم قال إن الإسلام هذه الخصال الخمس؟ وقد أجاب بعض الناس بأن هذه أظهر شعائر الاسلام وأعظمها ، وبقيامه بها يتم استسلامه ، وتركه لها يشعر بانحلال قيد انقياده. والتحقيق : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر الدين الذي هو استسلام العبد لربه مطلقا ،

__________________

(٤٦٤) متفق عليه.

٣٦٣

الذي يجب لله [على] عباده محضه على الأعيان ، فيجب على كل من كان قادرا عليه ، ليعبد الله مخلصا له الدين ، وهذه هي الخمس ، وما سوى ذلك فإنما يجب بأسباب مصالح ، فلا يعم وجوبها جميع الناس ، بل إما أن يكون فرضا على الكفاية كالجهاد ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وما يتبع ذلك من إمارة ، وحكم ، وفتيا ، وإقراء ، وتحديث ، وغير ذلك. وأما ما يجب (٤٦٥) بسبب حق الآدميين ، فيختص به من وجب له وعليه ، وقد يسقط بإسقاطه ، من قضاء بإسقاطه ، من قضاء الديون ، ورد الأمانات والغصوب ، والإنصاف من المظالم ، من الدماء والأموال والاعراض ، وحقوق الزوجة والاولاد ، وصلة الارحام ، ونحو ذلك ، فإن الواجب من ذلك على زيد غير الواجب على عمرو. بخلاف صوم رمضان وحج البيت والصلوات الخمس والزكاة ، فإن الزكاة وإن كانت حقا ماليّا فإنها واجبة لله ، والأصناف الثمانية مصارفها ، ولهذا وجبت فيها النية ، ولم يجز أن يفعلها الغير بلا إذنه ، ولم تطلب من الكفار. وحقوق العباد لا يشترط لها النية ، ولو أداها غيره عنه بغير إذنه برئت ذمته ، ويطالب بها الكفار. وما يجب حقّا لله تعالى ، كالكفارات ، هو بسبب من العبد ، وفيها معنى العقوبة ، ولهذا كان التكليف شرطا في الزكاة ، فلا تجب على الصغير والمجنون عند أبي حنيفة وأصحابه رحمهم‌الله تعالى ، على ما عرف في موضعه.

وقوله : والقدر خيره وشره ، وحلوه ومره ، من الله تعالى ـ تقدم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث جبرائيل : «وتؤمن بالقدر خيره وشره» (٤٦٦) ، وقال تعالى : (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا) التوبة : ٥١. وقال تعالى : (إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ ، قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ. فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) النساء : ٧٨ ، (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ ، وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) النساء : ٧٩ ، الآية.

فإن قيل : فكيف الجمع بين قوله : (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) النساء : ٧٨ ، وبين

__________________

(٤٦٥) في الاصل : أن يجب.

(٤٦٦) متفق عليه على التفصيل المشار إليه قبل قليل

.

٣٦٤

قوله : (فَمِنْ نَفْسِكَ)؟ النساء : ٧٩ ، قيل : قوله : (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) : الخصب والجدب ، والنصر والهزيمة ، [كلها من عند الله] ، وقوله : (فَمِنْ نَفْسِكَ) : أي ما أصابك من سيئة من الله فبذنب نفسك عقوبة لك ، كما قال تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) الشورى : ٣٠. يدل على ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه : أنه قرأ : (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) النساء : ٧٩ ، (أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ). والمراد بالحسنة هنا النعمة ، وبالسيئة البلية ، في أصح الأقوال. وقد قيل : الحسنة الطاعة ، والسيئة المعصية. [و] قيل : الحسنة ما أصابه يوم بدر ، والسيئة ما أصابه يوم أحد. والقول الأول شامل لمعنى القول الثالث. والمعنى الثاني ليس مرادا دون الأول قطعا ، ولكن لا منافاة بين أن تكون سيئة العمل وسيئة الجزاء من نفسه (٤٦٧) ، مع أن الجميع مقدر ، فإن المعصية الثانية قد تكون عقوبة الأولى ، فتكون من سيئات الجزاء ، مع أنها من سيئات العمل ، والحسنة الثانية قد تكون من ثواب الأولى ، كما دل على ذلك الكتاب والسنة. وليس للقدرية أن يحتجوا بقوله تعالى : (فَمِنْ نَفْسِكَ) ، فإنهم يقولون : إن فعل العبد ـ حسنة كان أو سيئة ـ فهو منه لا من الله! والقرآن قد فرق بينهما ، وهم لا يفرقون ، ولأنه قال تعالى : (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ، فجعل الحسنات من عند الله ، كما جعل السيئات من عند الله ، وهم لا يقولون بذلك في الأعمال ، بل في الجزاء. وقوله بعد هذا : «ما أصابك من حسنة» و «من سيئة» ، [مثل قوله : «وإن تصبهم حسنة» و «إن تصبهم سيئة»]. وفرق سبحانه وتعالى بين الحسنات التي هي النعم ، وبين السيئات التي هي المصائب ، فجعل هذه من الله ، وهذه من نفس الإنسان ، لأن الحسنة مضافة الى الله ، إذ هو أحسن بها من كل وجه ، فما من وجه من أوجهها إلا وهو يقتضي الإضافة إليه ، وأما السيئة ، فهو إنما يخلقها لحكمة ، وهي باعتبار تلك الحكمة من إحسانه ، فإن الرب لا يفعل سيئة قط ، بل فعله كله حسن وخير.

ولهذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في الاستفتاح : «والخير كله بيديك ، والشر ليس

__________________

(٤٦٧) قال عفيفي : انظر ص ٣١٤ من كتاب «الايمان».

