شرح العقيدة الطّحاويّة

ابن أبي العزّ الحنفي

شرح العقيدة الطّحاويّة

المؤلف:

ابن أبي العزّ الحنفي


المحقق: الشيخ محمّد ناصر الدين الألباني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بغداد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٤

وما أعجب ما أجاب به أبو المعين النسفي وغيره ، عن استدلالتهم بحديث شعب الإيمان المذكور ، وهو : أن الراوي قال : بضع وستون أو بضع وسبعون ، فقد شهد الراوي بفعله نفسه حيث شك فقال : بضع وستون أو بضع وسبعون ، ولا يظن برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الشك في ذلك! وأن هذا الحديث مخالف للكتاب.

فطعن فيه بغفلة الراوي ومخالفته الكتاب. فانظر الى هذا الطعن ما أعجبه! فإن تردد الراوي بين الستين والسبعين لا يلزم منه عدم ضبطه ، مع أن البخاري رحمه‌الله إنما رواه : بضع وستون من غير شك. (٤١٢). وأما الطعن بمخالفة الكتاب ، فأين في الكتاب ما يدل على خلافه؟! وإنما فيه ما يدل على وفاقه ، وإنما هذا الطعن من ثمرة شؤم التقليد والتعصب.

وقالوا أيضا : وهنا أصل آخر ، وهو : أن القول قسمان : قول القلب وهو الاعتقاد ، وقول اللسان وهو التكلم بكلمة الإسلام. والعمل قسمان : عمل القلب ، وهو نيته وإخلاصه ، وعمل الجوارح. فإذا زالت هذه الأربعة زال الإيمان بكماله ، وإذا زال تصديق القلب لم ينفع بقية الأخر (٤١٣) ، فإن تصديق القلب شرط في اعتبارها وكونها نافعة ، وإذا بقي تصديق القلب وزال الباقي فهذا موضع المعركة!!

ولا شك أنه يلزم من عدم طاعة الجوارح عدم طاعة القلب ، إذا لو أطاع القلب وانقاد ، لأطاعت الجوارح وانقادت ، ويلزم من عدم طاعة القلب وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد ، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ، ألا وهي القلب» (٤١٤). فمن صلح قلبه صلح جسده قطعا ، بخلاف العكس. وأما كونه يلزم من زوال جزئه

__________________

(٤١٢) قلت : ورواه مسلم بلفظ : «بضع وسبعون» كما تقدم (برقم ٤٠٦) ، وهو الأرجح عندي كما هو مبين في المجلد المشار إليه من «الصحيحة».

(٤١٣) في الاصل : الاجزاء.

(٤١٤) هو طرف من حديث متفق عليه عن النعمان بن بشير ، وهو مخرج في «غاية المرام في تخريج الحلال والحرام» برقم (٢٠).

٣٤١

زوال كله ، فإن أريد أن الهيئة الاجتماعية لم تبق مجتمعة كما كانت ، فمسلّم ، ولكن لا يلزم من زوال بعضها زوال سائر الأجزاء ، فيزول عنه الكمال فقط.

والأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه من الكتاب والسنة والآثار السلفية كثيرة جدّا : منها : قوله تعالى : (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) الانفال : ٢. (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) مريم : ٧٦. (وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) المدثر : ٣١. (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) الفتح : ٤. (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) آل عمران : ١٧٣. وكيف يقال في هذه الآية والتي قبلها إن الزيادة باعتبار زيادة المؤمن به؟ فهل في قول الناس : (قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) آل عمران : ١٧٣ زيادة مشروع؟ وهل في إنزال السكينة على قلوب المؤمنين زيادة مشروع؟ وإنما أنزل الله السكينة في قلوب المؤمنين مرجعهم من الحديبية ليزدادوا طمأنينة ويقينا ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) آل عمران : ١٦٧. وقال تعالى : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) التوبة : ١٢٤ ، ١٢٥. وأما ما رواه الفقيه أبو الليث السمرقندي رحمه‌الله ، في تفسيره عند هذه الآية ، فقال : حدثنا محمد بن الفضل وأبو القاسم الساباذي ، قالا : حدثنا فارس بن مردويه ، قال : حدثنا محمد بن الفضل بن العابد ، قال : حدثنا يحيى بن عيسى ، قال : حدثنا أبو مطيع ، عن حماد بن سلمة ، عن أبي المهزّم ، عن أبي هريرة ، قال : جاء وفد ثقيف الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : يا رسول الله ، الإيمان يزيد وينقص؟ فقال : «لا ، الإيمان مكمل في القلب ، زيادته كفر ، ونقصانه شرك» (٤١٥). فقد سئل شيخنا الشيخ عماد الدين ابن كثير رحمه‌الله عن هذا الحديث؟ فأجاب : بأن الإسناد من أبي الليث الى أبي

__________________

(٤١٥) موضوع أفته ابو المهزم ، فقد اتهمه شعبة كما ذكره الشارح وغيره ، وأبو مطيع اتهمه الجوزقاني والذهبي بالوضع كما في «اللسان» ، ونحوه ما سأذكره عن ابن حبان

٣٤٢

مطيع مجهولون لا يعرفون في شيء من كتب التواريخ المشهورة. وأما أبو مطيع ، فهو : الحكم بن عبد الله بن مسلمة البلخي ، ضعفه أحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، وعمرو بن علي الفلّاس ، والبخاري ، وأبو داود ، والنسائي ، وأبو حاتم الرازي ، وأبو حاتم محمد بن حبان البستي (٤١٦) ، والعقيلي ، وابن عدي ، والدار قطني ، وغيرهم. وأما أبو المهزم ، الراوي عن أبي هريرة ، وقد تصحّف على الكتّاب ، واسمه : يزيد بن سفيان ، فقد ضعفه أيضا ، غير واحد ، وتركه شعبة بن الحجاج ، وقال النسائي : متروك ، وقد اتهمه شعبة بالوضع ، حيث قال : لو أعطوه فلسين لحدثهم سبعين حديثا!

