شرح العقيدة الطّحاويّة

ابن أبي العزّ الحنفي

شرح العقيدة الطّحاويّة

المؤلف:

ابن أبي العزّ الحنفي


المحقق: الشيخ محمّد ناصر الدين الألباني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بغداد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٤

الذي به حياة القلوب والأرواح ، وميكائيل موكل بالقطر الذي به حياة الأرض والنبات والحيوان ، وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور الذي به حياة الخلق بعد مماتهم. فهم رسل الله في خلقه وأمره ، وسفراؤه بينه وبين عباده ، ينزلون الأمر من عنده في أقطار العالم ، ويصعدون إليه بالأمر ، قد أطّت السموات بهم ، وحقّ لها أن تئط ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك قائم أو راكع أو ساجد لله ، ويدخل البيت المعمور منهم كل يوم سبعون ألفا لا يعودون إليه آخر ما عليهم. والقرآن مملوء بذكر الملائكة وأصنافهم ومراتبهم ، فتارة يقرن الله تعالى اسمه باسمهم ، وصلاته بصلاتهم ، ويضيفهم إليه في مواضع التشريف ، وتارة يذكر حفّهم بالعرش وحملهم له ، ومراتبهم من الدنو (٣٤٤) ، وتارة يصفهم بالإكرام والكرم ، والتقريب والعلو والطهارة والقوة والإخلاص. قال تعالى : (كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) البقرة : ٢٨٥. (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) آل عمران : ١٨. (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) الاحزاب : ٤٣. (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) غافر : ٧. (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) الزمر : ٧٥. (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) الأنبياء : ٢٦. (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) الاعراف : ٢٠٦. (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) فصلت : ٣٨. (كِراماً كاتِبِينَ) الانفطار : ١١. (كِرامٍ بَرَرَةٍ) عبس : ١٦. (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) المطففين : ٢١. (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) الصافات : ٨. وكذلك الأحاديث النبوية طافحة بذكرهم. فلهذا كان الإيمان بالملائكة أحد الأصول الخمسة التي هي أركان الإيمان.

وقد تكلم الناس في المفاضلة بين الملائكة وصالحي البشر ، وينسب الى أهل السنة تفضيل صالحي البشر والأنبياء فقط على الملائكة ، والى المعتزلة تفضيل

__________________

(٣٤٤) في الاصل : وبراءتهم من الذنوب.

٣٠١

الملائكة. وأتباع الأشعري على قولين : منهم من يفضل الأنبياء والأولياء ، ومنهم من يقف ولا يقطع في ذلك قولا. وحكي عن بعضهم ميلهم الى تفضيل الملائكة. وحكي ذلك عن غيرهم من أهل السنة وبعض الصوفية. وقالت الشيعة : إن جميع الأئمة أفضل من جميع الملائكة. ومن الناس من فصّل تفصيلا آخر. ولم يقل أحد ممن له قول يؤثر إن الملائكة أفضل من بعض الأنبياء دون بعض. وكنت ترددت في الكلام على هذه المسألة ، لقلة ثمرتها ، وأنها قريب مما لا يعني ، و «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» (٣٤٥). والشيخ رحمه‌الله لم يتعرض الى هذه المسألة بنفي ولا إثبات ، ولعله يكون قد ترك الكلام فيها قصدا ، فإن الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه وقف في الجواب عنها [على] ما ذكره في «مآل الفتاوى» (٣٤٦) ، فإنه ذكر مسائل لم يقطع أبو حنيفة فيها بجواب ، وعدّ منها : التفضيل بين الملائكة والأنبياء. وهذا هو الحق ، فإن الواجب علينا الإيمان بالملائكة والنبيين ، وليس علينا أن نعتقد أي الفريقين أفضل ، فإن هذا لو كان من الواجب لبين لنا نصّا. وقد قال تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) المائدة : ٣. (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) مريم : ٦٤. وفي «الصحيح» : «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحدّ حدودا فلا تعتدوها ، وحرم أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء ـ رحمة بكم غير نسيان ـ فلا تسألوا عنها» (٣٤٧). فالسكوت (٣٤٨) عن الكلام في هذه المسألة نفيا وإثباتا والحالة هذه أولى. ولا يقال : إن هذه المسألة نظير غيرها من المسائل المستنبطة من الكتاب والسنة ، لأن الأدلة هنا متكافئة ، على ما أشير إليه ، إن شاء الله تعالى. وحملني على بسط الكلام هنا : أن بعض الجاهلين يسيئون الأدب بقولهم : كان الملك خادما

__________________

(٣٤٥) صحيح رواه احمد وغيره ، وقد مر الحديث (برقم ٢٦٧).

(٣٤٦) «مآل الفتاوى» ـ في كشف الظنون انه للامام ناصر الدين السمرقندي الحنفي ، أتمه في شعبان سنة ٥٤٩.

(٣٤٧) حسن لغيره ، رواه الدارقطني وغيره. ثم تبينت أن الشواهد التي رفعته الى الحسن ضعيفان جدا لا يصلحان للشهادة ، كما أوضحته في «غاية المرام» (٤).

(٣٤٨) في الاصل : والسكوت.

٣٠٢

للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم! أو : أن بعض الملائكة خدّام بني آدم!! يعنون الملائكة الموكّلين بالبشر (٣٤٩) ، ونحو ذلك من الألفاظ المخالفة للشرع ، المجانبة للأدب. والتفضيل إذا كان على وجه التنقص أو الحمية والعصبية للجنس ـ : لا شكّ في رده ، وليس هذه [المسألة] نظير المفاضلة بين الأنبياء ، فإن تك قد وجد فيها نص ، وهو قوله تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) البقرة : ٢٥٣ ـ الآية. وقوله تعالى : (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) الاسراء : ٥٥. وقد تقدم الكلام في ذلك عند قول الشيخ : وسيد المرسلين ، يعني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والمعتبر رجحان الدليل ، ولا يهجر القول لأن بعض أهل الأهواء وافق عليه ، بعد أن تكون المسألة مختلفا فيها بين أهل السنة. وقد كان أبو حنيفة رضي الله عنه يقول أولا بتفضيل الملائكة على البشر ، ثم قال بعكسه ، والظاهر أن القول بالتوقف أحد أقواله. والأدلة في هذه المسألة من الجانبين إنما تدل على الفضل ، لا على الأفضلية ، ولا نزاع في ذلك. وللشيخ تاج الدين الفزاري رحمه‌الله مصنف سماه «الإشارة في البشارة» في تفضيل البشر على الملك ، قال في آخره : اعلم أن هذه المسألة من بدع علم الكلام ، التي لم يتكلم فيها الصدر الأول من الأمة ، ولا من بعدهم من أعلام الأئمة ، ولا يتوقف عليها أصل من أصول العقائد ، ولا يتعلق بها من الأمور الدينية كبير من المقاصد. ولهذا خلا عنها طائفة من مصنفات هذا الشأن ، وامتنع من الكلام فيها جماعة من الأعيان ، وكل متكلم فيها من علماء الظاهر بعلمه ، لم يخل كلامه عن ضعف واضطراب. انتهى والله الموفق للصواب.