٣٦٥

إليك». أي : فإنك لا تخلق شرّا محضا ، بل كل ما يخلقه ففيه حكمة ، هو باعتبارها خير ، ولكن قد يكون فيه شرّ لبعض الناس ، فهذا شرّ جزئي إضافي ، فأما شر كليّ ، أو شر مطلق ـ : فالرب سبحانه وتعالى منزه عنه. وهذا هو الشر الذي ليس إليه ، ولهذا لا يضاف الشر إليه مفردا قط ، بل إما أن يدخل في عموم المخلوقات ، كقوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) الرعد : ١٨ ، (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) النساء : ٧٨ ، وإما أن يضاف الى السبب ، كقوله : (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) الفلق : ٢ ، وإما أن يحذف فاعله ، كقول الجن : (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) الجن : ١٠ ، وليس إذا خلق ما يتأذّى به بعض الحيوان لا يكون فيه حكمة ، بل لله من الرحمة والحكمة لا يقدّر قدره إلا الله تعالى ، وليس اذا وقع في المخلوقات ما هو شر جزئي بالإضافة ـ يكون شرّا كليّا [عامّا] ، بل الأمور العامة الكلية لا تكون إلا خيرا أو مصلحة للعباد ، كالمطر العام ، وكإرسال رسول عام. وهذا مما يقتضي أنه لا يجوز أن يؤيد كذابا عليه بالمعجزات التي أيّد بها الصادقين ، فإن هذا شرّ عام للناس ، يضلهم ، فيفسد عليهم دينهم ودنياهم وأخر لهم. وليس هذا كالملك الظالم [والعدو ، فإن الملك الظالم] لا بد أن يدفع الله به من الشر أكثر من ظلمه ، وقد قيل : ستون سنة بإمام ظالم خير من ليلة واحدة بلا إمام ، وإذا قدّر كثرة ظلمه ، فذاك خير في الدين ، كالمصائب ، تكون كفارة لذنوبهم ، ويثابون على الصبر عليه ، ويرجعون فيه الى الله ، ويستغفرونه ويتوبون إليه ، وكذلك ما يسلط عليهم من العدو. ولهذا قد يمكن الله كثيرا من الملوك الظالمين مدة ، وأما المتنبئون الكذابون فلا يطيل تمكينهم ، بل لا بد أن يهلكهم ، لأن فسادهم عامّ في الدين والدنيا والآخرة ، قال تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ. لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) الحاقة : ٤٤ ـ ٤٦.

وفي قوله : «فمن نفسك» ـ من الفوائد : أن العبد لا يطمئن الى نفسه ولا يسكن إليها ، فإن الشر كامن فيها ، لا يجيء إلا منها ، ولا يشتغل بملام الناس ولا ذمهم إذا أساءوا إليه ، فإن ذلك من السيئات التي أصابته ، وهي إنما أصابته بذنوبه ، فيرجع الى الذنوب ، ويستعيذ بالله من شر نفسه وسيئات عمله ، ويسأل الله أن يعينه على طاعته. فبذلك يحصل له كل خير ، ويندفع عنه كل شر.

٣٦٦

ولهذا كان أنفع الدعاء وأعظمه وأحكمه دعاء الفاتحة : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) الفاتحة : ٥ ـ ٧. فإنه إذا هداه هذا الصراط أعانه على طاعته وترك معصيته ، فلم بصبه شر ، لا في الدنيا ولا في الآخرة. لكن الذنوب هي لوازم نفس الانسان ، وهو محتاج الى الهدى كل لحظة ، وهو الى الهدى أحوج منه الى الطعام والشراب. ليس كما يقوله بعض المفسرين : انه قد هداه! فلما ذا يسأل الهدى؟! وان المراد التثبيت ، أو مزيد الهداية! بل العبد محتاج الى أن يعلمه الله ما يفعله من تفاصيل أحواله ، والى ما يتركه من تفاصيل الأمور ، في كل يوم ، والى أن يلهمه أن يعمل ذلك. فإنه لا يكفي مجرد علمه إن لم يجعله مريدا للعمل بما يعلمه ، وإلا كان العلم حجة عليه ، ولم يكن مهتديا. ومحتاج الى أن يجعله قادرا على العمل بتلك الإرادة الصالحة ، فإن المجهول لنا من الحق أضعاف المعلوم ، وما لا نريد فعله تهاونا وكسلا مثل ما نريده أو أكثر منه أو دونه ، وما لا نقدر عليه مما نريده كذلك ، وما نعرف جملته ولا نهتدي لتفاصيله فأمر يفوت الحصر. ونحن محتاجون الى الهداية التامة ، فمن كملت له هذه الامور كان سؤاله سؤال تثبيت ، وهي آخر الرتب. وبعد ذلك كله هداية أخرى ، وهي الهداية الى طريق الجنة في الآخرة. ولهذا كان الناس مأمورين بهذا الدعاء في كل صلاة ، لفرط حاجتهم إليه ، فليسوا الى شيء أحوج منهم الى هذا الدعاء. فيجب أن يعلم أن الله بفضل رحمته جعل هذا الدعاء من أعظم الأسباب المقتضية للخير ، المانعة من الشر ، فقد بين القرآن أن السيئات من النفس ، وإن كانت بقدر الله ، وأن الحسنات كلها من الله تعالى. وإذا كان الأمر كذلك وجب أن يشكر سبحانه ، وأن يستغفره العبد من ذنوبه ، وألا يتوكل إلا عليه وحده ، فلا يأتي بالحسنات إلا هو. فأوجب ذلك توحيده ، والتوكل عليه وحده ، والشكر له وحده ، والاستغفار من الذنوب.