وقد وصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم النساء بنقصان العقل والدين. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» (٤١٧). والمراد نفي الكمال ، ونظائره كثيرة ، وحديث شعب الإيمان ، وحديث الشفاعة ، وأنه يخرج من النار من في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان ، فكيف يقال بعد هذا : ان إيمان أهل السموات والأرض سواء؟! وإنما التفاضل بينهم بمعان أخر غير الايمان؟! وكلام الصحابة رضي الله عنهم في هذا المعنى كثير أيضا. منه : قول أبي الدرداء رضي الله عنه : من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما نقص منه ، ومن فقه العبد أن يعلم أيزداد هو أم ينتقص ، وكان عمر رضي الله عنه يقول لأصحابه : هلموا نزدد إيمانا ، فيذكرون الله تعالى عزوجل. وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول في دعائه : اللهم زدنا إيمانا ويقينا وفقها. وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول لرجل : اجلس بنا نؤمن ساعة (٤١٨). ومثله عن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه. وصح عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه قال : ثلاث من كن فيه فقد استكمل

__________________

(٤١٦) قال في «الضعفاء والمجروحين» (١ / ٢٥٠) : «كان من رؤساء المرجئة ، من يبغض السنن ومنتحليها ، وهو الذي روى ..» ثم ساق له هذا الحديث.

(٤١٧) متفق عليه من حديث انس بن مالك رضي الله عنه.

(٤١٨) رواه ابن أبي شيبة في «الايمان» (رقم ١٠٥ و ١٠٧ بتحقيقي) وكذا أبو عبيد في «الايمان» (٢٠) لسند صحيح عنه ، وعلقه البخاري في «صحيحه» (رقم ٢ ـ مختصر البخاري) طبع المكتب الاسلامي

.

٣٤٣

الإيمان : إنصاف من نفسه. والإنفاق من إقتار ، وبذل السلام للعالم (٤١٩) ذكره البخاري رحمه‌الله في «صحيحه». وفي هذا المقدار كفاية وبالله التوفيق.

وأما كون عطف العمل على الإيمان يقتضي المغايرة ، فلا يكون العمل داخلا في مسمى الإيمان ـ : فلا شك أن الإيمان تارة يذكر مطلقا عن العمل وعن الإسلام ، وتارة يقرن بالعمل الصالح ، وتارة يقرن بالإسلام. فالمطلق مستلزم للأعمال ، قال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) الانفال : ٢ ، الآية. (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) الحجرات : ١٥ ، الآية. (وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ) المائدة : ٨١. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» (٤٢٠) ، الحديث. «لا تؤمنوا حتى تحابّوا» (٤٢١). «من غشنا فليس منا» (٤٢٢). «من حمل علينا السلاح فليس منا» (٤٢٣). وما أبعد قول من قال : إن معنى قوله : «فليس منّا» ـ أي فليس مثلنا! فليت شعري ، فمن لم يغشّ يكون مثل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه.

أما إذا عطف عليه العمل الصالح ، فاعلم أن عطف الشيء على الشيء يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه مع الاشتراك في الحكم الذي ذكر لهما ، والمغايرة

__________________

(٤١٩) رواه ابن ابي شيبة في «الايمان» (رقم ١٣١) باسناد صحيح عنه موقوفا ، وأورده البخاري في «الايمان» معلقا مجزوما موقوفا ، (رقم ٩ ـ مختصر البخاري) ورواه بعضهم مرفوعا ، وهو خطأ ، كما قال ابو زرعة وغيره. ذكره الحافظ في «الفتح» (١ / ٩٠ طبع مصطفى الحلبي).

وقال : «الا أن مثله لا يقال بالرأي فهو في حكم المرفوع». وهو مخرج في تعليقي على «الكلم الطيب» (رقم التعليق ١٤٢ طبع المكتب الاسلامي).

(٤٢٠) متفق عليه من حديث أبي هريرة ، ورواه ابن أبي شيبة (رقم ٣٨ ـ ٤١ و ٧٣) عنه وعن عائشة وابن أبي أوفى.

(٤٢١) رواه مسلم. وأبو عوانة في «صحيحيهما» وغيرهما ، وصححه الترمذي ، وهو مخرج في «الارواء» (٧٧٧).

(٤٢٢) رواه مسلم وأبو عوانة في «صحيحهما» وغيرهما ، وصححه الترمذي والحاكم وهو مخرج في «الارواء» (١٣١٩).

(٤٢٣) رواه البخاري ومسلم.

٣٤٤

على مراتب : أعلاها : أن يكونا متباينين ، ليس أحدهما هو الآخر ، ولا جزءا منه ، ولا بينهما تلازم ، كقوله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) الانعام : ١. (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) آل عمران : ٣. وهذا هو الغالب ، ويليه : أن يكون بينهما تلازم ، كقوله تعالى : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) البقرة : ٤٢. (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) المائدة : ٩٢. الثالث : عطف بعض الشيء عليه ، كقوله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) البقرة : ٢٣٨. (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) البقرة : ٩٨ ([وَإِذْ أَخَذْنا] مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ) الاحزاب : ٧. وفي مثل هذا وجهان : أحدهما : أن يكون داخلا في الأول ، فيكون مذكورا مرتين. والثاني : أن عطفه عليه يقتضي أنه ليس داخلا فيه هنا ، وإن كان داخلا فيه منفردا ، كما قيل مثل ذلك في لفظ «الفقراء والمساكين» ونحوهما ، تتنوع دلالته بالإفراد والاقتران. الرابع : عطف الشيء على الشيء لاختلاف الصفتين ، كقوله تعالى : (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) غافر : ٣. وقد جاء في الشعر العطف لاختلاف اللفظ فقط ، كقوله :

* فألفى قولها كذبا ومينا

ومن الناس من زعم أن في القرآن من ذلك قوله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) المائدة : ٤٨. والكلام على ذلك معروف في موضعه.