فمما استدل به على تفضيل الأنبياء على الملائكة : أن الله أمر الملائكة أن يسجدوا لآدم ، وذلك دليل على تفضيله عليهم ، ولذلك امتنع إبليس واستكبر وقال ؛ (أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) الاسراء : ٦٢. قال الآخرون : إن سجود الملائكة كان امتثالا لأمر ربهم ، وعبادة [وانقيادا] وطاعة له ، وتكريما لآدم وتعظيما ، ولا يلزم من ذلك الأفضلية ، كما لم يلزم من سجود يعقوب لابنه عليهما‌السلام تفضيل ابنه عليه ، ولا تفضيل الكعبة على بني آدم بسجودهم إليها امتثالا

__________________

(٣٤٩) قال عفيفي : انظر ص ٣٥٠ وما بعده من ج ٤ من «مجموع الفتاوى» لابن تيمية

.

٣٠٣

لأمر ربهم. وأما امتناع إبليس ، فإنه عارض النص برأيه وقياسه الفاسد بأنه خير منه ، وهذه المقدمة الصغرى ، والكبرى محذوفة ، تقديرها : والفاضل لا يسجد للمفضول! وكلتا المقدمتين فاسدة : أما الأولى : فإن التراب يفوق النار في أكثر صفاته ، ولهذا خان إبليس عنصره ، فأبى واستكبر ، فإن من صفات النار طلب العلوّ والخفة والطيش والرعونة ، وإفساد ما تصل إليه ومحقه وإهلاكه وإحراقه ، ونفع آدم عنصره ، في التوبة والاستكانة ، والانقياد والاستسلام لأمر الله ، والاعتراف وطلب المغفرة ، فإن من صفات التراب الثبات والسكون والرصانة ، والتواضع والخضوع والخشوع والتذلل ، وما دنا منه ينبت ويزكو ، وينمي ويبارك فيه ، ضد النار. وأما المقدمة الثانية ، وهي : أن الفاضل لا يسجد المفضول ـ : فباطلة ، فإن السجود طاعة لله وامتثال لأمره ، ولو أمر الله عباده أن يسجدوا لحجر لوجب عليهم الامتثال والمبادرة ، ولا يدل ذلك على أن المسجود له أفضل من الساجد ، وإن كان فيه تكريمه وتعظيمه ، وإنما يدل على فضله. قالوا : وقد يكون قوله : (هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) الاسراء : ٦٢ ، بعد طرده لامتناعه عن السجود له ، لا قبله ، لينتفي الاستدلال به.

ومنه : أن الملائكة لهم عقول وليست لهم شهوات ، والأنبياء لهم عقول وشهوات ، فلما نهوا أنفسهم عن الهوى ، ومنعوها عما تميل إليه الطباع ، كانوا بذلك أفضل. وقال الآخرون : يجوز أن يقع [من الملائكة] [من] مداومة الطاعة وتحمل العبادة وترك الونى والفتور فيها ـ : ما يفي بتجنب الأنبياء شهواتهم ، مع طول مدة عبادة الملائكة. ومنه : أن الله تعالى جعل [الملائكة] رسلا الى الأنبياء ، وسفراء بينه وبينهم. وهذا الكلام قد اعتل به من قال : إن الملائكة أفضل ، واستدلالتهم به أقوى ، فإن الأنبياء المرسلين ، إن ثبت تفضيلهم على المرسل إليهم بالرسالة ، ثبت تفضيل الرسل من الملائكة إليهم عليهم ، فإن الرسول الملكي يكون رسولا الى الرسول البشري.

ومنه : قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) البقرة : ٣١ ، الآيات. قال الآخرون : وهذا دليل على الفضل لا على التفضيل ، وآدم والملائكة لا يعلمون إلا ما علّمهم الله ، وليس الخضر أفضل من موسى ، بكونه علم ما لم يعلمه موسى ،

٣٠٤

وقد سافر موسى وفتاه في طلب العلم إلى الخضر ، وتزوّد لذلك ، طلب موسى منه العلم صريحا ، وقال له الخضر : إنك على علم من علم الله ، الى آخر كلامه. ولا الهدهد أفضل من سليمان عليه‌السلام ، بكونه أحاط بما لم يحيط به سليمان عليه‌السلام [علما].

ومنه : قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) ص : ٧٥. قال الآخرون : هذا دليل الفضل لا الأفضلية ، وإلا لزم تفضيله على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فإن قلتم : هو من ذريته؟ فمن ذريته البر والفاجر ، بل يوم القيامة إذا قيل لآدم : «ابعث من ذريتك بعثا الى النار» ، «يبعث من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين الى النار ، وواحدا الى الجنة» (٣٥٠). فما بال هذا التفضيل سرى الى هذا الواحد من الألف فقط.

ومنه : قول عبد الله بن سلام رضي الله عنه : ما خلق الله خلقا أكرم عليه من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣٥١) ، الحديث ، فالشأن في ثبوته وإن صح عنه فالشأن في ثبوته في نفسه ، فإنه يحتمل أن يكون من الإسرائيليات.

ومنه : حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الملائكة قالت : يا ربنا ، أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون ويلبسون ، ونحن نسبح بحمدك ، ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو ، فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة؟ قال : لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له : كن فكان» (٣٥٢). أخرجه الطبراني. وأخرجه عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل

__________________

(٣٥٠) متفق عليه من حديث ابي هريرة.

(٣٥١) «المستدرك» (٤ / ٥٦٨ ـ ٥٦٩) بسند صحيح عنه وصححه هو والذهبي.