وهذه الأمور كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجمعها في الصلاة ، كما ثبت عنه في «الصحيح» :

أنه كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول : «ربنا لك الحمد ، حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه» (٤٦٨). «ملء السموات ، وملء الارض ، وملء ما شئت من شيء بعد ، أهل

__________________

(٤٦٨) البخاري ، لكن ليس من فعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بل انه سمع رجلا يقول ذلك فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها ايهم يكتبها أو لا» انظر كتابى «صفة الصلاة» (ص ١١٩).

٣٦٧

الثناء والمجد ، أحقّ ما قاله العبد ، وكلنا لك عبد» (٤٦٩). فهذا حمد ، وهو شكر لله تعالى ، وبيان أن حمده أحقّ ما قاله العبد ، ثم يقول بعد ذلك : «لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجد». وهذا تحقيق لوحدانيته ، لتوحيد الربوبية ، خلقا وقدرا ، وبداية ونهاية (٤٧٠) ، هو المعطي المانع ، لا مانع لما أعطى ، ولا معطي لما منع ، ولتوحيد الإلهية ، شرعا وأمرا ونهيا ، وإن العباد وإن كانوا يعطون جدّا : ملكا وعظمة وبختا ورئاسة ، في الظاهر ، أو في الباطن ، كأصحاب المكاشفات والتصرفات الخارقة ، فلا ينفع ذا الجدّ منك الجد ، أي لا ينجيه ولا يخلّصه ، ولهذا قال : لا ينفعه منك ، (٤٧١) ، ولم يقل ولا ينفعه عندك لأنه لو قيل ذلك أوهم أنه لا يتقرب به إليك ، لكن قد لا يضرّه. فتضمن هذا الكلام تحقيق التوحيد ، أو تحقيق قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) الفاتحة : ٤ ، فإنه لو قدّر أن شيئا من الأسباب يكون مستقلا بالمطلوب ، وإنما يكون بمشيئة الله وتيسيره ـ : لكان الواجب أن لا يرجى إلا الله ، ولا يتوكل إلا عليه ، ولا يسأل إلا هو ، ولا يستغاث إلا به ، ولا يستعان إلا هو ، فله الحمد وإليه المشتكى ، وهو المستعان ، وبه المستغاث ، ولا حول ولا قوة إلا به. فكيف وليس شيء من الاسباب مستقلّا بمطلوب ، بل لا بد من انضمام أسباب أخر إليه ، ولا بد أيضا من صرف الموانع والمعارضات عنه ، حتى يحصل المقصود ، فكل سبب فله شريك ، وله ضد ، فإن لم يعاونه شريكه ، ولم ينصرف عنه ضده ـ : لم يحصل مسببه. والمطر وحده لا ينبت النبات إلا بما ينضم إليه من الهواء والتراب وغير ذلك ، ثم الزرع لا يتم حتى تصرف عنه الآفات المفسدة له ، والطعام والشراب لا يغذّي إلا بما جعل في البدن من الأعضاء والقوى ، ومجموع ذلك لا يفيد إن لم تصرف عنه المفسدات.

والمخلوق الذي يعطيك أو ينصرك ، فهو ـ مع أن الله يجعل فيه الإرادة والقوة

__________________

(٤٦٩) صحيح متفق عليه ، وهو حديث آخر ، والمصنف دمجه بالأول ، فأوهم انهما حديث واحد! انظر المصدر الآنف الذكر.

(٤٧٠) في الاصل : وهداية.

(٤٧١) قال عفيفي : انظر ص ٣١٩ ج ٤ من «مجموع الفتاوى» لابن تيمية.

٣٦٨

والفعل ـ : فلا يتم ما يفعله إلا بأسباب كثيرة ، خارجة عن قدرته ، تعاونه على مطلوبه ، ولو كان ملكا مطاعا ، ولا بد أن يصرف عن الأسباب المعاونة ما يعارضها ويمانعها ، فلا يتم المطلوب إلا بوجود المقتضي وعدم المانع.

وكل سبب معيّن فإنما هو جزء من المقتضي ، فليس في الوجود شيء واحد هو مقتض تامّ ، وإن سمي مقتضيا ، وسمي سائر ما يعينه شروطا ـ فهذا نزاع لفظي. وأما أن يكون في المخلوقات علة تامة تستلزم معلولها فهذا باطل.

ومن عرف هذا حق المعرفة انفتح له باب توحيد الله ، وعلم أنه لا يستحق أن يسأل غيره ، فضلا عن أن يعبد غيره ، ولا يتوكل على غيره ، ولا يرجى غيره.

قوله : (ونحن مؤمنون بذلك كله ، لا نفرق بين أحد من رسله ، ونصدقهم كلهم على ما جاءوا به).

ش : الإشارة بذلك الى ما تقدم ، مما يجب الإيمان به تفصيلا ، وقوله : لا نفرق بين أحد من رسله ، الى آخر كلامه ـ أي : لا نفرق بينهم بأن نؤمن ببعض ونكفر ببعض (٤٧٢) ، بل نؤمن بهم ونصدقهم كلهم ، فإن من آمن ببعض وكفر ببعض ، كافر بالكل. قال تعالى : (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً. أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) النساء : ١٥٠ ـ ١٥١. فإن المعنى الذي لأجله (٤٧٣) آمن بمن آمن به [به] منهم ـ موجود في الذي لم يؤمن به ، وذلك الرسول الذي آمن به قد جاء بتصديق [بقية] المرسلين ، فإذا لم يؤمن ببعض المرسلين كان كافرا بمن في زعمه أنه مؤمن به ، لأن ذلك الرسول قد جاء بتصديق المرسلين كلهم ، فكان كافرا حقّا ، وهو يظن أنه مؤمن ، فكان من الأخسرين أعمالا ، الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.