فإذا كان العطف في الكلام يكون على هذه الوجوه ، نظرنا في كلام الشارع : كيف ورد فيه الإيمان فوجدناه إذا أطلق يراد به ما يراد بلفظ البر ، والتقوى ، والدّين ، ودين الإسلام. ذكر في أسباب النزول أنهم سألوا عن الإيمان؟ فأنزل الله هذه الآية : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) البقرة : ١٧٧ ، الآيات. قال محمد بن نصر : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ ، والملائي ، قالا : حدثنا المسعودي ، عن القاسم ، قال : جاء رجل الى أبي ذر رضي الله عنه ، فسأله عن الإيمان؟ فقرأ : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ) البقرة : ١٧٧ ، إلى آخر الآية ، فقال الرجل : ليس عن هذا سألتك ، فقال : جاء

٣٤٥

رجل الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه ، فقرأ [عليه] الذي قرأت عليك (٤٢٤) ، فقال له الذي قلت لي ، فلما أبى أن يرضى ، قال : «إن المؤمن الذي إذا عمل الحسنة سرته ورجا ثوابها ، وإذا عمل السيئة ساءته وخاف عقابها» (٤٢٥). وكذلك أجاب جماعة من السلف بهذا الجواب. وفي «الصحيح» قوله لوفد عبد القيس : «آمركم بالإيمان بالله وحده ، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وأن تؤدوا الخمس من المغنم» (٤٢٦). ومعلوم أنه لم يرد أن هذه الأعمال تكون إيمانا بالله بدون إيمان القلب ، لما قد أخبر في مواضع أنه لا بد من إيمان القلب ، فعلم أن هذه مع إيمان القلب هو الإيمان. وأي دليل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان فوق هذا الدليل؟ فإنه فسر الإيمان بالأعمال ولم يذكر التصديق ، للعلم بأن هذه الأعمال لا تفيد [مع] الجحود. وفي «المسند» عن أنس ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «الإسلام علانية ، والإيمان في القلب» (٤٢٧). وفي هذا الحديث دليل على المغايرة بين الإسلام والإيمان. ويؤيده قوله [في حديث سؤالات جبريل ، في معنى الاسلام والإيمان. ،] وقد قال فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذا جبرائيل أتاكم يعلمكم

__________________

(٤٢٤) قال عفيفي : انظر ص ١٧٢ وما بعدها من كتاب «الايمان».

(٤٢٥) ضعيف بهذا السياق والاسناد ، وعلته الانقطاع ، واختلاط المسعودي ، لكن صح الحديث من رواية ابي أمامة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأله رجل ، فقال : يا رسول الله ما الايمان؟ قال : «اذا سرتك حسنتك ، وساءتك سيئتك فأنت مؤمن ،» قال : يا رسول الله ما الاثم؟ قال : «اذا حاك في صدرك شيء فدعه» ، رواه الحاكم (١ / ١٤) وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي ، وانما هو على شرط مسلم وحده ، فإن ممطورا لم يخرج له البخاري في صحيحه. الصحيحة (٥٥٠).

(٤٢٦) اخرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(٤٢٧) اسناده ضعيف ، فيه علي بن مسعدة ، قال العقيلي في «الضعفاء» قال البخاري : «فيه نظر» ، وقال عبد الحق الأزدي في «الأحكام الكبرى» (ق ٣ / ٢) : «حديث غير محفوظ».

٣٤٦

دينكم» (٤٢٨). فجعل الدين هو الإسلام والإيمان والإحسان ، فتبين أن ديننا يجمع الثلاثة. لكن هو درجات ثلاثة : مسلم ، ثم مؤمن ، ثم محسن. والمراد بالإيمان ما ذكر مع الإسلام قطعا ، كما أنه أريد بالإحسان ما ذكر مع الإيمان والاسلام ، لا أن الإحسان يكون مجردا عن الإيمان. هذا محال. وهذا كما قال تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا. فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ. وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ. وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) فاطر : ٣٢. والمقتصد والسابق كلاهما يدخل الجنة بلا عقوبة ، بخلاف الظالم لنفسه ، فإنه معرض للوعيد. وهكذا من أتى بالإسلام الظاهر مع التصديق بالقلب ، لكن لم يقم بما يجب عليه من الإيمان الباطن فإنه معرض للوعيد. فأما الإحسان فهو أعم من جهة نفسه وأخص من جهة أهله ، والإيمان أعم من جهة نفسه وأخص من جهة أهله من الإسلام. فالإحسان يدخل فيه الايمان ، والايمان يدخل فيه الاسلام ، والمحسنون أخص من المؤمنين ، والمؤمنون أخص من المسلمين. وهذا كالرسالة والنبوة ، فالنبوة داخلة في الرسالة ، والرسالة أعم من جهة نفسها وأخص من جهة أهلها ، فكل رسول نبي ، ولا ينعكس.

وقد صار الناس في مسمى الاسلام على ثلاثة أقوال : فطائفة جعلت الإسلام هو الكلمة ، وطائفة أجابوا بما أجاب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سئل عن الإسلام والإيمان ، حيث فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة ، والإيمان [بالإيمان] بالأصول الخمسة (٤٢٩). وطائفة جعلوا الإسلام مرادفا للإيمان ، وجعلوا معنى قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة» (٤٣٠) ، الحديث ـ : شعائر الإسلام. والأصل عدم التقدير ، مع أنهم قالوا : إن الإيمان هو التصديق بالقلب ، ثم قالوا الإسلام والإيمان شيء واحد ، فيكون الإسلام هو التصديق! وهذا لم يقله أحد من أهل اللغة ، وإنما هو الانقياد والطاعة ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم لك

__________________

(٤٢٨) اخرجه مسلم من حديث ابن عمر ، والبخاري من حديث ابي هريرة نحوه.

(٤٢٩) مسلم ، وهو حديث جبريل المتقدم آنفا.

(٤٣٠) متفق عليه.

٣٤٧

أسلمت وبك آمنت» (٤٣١). وفسر الإسلام بالأعمال الظاهرة ، والإيمان بالإيمان بالأصول الخمسة. فليس لنا إذا جمعنا بينهما أن نجيب بغير ما أجاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأما إذا أفرد اسم الإيمان فانه يتضمن الإسلام ، وإذا أفرد الإسلام فقد يكون مع الإسلام مؤمنا بلا نزاع ، وهذا هو الواجب ، وهل يكون مسلما ولا يقال له مؤمن؟ وقد تقدم الكلام فيه.

وكذلك هل يستلزم الإسلام الإيمان؟ فيه النزاع المذكور. وإنما وعد الله بالجنة في القرآن وبالنجاة من النار باسم الإيمان ، كما قال تعالى : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) يونس : ٦٢ ـ ٦٣. وقال تعالى : (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) الحديد : ٢١ وأما اسم الإسلام مجردا فما علق به في القرآن دخول الجنة ، لكنه فرضه وأخبر أنه دينه الذي لا يقبل من أحد سواه ، وبه بعث النبيين ، (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) آل عمران : ٨٥.