(٣٥٢) ضعيف ، كما أشار إليه المصنف ، وأما تعقب الشيخ أحمد شاكر عليه بقوله : «هكذا أعل الشارح الحديث اسنادا ومتنا ، وما أصاب في ذلك السداد ، اذ قصر في تخريجه. أما رواية الطبراني ، فإنها ضعيفة حقا ، بل غاية في الضعف. فقد نقلها ابن كثير في التفسير (٥ / ٢٠٦) باسنادها من «المعجم الكبير». ونقلها الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١ / ٨٢) وقال : رواه الطبراني في «الكبير» و «الاوسط». وفيه ابراهيم بن عبد الله بن خالد المصيصي ، وهو كذاب متروك. وفي اسناد الاوسط طلحة بن زيد ، وهو كذاب أيضا». فهذان اسنادان لا تعبأ بهما. ـ

٣٠٥

عن عروة بن رويم ، [أنه] قال : أخبرني الأنصاري ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أن الملائكة قالوا» ، الحديث ، وفيه : «وينامون ويستريحون ، فقال الله تعالى : لا ، فأعادوا القول ثلاث مرات ، كل ذلك يقول : لا». والشأن في ثبوتهما ، فإن في سنديهما مقالا ، وفي متنهما شيئا ، فكيف يظن بالملائكة الاعتراض على الله مرات عديدة؟ وقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون؟ وهل يظن بهم أنهم متبرمون بأحوالهم ، متشوفون الى ما سواها من شهوات بني آدم؟ والنوم أخو الموت ، فكيف يغبطونهم به؟ وكيف يظن بهم أنهم يغبطونهم باللهو ، وهو من الباطل؟ قالوا : بل الأمر بالعكس ، فإن إبليس إنما وسوس الى آدم ودلّاه بغرور ،

__________________

ـ ولكن الحديث رواه الامام عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب الرد على المريسي (ص ٣٤) باسناد صحيح ، مطولا : رواه عن عبد الله بن صالح ، عن الليث بن سعد ، عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وهذا اسناد لا مغمز فيه ، وقد أشار إليه الحافظ ابن كثير في التاريخ (١ / ٥٥) ، مختصرا ، من رواية عثمان بن سعيد ، وأشار الى صحته.

وأما رواية عبد الله بن أحمد بن حنبل : فانها من زياداته في «كتاب السنة» الذي رواه عن أبيه (ص : ١٤٨ من طبعة السلفية بمكة) ، فقال عبد الله : «حدثني الهيثم بن خارجة ، حدثنا عثمان بن علاق ، وهو عثمان بن حصن بن علاق [وكتب في المطبوعة : محصن! خطأ] ، سمعت عروة بن رويم يقول : اخبرني الانصاري ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ...».

فهذا اسناده ظاهره الصحة أيضا ، وان لم استطع أن أجزم بذلك. لأن عروة بن رويم لم يصرح فيه بأن «الانصاري» الذي حدثه به صحابي ، فجهالة الصحابية لا تضر. وهو يروي عن أنس بن مالك الأنصاري ، فان يكنه يكن الاسناد صحيحا. وهذا محتمل جدا ، وان كنت لا أقطع به ... فان الحديث ذكره ابن كثير في التفسير (٥ / ٢٠٦ ـ ٢٠٧) نقلا عن ابن عساكر ، باسناده الى عثمان بن علاق : «سمعت عروة بن رويم اللخمي ، حدثني انس بن مالك ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ..». فهذا قد يرجح أن «الأنصاري» فى رواية عبد الله بن أحمد ـ : هو «انس بن مالك الانصاري». ولكن اسناد ابن عساكر لم يتبين لي صحته من ضعفه.

وأيا ما كان ، فرواية عبد الله بن أحمد ، ورواية ابن عساكر ـ تصلحان للاستشهاد ، وتؤيدان صحة حديث عبد الله بن عمرو ، باسناد الدارمي.

أما اعلاله من جهة المتن والمعنى ، فإنه غير جيد ، ولا مقبول. فإن الملائكة لم يعترضوا بهذا

٣٠٦

إذ أطمعه [في] أن يكون ملكا بقوله : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) الاعراف : ٢٠. فدلّ أن أفضلية الملك أمر معلوم مستقرّ في الفطرة ، يشهد لذلك قوله تعالى ، حكاية عن النسوة اللاتي قطّعن أيديهن عند رؤية يوسف (وَقُلْنَ : حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً ، إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) يوسف : ٣١. وقال تعالى : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) الانعام : ٥٠. قال الأولون : إن هذا إنما كان لما هو مركوز في النفس : أن الملائكة خلق جميل عظيم ، مقتدر على الأفعال الهائلة ، خصوصا العرب ، فإن الملائكة كانوا في نفوسهم من العظمة بحيث قالوا إن الملائكة بنات الله ، تعالى الله عن قولهم علوّا كبيرا.

__________________

ـ على ربهم ، ولم يتبرموا بأحوالهم ، وانما سألوا ربهم ، وهم عباد مطيعون ، يرضون بما أمرهم الرب تبارك وتعالى ، اذا لم يستجب دعاءهم. ومثال ذلك الآيات في خلق آدم في أول سورة البقرة : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ، قالَ : إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) ـ الآيات ٣٠ ـ ٣٣».

قلت : فلا نرى فيه ما ينهض على تصحيح الحديث ، وأليك البيان بايجاز :

١ ـ أما قوله في طريق الدارمي : «وهذا اسناد صحيح لا مغمز فيه وقد اشار الحافظ ابن كثير الى صحته» ففيه نظر لأمرين :

الاول اننا لا نسلم بصحته مع وجود عبد الله بن صالح في طريقه ، فانه وان كان البخاري اخرج له في «صحيحه» فهو متكلم فيه من قبل حفظه ، ولا يتسع هذا التعليق للافاضة في ذكر أقوال الائمة فيه ، فحسبنا ما ذكره الحافظ ابن حجر في ترجمته من «التقريب» وهو انما يذكر فيه عادة خلاصة أقوال الأئمة فيمن يترجمه ، قال : «صدوق ، كثير الغلط ، ثبت في كتابه ، وكانت فيه غفلة».

الثاني : اننا لا نسلم أيضا أن ابن كثير أشار الى صحة الحديث ، ذلك لأن غاية ما قال فيه : «وهو اصح» وهذا القول لا يفيد تصحيحا مطلقا للحديث ، بل تصحيحا نسبيا ، وهو لا ينافي ضعفه كما في قول الترمذي في كثير من الاحاديث : «وهو أصح شيء في الباب» فهذا لا يؤخذ منه صحة الحديث كما هو مقرر في «المصطلح» فكذلك قول الحافظ ابن كثير هنا. والله أعلم.

٢ ـ حديث عبد الله بن أحمد بسنده عن الانصاري ، فلا شك في عدالة رواته باستثناء الانصاري ، وانما البحث في كون الانصاري انما هو أنس بن مالك رضي الله عنه ، لأنه ان كان

٣٠٧

ومنه قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) آل عمران : ٣٣. قال الآخرون : قد يذكر «العالمون» ، ولا يقصد به العموم المطلق ، بل في كل مكان بحسبه ، كما في قوله تعالى : (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) الفرقان : ١. (قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ) الحجر : ٧٠. (أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ) الشعراء : ١٦٥. (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) الدخان : ٣٢.