قوله : (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النار لا يخلدون ، اذا ماتوا وهم موحدون ، وان لم يكونوا تائبين ، بعد أن لقوا الله عارفين.

وهم في مشيئته وحكمه ،

__________________

(٤٧٢) قال عفيفي : انظر ص ٣١٦ ج ٤ من «مجموع الفتاوى».

(٤٧٣) في الاصل : للرجاء.

٣٦٩

ان شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله ، كما ذكر عزوجل في كتابه : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) النساء : ٤٨ و ١١٦ وان شاء عذبهم في النار بعدله ، ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته ، ثم يبعثهم الى جنته. وذلك بأن الله تعالى تولّى أهل معرفته ، ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته ، الذين خابوا من هدايته ، ولم ينالوا من ولايته. اللهم يا وليّ الاسلام وأهله ، ثبتنا على الاسلام حتى نلقاك به).

ش : فقوله : وأهل الكبائر من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النار لا يخلدون ، إذا ماتوا وهم موحدون ـ رد لقول الخوارج والمعتزلة ، القائلين بتخليد أهل الكبائر في النار. لكن الخوارج تقول بتكفيرهم ، والمعتزلة بخروجهم عن الإيمان ، لا بدخولهم في الكفر ، بل لهم منزلة بين منزلتين ، كما تقدم عند الكلام على قول الشيخ رحمه‌الله : ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله.

وقوله : وأهل الكبائر من أمة محمد ـ تخصيصه أمة محمد ، يفهم منه أن أهل الكبائر من أمة غير محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل نسخ تلك الشرائع به ، [حكمهم] مخالف لأهل الكبائر من أمة محمد. وفي ذاك نظر ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر أنه : «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان» (٤٧٤). ولم يخص أمته بذلك ، بل ذكر الإيمان مطلقا ، فتأمله. وليس في بعض النسخ ذكر الأمة. وقوله : في النار ـ معمول لقوله : لا يخلدون. وإنما قدمه لأجل السجعة ، لا أن يكون [في النار] خبر لقوله : وأهل الكبائر ، كما ظنه بعض الشارحين.

واختلف العلماء في الكبائر على أقوال ، فقيل : سبعة ، وقيل : سبعة عشر. وقيل : ما اتفقت الشرائع على تحريمه. وقيل : ما يسد باب المعرفة بالله. وقيل : ذهاب الأموال والأبدان. وقيل : سميت كبائر بالنسبة والإضافة الى ما دونها. وقيل : لا تعلم أصلا. أو : أنها أخفيت كليلة القدر. وقيل : إنها إلى السبعين أقرب. وقيل : كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة. وقيل : إنها ما يترتب عليها حدّ أو توعّد عليها بالنار ، أو اللعنة ، أو الغضب. وهذا أمثل الأقوال. واختلفت عبارات

__________________

(٤٧٤) متفق عليه ، وهو مخرج في «الظلال» (٨٤٩ ـ ٨٥٢).

٣٧٠

السلف (٤٧٥) في تعريف الصغائر : منهم من قال : الصغيرة ما دون الحدّين : حد الدنيا وحد الآخرة. ومنهم من قال : كل ذنب لم يختم بلعنة أو غضب أو نار. ومنهم من قال : الصغيرة ما ليس فيها حد في الدنيا ولا وعيد في الآخرة ، والمراد بالوعيد : الوعيد الخاص بالنار أو اللعنة أو الغضب ، فإن الوعيد الخاص في الآخرة كالعقوبة الخاصة في الدنيا ، أعني المقدّرة ، فالتعزير في الدنيا نظير الوعيد بغير النار أو اللعنة أو الغضب. وهذا الضابط يسلم من القوادح الواردة على غيره ، فإنه يدخل فيه كل ما ثبت بالنص أنه كبيرة ، كالشرك ، والقتل ، والزنا ، والسحر ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ، ونحو ذلك ، كالفرار من الزحف ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، وعقوق الوالدين ، واليمين الغموس ، وشهادة الزور ، وأمثال ذلك.

وترجيح هذا القول من وجوه : أحدها : أنه هو المأثور عن السلف ، كابن عباس ، وابن عيينة ، وابن حنبل رضي الله عنهم ، وغيرهم. الثاني : أن الله تعالى قال : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) النساء : ٣١. فلا يستحق هذا الوعد الكريم من أوعد بغضب الله ولعنته وناره ، وكذلك من استحق أن يقام عليه الحد لم تكن سيئاته مكفرة عنه باجتناب الكبائر. الثالث : أن هذا الضابط مرجعه الى ما ذكره الله ورسوله من الذنوب ، فهو حد متلقى من خطاب الشارع. الرابع : أن هذا الضابط يمكن الفرق به بين الكبائر والصغائر ، بخلاف تلك الأقوال (٤٧٦) ، فإن من قال : سبعة ، أو سبعة عشرة ، أو الى السبعين أقرب ـ : مجرد دعوى. ومن قال : ما اتفقت الشرائع على تحريمه دون ما اختلفت فيه ـ : يقتضي أن شرب الخمر ، والفرار من الزحف ، والتزوّج ببعض المحارم (٤٧٧) ، والمحرم بالرضاعة والصهرية ، ونحو ذلك ـ ليس من الكبائر! وأن

__________________

(٤٧٥) في الاصل : عبارة قائلية.

(٤٧٦) قال عفيفي : انظر ص ٢٨٠ وما بعدها من ج ٣ من «مجموع الفتاوى».

(٤٧٧) قال عفيفي : انظر ص ٣١٦ وما بعدها من «مدارج السالكين» لابن القيم وص ٤٩٤ الى ٤٩٧ من «مختصر الفتاوى» و ٦٥٠ ج ١١ من «مجموع الفتاوى»

.