فالحاصل أن حالة اقتران الإسلام بالإيمان غير حالة إفراد أحدهما عن الآخر ، فمثل الاسلام من الايمان ، كمثل الشهادتين إحداهما من الأخرى ، فشهادة الرسالة غير شهادة الوحدانية ، فهما شيئان في الأعيان وإحداهما مرتبطة بالأخرى في المعنى والحكم ، كشيء واحد. كذلك الاسلام والايمان ، لا إيمان لمن لا إسلام له ، ولا إسلام لمن لا إيمان [له] ، إذ لا يخلو المؤمن من إسلام به يتحقق إيمانه ، ولا يخلو المسلم من إيمان به يصح إسلامه. ونظائر ذلك في كلام الله ورسوله وفي كلام الناس كثيرة ، أعني في الإفراد والاقتران ، منها : لفظ الكفر والنفاق ، فالكفر إذا ذكر مفردا في وعيد الآخرة دخل فيه المنافقون ، كقوله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) المائدة : ٥. ونظائره كثيرة. وإذا قرن بينهما كان الكافر من أظهر كفره ، والمنافق من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه. وكذلك لفظ البر والتقوى ، ولفظ الإثم والعدوان ، ولفظ التوبة والاستغفار ، ولفظ الفقير والمسكين ، وأمثال ذلك.

__________________

(٤٣١) متفق عليه من حديث ابن عباس. وهو طرف من دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في استفتاح صلاة الليل. انظر «صفة الصلاة».

٣٤٨

ويشهد للفرق بين الإسلام والإيمان ، قوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا. قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) الحجرات : ١٤ ، إلى آخر السورة. وقد اعترض على هذا بأن معنى الآية : (قُولُوا أَسْلَمْنا) الحجرات : ١٤ ـ : انقدنا بظواهرنا ، فهم منافقون في الحقيقة ، وهذا أحد قولي المفسرين في هذه الآية الكريمة. وأجيب بالقول الآخر ، ورجح ، وهو أنهم ليسوا بمؤمنين كاملي الإيمان ، لا أنهم منافقون ، كما نفى الإيمان عن القاتل ، والزاني ، والسارق ، ومن لا أمانة له. ويؤيد هذا سياق الآية ، فإن السورة من أولها الى هنا في النهي عن المعاصي ، وأحكام بعض العصاة ، ونحو ذلك ، وليس فيها ذكر المنافقين. ثم قال بعد ذلك : (وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً) الحجرات : ١٤ ، ولو كانوا منافقين ما نفعتهم الطاعة ، ثم قال : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) الحجرات : ١٥ ، الآية ، يعني ـ والله أعلم ـ أن المؤمنين الكاملي الإيمان ، هم هؤلاء ، لا أنتم ، بل أنتم منتف عنكم الإيمان الكامل. يؤيد هذا : أنه أمرهم ، أو أذن لهم ، أن يقولوا : أسلمنا ، والمنافق لا يقال له ذلك ، ولو كانوا منافقين لنفى عنهم الاسلام ، كما نفى عنهم الإيمان ، ونهاهم أن يمنّوا بإسلامهم ، فأثبت لهم إسلاما ، ونهاهم أن يمنّوا به على رسوله ، ولو لم يكن إسلاما صحيحا لقال : لم تسلموا ، بل أنتم كاذبون ، كما كذبهم في قولهم : (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) المنافقون : ١. والله أعلم بالصواب.

وينتفي بعد هذا التقدير والتفصيل دعوى الترادف ، وتشنيع من ألزم بأن الإسلام لو كان [هو] الأمور الظاهرة لكان ينبغي أن لا يقابل بذلك ، ولا يقبل إيمان المخلص! وهذا ظاهر الفساد ، فإنه قد تقدم تنظير الإيمان والإسلام بالشهادتين وغيرهما ، وأن حالة الاقتران غير حالة الانفراد. فانظر الى كلمة الشهادة ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» (٤٣٢) ، الحديث ، فلو قالوا : لا إله إلا الله ، وأنكروا الرسالة ـ : [ما] كانوا يستحقون العصمة ، بل

__________________

(٤٣٢) متفق عليه من حديث جمع من الصحابة ، وهو حديث متواتر كما قال السيوطي ، وقد خرجت طائفة من طرقه في «الاحاديث الصحيحة» (٤٠٧).

٣٤٩

لا بد أن يقولوا : لا إله إلا الله قائمين بحقها ، ولا يكون قائما ب «لا إله إلا الله» حق القيام ، إلا من صدق بالرسالة ، وكذا من شهد أن محمدا رسول الله ، [لا يكون قائما بهذه الشهادة حق القيام ، إلا من صدق هذا الرسول في كل ما جاء به. فتضمنت التوحيد وإذا ضممت شهادة أن لا إله إلا الله الى شهادة أن محمدا رسول الله] ـ كان المراد من شهادة أن لا إله إلا الله ثبات التوحيد ، ومن شهادة أن محمدا رسول الله إثبات الرسالة. كذلك الإسلام والإيمان : إذا قرن أحدهما بالآخر ، كما في قوله تعالى : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) الاحزاب : ٣٥. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم لك أسلمت وبك آمنت» (٤٣٣) ـ : كان المراد من أحدهما غير المراد من الآخر. وكما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الإسلام علانية ، والإيمان في القلب» (٤٣٤). وإذا انفرد أحدهما شمل معنى الآخر وحكمه ، وكما في الفقير والمسكين ونظائره ، فإن لفظي الفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا ، وإذا افترقا اجتمعا ، فهل يقال في قوله تعالى : (إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ) المائدة ٨٩ ـ أنه يعطى المقلّ دون المعدم ، أو بالعكس؟ وكذا في قوله تعالى : (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) البقرة : ٢٧١.

ويندفع أيضا تشنيع من قال : ما حكم من آمن ولم يسلم؟ أو أسلم ولم يؤمن؟ فى الدنيا والآخرة؟ فمن أثبت لأحدهما حكما ليس بثابت للآخر ظهر بطلان قوله! ويقال له في مقابلة تشنيعه : أنت تقول : المسلم هو المؤمن ، والله تعالى يقول : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) الاحزاب : ٣٥ ، فجعلهما غيرين ، وقد قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : مالك عن فلان والله إني لأراه مؤمنا؟ قال : «او مسلما» (٤٣٥) ، قالها ثلاثا ، فأثبت له الإسلام وتوقف في اسم الإيمان ، فمن قال : هما سواء ـ كان مخالفا ، والواجب رد موارد النزاع الى الله ورسوله. وقد؟؟ في بعض النصوص معارضة ، ولا معارضة بحمد الله تعالى ، ولكن الشأن في التوفيق ، وبالله التوفيق.