ومنه قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) البيّنة : ٧. والبرية : مشتقة من البرء ، بمعنى الخلق ، فثبت أن صالحي البشر خير الخلق. قال الآخرون : إنما صاروا خير البرية لكونهم آمنوا وعملوا الصالحات ،

__________________

هو فالحديث متصل الاسناد ، صحيح كما قال الشيخ احمد ، لكن استئناسه على ذلك برواية ابن عساكر التي نقلها عن تفسير ابن كثير ، مما لا يصلح له ، لأن ابن عساكر اورده (١٥ / ٦٦ / ١ ـ ٢) من طريق محمد بن أيوب بن الحسن الصيدلاني وفي ترجمته ساق الحديث ، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا ، ودونه جماعة لم اجد من ترجمهم ، فمثل هذا الاسناد الواهي ، لا يترجح كون الانصاري هو أنس ، على أنني قد وقفت له في ابن عساكر على طريق اخرى ضعيفة أيضا ، سمي فيه الصحابي عبد الله جابر الانصاري ، أخرجه (٩ / ٤٠٧ / ٢) من طريق هشام بن عمار : نا عبد ربه بن صالح القرشي قال : سمعت عروة بن رويم يحدث عن جابر بن عبد الله الانصاري مرفوعا به. والقرشي هذا لم أجد له ترجمة وهشام بن عمار وان أخرج له البخاري فهو متكلم فيه أيضا قال الحافظ في «التقريب» : صدوق ، مقرئ ، كبر فصار يتلقن». وجملة القول أن حديث ابن رويم هذا ضعيف لجهالة الانصاري واضطراب الروايتين الاخيرتين في تعيينه ، فأولاهما تقول انه أنس ، والأخرى تقول : انه جابر ، ولا يصلح عندي تقويته بحديث عبد الله بن صالح لاحتمال انه مما أدخل عليه ، قال ابن حبان : «كان في نفسه صدوقا ، انما وقعت المناكير في حديثه من قبل جار له ، كان بينه وبينه عداوة ، كان يضع الحديث على شيخ ابي صالح ويكتبه بخط يشبه خط عبد الله ، ويرميه في داره بين كتبه ، فيتوهم عبد الله أنه خطه فيحدث به!».

هذا ، ويحتمل أن يكون أصل الحديث من الاسرائيليات التي كان يحدث بها بعض الذين اسلموا من أهل الكتاب ، ثم اخطأ بعض الرواة فرفعه الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما صنعوا بقصة هاروت وماروت. والله أعلم.

٣٠٨

والملائكة في هذا الوصف أكمل ، فإنهم لا يسأمون ولا يفترون ، فلا يلزم أن يكونوا خيرا من الملائكة. هذا على قراءة من قرأ «البريئة» ، بالهمز وعلى قراءة من قرأ بالياء ، إن قلنا : إنها مخففة من الهمزة ، وإن قلنا : إنها نسبة الى البرى وهو التراب ، كما قاله الفراء فيما نقله عنه الجوهري في «الصحاح» ـ : يكون المعنى : أنهم خير من خلق من التراب ، فلا عموم فيها ، إذ الغير من خلق من التراب. قال الأولون : إنما تكلمنا في [تفضيل] صالحي البشر إذا كملوا ، ووصلوا الى غايتهم وأقصى نهايتهم ، وذلك إنما يكون اذا دخلوا الجنة ، ونالوا الزلفى ، وسكنوا الدرجات العلى ، وحباهم الرحمن بمزيد قربه ، وتجلى لهم ليستمتعوا بالنظر الى وجهه الكريم. وقال الآخرون : الشأن في أنهم هل صاروا الى حالة يفوقون فيها الملائكة أو يساوونهم فيها؟ فإن كان قد ثبت لهم أنهم يصيرون الى حال يفوقون فيها الملائكة سلّم المدعى ، وإلا فلا.

ومما استدل به على تفضيل الملائكة على البشر : قوله تعالى : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) النساء : ١٧٢. وقد ثبت من طريق اللغة أن مثل هذا الكلام يدل على أن المعطوف أفضل من المعطوف عليه ، لأنه لا يجوز أن يقال : لن يستنكف الوزير أن يكون خادما للملك ، ولا الشرطي أو الحارس! وإنما يقال : لن يستنكف الشرطي أن يكون خادما للملك [ولا] الوزير. ففي مثل هذا التركيب يترقى من الأدنى إلى الأعلى ، فإذا ثبت تفضيلهم على عيسى عليه‌السلام ثبت في حق غيره ، إذ (٣٥٣) لم يقل أحد إنهم أفضل من بعض الأنبياء دون بعض. أجاب الآخرون بأجوبة ، أحسنها ، أو من أحسنها : أنه لا نزاع في فضل قوة الملك وقدرته وشدته وعظم خلقه ، وفي العبودية خضوع وذل وانقياد ، وعيسى عليه‌السلام لا يستنكف عنها ولا من هو أقدر منه وأقوى وأعظم خلقا ، ولا يلزم من مثل هذا التركيب الأفضلية المطلقة من كل وجه.

ومنه قوله تعالى : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) الانعام : ٥٠. ومثل هذا يقال بمعنى : إني لو قلت ذلك

__________________

(٣٥٣) في الاصل : اذا

.

٣٠٩

لا دعيت فوق منزلتي ، ولست ممن يدعي ذلك. أجاب الآخرون : انّ الكفار كانوا قد قالوا : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) الفرقان : ٧. فأمر أن يقول لهم : إني بشر مثلكم أحتاج الى ما يحتاج إليه البشر من الاكتساب والأكل والشرب ، لست من الملائكة الذين لم يجعل الله لهم حاجة الى الطعام والشراب ، فلا يلزم حينئذ الأفضلية المطلقة.

ومنه ما روى مسلم بإسناده ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المؤمن القويّ خير وأحبّ الى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير» (٣٥٤). ومعلوم أن قوة البشر لا تداني قوة الملك ولا تقاربها. قال الآخرون : [الظاهر] أن المراد المؤمن من البشر ـ والله أعلم ـ فلا تدخل الملائكة في هذا العموم.

ومنه ما ثبت في «الصحيح» عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال فيما يروي عن ربه عزوجل ، قال : «يقول الله تعالى : أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملاء خير منهم ،» (٣٥٥) الحديث. وهذا نص في الأفضلية. قال الآخرون : يحتمل أن يكون المراد خيرا منه للمذكور لا الخيرة المطلقة.

