شرح العقيدة الطّحاويّة

ابن أبي العزّ الحنفي

شرح العقيدة الطّحاويّة

المؤلف:

ابن أبي العزّ الحنفي


المحقق: الشيخ محمّد ناصر الدين الألباني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بغداد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٤

مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ، والتوبة معروضة بعد» (٣٧٣). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بين المسلم وبين الكفر ترك الصلاة» (٣٧٤). رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أتى كاهنا فصدّقه ، أو أتى امرأة في دبرها ، فقد كفر بما أنزل على محمد» (٣٧٥). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حلف بغير الله فقد كفر» (٣٧٦). رواه الحاكم بهذا اللفظ. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثنتان في أمتي [بهم] كفر : الطعن في الأنساب ، والنياحة على الميت» (٣٧٧). ونظائر ذلك كثيرة.

والجواب : أن أهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفرا ينقل عن الملة بالكلية ، كما قالت أن الخوارج ، إذ لو كفر كفرا ينقل عن الملّة لكان مرتدّا يقتل على كل حال ، ولا يقبل عفو ولي القصاص ، ولا تجري الحدود في الزنا والسرقة وشرب الخمر! وهذا القول معلوم بطلانه وفساده بالضرورة من دين الإسلام. ومتفقون على أنه لا يخرج من الإيمان والإسلام ، ولا يدخل في الكفر ، ولا يستحق الخلود مع الكافرين ، كما قالت المعتزلة. فإن قولهم باطل أيضا ، إذ قد جعل الله مرتكب الكبيرة من المؤمنين ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) البقرة : ١٧٨ ، الى أن قال : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ) البقرة : ١٧٨. فلم يخرج القاتل من الذين آمنوا ، وجعله أخا لوليّ القصاص ، والمراد أخوّة الدين بلا ريب. وقال تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) الحجرات : ٩ ، الى أن قال : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ، فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) الحجرات : ١٠. ونصوص الكتاب والسنة والإجماع تدل على أن الزاني والسارق والقاذف لا يقتل ، بل يقام عليه الحد ،

__________________

(٣٧٣) اخرجه الشيخان.

(٣٧٤) اخرجه مسلم.

(٣٧٥) صحيح وهو مخرج في «آداب الزفاف» ص ٣١ ط ٣.

(٣٧٦) صحيح وتقدم الحديث (برقم ٢١٣).

(٣٧٧) صحيح ، رواه مسلم (١ / ٥٨) بلفظ «اثنتان في الناس ...» والباقي مثله.

٣٢١

فدل على أنه ليس بمرتد. وقد ثبت في «الصحيح» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من كانت عنده لأخيه اليوم مظلمة من عرض أو شيء فليتحلّله منه اليوم ، قبل أن لا يكون درهم ولا دينار ، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته ، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فطرحت عليه ، ثم ألقي في النار» (٣٧٨). أخرجاه في «الصحيحين». فثبت أن الظالم يكون له حسنات يستوفي المظلوم منها حقه. وكذلك ثبت في «الصحيح» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما تعدّون المفلس فيكم؟ قالوا : المفلس فينا من لا له درهم ولا دينار ، قال : المفلس من يأتي يوم القيامة وله حسنات أمثال الحبال ، [فيأتي] وقد شتم هذا ، وأخذ مال هذا ، وسفك دم هذا ، وقذف هذا ، وضرب هذا ، فيقتصّ هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإذا فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ، ثم طرح في النار» (٣٧٩). رواه مسلم. وقد قال تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) هود : ١١٥. فدل ذلك على أنه في حال إساءته يعمل (٣٨٠) حسنات تمحو سيئاته. وهذا مبسوط في موضعه.

والمعتزلة موافقون للخوارج هنا في حكم الآخرة ، فإنهم وافقوهم على أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار ، لكن قالت الخوارج : نسميه كافرا ، وقالت المعتزلة : نسميه فاسقا ، فالخلاف بينهم لفظي فقط. وأهل السنة أيضا متفقون على أنه يستحق الوعيد المرتب على ذلك الذنب ، كما وردت به النصوص. لا كما يقوله المرجئة من أنه لا يضر مع الإيمان ذنب ، ولا ينفع مع الكفر طاعة! وإذا اجتمعت نصوص الوعد التي استدلت بها المرجئة ، ونصوص الوعيد التي استدلت بها الخوارج والمعتزلة ـ : تبين لك فساد القولين! ولا فائدة في كلام هؤلاء سوى أنك تستفيد من كلام كل طائفة فساد مذهب الطائفة الأخرى.

__________________

(٣٧٨) اخرجه البخاري في «المظالم» و «الرقاق» من حديث ابي هريرة دون قوله : «ثم القي ..» وكذلك رواه احمد (٢ / ٤٣٥ و ٥٠٦) ولم اره في «صحيح مسلم». وانظر «أحكام الجنائز» (ص ٤).

(٣٧٩) رواه مسلم وغيره من حديث ابي هريرة ، وهو مخرج في «الصحيحة» (٨٤٧).

(٣٨٠) في الاصل : يفعل.

٣٢٢

ثم بعد هذا الاتفاق تبين أن أهل السنة اختلفوا خلافا لفظيا ، لا يترتب عليه فساد ، وهو : أنه هل يكون الكفر على مراتب ، كفرا دون كفر؟ كما اختلفوا : هل يكون الإيمان على مراتب ، إيمانا دون إيمان؟ وهذا اختلاف نشأ من اختلافهم في مسمى «الإيمان» : هل هو قول وعمل يزيد وينقص ، أم لا؟ بعد اتفاقهم على أن من سماه الله تعالى ورسوله كافرا نسميه كافرا ، إذ من الممتنع أن يسمي الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافرا ، ويسمي رسوله من تقدم ذكره كافرا ـ ولا نطلق عليهما اسم الكفر. ولكن من قال : إن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ، قال : هو كفر عمليّ لا اعتقاديّ ، والكفر عنده على مراتب ، كفر دون كفر ، كالإيمان عنده. ومن قال : إن الإيمان هو التصديق ، ولا يدخل العمل في مسمى الإيمان ، والكفر هو الجحود ، ولا يزيدان ولا ينقصان ، قال : هو كفر مجازيّ غير حقيقي ، إذ الكفر الحقيقي هو الذي ينقل عن الملة. وكذلك يقول في تسمية بعض الأعمال بالإيمان ، كقوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) البقرة : ١٤٣ ، أي صلاتكم الى بيت المقدس ، انها سميت إيمانا مجازا ، لتوقف صحتها عن الإيمان ، أو لدلالتها على الإيمان ، إذ هي دالة على كون مؤديها مؤمنا. ولهذا يحكم بإسلام الكافر إذا صلى صلاتنا. فليس بين فقهاء الأمة نزاع في أصحاب الذنوب ، إذا كانوا مقرّين باطنا وظاهرا بما جاء به الرسول وما تواتر عنهم أنهم من أهل الوعيد. ولكن الأقوال المنحرفة قول من يقول بتخليدهم في النار ، كالخوارج والمعتزلة. ولكن أردأ ما في ذلك التعصب على من يضادّهم ، وإلزامه لمن يخالف قوله بما لا يلزمه ، والتشنيع عليه! واذا كنا مأمورين بالعدل في مجادلة الكافرين ، وأن يجادلوا بالتي هي أحسن ، فكيف لا يعدل بعضنا على بعض في مثل هذا الخلاف؟! قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ ، وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا ، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) المائدة ٨ ، الآية.