__________________

(٤٣٣) متفق عليه ، كما تقدم قريبا (ص ٣٤٨).

(٤٣٤) ضعيف كما سبق أنفا بالحديث (رقم ٤٢٧).

(٤٣٥) متفق عليه من حديث سعد بن ابي وقاص

.

٣٥٠

وأما الاحتجاج بقوله تعالى : (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) الذاريات : ٣٥ ـ ٣٦ ـ على ترادف الإسلام والإيمان ، فلا حجة فيه ، لأن البيت المخرج كانوا متصفين بالإسلام والايمان ، ولا يلزم من الاتصاف بهما ترادفهما.

والظاهر أن هذه المعارضات لم تثبت عن أبي حنيفة رضي الله عنه ، وإنما هي من الأصحاب ، فإن غالبها ساقط لا يرتضيه أبو حنيفة! وقد حكى الطحاوي حكاية أبي حنيفة مع حماد بن زيد ، [وأن حماد بن زيد] لما روي له حديث : أي الإسلام أفضل (٤٣٦) الى آخره ، قال له : ألا تراه يقول : أي الإسلام أفضل ، قال : الإيمان ، ثم جعل الهجرة والجهاد من الإيمان؟ فسكت أبو حنيفة ، فقال بعض أصحابه : ألا تجيبه يا أبا حنيفة؟ قال : بما أجيبه؟ وهو يحدثني بهذا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومن ثمرات هذا الاختلاف : مسألة الاستثناء في الإيمان ، وهو أن يقول [أي] الرجل : أنا مؤمن إن شاء الله. والناس فيه على ثلاثة أقوال : طرفان ووسط ، منهم من يوجبه ، ومنهم من يحرمه ، ومنهم من يجيزه باعتبار ويمنعه باعتبار ، وهذا أصح الأقوال.

أما من يوجبه فلهم مأخذان : أحدهما : أن الإيمان هو ما مات الانسان عليه ، والانسان إنما يكون عند الله مؤمنا أو كافرا باعتبار الموافاة وما سبق في علم الله أنه يكون عليه ، وما قبل ذلك لا عبرة به ، قالوا : والإيمان الذي يعقبه الكفر فيموت صاحبه كافرا ـ : ليس بإيمان ، كالصلاة التي أفسدها صاحبها قبل الكمال ، والصيام الذي يفطر صاحبه قبل الغروب ، وهذا مأخذ كثير من الكلابية وغيرهم ، وعند هؤلاء أن الله يحب في الأزل من كان كافرا إذا علم منه أنه يموت مؤمنا ، فالصحابة ما زالوا محبوبين قبل إسلامهم ، وإبليس ومن ارتد عن دينه ما زال الله يبغضه وإن كان لم يكفر بعد! وليس هذا قول السلف ، ولا كان يقول بهذا من

__________________

(٤٣٦) متفق عليه من حديث أبي موسى الاشعري ، ولهما نحوه من حديث ابن عمرو. وانظر لفظهما إن شئت في «مختصر البخاري» (٨ و ٩).

٣٥١

يستثنى من السلف في إيمانه ، وهو فاسد ، فإن الله تعالى قال : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) آل عمران : ٣١ ، فأخبر أنهم يحبهم إن اتبعوا الرسول ، فاتباع الرسول شرط المحبة ، والمشروط يتأخر عن الشرط ، وغير ذلك من الأدلة. ثم صار الى هذا القول طائفة غلوا فيه ، حتى صار الرجل منهم يستثني في الأعمال الصالحة ، يقول : صليت إن شاء الله! ونحو ذلك ، يعني القبول. ثم صار كثير منهم يستثنون في كل شيء ، فيقول أحدهم : هذا ثوب إن شاء الله! هذا حبل إن شاء الله! فإذا قيل لهم : هذا لا شك فيه؟ يقولون : نعم ، لكن إذا شاء الله أن يغيره غيره!! المأخذ الثاني : أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله ، وترك ما نهاه عنه كله ، فإذا قال الرجل : أنا مؤمن ، بهذا الاعتبار ـ : فقد شهد لنفسه أنه من الأبرار المتقين ، القائمين بجميع ما أمروا به ، وترك كل ما نهوا عنه ، فيكون من أولياء الله المقربين! وهذا مع تزكية الإنسان لنفسه ، ولو كانت هذه الشهادة صحيحة ، لكان ينبغي أن يشهد لنفسه بالجنة إن مات على هذه الحال. وهذا مأخذ عامة السلف الذين كانوا يستثنون ، وإن جوّزوا ترك الاستثناء ، بمعنى آخر ، كما سنذكره إن شاء الله تعالى. ويحتجون أيضا بجواز الاستثناء فيما لا شك فيه ، كما قال تعالى : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) الفتح : ٢٧. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين وقف على القابر : «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» (٤٣٧). وقال أيضا : «إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله» (٤٣٨). ونظائر هذا.

وأما من يحرمه ، فكل من جعل الإيمان شيئا واحدا ، فيقول : أنا أعلم أني مؤمن ، كما أعلم أني تكلمت بالشهادتين ، فقولي : أنا مؤمن ، كقولي : أنا مسلم ، فمن استثنى في إيمانه فهو شاك فيه ، وسموا الذين يستثنون في إيمانهم الشكّاكة. وأجابوا عن الاستثناء الذي في قوله تعالى : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) الفتح : ٢٧ ـ بأنه يعود الى الأمن والخوف ، فأما الدخول فلا شك

__________________

(٤٣٧) اخرجه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها انظر «احكام الجنائز وبدعها» (ص ١٨٩).

(٤٣٨) اخرجه مسلم ، والبخاري نحوه.