ومنه ما رواه إمام الأئمة محمد بن خزيمة ، بسنده في كتاب «التوحيد» عن أنس رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بينا أنا جالس إذ جاء جبرائيل ، فوكز بين كتفيّ ، فقمت الى شجرة مثل وكري الطير ، فقعد في إحداها ، وقعدت في الأخرى ، فسمت وارتفعت حتى سدّت الخافقين ، وأنا أقلّب بصري ، ولو شئت أن أمسّ السماء مسست ، فنظرت إلى جبرائيل كأنه حلس لاطئ ، فعرفت فضل علمه بالله [عليّ]» (٣٥٦) ، الحديث. قال الآخرون : في سنده [مقال] فلا نسلم الاحتجاج به إلا بعد ثبوته.

__________________

(٣٥٤) وهو طرف حديث عند مسلم (٨ / ٥٦) ، وهو مخرج في «ظلال الجنة» (٣٥٦).

(٣٥٥) صحيح ، لإخراج الشيخين له ، وهو مخرج في «الصحيحة» تحت الحديث (٢٢٨٧).

(٣٥٦) ضعيف ، فيه الحارث بن عبيد الأيادي وهو ضعيف لسوء حفظه ، وقول الشيخ أحمد

٣١٠

وحاصل الكلام : أن هذه المسألة من فضول المسائل. ولهذا لم يتعرض لها كثير من أهل الأصول ، وتوقف أبو حنيفة رضي الله عنه في الجواب عنها ، كما تقدم. والله أعلم بالصواب.

وأما الأنبياء والمرسلون ، فعلينا الإيمان بمن سمّى الله تعالى في كتابه من رسله ، والإيمان بأن الله تعالى أرسل رسلا سواهم وأنبياء ، لا يعلم أسماءهم وعددهم إلا الله تعالى الذي أرسلهم. فعلينا الإيمان بهم جملة لأنه لم يأت في عددهم نصّ. وقد قال تعالى : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) النساء : ١٦٤. وقال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) غافر : ٧٨. وعلينا الإيمان بأنهم بلّغوا جميع ما أرسلوا به على ما أمرهم الله به ، وأنهم بيّنوه (٣٥٧) بيانا لا يسع أحدا ممن أرسلوا إليه جهله ، ولا يحل خلافه. قال تعالى : (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) النحل : ٣٥. (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) النحل : ٨٢. [(وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا)](وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) النور : ٥٤. (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) التغابن : ١٢.

وأما أولو العزم من الرسل. فقد قيل فيهم أقوال أحسنها : ما نقله البغوي وغيره عن ابن عباس وقتادة : أنهم نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ومحمد ، صلوات

__________________

ـ شاكر : «تكلم فيه بغير حجة ، والراجح توثيقه» مردود ، فقد قال فيه الامام أحمد : مضطرب الحديث. وقال ابو حاتم : ليس بالقوي يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن حبان : كان ممن كثر وهمه حتى خرج عن جملة من يحتج بهم اذا انفردوا. ومن المقرر في «المصطلح» أن الجرح المفسر مقدم على التعديل ، وقد تبين من هذه الكلمات أن ضعفه بسبب وهمه ، ومن الغريب أنه ليس هناك نقل عن امام في توثيقه ، وأحسن ما قيل فيه قول النسائي : «صالح» أفمثل هذا يرد نصوص الأئمة الجارحة؟!

ثم وجدت للحديث علة أخرى ، وهي المخالفة والارسال ، أشار إلى ذلك البيهقي في «شعب الإيمان» (١ / ١٠٩ ـ هندية) ، ولا يتسع المجال لبيان ذلك هنا ، فإلى «الضعيفة» (٥٤٤٤).

(٣٥٧) في الاصل : بيّنوا.

٣١١

الله وسلامه عليهم. قال : وهم المذكورون في قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) الاحزاب : ٧. وفي قوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ. [كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ]) الشورى : ١٣.

وأما الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتصديقه واتباع ما جاء به من الشرائع إجمالا وتفصيلا.

وأما الإيمان بالكتب المنزلة على المرسلين ، فنؤمن بما سمّى الله تعالى منها في كتابه ، من التوراة والإنجيل والزبور ، ونؤمن بأن لله تعالى سوى ذلك كتبا أنزلها على أنبيائه ، لا يعرف أسماءها وعددها إلا الله [تعالى].

وأما الإيمان بالقرآن ، فالإقرار به ، [و] اتباع ما فيه ، وذلك أمر زائد على الإيمان بغيره من الكتب. فعلينا الايمان بأن الكتب المنزلة على رسل الله أتتهم (٣٥٨) من عند الله ، وأنها حق وهدى ونور وبيان وشفاء. قال تعالى : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) البقرة : ١٣٦. إلى قوله : (وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) البقرة : ١٣٦. (الم. اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) آل عمران : ١ ، ٢. إلى قوله : (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) آل عمران : ٢. (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) البقرة : ٢٨٥. (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) النساء : ٨٢. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الله تكلم بها ، وأنها نزلت من عنده. وفي ذلك إثبات صفة الكلام والعلو. وقال تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِ) البقرة : ٢١٣. (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) حم السجدة : ٤٢. (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَ) سبأ : ٦. (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) يونس : ٥٧. (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) حم السجدة : ٤٤. (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) التغابن : ٨. وأمثال ذلك في القرآن كثيرة.

__________________

(٣٥٨) في الاصل : آيتهم.

٣١٢

قوله : (ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين ، ما داموا بما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معترفين ، وله بكل ما قاله وأخبر مصدقين).

ش : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من صلى صلاتنا ، واستقبل قبلتنا ، وأكل ذبيحتنا ، فهو المسلم ، له ما لنا وعليه ما علينا» (٣٥٩). ويشير الشيخ رحمه‌الله بهذا الكلام الى أن الإسلام والإيمان واحد ، وأن المسلم لا يخرج من الإسلام بارتكاب الذنب ما لم يستحله. والمراد بقوله : أهل قبلتنا ، من يدعي الإسلام ويستقبل الكعبة وإن كان من أهل الأهواء ، أو من أهل المعاصي ، ما لم يكذب بشيء مما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وسيأتي الكلام على هذين المعنيين عند قول الشيخ : ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله. وعند قوله : والإسلام والإيمان واحد ، وأهله في أصله سواء.

قوله : (ولا نخوض في الله ، ولا نماري في دين الله).