وهنا أمر يجب أن يتفطّن له ، وهو : أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفرا ينقل عن الملة ، وقد يكون معصية : كبيرة أو صغيرة ، ويكون كفرا : إما مجازيّا ، وإما كفرا أصغر ، على القولين المذكورين. وذلك بحسب حال الحاكم : فإنه إن اعتقد أنّ الحكم بما أنزل الله غير واجب ، وأنه مخيّر فيه ، أو استهان به مع تيقنه أنه

٣٢٣

حكم الله ـ : فهذا كفر أكبر (٣٨١). وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله ، وعلمه في هذه الواقعة ، وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة ، فهذا عاص ، ويسمى كافرا كفرا مجازيّا ، أو كفرا أصغر. وإن جهل حكم الله فيها ، مع بذل جهده واستفراغ وسعه في معرفة الحكم وأخطأه ، فهذا مخطئ ، له أجر على اجتهاده ، وخطؤه مغفور.

وأراد الشيخ رحمه‌الله بقوله : ولا نقول لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله ـ مخالفة المرجئة. وشبهتهم كانت قد وقعت لبعض الأولين ، فاتفق الصحابة على قتلهم إن لم يتوبوا من ذلك. فإن قدامة بن عبد الله شرب الخمر بعد تحريمها هو وطائفة ، وتأوّلوا قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا [وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ]) المائدة : ٩٣ ، الآية. فلما ذكروا ذلك لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ، اتفق هو وعليّ بن أبي طالب وسائر الصحابة على أنهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا ، وإن أصرّوا على استحلالها قتلوا. وقال عمر لقدامة : أخطأت استك الحفرة ، أما إنك لو اتقيت وآمنت وعملت الصالحات لم تشرب الخمر. وذلك أن هذه الآية نزلت بسبب أن الله سبحانه لما حرم الخمر ، وكان تحريمها بعد وقعة أحد ، قال بعض الصحابة : فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟ فأنزل الله هذه الآية. بيّن فيها أن من طعم الشيء في الحال التي لم يحرّم فيها فلا جناح عليه إذا كان من المؤمنين المتّقين المصلحين ، كما كان من أمر استقبال بيت المقدس. ثم إن أولئك الذين فعلوا [ذلك يذمّون] على أنهم أخطئوا وأيسوا من التوبة. فكتب عمر الى قدامة يقول له : (حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ

__________________

(٣٨١) قال الشيخ أحمد شاكر : وهذا مثل ما ابتلي به الذين درسوا القوانين الاوروبية ، من رجال الأمم الاسلامية ، ونسائها أيضا! الذين أشربوا في قلوبهم حبها ، والشغف بها ، والذب عنها ، وحكموا بها ، وأذاعوها. بما ربوا من تربية اساسها صنع المبشرين الهدامين أعداء الاسلام. ومنهم من يصرح ، ومنهم من يتوارى. ويكادون يكونون سواء. فإنا لله وإنّا إليه راجعون.

(٣٨١) في الاصل : حكم.

٣٢٤

اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ) غافر : ١ ـ ٣. ما أدري أيّ ذنبيك أعظم؟ استحلالك المحرّم أولا؟ أم يأسك من رحمة الله ثانيا؟ وهذا الذي اتفق عليه الصحابة هو متفق عليه بين أئمة الإسلام.

قوله : (ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة برحمته ، ولا نأمن عليهم ، ولا نشهد لهم بالجنة ، ونستغفر لمسيئهم ، ونخاف عليهم ، ولا نقنّطهم).

ش : وعلى المؤمن أن يعتقد هذا الذي قاله الشيخ رحمه‌الله في حق نفسه وفي حق غيره. قال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) الاسراء : ٥٧. وقال تعالى : (فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) آل عمران : ١٧٥. وقال تعالى : (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) البقرة : ٤١. (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) البقرة : ٤٠. (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) البقرة : ١٥٠. ومدح أهل الخوف ، فقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) المؤمنون : ٥٧ ـ ٥٨. الى قوله : (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ) المؤمنون : ٦١. وفي «المسند» والترمذي عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : قلت : يا رسول الله ، (الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) المؤمنون : ٦٠ ، هو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق؟ قال : «لا ، يا ابنة الصديق ، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه» (٣٨٢). قال الحسن رضي الله عنه : عملوا ـ والله ـ بالطاعات ، واجتهدوا فيها ، وخافوا أن تردّ عليهم ، إن المؤمن جمع إحسانا وخشية ، والمنافق جمع إساءة وأمنا. انتهى. وقد قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) البقرة : ٢١٨. فتأمل كيف جعل رجاءهم مع إيمانهم بهذه الطاعات؟ فالرجاء إنما يكون مع الإتيان بالأسباب التي اقتضتها حكمة الله تعالى ،

__________________

(٣٨٢) حديث حسن ، وقد خرجته في «الاحاديث الصحيحة» (١٦٢).