٣٥٢

فيه! وقيل : لتدخلن جميعكم أو بعضكم ، لأنه علم أن بعضهم يموت! وفي كلا الجوابين نظر : فإنهم وقعوا فيما فروا منه ، فأما الأمن والخوف فقد أخبر أنهم يدخلون آمنين ، مع علمه بذلك ، فلا شك في الدخول ، ولا في الأمن ، ولا في دخول الجميع أو البعض ، فإن الله قد علم من يدخل فلا شك فيه أيضا ، فكان قول : إن شاء الله هنا تحقيقا للدخول ، كما يقول الرجل فيما عزم على شيء أن يفعله لا محالة : والله لأفعلنّ كذا إن شاء الله ، لا يقولها لشكّ في إرادته وعزمه ، ولكن إنما لا يحنث الحالف في مثل هذه اليمين لأنه لا يجزم بحصول مراده. وأجيب بجواب آخر لا بأس به ، وهو : أنه قال [ذلك] تعليما لنا كيف نستثني إذا أخبرنا عن مستقبل (٤٣٩). وفي كون هذا المعنى مرادا من النص ـ نظر فإنه ما سيق الكلام إلا أن يكون مرادا من إشارة النص. وأجاب الزمخشري بجوابين آخرين باطلين ، وهما : أن يكون الملك قد قاله ، فأثبت قرآنا! أو أن الرسول قاله!! [فعند هذا المسكين يكون من القرآن ما هو غير كلام الله! فيدخل في وعيد من قال : (إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) المدثر : ٢٥. نسأل الله العافية.

وأما من يجوز الاستثناء وتركه ، فهم أسعد بالدليل من الفريقين ، وخير الأمور أوسطها : فإن أراد المستثنى الشك في أصل إيمانه منه من الاستثناء ، وهذا مما [لا خلاف فيه. وإن أراد أنه مؤمن من المؤمنين الذين وصفهم الله في قوله : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ، لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) الانفال : ٢ ـ ٤ ، وفي قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) الحجرات : ١٥. فالاستثناء حينئذ جائز. وكذلك من استثنى وأراد عدم علمه بالعاقبة ، وكذلك من استثنى تعليقا للأمر بمشيئة الله ، لا شكّا في إيمانه. وهذا القول في القوة كما ترى.

__________________

(٤٣٩) قال عفيفي : انظر ص ٤٢٩ ـ ٤٦٠ من «مجموع الفتاوى» والصفحة ٣٣٦ ـ ٣٩٣ من كتاب «الايمان» طبع المكتب الاسلامي.

٣٥٣

قوله : وجميع ما صح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الشرع والبيان كله حق. يشير الشيخ رحمه‌الله بذلك الى الرد على الجهمية والمعطلة والمعتزلة والرافضة ، القائلين بأن الأخبار قسمان (٤٤٠) : متواتر وآحاد ، فالمتواتر ـ وإن كان قطعيّ السند ـ لكنه غير قطعي الدلالة ، فإن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين!! ولهذا قدحوا في دلالة القرآن على الصفات! قالوا : والآحاد لا تفيد العلم ، ولا يحتج بها من جهة طريقها ، ولا من جهة متنها! فسدّوا على القلوب معرفة الرب تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله من جهة الرسول ، وأحالوا الناس على قضايا وهمية ، ومقدمات خيالية (٤٤١) ، سموها قواطع علقية ، وبراهين يقينية!! وهي في التحقيق (كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ، وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ ، وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٤٤٢). أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ، ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ ، إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها ، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ النور : ٣٩ ـ ٤٠. ومن العجب أنهم قدموها على نصوص الوحي ، وعزلوا لأجلها النصوص ، فأقفرت قلوبهم من الاهتداء بالنصوص ، ولم يظفروا (٤٤٣) بالعقول الصحيحة المؤيّدة بالفطرة السليمة والنصوص النبوية. ولو حكّموا نصوص الوحي لفازوا بالمعقول الصحيح ، الموافق للفطرة السليمة.

بل كل فريق من أرباب البدع يعرض النصوص على بدعته ، وما ظنه معقولا : فما وافقه قال : إنه محكم ، وقبله واحتج به!! وما خالفه قال : إنه متشابه ، ثم رده ، وسمى رده تفويضا! أو حرفه ، وسمى تحريفه تأويلا!! فلذلك اشتد إنكار أهل السنة عليهم.

وطريق أهل السنة : أن لا يعدلوا عن النص الصحيح ، ولا يعارضوه بمعقول ،

__________________

(٤٤٠) قال عفيفي : انظر ص ٤٤٦ من كتاب «الايمان».

(٤٤١) في الاصل : خالية.

(٤٤٢) قال عفيفي : انظر ص ٤٥٠ من كتاب «الايمان».

(٤٤٣) في الاصل : ولم يظفروا بقضايا.

٣٥٤

ولا قول فلان ، كما أشار إليه الشيخ رحمه‌الله. وكما قال البخاري رحمه‌الله : سمعت الحميدي يقول : كنا عند الشافعي رحمه‌الله ، فأتاه رجل فسأله عن مسألة ، فقال قضى فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذا وكذا ، فقال رجل للشافعي : ما تقول أنت؟! فقال : سبحان الله! تراني في كنيسة! تراني في بيعة! تراني على وسطي زنار؟! أقول لك : قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنت تقول : ما تقول أنت؟! ونظائر ذلك في كلام السلف كثير. وقال تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) الاحزاب : ٣٦.

وخبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول ، عملا به وتصديقا له ـ : يفيد العلم [اليقيني] عند جماهير الأمة ، وهو أحد قسمي المتواتر. ولم يكن بين سلف الأمة في ذلك نزاع ، كخبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إنما الأعمال بالنيات (٤٤٤) ، وخبر ابن عمر رضي الله عنهما : «نهى عن بيع الولاء وهبته» (٤٤٥) ، وخبر أبي هريرة : «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها» (٤٤٦) ، وكقوله : «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» (٤٤٧) ، وأمثال ذلك. وهو نظير خبر الذي أتى مسجد قباء وأخبر أن القبلة تحولت الى الكعبة ، فاستداروا إليها (٤٤٨).

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرسل رسله آحادا ، ويرسل كتبه مع الآحاد ، ولم يكن المرسل إليهم يقولون لا نقبله لأنه خبر واحد! وقد قال تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) التوبة : ٣٣. فلا بد أن يحفظ الله حججه وبيناته على خلقه ، لئلا تبطل حججه وبيناته.

