شرح العقيدة الطّحاويّة

ابن أبي العزّ الحنفي

شرح العقيدة الطّحاويّة

المؤلف:

ابن أبي العزّ الحنفي


المحقق: الشيخ محمّد ناصر الدين الألباني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بغداد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٤

استوى؟ فقال الاستواء معلوم والكيف مجهول. ويروى هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفا ومرفوعا الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣٠٢).

وأما قوله : محيط بكل شيء وفوقه ، وفي بعض النسخ : محيط بكل شيء فوقه ، [بحذف الواو] من قوله : فوقه ، والنسخة الأولى هي الصحيحة ، ومعناها : أنه تعالى محيط بكل شيء وفوق كل شيء. ومعنى الثانية : أنه محيط بكل شيء فوق العرش. وهذه ـ والله أعلم ـ إما أن يكون أسقطها بعض النساخ سهوا ، ثم استنسخ بعض الناس من تلك النسخة ، أو أن بعض المحرفين الضالين أسقطها قصدا للفساد ، وإنكار لصفة الفوقية! وإلا فقد قام الدليل على أن العرش فوق المخلوقات وليس فوقه شيء من المخلوقات ، فلا يبقى لقوله : محيط ـ بمعنى : محيط بكل شيء فوق العرش ، والحالة هذه : معنى! إذ ليس فوق العرش من المخلوقات ما يحيط به ، فتعيّن ثبوت الواو. ويكون المعنى : أنه سبحانه محيط بكل شيء ، وفوق كل شيء.

أما كونه محيطا بكل شيء ، فقال تعالى : (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) البروج : ٢٠. (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) حم السجدة : ٥٤. (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) النساء : ١٢٦. وليس المراد من إحاطته بخلقه أنه كالفلك ، وأن المخلوقات داخل ذاته المقدسة ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. وإنما المراد : إحاطة عظمته. وسعة علمه وقدرته (٣٠٣) ، وأنها بالنسبة الى عظمته كخردلة. كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن ـ إلا كخردلة في يد أحدكم. ومن المعلوم ـ ولله المثل الأعلى ـ أن الواحد منا إذا كان عنده خردلة ، إن شاء قبضها وأحاط قبضته بها ، وان شاء جعلها تحته ، وهو في الحالين مباين لها ، عال عليها فوقها من جميع الوجوه ، فكيف بالعظيم الذي لا يحيط بعظمته وصف واصف. فلو شاء

__________________

(٣٠٢) لا يصح ، والصواب موقوف على مالك أو أم سلمة ، والأول أشهر.

(٣٠٣) في الاصل : احاطة عظمة وسعة وعلم وقدرة. وكلا العبارتين حسن ، وهو من التأويل الذي ينقمه الشارح ، مع أنه لا بد منه أحيانا.

٢٨١

لقبض السموات والأرض اليوم ، وفعل بها كما يفعل بها يوم القيامة ، فإنه لا يتجدد به إذ ذاك قدرة ليس عليها الآن ، فكيف يستبعد العقل مع ذلك أنه يدنو سبحانه من بعض أجزاء العالم وهو على عرشه فوق سماواته؟ أو يدني إليه من يشاء من خلقه؟ فمن نفى ذلك لم يقدره حقّ قدره. وفي حديث أبي رزين المشهور الذي رواه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رؤية الرب تعالى : فقال له أبو زرين : كيف يسعنا ـ يا رسول الله ـ وهو واحد ونحن جميع؟ فقال : سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله : هذا القمر ، آية من آيات الله ، كلكم يراه مخليا به ، والله أكبر من ذلك ، وإذا أفل تبين أنه أعظم وأكبر من كل شيء (٣٠٤). فهذا يزيل كل إشكال ، ويبطل كل خيال.

وأما كونه فوق المخلوقات ، فقال تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) الانعام : ١٨ و ٦١. (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) النحل : ٥٠. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث الأوعال المتقدم ذكره : «والعرش فوق ذلك ، والله فوق ذلك كله» (٣٠٥). وقد أنشد عبد الله بن رواحة شعره المذكور بين يدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأقرّه على ما قال : وضحك منه (٣٠٦). وكذا أنشده حسان بن ثابت رضي الله عنه قوله :

شهدت بإذن الله أن محمدا

رسول الذي فوق السموات من عل

وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما

له عمل من ربه متقبل

وأن الذي عادى اليهود ابن مريم

رسول أتى من عند ذي العرش مرسل

وأنا أخا الأحقاف إذ قام فيهم

يجاهد في ذات الإله ويعدل

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وأنا أشهد» (٣٠٧). وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش : أن رحمتي سبقت غضبي» (٣٠٨) وفي رواية : «تغلب غضبي» رواه البخاري

__________________

(٣٠٤) ضعيف الاسناد ، حسن المتن ، كما هو مبين في «الظلال» (٤٥٩ و ٤٦٠)

(٣٠٥) ضعيف وتقدم قريبا الحديث (برقم ٢٩٤).