٣٧١

الحبة من مال اليتيم ، والسرقة لها ، والكذبة الواحدة الخفيفة ، ونحو ذلك ـ : من الكبائر! وهذا فاسد. ومن قال : ما سد باب المعرفة بالله ، أو ذهاب الأموال والأبدان ـ : يقتضي أن شرب الخمر ، وأكل الخنزير والميتة والدم ، وقذف المحصنات ـ ليس من الكبائر! وهذا فاسد. ومن قال : إنها سميت كبائر بالنسبة الى ما دونها ، أو كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة ـ : يقتضي أن الذنوب في نفسها لا تنقسم الى صغائر وكبائر! وهذا فاسد ، لأنه خلاف النصوص الدالة على تقسيم الذنوب الى صغائر وكبائر. ومن قال : إنها لا تعلم أصلا ، أو إنها مبهمة ـ : فإنما أخبر عن نفسه أنه لا يعلمها ، فلا يمنع أن يكون قد علمها غيره. والله أعلم.

وقوله : وإن لم يكونوا تائبين ـ لأن التوبة لا خلاف أنها تمحو الذنوب ، وإنما الخلاف في غير التائب. وقوله : بعد أن لقوا الله تعالى عارفين ـ لو قال : مؤمنين ، بدل قوله : عارفين ، كان أولى ، لأن من عرف الله ولم يؤمن به فهو كافر. وإنما اكتفى بالمعرفة وحدها الجهم ، وقوله مردود باطل ، كما تقدم. فإن إبليس عارف بربه ، (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) الحجر : ٣٦. (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) ص : ٨٢ ، ٨٣. وكذلك فرعون وأكثر الكافرين. قال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) لقمان : ٢٥. (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) المؤمنون : ٨٤ ـ ٨٥. الى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى. وكأن الشيخ رحمه‌الله أراد المعرفة الكاملة المستلزمة للاهتداء ، التي يشير إليها أهل الطريقة ، وحاشا أولئك أن يكونوا من أهل الكبائر ، بل هم سادة الناس وخاصتهم.

وقوله ؛ وهم في مشيئة الله وحكمه ، إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله ، الى آخر كلامه ـ فصل الله تعالى بين الشرك وغيره لأن الشرك أكبر الكبائر ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأخبر الله تعالى أن الشرك غير مغفور ، وعلّق غفران ما دونه بالمشيئة ، والجائز يعلّق بالمشيئة دون الممتنع ، ولو كان الكل سواء لما كان للتفصيل معنى. ولأنه علق هذا الغفران بالمشيئة ، وغفران الكبائر والصغائر بعد التوبة مقطوع به ، غير معلّق بالمشيئة ، كما قال تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ، إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الزمر : ٥٣.

٣٧٢

فوجب أن يكون الغفران المعلق بالمشيئة هو غفران الذنوب سوى الشرك بالله [قبل التوبة].

وقوله : ذلك أن الله مولى أهل معرفته ـ فيه مؤاخذة لطيفة ، كما تقدم. وقوله : اللهم يا ولي الإسلام وأهله مسّكنا بالاسلام ، وفي نسخة : ثبّتنا على الإسلام حتى نلقاك به ـ روى شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتابه «الفاروق» ، بسنده عن أنس رضي الله عنه ، قال : كان من دعاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يا ولي الإسلام وأهله ، مسّكني بالإسلام حتى ألقاك عليه» (٤٧٨). ومناسبة ختم الكلام المتقدم بهذا الدعاء ظاهرة. وبمثل هذا الدعاء دعا يوسف الصديق صلوات الله عليه ، حيث قال : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ، فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ، تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) يوسف : ١٠١. وبه دعا السحرة الذين كانوا أول من آمن بموسى صلوات الله على نبينا وعليه ، حيث قالوا : (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) الاعراف : ١٢٦. ومن استدل بهاتين الآيتين على جواز تمني الموت فلا دليل له فيه ، فإن الدعاء إنما هو بالموت على الإسلام ، لا بمطلق الموت ، ولا بالموت الآن ، والفرق ظاهر.

قوله : (وترى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة ، وعلى من مات منهم).

ش : قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صلوا خلف كل بر وفاجر» (٤٧٩). رواه مكحول عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وأخرجه الدارقطني ، وقال : مكحول لم يلق أبا هريرة. وفي إسناده معاوية بن صالح ، متكلّم فيه ، وقد احتج به مسلم في صحيحه. وخرّج له

__________________

(٤٧٨) اخرجه الضياء المقدسي في «الاحاديث المختارة» (ق ١٥٠ / ١) رواه من طريق الطبراني بسنده عن انس بن مالك به. وهو اسناد جيد ، كما حققته في «الاحاديث الصحيحة» (١٨٣٣) وراجع مقدمة الطبعة الثالثة ص ٦.

(٤٧٩) ضعيف ، علته الانقطاع بين مكحول وابي هريرة ، وهو مخرج في «ضعيف مسند أبي داود» (٩٧).

٣٧٣

الدارقطني أيضا وأبو داود ، عن مكحول ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الصلاة واجبة عليكم مع كل مسلم ، برّا كان أو فاجرا ، وإن عمل بالكبائر ، والجهاد واجب عليكم مع كل أمير ، برّا كان أو فاجرا ، وإن عمل الكبائر» (٤٨٠). وفي «صحيح البخاري» : أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه كان يصلي خلف الحجّاج [بن يوسف] الثقفي ، وكذا أنس بن مالك ، وكان الحجاج فاسقا ظالما. وفي «صحيحه» أيضا ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يصلون لكم ، فإن أصابوا فلكم ولهم ، وأن أخطئوا فلكم وعليهم» (٤٨١). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «صلوا خلف من قال لا إله إلا الله ، وصلوا على من مات من أهل لا إله إلا الله» (٤٨٢). أخرجه الدارقطني من طرق ، وضعّفها.