ولهذا فضح الله من كذّب على رسوله في حياته وبعد وفاته ، وبيّن حاله للناس. قال سفيان بن عيينة : ما ستر الله أحدا يكذب في الحديث. وقال عبد الله بن

__________________

(٤٤٤) متفق عليه ، من حديث عمر ، وهو أول حديث في «صحيح البخاري».

(٤٤٥) متفق عليه من حديث ابن عمر.

(٤٤٦) متفق عليه ، وهو مخرج في «الارواء» برقم (١٨٨٢).

(٤٤٧) متفق عليه من حديث عائشة ، وهو في «الارواء» أيضا (١٨٧٦).

(٤٤٨) متفق عليه من حديث البراء بن عازب وانظر لفظه وتخريجه في «صفة الصلاة».

٣٥٥

المبارك : لو همّ رجل في البحر (٤٤٩) أن يكذب في الحديث ، لأصبح والناس يقولون : فلان كذاب. وخبر الواحد وإن كان يحتمل الصدق والكذب ـ ولكن التفريق بين صحيح الأخبار وسقيمها لا يناله أحد إلا بعد أن يكون معظم أوقاته مشتغلا بالحديث ، والبحث عن سير الرواة ، ليقف على أحوالهم وأقوالهم ، وشدة حذرهم من الطغيان والزلل ، وكانوا بحيث لو قتلوا لم يسامحوا أحدا في كلمة يتقولها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا فعلوا هم بأنفسهم ذلك. وقد نقلوا هذا الدين إلينا كما نقل إليهم ، فهم ترك الإسلام (٤٥٠) وعصابة الإيمان ، وهم نقاد الأخبار ، وصيارفة الأحاديث. فإذا وقف المرء على هذا من شأنهم ، وعرف حالهم ، وخبر صدقهم وورعهم وأمانتهم ـ : ظهر له العلم فيما نقلوه ورووه. ومن له عقل ومعرفة يعلم أن أهل الحديث لهم [من] العلم بأحوال نبيهم وسيرته وأخباره ، ما ليس لغيرهم به شعور ، فضلا أن يكون معلوما لهم أو مظنونا. كما أن النجاة عندهم من أخبار سيبويه والخليل وأقوالهما ما ليس عند غيرهم ، وعند الأطباء من كلام بقراط وجالينوس ما ليس عند غيرهم ، وكل ذي صنعة هو أخبر بها من غيره ، فلو سألت البقال عن أمر العطر ، أو العطار عن البز ، ونحو ذلك!! لعد ذلك جهلا كبيرا.

ولكن النفاة قد جعلوا قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) الشورى : ١١ ـ : مستندا لهم في رد الأحاديث الصحيحة ، فكلما جاءهم حديث يخالف قواعدهم وآراءهم ، وما وضعته (٤٥١). خواطرهم وأفكارهم ـ ردوه ب (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) الشورى : ١١ ، تلبيسا منهم وتدليسا على من هو أعمى قلبا منهم ، وتحريفا لمعنى الآي عن مواضعه. ففهموا من أخبار الصفات ما لم يرده الله ولا رسوله ، ولا فهمه أحد من أئمة الإسلام ، أنه (٤٥٢) يقتضي إثباتها التمثيل بما (٤٥٣) للمخلوقين! ثم

__________________

(٤٤٩) في الاصل : السجن.

(٤٥٠) «ترك» بضم التاء المثناة والراء : جمع «تريكة» بفتح التاء وكسر الراء ، وهي بيضة الحديد للرأس. يريد أنهم دروع الاسلام وحفظته.

(٤٥١) في الاصل : وصفته.

(٤٥٢) في الاصل : انها.

(٤٥٣) في الاصل : بها.

٣٥٦

استدلوا على بطلان ذلك ب (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) الشورى : ١١ تحريفا للنصين!! ويصنفون الكتب ، ويقولون : هذا أصول دين الإسلام الذي أمر الله به وجاء من عنده ، ويقرءون كثيرا من القرآن ويفوضون معناه الى الله تعالى ، من غير تدبّر لمعناه الذي بيّنه الرسول ، وأخبر أنه معناه الذي أراده الله. وقد ذم الله تعالى أهل الكتاب الأول على هذه الصفات الثلاث ، وقص ذلك علينا من خبرهم لنعتبر وننزجر عن مثل طريقتهم. فقال تعالى : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) البقرة : ٧٥ ، الى أن قال : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ ، وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) البقرة : ٧٨. والأماني : التلاوة المجردة ، ثم قال تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ، فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) البقرة : ٧٩. فذمهم على نسبة ما كتبوه الى الله ، وعلى اكتسابهم بذلك ، فكلا الوصفين ذميم : أن ينسب الى الله ما ليس من عنده ، وأن يأخذ بذلك عوضا من الدنيا مالا أو رئاسة. نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الزلل ، في القول والعمل ، بمنه وكرمه.

ويشير الشيخ رحمه‌الله بقوله : من الشرع والبيان. الى أن ما صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نوعان : شرع ابتدائي ، وبيان لما شرعه الله في كتابه العزيز ، وجميع ذلك حق واجب الاتباع. وقوله : وأهله في أصله سواء ، والتفاضل بينهم بالحقيقة ومخالفة الهوى ، وملازمة الأولى. وفي بعض النسخ : بالخشية والتقى بدل قوله :

بالحقيقة. ففي العبارة الاولى يشير الى أن الكل مشتركون في أصل التصديق ، ولكن التصديق يكون بعضه أقوى من بعض وأثبت ، كما تقدم نظيره بقوة البصر وضعفه. وفي العبارة الأخرى يشير الى أن التفاوت بين المؤمنين بأعمال القلوب ، وأما التصديق فلا تفاوت فيه. والمعنى الأول أظهر قوة ، والله أعلم بالصواب.

قوله : (والمؤمنون كلهم أولياء الرحمن).