٣٢٥

شرعة وقدرته (٣٨٣) وثوابه وكرامته. ولو أن رجلا له أرض يؤمل أن يعود عليه من مغلها ما ينفعه ، فأهملها ولم يحرثها ولم يبذرها ، ورجا أنه يأتي من مغلها مثل ما يأتي من حرث وزرع وتعاهد الأرض ـ : لعدّه الناس من أسفه السفهاء! وكذا لو رجا وحسن ظنه أن يجيئه ولد من غير جماع! أو يصير أعلم أهل زمانه من غير طلب العلم وحرص تام! وأمثال ذلك. فكذلك من حسن ظنه وقوي رجاؤه في الفوز بالدرجات العلى والنعيم المقيم ، من غير طاعة ولا تقرب الى الله تعالى بامتثال أوامره واجتناب نواهيه. ومما ينبغي أن يعلم أنّ من رجا شيئا استلزم رجاؤه أمورا : أحدها : محبة ما يرجوه. الثاني : خوفه من فواته. الثالث : سعيه في تحصيله بحسب الإمكان. وأما رجاء لا يقارنه شيء من ذلك ، فهو من باب الأمانيّ ، والرجاء شيء والأماني شيء آخر. فكل راج خائف ، والسائر على الطريق إذا خاف أسرع السير ، مخافة الفوات. وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) النساء : ٤٨ ، ١١٦. فالمشرك لا ترجى له المغفرة ، لأن الله نفى عنه المغفرة ، وما سواه من الذنوب في مشيئة الله ، إن الله غفر له ، وإن شاء عذّبه. وفي «معجم الطبراني» : الدواوين عند الله يوم القيامة ثلاثة دواوين : ديوان لا يغفر الله منه شيئا ، وهو الشرك بالله ، ثم قرأ : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) النساء : ٤٨ ، ١١٦. وديوان لا يترك الله منه شيئا ، مظالم العباد بعضهم بعضا. وديوان لا يعبأ الله به ، وهو ظلم العبد نفسه بينه وبين ربه (٣٨٤).

وقد اختلفت عبارات العلماء في الفرق بين الكبائر والصغائر ، وستأتي الإشارة الى ذلك عند قول الشيخ رحمه‌الله : وأهل الكبائر من أمة محمد في النار لا يخلدون. ولكن ثم أمر ينبغي التفطن له ، وهو : أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر ، وقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر. وهذا أمر مرجعه الى ما

__________________

(٣٨٣) في الاصل : وقدره.

(٣٨٤) ضعيف ، ولم يروه الطبراني بل أحمد (٦ / ٢٤٠) والحاكم (٤ / ٥٧٥ ـ ٢٧٦) وقال : «صحيح الاسناد»! ورده الذهبي بقوله : «قلت : صدقة ، ضعفوه ، وابن بابنوس فيه جهالة».

٣٢٦

يقوم بالقلب ، وهو قدر زائد على مجرد الفعل ، والإنسان يعرف ذلك من نفسه وغيره.

[وأيضا] : فإنه قد يعفى لصاحب الإحسان (٣٨٥) العظيم ما لا يعفى لغيره ، فإن فاعل السيئات يسقط عنه عقوبة جهنم بنحو عشرة أسباب ، عرفت بالاستقراء من الكتاب والسنة : السبب الأول : التوبة ، قال تعالى : (إِلَّا مَنْ تابَ) مريم : ٦٠ ، الفرقان : ٧٠. (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) البقرة : ١٦٠ وغيرها. والتوبة النصوح ، وهي الخالصة ، لا يختص بها ذنب دون ذنب ، لكن هل تتوقف صحتها على أن تكون عامة؟ حتى لو تاب من ذنب وأصر على آخر لا تقبل؟ والصحيح أنها تقبل. وهل يجبّ الإسلام ما قبله من الشرك وغيره من الذنوب وإن لم يتب منها؟ أم لا بدّ مع الإسلام من التوبة من غير الشرك؟ حتى لو أسلم وهو مصرّ على الزنا وشرب الخمر مثلا ، هل يؤاخذ بما كان منه في كفره من الزنا وشرب الخمر؟ أم لا بدّ أن يتوب من ذلك الذنب مع إسلامه؟ أو يتوب توبة عامة من كل ذنب؟ وهذا هو الأصح : أنه لا بد من التوبة مع الإسلام ، وكون التوبة سببا لغفران الذنوب وعدم المؤاخذة بها ـ مما لا خلاف فيه بين الأمة. وليس شيء يكون سببا لغفران جميع الذنوب إلا التوبة ، قال تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الزمر : ٥٣ ، وهذا لمن تاب ، ولهذا قال : (لا تَقْنَطُوا) ، وقال بعدها : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) الزمر : ٥٤ ، الآية. السبب الثاني : الاستغفار ، قال تعالى : (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) الانفال : ٣٣. لكن الاستغفار تارة يذكر وحده ، وتارة يقرن بالتوبة ، فإن ذكره وحده دخلت معه التوبة ، كما إذا ذكرت التوبة وحدها شملت الاستغفار. فالتوبة تتضمن الاستغفار ، والاستغفار يتضمن التوبة ، وكل واحد منهما يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق ، وأما عند اقتران إحدى اللفظتين بالأخرى ، فالاستغفار : طلب وقاية شرّ ما مضى ، والتوبة : الرجوع وطلب وقاية شرّ ما يخافه في المستقبل

__________________

(٣٨٥) في الاصل : السيئات.

٣٢٧

من سيئات أعماله. ونظير هذا : الفقير والمسكين ، إذا ذكر أحد اللفظين شمل الآخر ، وإذا ذكرا معا كان لكل منهما معنى. قال تعالى : (إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ) المائدة : ٨٩. (فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) المجادلة : ٤. (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) البقرة : ٢٧١. لا خلاف أن كل واحد من الاسمين في هذه الآيات لما أفرد شمل المقلّ والمعدم ، ولما قرن أحدهما بالآخر في قوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) التوبة : ٦٠ ، الآية ـ : كان المراد بأحدهما المقلّ ، والآخر المعدم ، على خلاف فيه. وكذلك : الإثم والعدوان ، والبر والتقوى ، والفسوق والعصيان. ويقرب من هذا [المعنى] : الكفر والنفاق ، فإن الكفر أعم ، فإذا ذكر الكفر شمل النفاق ، وإن ذكرا معا كان لكل منهما معنى. وكذلك الإيمان والإسلام (٣٨٦) ، على ما يأتي الكلام فيه ، إن شاء الله تعالى. السبب الثالث : الحسنات : فإن الحسنة بعشر أمثالها ، والسيئة بمثلها ، فالويل لمن [غلبت] آحاده عشراته. وقال تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) هود : ١١٤. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «واتبع السيئة الحسنة تمحها» (٣٨٧). السبب الرابع : المصائب الدنيوية ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ، ولا غمّ ولا هم ولا حزن ، حتى الشوكة يشاكها ـ إلا كفّر بها من خطاياه» (٣٨٨). وفي «المسند» : أنه لما نزل قوله تعالى : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) النساء : ١٢٣ ـ قال أبو بكر : يا رسول الله ، نزلت قاصمة الظهر (٣٨٩) ، وأينا لم يعمل سوءا؟ فقال : «يا أبا بكر ، ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست يصيبك اللأواء؟ فذلك ما تجزون به» (٣٩٠).

__________________

(٣٨٦) قال عفيفي : انظر اسباب سقوط العقوبة عن العبد ص ٤٨٧ / ٥٠١ من الفتاوي.