اعلم ، رحمك الله وإيانا : أنه يجوز للرجل أن يصلي خلف من لم يعلم منه بدعة ولا فسقا ، باتفاق الأئمة ، وليس من شرط الائتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه ، ولا أن يمتحنه ، فيقول : ما ذا تعتقد؟! بل يصلي خلف المستور الحال ، ولو صلى خلف مبتدع يدعو الى بدعته ، أو فاسق ظاهر الفسق ، وهو الإمام الراتب الذي لا يمكنه الصلاة إلا خلفه ، كإمام الجمعة والعيدين ، والإمام في صلاة الحج بعرفة ، ونحو ذلك ـ : فإن المأموم يصلي خلفه ، عند عامة السلف والخلف. ومن ترك الجمعة والجماعة خلف الإمام الفاجر ، فهو مبتدع عند أكثر العلماء. والصحيح أنه يصليها ولا يعيدها ، فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون الجمعة والجماعة خلف الأئمة الفجّار ولا يعيدون ، كما كان عبد الله بن عمر يصلي خلف الحجاج بن يوسف ، وكذلك أنس رضي الله عنه ، كما تقدم ، وكذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وغيره يصلون خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، وكان يشرب الخمر ، حتى إنه صلى بهم الصبح مرة أربعا ، ثم قال : أزيدكم؟! فقال له ابن مسعود : ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة!! وفي «الصحيح» : أن عثمان بن عفان رضي الله

__________________

(٤٨٠) ضعيف أيضا للعلة المذكورة ، وهو مخرج في «الارواء» (٥٢٧).

(٤٨١) صحيح ، رواه أحمد أيضا ، وهو في «مختصر البخاري» برقم (٣٨٣).

(٤٨٢) ضعيف.

٣٧٤

عنه لما حصر صلى بالناس شخص ، فسأل سائل عثمان : إنك إمام عامة ، وهذا الذي صلى بالناس إمام فتنة؟ فقال : يا ابن أخي ، إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس ، فإذا أحسنوا فأحسن معهم ، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم (٤٨٣).

والفاسق والمبتدع صلاته في نفسها صحيحة ، فإذا صلى المأموم خلفه لم تبطل صلاته ، لكن إنما كره من كره الصلاة خلفه ، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب.

ومن ذلك : أن من أظهر بدعة وفجورا لا يرتب إماما للمسلمين ، فإنه يستحق التعزير حتى يتوب ، فإن أمكن هجره حتى يتوب كان حسنا ، وإذا كان بعض الناس إذا ترك الصلاة خلفه وصلى خلف غيره أثّر ذلك في إنكار المنكر حتى يتوب أو يعزل أو ينتهي الناس عن مثل ذنبه ـ : فمثل هذا إذا ترك الصلاة خلفه كان في ذلك مصلحة شرعية ، ولم تفت المأموم جمعة ولا جماعة. وأما إذا كان ترك الصلاة خلفه يفوت المأموم الجمعة والجماعة ، فهنا لا يترك الصلاة خلفه إلا مبتدع مخالف للصحابة رضي الله عنهم. وكذلك إذا كان الإمام قد رتّبه ولاة الأمور ، ليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية ، فهنا لا يترك الصلاة خلفه ، بل الصلاة خلفه أفضل (٤٨٤) ، فإذا أمكن الإنسان أن لا يقدم مظهرا للمنكر في الإمامة ، وجب عليه ذلك ، لكن إذا ولاه غيره ، ولم يمكنه صرفه عن الإمامة ، أو كان لا يتمكن من صرفه عن الإمامة إلا بشرّ أعظم ضررا من ضرر ما أظهر من المنكر ـ : فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير ، ولا دفع أخف الضررين بحصول أعظمهما ، فإن الشرائع جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها ، وتعطيل المفاسد وتقليلها ، بحسب الإمكان. فتفويت الجمع والجماعات أعظم فسادا من الاقتداء فيهما بالإمام الفاجر ، لا سيما إذا كان التخلف عنها لا يدفع فجورا ، فيبقى تعطيل المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة.

وأما إذا أمكن فعل الجمعة والجماعة خلف البرّ ، فهذا أولى من فعلها خلف الفاجر. وحينئذ ، فإذا صلى خلف الفاجر من غير عذر ، فهو موضع اجتهاد

__________________

(٤٨٣) اخرجه البخاري في «الاذان» ، وهو في «المختصر» برقم (٣٨٤).

(٤٨٤) قال عفيفي : انظر ص ٣٤٢ ـ ٣٦٠ ج ٢٣ من «مجموع الفتاوى».

٣٧٥

العلماء : [منهم من قال : يعيد] ، ومنهم من قال : يعيد. وموضع بسط ذلك في كتب الفروع.

وأما الإمام إذا نسي أو أخطأ ، ولم يعلم المأموم بحاله ، فلا إعادة على المأموم ، للحديث المتقدم. وقد صلى عمر رضي الله عنه وغيره وهو جنب ناسيا للجنابة. فأعاد الصلاة ، ولم يأمر المأمومين بالإعادة (٤٨٥). ولو علم أن إمامه بعد فراغه كان على غير طهارة ، أعاد عند أبي حنيفة ، خلافا لمالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه. وكذلك لو فعل الإمام ما لا يسوغ عند المأموم. وفيه تفاصيل موضعها كتب الفروع. ولو علم أن إمامه يصلي على غير وضوء!! فليس له أن يصلي خلفه ، لأنه لاعب ، وليس بمصلّ.