(٣٠٦) ضعيف ، وقول ابن عبد البر «رويناه من وجوه صحاح» فيه نظر ، فقد قال الذهبي في «العلو» (ص ١٠٦) معقبا عليه : «روي من وجوه مرسلة ...» ثم ذكرها.

(٣٠٧) ضعيف ، رواه ابن سعد في «الطبقات» بسند ضعيف ومنقطع.

(٣٠٨) متفق عليه ، وهو مخرج في «الظلال» (٦٠٨ و ٦٠٩)

.

٢٨٢

وغيره. وروى ابن ماجه عن جابر يرفعه ، قال «بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور ، فرفعوا إليه رءوسهم ، فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم ، وقال : يا أهل الجنة ، سلام عليكم ، ثم قرأ قوله تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) يس : ٥٨. فينظر إليهم ، وينظرون إليه ، فلا يلتفتون الى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه» (٣٠٩). وروى مسلم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في تفسير قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) الحديد : ٣ بقوله : «أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء» (٣١٠). والمراد بالظهور هنا : العلو. ومنه قوله تعالى : (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) الكهف : ٩٧ ، أي يعلوه. فهذه الأسماء الأربعة متقابلة : اسمان منها لأزلية الرب سبحانه وتعالى وأبديته ، واسمان لعلوه وقربه. وروى أبو داود عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، عن جده ، قال : أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعرابي ، فقال : يا رسول الله ، جهدت الأنفس [وضاعت العيال] ونهكت الأموال ، [وهلكت الأنعام] ، فاستسق الله لنا ، فإنا نستشفع بك على الله ، ونستشفع بالله عليك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ويحك! أتدري ما تقول؟ وسبّح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ، ثم قال : ويحك! إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه ، شأن الله أعظم من ذلك ، ويحك! أتدري ما الله؟ إن الله فوق عرشه ، وعرشه فوق سماواته ، وقال بأصابعه! مثل القبة [عليه] ، وإنه ليئطّ به أطيط الرّحل بالراكب» (٣١١). وفي قصة سعد بن معاذ يوم بني قريظة ، لما حكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع سماوات» (٣١٢). وهو حديث صحيح ، أخرجه الأموي في مغازيه ، وأصله في

__________________

(٣٠٩) ضعيف ، وتقدم في الحديث (رقم ١٤١) ، وقول الشيخ أحمد شاكر رحمه‌الله : «واسناده جيد» غير جيد ، لما ذكرته هناك.

(٣١٠) صحيح وتقدم الحديث (برقم ٤٦).

(٣١١) ضعيف ، وتقدم (ص ٢٧٨).

(٣١٢) صحيح بدون قوله : «فوق سبع سماوات» كذلك هو في «الصحيحين» و «المسند». وأما هذه الزيادة فنفرد بها محمد بن صالح التمار ، كما في «العلو» (١٠٢) وقال :

٢٨٣

«الصحيحين». وروى البخاري عن زينب رضي الله عنها ؛ أنها كانت تفخر على أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتقول : زوجكنّ أهاليكن ، وزوجني الله من فوق سبع سماوات (٣١٣). وعن عمر رضي الله عنه : أنه مر بعجوز فاستوقفته ، فوقف معها يحدثها ، فقال رجل : يا أمير المؤمنين ، حبست الناس بسبب هذه العجوز؟ فقال : ويلك! أتدري من هذه؟ امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات ، هذه خولة التي أنزل الله فيها. (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ) (٣١٤) المجادلة : ١ أخرجه الدارمي. وروى عكرمة عن ابن عباس ، في قوله : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) الاعراف : ١٧ ، قال : ولم يستطع أن يقول من فوقهم ، لأنه قد علم أن الله سبحانه من فوقهم.