(٣٨٧) حديث حسن ، وهو مخرج في «الروض النضير» (٨٥٥).

(٣٨٨) متفق عليه من حديث ابي سعيد وأبي هريرة معا.

(٣٨٩) في الاصل : للظهر.

(٣٩٠) ضعيف الاسناد ، صحيح المعنى ، قال أحمد شاكر في تعليقه هنا : حديث أبي بكر هذا في «المسند» ، برقم : ٦٨ بشرحنا. ولكن اوله هناك أن أبا بكر قال : يا رسول الله ، كيف الصلاح بعد هذه الآية؟ .. فكل سوء عملناه جزينا به؟». ليس فيه قوله هنا «نزلت قاصمة الظهر ..» وهو حديث ضعيف ، اسناده منقطع. وكان الأجدر بالشارح أن يذكر حديث

٣٢٨

فالمصائب نفسها مكفرة ، وبالصبر عليها يثاب العبد ، وبالسخط يأثم. والصبر والسخط أمر آخر غير المصيبة ، فالمصيبة من فعل الله لا من فعل العبد ، وهي جزاء من الله للعبد على ذنبه ، ويكفّر ذنبه بها ، وإنما يثاب المرء ويأثم على فعله ، والصبر والسخط من فعله ، وإن كان الأجر قد يحصل بغير عمل من العبد ، بل هدية من الغير ، أو فضلا من الله من غير سبب ، قال تعالى : (وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) النساء : ٤٠. فنفس المرض جزاء وكفارة لما تقدم. وكثيرا ما يفهم من الأجر غفران الذنوب ، وليس ذلك مدلوله ، وإنما يكون من لازمه. السبب الخامس : عذاب القبر. وسيأتي الكلام عليه ، إن شاء الله تعالى. السبب السادس : دعاء المؤمنين واستغفارهم في الحياة وبعد الممات. السبب السابع : ما يهدى إليه بعد الموت ، من ثواب صدقة أو قراءة أو حجّ ، ونحو ذلك ، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى. السبب الثامن : أهوال يوم القيامة وشدائده. السبب التاسع : ما ثبت في «الصحيحين» : «أن المؤمنين اذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار ، فيقتصّ لبعضهم من بعض ، فإذا هذّبوا ونقّوا أذن لهم في دخول الجنة» (٣٩١). السبب العاشر : شفاعة الشافعين ، كما تقدم عند ذكر الشفاعة وأقسامها. السبب الحادي عشر : عفو أرحم الراحمين من غير شفاعة ، كما قال

__________________

ابي هريرة في «المسند» : ٧٣٨٠ انه لما نزلت هذه الآية «شقت على المسلمين وبلغت منهم ما شاء الله ان تبلغ ، فشكوا ذلك الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال لهم : قاربوا وسددوا ، فكل ما يصاب به المسلم كفارة ، حتى النكبة ينكبها». وهو حديث صحيح ، رواه مسلم في صحيحه (٢ / ٢٨٢) ، وزاد في آخره : «والشوكة يشاكها». ولو رجع الشارح رحمه‌الله الى تفسير شيخه ابن كثير في هذه الآية (٢ / ٨٥٦ ـ ٥٩٠) لوجد حديث أبي هريرة ، وأحاديث أخر في معناه ، بعضها أصح اسنادا من حديث أبي بكر.

قلت : وهو في «مسند ابي بكر الصديق» للحافظ ابي بكر المروزي (رقم ٢٠ و ١١١) طبع المكتب الاسلامي تحقيق الاستاذ شعيب الارناؤوط من طريقين ضعيفين عن الصديق رضي الله عنه.

(٣٩١) هو طرف من حديث ، اخرجه البخاري في «المظالم و «الرقاق» وأحمد (٣ / ١٣ و ٦٣ و ٧٤) من حديث ابي هريرة مرفوعا ، ولم اره في صحيح مسلم ، ولا عزاه السيوطي إليه.

٣٢٩

تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) النساء : ٤٨ ، ١١٦. فإن كان ممن لم يشأ الله أن يغفر له لعظم جرمه ، فلا بدّ من دخوله الى الكير ، ليخلص طيب إيمانه من خبث معاصيه ، فلا يبقى في النار من في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان ، بل من قال : لا إله إلا الله ، كما تقدم من حديث أنس رضي الله عنه (٣٩٢). وإذا كان الأمر كذلك ، امتنع القطع لأحد معين من الأمة ، غير من شهد له الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجنة ، ولكن نرجو للمحسنين ، ونخاف عليهم.

قوله : (والأمن والاياس ينقلان عن ملة الاسلام ، وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة).

ش : يجب أن يكون العبد خائفا راجيا ، فإن الخوف المحمود الصادق : ما حال بين صاحبه وبين محارم الله ، فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط. والرجاء المحمود : رجاء رجل عمل بطاعة الله على نور من الله ، فهو راج لثوابه ، أو رجل أذنب ذنبا ثم تاب منه الى الله ، فهو راج لمغفرته. قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ ، وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) البقرة : ٢١٨. أما إذا كان الرجل متماديا في التفريط والخطايا ، يرجو رحمة الله بلا عمل ، فهذا هو الغرور والتمني والرجاء الكاذب. قال : أبو علي الروذباري رحمه‌الله : الخوف والرجاء كجناحي الطائر ، اذا استويا استوى الطير وتم طيرانه ، واذا نقص أحدهما وقع فيه النقص ، واذا ذهبا صار الطائر في حدّ الموت. وقد مدح الله أهل الخوف والرجاء بقوله : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) الزمر : ٩ ، الآية. وقال : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ ، يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) السجدة : ١٦ ، الآية. فالرجاء يستلزم الخوف ، ولو لا ذلك لكان أمنا ، والخوف يستلزم الرجاء ، ولو لا ذلك لكان قنوطا ويأسا. وكل أحد اذا خفته هربت منه ، إلا الله تعالى ، فإنك إذا خفته هربت إليه ، فالخائف هارب من ربه الى ربه. وقال صاحب «منازل السائرين» رحمه‌الله : الرجاء أضعف منازل المريد. وفي كلامه نظر ، بل الرجاء والخوف على

__________________

(٣٩٢) متفق عليه

.