وقد دلت نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن وليّ الأمر ، وإمام الصلاة ، والحاكم ، وأمير الحرب ، وعامل الصدقة ـ : يطاع في مواضع الاجتهاد ، وليس عليه أن يطيع أتباعه في موارد الاجتهاد ، بل عليهم طاعته في ذلك ، وترك رأيهم لرأيه ، فإن مصلحة الجماعة والائتلاف ، ومفسدة الفرقة والاختلاف ، أعظم من أمر المسائل الجزئية. ولهذا لم يجز للحكام أن ينقض بعضهم حكم بعض. والصواب المقطوع به صحة صلاة بعض هؤلاء خلف بعض. يروى عن أبي يوسف : أنه لما حجّ مع هارون الرشيد ، فاحتجم الخليفة ، وأفتاه مالك بأنه لا يتوضأ ، وصلى بالناس ، فقيل لأبي يوسف : أصليت خلفه؟ قال : سبحان الله! أمير المؤمنين. يريد بذلك أن ترك الصلاة خلف ولاة الأمور من فعل أهل البدع. وحديث أبي هريرة ، الذي رواه البخاري ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يصلون لكم ، فإن أصابوا فلكم ولهم ، وإن أخطئوا فلكم وعليهم» (٤٨٦) ـ : نص صحيح صريح في أن الإمام إذا أخطأ فخطؤه عليه ، لا على المأموم. والمجتهد غايته أنه أخطأ بترك واجب اعتقد أنه ليس واجبا ، أو فعل محظورا اعتقد أنه ليس محظورا. ولا يحل

__________________

(٤٨٥) عبد الرزاق في «المصنف» (٢ / ٣٤٧ ـ ٣٤٩) طبع المكتب الإسلامي ، وكذا ابن أبي شيبة (١ / ٣٩٣) بأسانيد بعضها صحيح.

(٤٨٦) صحيح ، وتقدم بالحديث (رقم ٤٨١).

٣٧٦

لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يخالف هذا الحديث الصريح الصحيح بعد أن يبلغه ، وهو حجة على من يطلق من الحنفية والشافعية والحنبلية أن الإمام إذا ترك ما يعتقد المأموم وجوبه لم يصح اقتداؤه به!! فإن الاجتماع والائتلاف مما يجب رعايته وترك الخلاف المفضي الى الفساد.

وقوله : وعلى من مات منهم ـ أي ونرى الصلاة على من مات من الأبرار والفجار ، وإن كان يستثنى من هذا العموم البغاة وقطّاع الطريق ، وكذا قاتل نفسه ، خلافا لأبي يوسف ، لا الشهيد ، خلافا لمالك والشافعي رحمهما‌الله ، على ما عرف في موضعه. لكن الشيخ إنما ساق هذا لبيان أنّا لا نترك الصلاة على من مات من أهل البدع والفجور ، لا للعموم الكلي ، ولكن المظهرون للإسلام قسمان : إما مؤمن ، وإما منافق ، فمن علم نفاقه لم تجز الصلاة عليه والاستغفار له ، ومن لم يعلم ذلك منه صلي عليه. فإذا علم شخص نفاق شخص لم يصلّ هو عليه ، وصلى عليه من لم يعلم نفاقه ، وكان عمر رضي الله عنه لا يصلي على من لم يصلّ عليه حذيفة ، لأنه كان في غزوة تبوك قد عرف المنافقين ، وقد نهى الله سبحانه وتعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الصلاة على المنافقين ، وأخبر أنه لا يغفر لهم باستغفاره ، وعلّل ذلك بكفرهم بالله ورسوله ، فمن كان مؤمنا بالله ورسوله لم ينه عن الصلاة عليه ، ولو كان له من الذنوب الاعتقادية البدعية أو العملية أو الفجورية ما له ، بل قد أمره الله تعالى بالاستغفار للمؤمنين ، فقال تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) محمد : ١٩. فأمره سبحانه بالتوحيد والاستغفار لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات ، فالتوحيد أصل الدين ، والاستغفار له وللمؤمنين كماله. فالدعاء لهم بالمغفرة والرحمة وسائر الخيرات ، إما واجب وإما مستحب ، وهو على نوعين : عام وخاص ، أما العام فظاهر ، كما في هذه الآية ، وأما الدعاء الخاص ، فالصلاة على الميت ، فما من مؤمن يموت إلا وقد أمر المؤمنون ان يصلوا عليه صلاة الجنازة ، وهم مأمورون في صلاتهم عليه أن يدعوا له ، كما روى أبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء» (٤٨٧).

__________________

(٤٨٧) اسناده جيد «احكام الجنائز» (١٢٣) و «ارواء الغليل» (٧٣٢).

٣٧٧

قوله : (ولا ننزل أحدا منهم جنة ولا نارا).

ش : يريد : أنا لا نقول عن أحد معين من أهل القبلة إنه من أهل الجنة أو من أهل النار ، إلا من أخبر الصادق صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه من أهل الجنة كالعشرة رضي الله عنهم. وإن كنا نقول : إنه لا بد أن يدخل النار من أهل الكبائر من شاء الله إدخاله النار ، ثم يخرج منها بشفاعة الشافعين ، ولكنا نقف في الشخص المعيّن ، فلا نشهد له بجنة ولا نار إلا عن علم ، لأن الحقيقة باطنة ، وما مات عليه لا نحيط به ، لكن نرجو للمحسنين ، ونخاف على المسيئين.