ش : يشير الشيخ رحمه‌الله الى الكف عن كلام المتكلمين الباطل ، وذم علمهم ، فإنهم يتكلمون في الإله بغير علم وغير سلطان أتاهم. (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) النجم : ٢٣. وعن أبي حنيفة رحمه‌الله ، أنه قال : لا ينبغي لأحد أن ينطق في ذات بشيء ، بل يصفه بما وصف به نفسه. وقال بعضهم : الحق سبحانه يقول : من ألزمته القيام مع أسمائي وصفاتي ألزمته الأدب ، ومن كشفت له حقيقة ذاتي ألزمته العطب ، فاختر الأدب أو العطب. ويشهد لهذا : أنه سبحانه لما كشف للجبل عن ذاته ساخ الجبل وتدكدك ولم يثبت على عظمة الذات. قال الشبلي : الانبساط بالقول مع الحق ترك الأدب. وقوله : ولا نماري في دين الله. معناه : لا نخاصم أهل الحق بإلقاء شبهات أهل الأهواء عليهم ، التماسا لامترائهم وميلهم ، لأنه في معنى الدعاء الى الباطل ، وتلبيس الحق ، وإفساد دين الاسلام.

__________________

(٣٥٩) اخرجه البخاري في الصلاة من حديث انس الا انه قال ، «له ما للمسلم وعليه ما على المسلم». واخرجه ابو داود وغيره عنه نحوه. وهو مخرج في «الصحيحة» (٣٠٣).

٣١٣

قوله : (ولا نجادل في القرآن ، ونشهد أنه كلام رب العالمين ، نزل به الروح الأمين ، فعلمه سيد المرسلين محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهو كلام الله تعالى ، لا يساويه شيء من كلام المخلوقين ، ولا نقول بخلقه ، ولا نخالف جماعة المسلمين).

ش : فقوله ولا نجادل في القرآن ، يحتمل أنه أراد : أنّا لا نقول فيه كما قال أهل الزيغ واختلفوا ، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق ، بل نقول : إنه كلام رب العالمين ، نزل به الروح الأمين ، الى آخر كلامه. ويحتمل أنه أراد : أنّا لا نجادل في القراءة الثابتة ، بل نقرؤه بكل ما ثبت وصح. وكلّ من المعنيين حقّ. [و] يشهد بصحة المعنى الثاني ، ما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، أنه قال : سمعت رجلا قرأ آية سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ خلافها ، فأخذت بيده ، فانطلقت به الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكرت ذلك له ، فعرفت في وجهه الكراهة ، وقال : «كلاكما محسن ، لا تختلفوا ، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا» رواه مسلم (٣٦٠) نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الاختلاف الذي فيه جحد كل واحد من المختلفين ما مع صاحبه من الحق ، لأن كلا القارئين كان محسنا فيما قرأه ، وعلّل ذلك بأن من كان قبلنا اختلفوا فهلكوا. ولهذا قال حذيفة رضي الله عنه ، لعثمان رضي الله عنه : أدرك هذه الأمة لا تختلف كما اختلفت الأمم قبلهم. فجمع الناس على حرف واحد اجتماعا سائغا. وهم معصومون أن يجتمعوا على ضلالة ، ولم يكن في ذلك ترك لواجب (٣٦١) ، ولا فعل لمحظور ، إذ كانت قراءة القرآن على سبعة أحرف جائزة لا واجبة ، رخصة من الله تعالى ، وقد جعل الاختيار إليهم في أي حرف اختاروه. كما أن ترتيب السور لم يكن واجبا عليهم منصوصا. ولهذا كان ترتيب مصحف عبد الله على غير ترتيب المصحف العثماني ، وكذلك مصحف غيره. وأما ترتيب آيات السور فهو ترتيب منصوص عليه ، فلم يكن لهم أن يقدموا آية على آية ، بخلاف السور.

__________________

(٣٦٠) صحيح ، ولم يروه مسلم ، بل تفرد به البخاري دونه ، اخرجه في «الخصومات» و «الأنبياء» ومن الغريب تصدير الشارح اياه بقوله : «روي» المشعر بضعفه في اصطلاح المحدثين! وهذا أمر تساهل فيه أكثر المتأخرين كما نبه عليه النووي وغيره.

(٣٦١) في الاصل : واجب.

٣١٤

فلما رأى الصحابة أن الأمة تفترق وتختلف وتتقاتل إن لم تجتمع على حرف واحد ـ جمعهم الصحابة عليه. هذا قول جمهور السلف من العلماء والقراء. قاله ابن جرير وغيره : منهم من يقول : إن الترخص في الأحرف السبعة كان في أول الإسلام ، لما في المحافظة على حرف واحد من المشقة عليهم أولا ، فلما تذللت ألسنتهم بالقراءة ، وكان اتفاقهم على حرف واحد يسيرا عليهم ، وهو أوفق لهم ـ : أجمعوا على الحرف الذي كان في العرضة الأخيرة. وذهب طوائف من الفقهاء وأهل الكلام الى أن المصحف يشتمل على الأحرف السبعة لأنه لا يجوز أن يهمل شيء من الأحرف السبعة. وقد اتفقوا على نقل المصحف العثماني. وترك ما سواه. وقد تقدمت الإشارة إلى الجواب ، وهو : أن ذلك كان جائزا لا واجبا ، أو أنه صار منسوخا. وأما من قال عن ابن مسعود إنه كان يجوّز القراءة بالمعنى! فقد كذب عليه ، وإنما قال : قد نظرت إلى القراءة (٣٦٢) فرأيت قراءتهم متقاربة ، وإنما هو كقول أحدكم : لم ، وأقبل ، وتعال ، فاقرءوا كما علمتم. أو كما قال. والله تعالى قد أمرنا أن لا نجادل أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم ، فكيف بمناظرة أهل القبلة؟ فإن أهل القبلة من حيث الجملة خير من أهل الكتاب ، فلا يجوز أن يناظر من لم يظلم منهم إلا بالتي هي أحسن ، وليس إذا أخطأ يقال : إنه كافر ، قبل أن تقام عليه الحجة التي حكم الرسول بكفر من تركها. والله تعالى قد عفا لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان. ولهذا ذم السلف أهل الأهواء ، وذكر [وا] أن آخر أمرهم السيف. وسيأتي لهذا المعنى زيادة بيان ، إن شاء الله تعالى ، عند قول الشيخ : ونرى الجماعة حقّا وصوابا ، والفرقة زيغا وعذابا.

وقوله : ونشهد أنه كلام رب العالمين ، قد تقدم الكلام على هذا المعنى عند قوله : وإن القرآن كلام الله منه بدا بلا كيفية قولا.