٣٣٠

الوجه المذكور من أشرف منازل المريد. وفي «الصحيح» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله عزوجل : أنا عند ظن عبدي بي. فليظن [بي] ما شاء» (٣٩٣) وفي «صحيح مسلم» عن جابر رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول قبل موته بثلاث : «لا يموتنّ أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه» (٣٩٤) ، ولهذا قيل : إن العبد ينبغي أن يكون رجاؤه في مرضه أرجح من خوفه ، بخلاف زمن الصحة ، فإنه يكون خوفه أرجح من رجائه. وقال بعضهم : من عبد الله بالحب [وحده] فهو زنديق ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري ، [وروي] : ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحّد. ولقد أحسن محمود الوراق في قوله :

لو قد رأيت الصغير من عمل الخ

ير ثوابا عجبت من كبره

أو قد رأيت الحقير من عمل الش

ر جزاء أشفقت من حذره

قوله : (ولا يخرج العبد من الايمان الا بجحود ما ادخله فيه).

ش : يشير الشيخ الى الرد على الخوارج والمعتزلة في قوله بخروجه من الإيمان بارتكاب الكبيرة. وفيه تقرير لما قال أولا : لا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ، ما لم يستحله. وتقدم الكلام على هذا المعنى.

قوله : (والايمان : هو الإقرار باللسان ، والتصديق بالجنان. وجميع ما صح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الشرع والبيان كله حق. والايمان واحد ، وأهله في أصله سواء ، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى ، ومخالفة الهوى ، وملازمة الأولى).

__________________

(٣٩٣) متفق عليه من حديث أبي هريرة بلفظ : «.. وأنا معه إذا ذكرني ..» الحديث ، وقد مضى في الكتاب (برقم ٣٥٥) معزوا ل «الصحيح» أيضا ، وعزوه إليه هنا خطأ ، فإنه إنما رواه بهذا اللفظ الذي هنا عن ابي هريرة الامام أحمد ، وفيه ابن لهيعة ، لكن له شاهد من حديث واثلة ، رواه احمد وغيره بسند صحيح ، وصححه ابن حبان والحاكم والذهبي ، وهو مخرج في «الصحيحة» تحت الحديث (١٦٦٣).

(٣٩٤) رواه مسلم وغيره كما في «أحكام الجنائز» (ص ٣).

٣٣١

ش : اختلف الناس فيما يقع عليه اسم الإيمان ، اختلافا كثيرا : فذهب مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق بن راهويه وسائر أهل الحديث وأهل المدينة رحمهم‌الله وأهل الظاهر وجماعة من المتكلمين : إلى أنه تصديق بالجنان ، وإقرار باللسان ، وعمل بالأركان. وذهب كثير من أصحابنا الى ما ذكره الطحاوي رحمه‌الله : أنه الإقرار باللسان ، والتصديق بالجنان. ومنهم من يقول : إن الإقرار باللسان ركن زائد ليس بأصلي ، والى هذا ذهب أبو منصور الماتريدي رحمه‌الله ، ويروى عن أبي حنيفة رضي الله عنه. وذهب الكرّامية الى أن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط! فالمنافقون عندهم مؤمنون كاملو الإيمان ، ولكنهم يقولون بأنهم يستحقون الوعيد الذي أوعدهم الله به! وقولهم ظاهر الفساد. وذهب الجهم بن صفوان وأبو الحسن الصالحي أحد رؤساء القدرية ـ إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب! وهذا القول أظهر فسادا مما قبله! فإن لازمه أن فرعون وقومه كانوا مؤمنين ، فإنهم عرفوا صدق موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام ، ولم يؤمنوا بهما ، ولهذا قال موسى لفرعون : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) الاسراء : ١٠٢. وقال تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) النمل : ١٤. وأهل الكتاب كانوا يعرفون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما يعرفون أبناءهم ، ولم يكونوا مؤمنين به ، بل كافرين به ، معادين له ، وكذلك أبو طالب عنده يكون مؤمنا ، فإنه قال :

ولقد علمت بأن دين محمد

من خير أديان البرية دينا

لو لا الملامة أو حذار مسبّة

لوجدتني سمحا بذاك مبينا

بل إبليس يكون عند الجهم مؤمنا كامل الإيمان! فإنه لم يجهل ربه ، بل هو عارف به ، (قالَ : رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) الحجر : ٣٦. (قالَ : رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) الحجر : ٣٩. (قالَ : فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) ص : ٨٢. والكفر عند الجهم هو الجهل بالرب تعالى ، ولا أحد أجهل منه بربه! فإنه جعله الوجود المطلق ، وسلب عنه جميع صفاته ، ولا جهل أكبر من هذا ، فيكون كافرا بشهادته على نفسه! وبين هذه المذاهب مذاهب أخر ، بتفاصيل وقيود ، أعرضت

٣٣٢

عن ذكرها اختصارا ، ذكر هذه المذاهب أبو المعين النسفي (٣٩٥) في «تبصرة الأدلة» وغيره.

وحاصل الكل [يرجع] الى أن الإيمان : إما أن يكون ما يقوم بالقلب واللسان وسائر الجوارح ، كما ذهب إليه جمهور السلف من الأئمة الثلاثة وغيرهم رحمهم‌الله ، كما تقدم ، أو بالقلب واللسان دون الجوارح ، كما ذكره الطحاوي عن أبي حنيفة وأصحابه رحمهم‌الله. أو باللسان وحده ، كما تقدم ذكره عن الكرامية. أو بالقلب وحده ، وهو إما المعرفة ، كما قاله الجهم ، أو التصديق كما قاله أبو منصور الماتريدي رحمه‌الله. وفساد قول الكرامية والجهم بن صفوان ظاهر.

والاختلاف الذي بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنة ـ اختلاف صوريّ. فإن كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب ، أو جزءا من الإيمان ، مع الاتفاق على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان ، بل هو في مشيئة الله ، إن شاء عذبه ، وإن شاء عفا عنه ـ : نزاع لفظي ، لا يترتب عليه فساد اعتقاد. والقائلون بتكفير تارك الصلاة ، ضموا الى هذا الأصل أدلة أخرى. وإلا فقد نفى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر والمنتهب ، ولم يوجب ذلك زوال اسم الإيمان عنهم بالكلية ، اتفاقا. ولا خلاف بين أهل السنة أن الله تعالى أراد من العباد القول والعمل ، وأعني بالقول : التصديق بالقلب والإقرار باللسان ، وهذا الذي يعنى به عند إطلاق قولهم : الإيمان قول وعمل. لكن هذا المطلوب من العباد : هل يشمله اسم الإيمان؟ أم الإيمان أحدهما ، وهو القول وحده ، والعمل مغاير له لا يشمله اسم الإيمان عند إفراده بالذكر ، وإن أطلق عليهما كان مجازا؟ هذا محل النزاع.