وللسلف في الشهادة بالجنة ثلاثة أقوال : أحدها : أن لا يشهد لأحد إلا للأنبياء ، وهذا ينقل عن محمد بن الحنفية ، والأوزاعي. والثاني : أنه يشهد بالجنة لكل مؤمن جاء فيه النص ، وهذا قول كثير من العلماء وأهل الحديث. والثالث : أنه يشهد بالجنة لهؤلاء ولمن شهد له المؤمنون ، كما في «الصحيحين» : أنه مر بجنازة ، فأثنوا عليها بخير ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وجبت ، ومر بأخرى ، فأثني عليها بشر ، فقال : وجبت». وفي رواية كرر : «وجبت» ثلاث مرات ، فقال عمر : يا رسول الله ، ما وجبت؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذا أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة ، وهذا أثنيتم عليه شرّا وجبت له النار ، أنتم شهداء الله في الأرض» (٤٨٨). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «توشكون أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار» ، قالوا : بم يا رسول الله؟ قال : «بالثناء الحسن والثناء السيئ» (٤٨٩). فأخبر أن ذلك مما يعلم به أهل الجنة وأهل النار.

قوله : (ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق ، ما لم يظهر منهم شيء من ذلك ، ونذر سرائرهم الى الله تعالى).

__________________

(٤٨٨) صحيح ، وهو مخرج في «احكام الجنائز» (ص ٤٤).

(٤٨٩) اسناده محتمل للتحسين ، فانه من رواية ابن أبي زهير الثقفي عن أبيه مرفوعا. أخرجه ابن ماجه (٤٢٢١) وأحمد (٣ / ٤١٦ ، ٦ / ٤٦٦) قال في «الزوائد» : «اسناده صحيح ، رجاله ثقات» ، قلت : أبو بكر هذا ، لم يرو عنه غير اثنين ، ولم يوثقه غير ابن حبان (١ / ٢٦٧) ، وقال في «التقريب» : «مقبول» ، يعني عند المتابعة ، والافلين الحديث

.

٣٧٨

ش : لأنّا قد أمرنا بالحكم بالظاهر ، ونهينا عن الظن واتباع ما ليس لنا به علم. قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) الحجرات : ١١ ، الآية. وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ ، إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) الحجرات : ١٢. وقال تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) الاسراء : ٣٦.

قوله : (ولا نرى السيف على أحد من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا من وجب عليه السيف).

ش : في «الصحيح» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، إلا بإحدى ثلاث : الثيّب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة» (٤٩٠).

قوله : (ولا نرى الخروج على ائمتنا وولاة أمورنا ، وإن جاروا ، ولا ندعوا عليهم ، ولا ننزع يدا من طاعتهم ، ونرى طاعتهم من طاعة الله عزوجل فريضة ، ما لم يأمروا بمعصية ، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة).

ش : قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) النساء : ٥٩. وفي «الصحيح» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ، ومن يعص الأمير فقد عصاني» (٤٩١). وعن أبي ذر رضي الله عنه. قال : «إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبدا حبشيا مجدع الأطراف» (٤٩٢). وعند

__________________

(٤٩٠) متفق عليه من حديث ابن مسعود ، وهو مخرج في «الارواء» (٢١٩٦) و «الظلال» (٦٠ و ٨٩٣ و ٨٩٤).

(٤٩١) رواه البخاري ومسلم من حديث ابي هريرة ، وهو مخرج في «الارواء» (٣٩٤).

(٤٩٢) رواه مسلم عنه.

٣٧٩

البخاري : «ولو لحبشي كأن رأسه زبيبة» (٤٩٣). وفي «الصحيحين» أيضا : «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحبّ وكره ، إلا أن يؤمر بمعصية ، [فإن أمر بمعصية] فلا سمع ولا طاعة» (٤٩٤). وعن حذيفة بن اليمان قال : كان الناس يسألون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر ، مخافة أن يدركني ، فقلت : يا رسول الله ، إنا كنا في جاهلية وشرّ ، فجاءنا الله بهذا الخير ، فهل بعد هذا الخبر من شر؟ قال : «نعم» ، فقلت : هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال : «نعم ، وفيه دخن» ، قال : قلت : وما دخنه؟ قال : «قوم يسنون بغير سنتي ، ويهدون بغير هديي ، تعرف منهم وتنكر» ، فقلت : هل بعد ذلك الخير من شرّ؟ قال : «نعم : دعاة على أبواب جهنم. من أجابهم إليها قذفوه فيها» فقلت : يا رسول الله ، صفهم لنا؟ قال : «نعم ، قوم من جلدتنا ، يتكلمون بألستنا» ، قلت : يا رسول الله ، فما ترى إذا أدركني ذلك؟ قال : «تلزم جماعة المسلمين ، وإمامهم» فقلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال : «فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعضّ على أصل شجرة ، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك» (٤٩٥). وعن ابن عباس رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر ، فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات ، فميتته جاهلية» (٤٩٦). وفي رواية : «فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» (٤٩٧). وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا بويع

__________________

(٤٩٣) البخاري (٤ / ٣٨٥) عن أنس.

(٤٩٤) متفق عليه من حديث ابن عمر.

(٤٩٥) متفق عليه.

(٤٩٦) متفق عليه من حديث ابن عباس ، وهو مخرج في «الارواء» (٢٤٥٣).

(٤٩٧) صحيح ، وهي من رواية الحارث الأشعري في حديث طويل ، أخرجه أحمد (٤ / ١٣٠) وغيره بسند صحيح ، وليست من رواية ابن عباس كما أوهم الشارح ، وهو بتمامه في «صحيح الترغيب» (٥٥٣) و «صحيح الجامع الصغير» (١٧٢٠) ، وفيه الرد على من حاول إعلاله بما لا يقدح من الدكاترة المعاصرين! فليراجعه من شاء فإن فيه الشفاء.

٣٨٠