وقوله : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) الشعراء : ١٩٣ ، هو جبرائيل عليه‌السلام ، سمي روحا لأنه حامل الوحي الذي به حياة القلوب الى الرسل من البشر صلوات الله عليهم أجمعين ، وهو أمين حقّ أمين ، صلوات الله عليه. قال تعالى : (نَزَلَ بِهِ

__________________

(٣٦٢) في الاصل : القرّاء.

٣١٥

الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) الشعراء : ١٩٣ ـ ١٩٥. وقال تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) التكوير : ١٩ ـ ٢١. وهذا وصف جبرائيل. بخلاف قوله تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ) الحاقة : ٤٠ ـ ٤١ ، الآيات. فإن الرسول هنا هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : فعلّمه سيد المرسلين ، تصريح بتعليم جبرائيل إياه ، إبطالا لتوهم القرامطة وغيرهم أنه تصوره في نفسه إلهاما.

وقوله : ولا نقول بخلقه ، ولا نخالف جماعة المسلمين ، تنبيه على أن من قال بخلق القرآن فقد خالف جماعة المسلمين ، فإن سلف الأمة كلهم متفقون على أنه كلام الله بالحقيقة غير مخلوق ، بل قوله : ولا نخالف جماعة المسلمين ، مجرى على إطلاقه : أنا لا نخالف جماعة المسلمين في جميع ما اتفقوا عليه فإن خلافهم زيغ وضلال وبدعة.

قوله : (ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ، ما لم يستحله ، ولا نقول لا يضر مع الايمان ذنب لمن عمله).

ش : أراد بأهل القبلة الذين تقدم ذكرهم في قوله : ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين ، [ما داموا بما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معترفين ، وله بكل ما قال وأخبر مصدّقين] ، يشير الشيخ رحمه‌الله [بهذا الكلام] الى الرد على الخوارج القائلين بالتكفير بكل ذنب.

واعلم ـ رحمك الله وإيانا ـ أن باب التكفير وعدم التكفير ، باب عظمت الفتنة والمحنة فيه ، وكثر فيه الافتراق ، وتشتت فيه الأهواء والآراء ، وتعارضت فيه دلائلهم. فالناس فيه ، في جنس تكفير أهل المقالات والعقائد الفاسدة ، المخالفة للحق الذي بعث الله به رسوله في نفس الأمر ، أو المخالفة لذلك في اعتقادهم ، على طرفين ووسط ، من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية.

فطائفة تقول : لا نكفر من أهل القبلة أحدا ، فتنفي التكفير نفيا عامّا ، مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين ، الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى

٣١٦

بالكتاب والسنة والإجماع ، وفيهم من قد يظهر بعض ذلك حيث يمكنهم ، وهم يتظاهرون بالشهادتين. وأيضا : فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة ، والمحرمات الظاهرة المتواترة ، ونحو ذلك ؛ فإنه يستتاب ، فإن تاب ، وإلا قتل كافرا مرتدّا. والنفاق والردة مظنتها البدع والفجور ، كما ذكره الخلّال في كتاب السنة ، بسنده الى محمد بن سيرين ، أنه قال : إنّ أسرع الناس ردة أهل الأهواء ، وكان يرى هذه الآية نزلت فيهم : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) الانعام : ٦٨. ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول بأنّا لا نكفر أحدا بذنب ، بل يقال : لا نكفرهم بكل ذنب ، كما تفعله (٣٦٣) الخوارج. وفرق بين النفي العامّ ونفي العموم. والواجب إنما هو نفي العموم ، مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل ذنب. ولهذا ـ والله أعلم ـ قيده الشيخ رحمه‌الله [بقوله] : ما لم يستحله. وفي قوله : ما لم يستحله إشارة الى أن مراده من هذا النفي العام لكل ذنب [من] الذنوب العملية لا العلمية. وفيه إشكال فإن الشارع لم يكتف من المكلف في العمليات بمجرد العمل دون العمل ، ولا في العلميات بمجرد العلم دون العمل ، وليس العمل مقصورا على عمل الجوارح ، بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح ، وأعمال الجوارح تبع. إلا أن يضمن قوله : يستحله بمعنى : يعتقده ، أو نحو ذلك.

وقوله : ولا نقول لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله ... إلى آخر كلامه ، ردّ على المرجئة ، فإنهم يقولون : لا يضر مع الإيمان ذنب ، كما لا ينفع مع الكفر طاعة. فهؤلاء في طرف ، والخوارج في طرف ، فإنهم يقولون نكفّر المسلم بكل ذنب ، أو بكل ذنب كبير ، وكذلك المعتزلة الذين يقولون يحبط إيمانه كله بالكبيرة ، فلا يبقى معه شيء من الإيمان. لكن الخوارج يقولون : يخرج من الإيمان ويدخل في الكفر! والمعتزلة يقولون : يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر ، وهذه المنزلة بين المنزلتين!! وبقولهم بخروجه من الإيمان أوجبوا له الخلود في النار! وطوائف من أهل

__________________

(٣٦٣) في الاصل : يفعله.