وقد أجمعوا على أنه لو صدق بقلبه وأقر بلسانه ، وامتنع عن العمل بجوارحه ـ : [أنه] عاص لله ورسوله ، مستحق للوعيد ، لكن فيمن يقول : إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان من قال : لما كان الإيمان شيئا واحدا فإيماني كإيمان أبي بكر

__________________

(٣٩٥) هو ميمون بن محمد بن محمد أبو المعين النسفي الحنفي عالم بالاصول والكلام كان بسمرقند وسكن بخارى. له كتب عدة (٤١٨ ـ ٥٠٨).

٣٣٣

الصديق وعمر رضي الله عنهما! بل قال : كإيمان الأنبياء والمرسلين وجبرائيل وميكائيل عليهم‌السلام!! وهذا غلوّ منه. فإن الكفر مع الإيمان كالعمى مع البصر ، ولا شك أن البصراء يختلفون في قوة البصر وضعفه ، فمنهم الأخفش والأعشى ، و [من] يرى الخط الثخين ، دون الدقيق (٣٩٦) إلا بزجاجة ونحوها ، ومن يرى عن قرب زائد على العادة ، وآخر بضده.

ولهذا ـ والله أعلم ـ قال الشيخ رحمه‌الله : وأهله في أصله سواء ، يشير الى أن التساوي إنما هو في أصله (٣٩٧) ، ولا يلزم منه التساوي من كل وجه ، بل تفاوت [درجات] نور «لا إله إلا الله» في قلوب أهلها لا يحصيها إلا الله تعالى : فمن الناس من نور [«لا إله إلا الله»] في قلبه كالشمس ، ومنهم من نورها في قلبه كالكوكب الدري ، وآخر كالمشعل العظيم ، وآخر كالسراج المضيء ، وآخر كالسراج الضعيف. ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار ، بحسب ما في قلوبهم من نور الإيمان والتوحيد علما وعملا ، وكلما اشتد نور هذه الكلمة وعظم أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته ، بحيث إنه ربما وصل الى حال لا يصادف شهوة ولا شبهة ولا ذنبا إلا أحرقه ، وهذه حال الصادق في توحيده ، فسماء إيمانه قد حرس بالرجوم من كل سارق. ومن عرف هذا عرف معنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله حرم على النار من قال : لا إله إلا الله ، يبتغي بذلك وجه الله» (٣٩٨) ، وقوله : «لا يدخل النار من قال : لا إله إلا الله» (٣٩٩) ، وما جاء من هذا النوع من الأحاديث التي أشكلت على كثير من الناس ، حتى ظنها بعضهم منسوخة ، وظنها بعضهم قبل ورود الأوامر والنواهي ، وحملها بعضهم على نار المشركين والكفار ، وأوّل بعضهم الدخول بالخلود ، ونحو ذلك. والشارع صلوات الله وسلامه عليه لم يجعل ذلك حاصلا بمجرد قول اللسان فقط ، فإن هذا

__________________

(٣٩٦) في الاصل : الرفيع.

(٣٩٧) في الاصل : العلم.

(٣٩٨) متفق عليه من حديث عتبان بن مالك.

(٣٩٩) متفق عليه ، نحوه من حديث عتبان.

٣٣٤

من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام ، فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم ، وهم تحت الجاحدين في الدرك الأسفل من النار ، فإن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها ، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب. وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة ، ويقابلها تسعة وتسعون سجلا ، كل سجلّ منها مدّ البصر ، فنقل البطاقة ، وتطيش السجلات ، فلا يعذب صاحبها (٤٠٠). ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة ، وكثير منهم يدخل النار. وتأمل ما قام بقلب قاتل المائة من حقائق الإيمان ، التي لم تشغله عند السياق عن السير الى القرية ، وحملته وهو في تلك الحال أن جعل ينوء بصدره وهو يعالج سكرات الموت وتأمل ما قام بقلب البغي من الإيمان ، حيث نزعت موقها وسقت الكلب من الركية ، فغفر لها. وهكذا العقل أيضا ، فإنه يقبل التفاضل ، وأهله في أصله سواء ، مستوون في أنهم عقلاء غير مجانين ، وبعضهم أعقل من بعض. وكذلك الإيجاب والتحريم ، فيكون إيجاب دون إيجاب ، وتحريم دون تحريم. هذا هو الصحيح ، وإن كان بعضهم قد طرد ذلك في العقل والوجوب.

وأما زيادة الإيمان من جهة الإجمال والتفصيل ـ : فمعلوم أنه لا يجب في أول الأمر ما وجب بعد نزول القرآن كله ، ولا يجب على كل أحد من الإيمان المفصل مما أخبر به الرسول ما يجب على من بلغه خبره ، كما في حق النجاشي وأمثاله. وأما الزيادة بالعمل والتصديق ، المستلزم لعمل القلب والجوارح ـ : [فهو] أكمل من التصديق الذي لا يستلزمه ، فالعلم الذي يعمل به صاحبه أكمل من العلم الذي لا يعمل به ، فإذا لم يحصل اللازم دل على ضعف الملزوم. ولهذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس المخبر كالمعاين» (٤٠١) وموسى عليه‌السلام لما أخبر أن قومه عبدوا العجل لم يلق الألواح ، فلما رآهم قد عبدوه ألقاها ، وليس ذلك لشك موسى في خبر الله ،

__________________

(٤٠٠) صحيح ، وهو من حديث عبد الله بن عمرو ، اخرجه احمد والترمذي وغيرهما ، وهو مخرج في الاحاديث الصحيحة» (١٣٥) وغيره ، وسيأتي لفظ الحديث في الكتاب (برقم ٥٦٧).

(٤٠١) صحيح ، اخرجه أحمد (١ / ٢١٥ ، ٢٧١) والطبراني والخطيب وغيرهم بسند صحيح بلفظ : «ليس الخبر كالمعاينة» وانظر «تخريج المشكاة» (٥٧٣٨).