ش : قال تعالى : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) يونس : ٦٢ ـ ٦٣ الآية. الولي : من الولاية بفتح الواو ،

٣٥٧

التي هي ضد العداوة. وقد قرأ حمزة : (ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) الانفال : ٧٢ ، بكسر الواو ، والباقون بفتحها. وقيل : هما لغتان. وقيل : بالفتح النصرة ، وبالكسر الإمارة. قال الزجّاج : وجاز الكسر ، لأن في تولي [بعض] القوم بعضا جنسا من الصناعة والعمل ، وكل ما كان كذلك مكسور ، مثل : الخياطة ونحوها. فالمؤمنون أولياء الله ، والله تعالى وليهم ، قال الله تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ. [وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ]) البقرة : ٢٥٧ ، الآية. وقال تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) محمد : ١١. (وَالْمُؤْمِنُونَ [وَالْمُؤْمِناتُ] بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) التوبة : ٧١ ، الآية. وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) الانفال : ٧٢ ، الى آخر السورة. وقال تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ. وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَ) (الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) المائدة : ٥٥ ـ ٥٦. فهذه النصوص [كلها] ثبت فيها موالاة المؤمنين بعضهم لبعض ، وأنهم أولياء الله ، وأن الله وليهم ومولاهم. فالله يتولى عباده المؤمنين ، فيحبهم ويحبونه ، ويرضى عنهم ويرضون عنه ، ومن عادى له وليّا فقد بارزه بالمحاربة. وهذه الولاية من رحمته وإحسانه ، ليست كولاية المخلوق للمخلوق لحاجة إليه ، قال تعالى : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) الاسراء : ١١١. فالله تعالى ليس له ولي من الذل ، بل لله العزة جميعا ، خلاف الملوك وغيرهم ممن يتولاه (٤٥٤) لذله وحاجته الى ولي ينصره.

والولاية أيضا نظير الإيمان ، فيكون مراد الشيخ : أن أهلها في أصلها سواء ، وتكون كاملة وناقصة : فالكاملة تكون للمؤمنين المتقين ، كما قال تعالى : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ. لَهُمُ الْبُشْرى)

__________________

(٤٥٤) في الاصل : يتوالى.

٣٥٨

(فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) ، ف (الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) ـ منصوب على أنه صفة أولياء الله ، أو بدل منه ، أو بإضمار أمدح ، أو مرفوع بإضمار «هم» ، أو خبر ثان ل «إن» ، وأجيز فيه الجر ، بدلا من ضمير «عليهم». وعلى هذه الوجوه كلها فالولاية لمن كان من الذين آمنوا وكانوا يتقون ، وهم أهل الوعد المذكور في الآيات الثلاث. وهي عبارة عن موافقة الولي الحميد في محابه ومساخطه ، ليست بكثرة صوم ولا صلاة ، ولا تملق ولا رياضة. وقيل : الذين آمنوا مبتدأ ، والخبر : لهم البشرى ، وهو بعيد ، لقطع الجملة عما قبلها ، وانتثار نظم الآية.

ويجتمع في المؤمن ولاية من وجه ، وعداوة من وجه ، كما قد يكون فيه كفر وإيمان ، وشرك وتوحيد ، وتقوى وفجور ، ونفاق وإيمان. وإن كان في هذا الأصل نزاع لفظي بين أهل السنة ، ونزاع معنوي بينهم وبين أهل البدع ، كما تقدم في الإيمان. ولكن موافقة الشارع في اللفظ والمعنى ـ أولى من موافقته في المعنى وحده ، قال تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) يوسف : ١٠٦. وقال تعالى : (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) الحجرات : ١٤ ، الآية. وقد تقدم الكلام على هذه الآية ، وأنهم ليسوا منافقين على أصح القولين. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدّث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا وعد أخلف ، وإذا خاصم فجر» (٤٥٥). وفي رواية «وإذا ائتمن خان» بدل : «وإذا وعد أخلف». أخرجاه في «الصحيحين». وحديث : «شعب الإيمان» تقدم. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان» (٤٥٦). فعلم أن من كان معه من الإيمان أقل القليل لم يخلّد في النار ، وإن كان معه كثير من النفاق ، فهو يعذب في النار على قدر [ما معه] من ذلك ، ثم يخرج من النار. فالطاعات من شعب الإيمان ، والمعاصي من شعب الكفر ، وإن كان رأس شعب الكفر الجحود ، ورأس شعب الإيمان التصديق. وأما ما يروى مرفوعا الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما

__________________

(٤٥٥) متفق عليه وسبق بالحديث (رقم ٣٧٢).

(٤٥٦) متفق عليه.

٣٥٩

من جماعة اجتمعت إلا وفيهم ولي لله ، لا هم يدرون به ، ولا هو يدري بنفسه» (٤٥٧) ـ : فلا أصل له ، وهو كلام باطل ، فإن الجماعة قد يكونون كفارا ، وقد يكونون فساقا يموتون على الفسق. وأما أولياء الله الكاملون فهم الموصوفون في قوله تعالى : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ. لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) يونس : ٦٢ ـ ٦٤ ، الآية. والتقوى هي المذكورة في قوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ) ، الى قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) البقرة : ١٧٧. وهم قسمان : مقتصدون ، ومقربون. فالمقتصدون : الذين يتقربون الى الله بالفرائض من أعمال القلوب والجوارح. والسابقون : الذين يتقربون الى الله بالنوافل بعد الفرائض. كما في «صحيح البخاري» عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله تعالى : من عادى لي وليّا فقد بارزني بالمحاربة ، وما تقرّب إليّ عبدي بمثل أداء ما اقترضت عليه ، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل ، حتى أحبّه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينّه ، ولئن استعاذني لأعيذنه ، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن ، يكره الموت وأكره مساءته» (٤٥٨). والولي : خلاف (٤٥٩) العدو ، وهو مشتق من الولاء وهو الدنو والتقرب ، فولي الله : هو من والى الله بموافقته محبوباته ، والتقرب إليه بمرضاته ، وهؤلاء كما قال الله تعالى فيهم : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) الطلاق : ٢ ـ ٣. قال أبو ذر رضي الله عنه : لما نزلت الآية ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا أبا ذر ، لو عمل

__________________

(٤٥٧) باطل لا أصل له كما قال المؤلف.

(٤٥٨) صحيح لإخراج البخاري إياه ، وإسناده قوي لغيره ، له طرق وشواهد عدة ، خرجتها في «الأحاديث الصحيحة» (١٦٤٠) ، لكن لفظ المبارزة ليس عند البخاري ، وانما هو عند غيره من حديث أبي أمامة بسند فيه ضعيفان ، كما بينته هناك.

(٤٥٩) في الاصل : من القرب.

٣٦٠