٣١٧

الكلام والفقه والحديث لا يقولون ذلك في الأعمال ، لكن في الاعتقادات البدعية ، وإن كان صاحبها متأولا ، فيقولون : يكفر كل من قال هذا القول ، لا يفرقون بين المجتهد المخطئ وغيره ، أو يقولون : يكفر كل مبتدع. وهؤلاء يدخل عليهم في هذا الإثبات العام أمور عظيمة ، فثان النصوص المتواترة قد دلت على أنه يخرج من النار من في قلبه [مثقال] ذرة من إيمان ، ونصوص الوعد التي يحتجّ بها هؤلاء تعارض نصوص الوعيد التي يحتج بها أولئك. والكلام في الوعيد مبسوط في موضعه. وسيأتي بعضه عند الكلام على قول الشيخ : وأهل الكبائر في النار لا يخلدون ، إذا ماتوا وهم موحدون. والمقصود هنا : أن البدع هي من هذا الجنس ، فإن الرجل يكون مؤمنا باطنا وظاهرا ، لكن تأول تأويلا أخطأ فيه ، إما مجتهدا وإما مفرطا مذنبا ، فلا يقال : إن إيمانه حبط لمجرد ذلك ، إلا أن يدل على ذلك دليل شرعي ، بل هذا من جنس قول الخوارج والمعتزلة ، ولا نقول : لا يكفر ، بل العدل هو الوسط ، وهو : أن الأقوال الباطلة المبتدعة المحرّمة المتضمنة نفي ما أثبته الرسول ، أو إثبات ما نفاه ، أو الأمر بما نهى عنه ، أو النهي عما أمر به ـ : يقال فيها الحق ، ويثبت لها الوعيد الذي دلت عليه النصوص ، ويبين أنها كفر ، ويقال : من قالها فهو كافر ، ونحو ذلك ، كما يذكر من الوعيد في الظلم في النفس والأموال ، وكما قد قال كثير من أهل السنة المشاهير بتكفير من قال بخلق القرآن [وأن الله لا يرى في الآخرة ولا يعلم الأشياء قبل وقوعها. وعن أبي يوسف رحمه‌الله ، أنه قال : ناظرت أبا حنيفة رحمه‌الله مدة ، حتى اتفق رأيي ورأيه : أن من قال بخلق القرآن فهو كافر]. وأما الشخص المعيّن ، إذا قيل : هل تشهدون أنه من أهل الوعيد وأنه كافر؟ فهذا لا نشهد عليه إلّا بأمر تجوز معه الشهادة ، فإنه من أعظم البغي أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له ولا يرحمه بل يخلده في النار ، فإن هذا حكم الكافر بعد الموت. ولهذا ذكر أبو داود في سننه في كتاب الأدب : «باب النهي عن البغي» ، وذكر فيه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين ، فكان أحدهما يذنب ، والآخر مجتهد في العبادة ، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب ، فيقول : أقصر ، فوجده يوما على ذنب ، فقال له : أقصر. فقال : خلّني وربي ، أبعثت عليّ رقيبا؟ فقال :

٣١٨

والله لا يغفر الله لك ، أو لا يدخلك [الله] الجنة فقبض أرواحهما ، فاجتمعا عند رب العالمين ، فقال لهذا المجتهد : أكنت بي عالما؟ أو كنت على ما في يديّ قادرا؟ وقال للمذنب : اذهب فادخل الجنة برحمتي ، وقال للآخر : اذهبوا به الى النار. قال أبو هريرة : والذي نفسي بيده ، لتكلم بكلمة أو بقت دنياه وآخرته» (٣٦٤). وهو حديث حسن. ولأن الشخص المعين يمكن أن يكون مجتهدا مخطئا مغفورا له ، [ويمكن أن يكون ممن لم يبلغه ما وراء ذلك من النصوص] ، ويمكن أن يكون له إيمان عظيم وحسنات أوجبت له رحمة الله ، كما غفر للذي قال : «إذا متّ فاسحقوني ثم اذروني ، ثم غفر الله له لخشيته» (٣٦٥) وكان يظن أن الله لا يقدر على جمعه وإعادته ، أو شكّ في ذلك. لكن هذا التوقف في أمر الآخرة لا يمنعنا أن نعاقبه في الدنيا ، لمنع بدعته ، وأن نستتيبه ، فإن تاب وإلا قتلناه. ثم إذا كان القول في نفسه كفرا قيل : إنه كفر والقائل له يكفر بشروط وانتفاء موانع ، ولا يكون ذلك إلا [إذا] صار منافقا زنديقا. فلا يتصور أن يكفّر أحد من أهل القبلة المظهرين الإسلام إلا من يكون منافقا زنديقا. وكتاب الله يبين ذلك ، فإن الله صنّف الخلق فيه ثلاثة أصناف : صنف : كفار من المشركين ومن أهل الكتاب ، وهم الذين لا يقرون بالشهادتين. وصنف : المؤمنون باطنا وظاهرا. وصنف أقرّوا به ظاهرا لا باطنا. وهذه الأقسام الثلاثة مذكورة في أول سورة البقرة. وكل من ثبت أنه كافر في نفس الأمر وكان مقرا بالشهادتين. فإنه لا يكون إلا زنديقا ، والزنديق هو المنافق.

وهنا يظهر غلط الطرفين ، فإنه من كفّر كلّ من قال القول المبتدع في الباطن ، يلزمه أن يكفّر أقواما ليسوا في الباطن منافقين ، بل هم في الباطن يحبون الله ورسوله ويؤمنون بالله ورسوله وإن كانوا مذنبين ، كما ثبت في «صحيح» البخاري ، عن أسلم مولى عمر [رضي الله عنه] ، عن عمر : أن رجلا كان على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان اسمه : عبد الله ، وكان يلقب : حمارا ، وكان يضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان

__________________

(٣٦٤) حسن كما قال المؤلف رحمه‌الله تعالى ، وفيه عكرمة بن عمار ، احتج به مسلم ، وفيه ضعف.

(٣٦٥) صحيح أخرجه البخاري وغيره.

٣١٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد جلده في الشراب ، فأتى به يوما ، فأمر به فجلد ، فقال رجل من القوم : اللهم العنه! ما أكثر ما يؤتى به! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تلعنه ، [فو الله ما علمت] ، إنه يحب الله ورسوله» (٣٦٦) وهذا أمر متيقن به في طوائف كثيرة وأئمة في العلم والدين ، وفيهم بعض مقالات الجهمية أو المرجئة أو القدرية أو الشيعة أو الخوارج. ولكن الأئمة في العلم والدين لا يكونون قائمين بجملة تلك البدعة ، بل بفرع منها. ولهذا انتحل أهل هذه الأهواء لطوائف (٣٦٧) من السلف المشاهير. فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضا ، ومن ممادح أهل العلم أنهم يخطّئون ولا يكفّرون.

ولكن بقي هنا إشكال يرد على كلام الشيخ رحمه‌الله ، وهو : أن الشارع قد سمّى بعض الذنوب كفرا ، قال الله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) المائدة : ٤٤. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سباب المسلم (٣٦٨) فسوق ، وقتاله كفر» (٣٦٩). متفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» (٣٧٠). و : «إذا قال الرجل لأخيه : يا كافر ـ فقد باء بها أحدهما» (٣٧١). متفق عليهما من حديث ابن عمر رضي الله عنه. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه [خصلة منهن كان فيه] خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر» (٣٧٢). متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يزني الزاني حين يزني وهو

__________________

(٣٦٦) وهو في «الحدود» من «البخاري».

(٣٦٧) في الاصل : الطوائف.

(٣٦٨) في الاصل : المؤمن.

(٣٦٩) وهو في «الايمان» من «الصحيحين». وانظر «صحيح الجامع الصغير» (٣٥٨٩ و ٣٥٩٦).

(٣٧٠) اخرجه الشيخان ، وهو مخرج في «غاية المرام» (٤٤٣).

(٣٧١) اخرجه الشيخان.

(٣٧٢) اخرجه الشيخان.

٣٢٠