٣٣٥

لكن المخبر ، وإن جزم بصدق المخبر ، فقد لا يتصور [المخبر به نفسه ، كما يتصوره] إذا عاينه ، كما قال إبراهيم الخليل صلوات الله على نبينا محمد وعليه : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى. قالَ : أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ : بَلى. وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) البقرة : ٢٦٠. وأيضا : فمن وجب عليه الحج والزكاة مثلا ، يجب عليه [من] الإيمان أن يعلم ما أمر به ، ويؤمن بأن الله أوجب عليه ما لا يجب على غيره [الإيمان به] إلا مجملا ، وهذا يجب عليه فيه الإيمان المفصل. وكذلك الرجل أول ما يسلم ، إنما يجب عليه الإقرار المجمل ، ثم إذا جاء وقت الصلاة كان عليه أن يؤمن بوجوبها. ويؤديها ، فلم يتساو الناس فيما أمروا به من الإيمان. ولا شك أن من قام بقلبه التصديق الجازم ، الذي لا يقوى على معارضته شهوة ولا شبهة ـ : لا تقع معه معصية ، ولو لا ما حصل له من الشهوة والشبهة أو إحداهما لما عصى ، بل يشتغل قلبه ذلك الوقت بما يواقعه من المعصية ، فيغيب عنه التصديق والوعيد فيعصي. ولهذا ـ والله أعلم ـ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» (٤٠٢) ، الحديث. فهو حين يزني يغيب عنه تصديقه بحرمة الزنا ، وإن بقي أصل التصديق في قلبه ، ثم يعاوده. فإن المتقين كما وصفهم الله بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) الاعراف : ٢٠١. قال ليث عن مجاهد : هو الرجل يهم بالذنب فيذكر الله فيدعه. والشهوة والغضب مبدأ السيئات ، [فإذا أبصر رجع. ثم قال تعالى : (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) الاعراف : ٢٠٢ ، أي : وإخوان الشياطين تمدهم الشياطين في الغي ثم لا يقصرون. قال ابن عباس : لا الإنس تقصر عن السيئات] ، ولا الشياطين تمسك عنهم. فإذا لم يبصر بقي قلبه في عمى ، والشيطان يمده في غيّه ، وإن كان التصديق في قلبه لم يكذب ، فذلك النور والإبصار ، وتلك الخشية والخوف تخرج من قلبه. وهذا كما أن الإنسان يغمض عينه فلا يرى ، وإن لم يكن أعمى ، فكذلك القلب ، بما يغشاه من رين الذنوب ، لا يبصر الحق وإن لم يكن أعمى

__________________

(٤٠٢) متفق عليه وقد مضى الحديث (برقم ٣٧٣).

٣٣٦

كعمى الكافر. وجاء هذا المعنى مرفوعا الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه قال : «إذا زنا العبد نزع منه الإيمان ، فإذا تاب أعيد إليه» (٤٠٣).

إذا كان النزاع في هذه المسألة بين أهل السنة نزاعا لفظيّا ، فلا محذور فيه ، سوى ما يحصل من عدوان إحدى الطائفتين على الأخرى والافتراق بسبب ذلك ، وأن يصير ذلك ذريعة الى بدع أهل الكلام المذموم من أهل الإرجاء ونحوهم ، والى ظهور الفسق والمعاصي ، بأن يقول : أنا مؤمن مسلم حقّا كامل الإيمان والإسلام ولي من أولياء الله! فلا يبالي بما يكون منه من المعاصي. وبهذا المعنى قالت المرجئة : لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله! وهذا باطل قطعا. فالإمام أبو حنيفة رضي الله عنه نظر الى حقيقة الإيمان لغة مع أدلة من كلام الشارع. وبقية الأئمة رحمهم‌الله نظروا الى حقيقته في عرف الشارع ، فإن الشارع ضم الى التصديق أوصافا وشرائط ، كما في الصلاة والصوم والحج ونحو ذلك.

فمن أدلة الأصحاب لأبي حنيفة رحمه‌الله : أن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق ، قال تعالى خبرا عن إخوة يوسف : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) يوسف : ١٧ ، أي بمصدق لنا ، ومنهم من ادعى إجماع أهل اللغة على ذلك. ثم هذا المعنى اللغوي ، وهو التصديق بالقلب ، هو الواجب على العبد حقّا لله ، وهو أن يصدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما جاء به من عند الله ، فمن صدق الرسول فيما جاء به من عند الله فهو مؤمن فيما بينه وبين الله تعالى ، والإقرار شرط إجراء أحكام الإسلام في الدنيا. هذا على أحد القولين ، كما تقدم ، ولأنه ضد الكفر ، وهو التكذيب والجحود ، وهما يكونان بالقلب ، فكذا ما يضادّهما. وقوله : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) النحل : ١٠٦ ، يدل على أن القلب هو موضع الإيمان ، لا اللسان ، ولأنه لو كان مركبا من قول وعمل ، لزال كله بزوال جزئه ، ولأن العمل قد عطف على الإيمان ، والعطف يقتضي المغايرة ، قال تعالى : (آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) البقرة : ٢٥ وغيرها ، في مواضع من القرآن.

__________________

(٤٠٣) صحيح ، اخرجه ابو داود والحاكم وصححه هو والذهبي ، وهو مخرج في «الصحيحة» (٥٠٩)

.

٣٣٧

وقد اعترض على استدلالهم بأن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق ـ بمنع الترادف بين التصديق والإيمان ، وهب أن الأمر يصح في موضع ، فلم قلتم إنه يوجب الترادف مطلقا؟ وكذلك اعترض على دعوى الترادف بين الإسلام والإيمان. ومما يدل على عدم الترادف : أنه يقال للمخبر إذا صدّق : صدّقه ، ولا يقال : آمنه ، ولا آمن به ، بل يقال : آمن له ، كما قال تعالى : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) العنكبوت : ٢٦. (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ) يونس : ٨٣. وقال تعالى : (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) التوبة : ٦١ ، ففرق بين المعدّى بالباء والمعدّى باللام ، فالأول يقال للمخبر به ، والثاني للمخبر. ولا يرد كونه يجوز أن يقال : ما أنت بمصدّق لنا ، لأن دخول اللام لتقوية العامل ، [كما إذا تقدم المعمول ، أو كان العامل] اسم فاعل ، أو مصدرا ، على ما عرف في موضعه. فالحاصل أنه لا يقال : قد آمنته ، ولا صدقت له ، إنما يقال : آمنت له ، كما يقال : أقررت له. فكان تفسيره بأقررت ـ أقرب من تفسيره بصدّقت ، مع الفرق بينهما ، لأن الفرق بينهما ثابت في المعنى ، فإن كل مخبر عن مشاهد أو غيب ، يقال له في اللغة : صدقت ، كما يقال له : كذبت. فمن قال : السماء فوقنا ، قيل له : صدقت. وأما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن الغائب ، فيقال لمن قال : طلعت الشمس ـ : صدّقناه ، ولا يقال : آمنّا له ، فإن فيه أصل معنى الأمن ، والائتمان إنما يكون في الخبر عن الغائب ، فالأمر الغائب هو الذي يؤتمن عليه المخبر. ولهذا لم يأت في القرآن وغيره لفظ آمن له ـ إلا في هذا النوع. ولأنه لم يقابل لفظ الإيمان قط بالتكذيب كما يقابل لفظ التصديق ، وإنما يقابل بالكفر ، والكفر لا يختص بالتكذيب ، بل لو قال : أنا أعلم أنك صادق ولكن لا أتبعك ، بل أعاديك وأبغضك وأخالفك ـ : لكان كفرا أعظم ، فعلم أن الإيمان ليس التصديق فقط ، ولا الكفر التكذيب فقط ، بل اذا كان الكفر يكون تكذيبا ، ويكون مخالفة ومعاداة بلا تكذيب. فكذلك الإيمان ، يكون تصديقا وموافقة وموالاة وانقيادا ، ولا يكفي مجرد التصديق ، فيكون الإسلام جزء مسمّى الإيمان. ولو سلّم الترادف ، فالتصديق يكون بالافعال أيضا كما ثبت في «الصحيح» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «العينان؟؟؟؟ النظر ، والاذن؟؟ وزناها السمع» الى أن قال : «والفرح

٣٣٨

يصدّق ذلك ويكذبه» (٤٠٤). وقال الحسن البصري رحمه‌الله : ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ، ولكنه ما وقر في الصدور وصدقته الأعمال. ولو كان تصديقا فهو تصديق مخصوص ، كما في الصلاة ونحوها كما قد تقدم ، وليس هذا نقلا للفظ ولا تغييرا له ، فإن الله لم يأمرنا بإيمان مطلق ، بل بإيمان خاص ، وصفه وبيّنه. فالتصديق الذي هو الإيمان ، أدنى أحواله أن يكون نوعا من التصديق العام ، فلا يكون مطابقا له في العموم والخصوص ، من غير تغير اللسان ولا قلبه ، بل يكون الإيمان في كلام الشارع مؤلفا من العام والخاص ، كالإنسان الموصوف بأنه حيوان ناطق. ولأن التصديق التام القائم بالقلب مستلزم لما وجب من أعمال القلب والجوارح ، فإن هذه من لوازم الإيمان التام ، وانتقاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم. ونقول : إن هذه لوازم تدخل في مسمى اللفظ تارة ، وتخرج عنه أخرى ، أو إن اللفظ باق على معناه في اللغة ، ولكن الشارع زاد فيه أحكاما ، أو أن يكون الشارع استعمله في معناه المجازي ، فهو حقيقة شرعية ، مجاز لغوي ، أو أن يكون قد نقله الشارع (٤٠٥). وهذه الأقوال لمن سلك هذا الطريق.

وقالوا : إن الرسول قد وافقنا على معاني الإيمان ، وعلمنا من مراده علما ضروريّا أن من قيل إنّه صدّق ولم يتكلم بلسانه بالإيمان ، مع قدرته على ذلك ، ولا صلى ، ولا صام ، ولا أحب الله ورسوله ، ولا خاف الله بل كان مبغضا للرسول ، معاديا له يقاتله ـ : أن هذا ليس بمؤمن. كما علمنا أنه رتّب الفوز والفلاح على التكلم بالشهادتين مع الإخلاص والعمل بمقتضاهما. فقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الإيمان بضع وسبعون شعبة ، أعلاها قول : لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» (٤٠٦). وقال أيضا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحياء شعبة من الإيمان» (٤٠٧). وقال أيضا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا» (٤٠٨).

__________________

(٤٠٤) متفق عليه وتقدم.

(٤٠٥) قال عفيفي : انظر ص ٢٩٠ ـ ٢٩٦ من كتاب الايمان ج ٧ من مجموع الفتاوى.

(٤٠٦) متفق عليه من حديث ابي هريرة ، واللفظ لمسلم باختلاف يسير. وهو مخرج في الصحيحة» (١٧٦٩ ـ المجلد الرابع) وهو تحت الطبع.

(٤٠٧) متفق عليه ، وهو طرف من الحديث الذي قبله.

(٤٠٨) صحيح ، رواه ابن داود وابن حبان والحاكم واحمد وغيرهم.

٣٣٩

وقال أيضا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «البذاذة من الإيمان» (٤٠٩). فإذا كان الإيمان أصلا له شعب متعددة ، وكل شعبة منها تسمى : إيمانا ، فالصلاة من الإيمان ، وكذلك الزكاة والصوم والحج ، والأعمال الباطنة ، كالحياء والتوكل والخشية من الله والإنابة إليه ، حتى تنتهي هذه الشعب الى إماطة الأذى عن الطريق ، فإنه من شعب الإيمان. وهذه الشّعب ، منها ما يزول الإيمان بزوالها [إجماعا] ، كشعبة الشهادتين ، ومنها ما لا يزول بزوالها إجماعا ، كترك إماطة الأذى عن الطريق ، وبينهما شعب متفاوتة تفاوتا عظيما ، منها ما يقرب من شعبة الشهادة ، ومنها ما يقرب من شعبة إماطة الأذى. وكما أن شعب الإيمان إيمان ، فكذا شعب الكفر كفر ، فالحكم بما أنزل الله ـ مثلا ـ من شعب الايمان ، والحكم بغير ما أنزل الله كفر. وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان» (٤١٠). رواه مسلم. وفي لفظ : «ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل». وروى الترمذي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من أحب لله ، وأبغض لله ، وأعطى لله ، ومنع لله ـ : فقد استكمل الإيمان» (٤١١). ومعناه ـ والله أعلم ـ أن الحب والبغض أصل حركة القلب ، وبذل المال ومنعه هو كمال ذلك ، فإن المال آخر المتعلقات بالنفس ، والبدن متوسط بين القلب والمال ، فمن كان أول أمره وآخره كله لله ، كان الله إلهه في كل شيء ، فلم يكن فيه شيء من الشرك ، وهو إرادة غير الله وقصده ورجاؤه ، فيكون مستكملا الإيمان. الى غير ذلك من الأحاديث الدالة على قوة الإيمان وضعفه بحسب العمل.

وسيأتي في كلام الشيخ رحمه‌الله في شأن الصحابة رضي الله عنهم : وحبهم دين وإيمان وإحسان ، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان. فسمى حب الصحابة إيمانا ، وبغضهم كفرا.

__________________

(٤٠٩) حسن. رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم وأحمد والطبراني ، وهو مخرج في «الصحيحة» (٣٤١). والمراد «البذاذة» التواضع في اللباس ، وترك التبجح به.

(٤١٠) مسلم باللفظين ، وهو مخرج في «تخريج مشكلة الفقر» (٦٦) و «صحيح أبي داود» (١٠٣٤).

(٤١١) صحيح. وهو مخرج في «تخريج المشكاة» (٣٠ ـ ٣١) ، و «الصحيحة» (٣٨٠).

٣٤٠