ومن سمع أحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكلام السلف ، وجد منه في إثبات الفوقية ما لا ينحصر. ولا ريب أن الله سبحانه لما خلق لم يخلقهم في ذاته المقدسة ، تعالى الله عن ذلك ، فإنه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ، فتعين أنه خلقهم خارجا عن ذاته ، ولو لم يتصف سبحانه بفوقية الذات ، مع أنه قائم بنفسه غير مخالط للعالم ، لكان متصفا بضدّ ذلك ، لأن القابل للشيء لا يخلو منه أو من ضده ، وضد الفوقية : السفول ، وهو مذموم على الإطلاق ، لأنه مستقر إبليس وأتباعه وجنوده. فإن قيل : لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها. قيل : لو لم يكن قابلا للعلو والفوقية لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها ، فمتى أقررتم بأنه

__________________

«وهو صدوق» وفي «التقريب» «صدوق يخطئ» ، قلت : فمثله لا يقبل تفرده ، وان صححه المؤلف وكذا الذهبي ، وفي اثبات الفوقية أحاديث صحيحه تغني عن هذا ، وسيذكر المؤلف بعضها. وانظر تخريج الحديث في «مختصر العلو» (٨٧ / ١١).

(٣١٣) صحيح وهو عند البخاري في «التوحيد» من حديث انس قال : فكانت زينب تفخر .. الخ. فليس هو من مسند زينب نفسها كما يفيده صنيع المصنف رحمه‌الله.

(٣١٤) ضعيف ، أخرجه ابو سعيد الدارمي في «الرد على الجهمية» (ص ٢٦ ، طبع المكتب الاسلامي) من طريق ابي يزيد المدني عن عمر به. قال الذهبي : (١١٣) «وهذا اسناد صالح فيه انقطاع ، أبو يزيد لم يلحق عمر».

٢٨٤

ذات قائم بنفسه ، غير مخالط للعالم ، وأنه موجود في الخارج ، ليس وجوده ذهنيّا فقط ، بل وجوده خارج الأذهان قطعا ، وقد علم العقلاء كلهم بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك فهو : إما داخل العالم وإما خارج عنه ، وانكار ذلك انكار ما هو أجلى وأظهر من الأمور البديهيات الضرورية بلا ريب ، فلا يستدل على ذلك بدليل إلا كان العلم بالمباينة أظهر منه ، وأوضح وأبين. وإذا كان صفة العلو والفوقية صفة كمال ، لا نقص فيه ، ولا يستلزم نقصا ، ولا يوجب محذورا ، ولا يخالف كتابا ولا سنة ولا إجماعا ، فنفي حقيقته يكون عين الباطل والمحال الذي لا تأتي به شريعة أصلا. فكيف إذا كان لا يمكن الإقرار بوجوده وتصديق رسله ، والإيمان بكتابه وبما جاء به رسوله ـ : إلا بذلك؟ فكيف إذا انضم الى ذلك شهادة العقول السليمة ، والفطر [المستقيمة] ، والنصوص الواردة المتنوعة المحكمة على علو الله على خلقه ، وكونه فوق عباده ، التي تقرب من عشرين نوعا : أحدها : التصريح بالفوقية مقرونا بأداة : من ، المعينة للفوقية بالذات ، كقوله تعالى : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) النحل : ٥٠. الثاني : ذكرها مجردة عن الأداة ، كقوله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) الانعام : ١٨ و ٦١. الثالث : التصريح بالعروج إليه نحو : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) المعارج : ٤. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم» (٣١٥). الرابع : التصريح بالصعود إليه. كقوله تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) فاطر : ١٠. الخامس : التصريح برفعه بعض المخلوقات إليه ، كقوله تعالى : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) النساء : ١٥٨. وقوله : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) آل عمران : ٥٥. السادس : التصريح بالعلو المطلق ، الدال على جميع مراتب العلو ، ذاتا وقدرا وشرفا ، كقوله تعالى : (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) البقرة : ٢٥٥. (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) سبأ : ٢٣. (إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) الشورى : ٥١. السابع : التصريح بتنزيل الكتاب منه ، كقوله تعالى : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) غافر : ٢. (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ) (اللهِ الْعَزِيزِ

__________________

(٣١٥) متفق عليه ، وهو قطعة من حديث لابي هريرة رضي الله عنه ، اوله «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ...» ، وهو مخرج في «الظلال» (٤٩١).

٢٨٥

الْحَكِيمِ) الزمر : ١. (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فصلت : ٢. (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) فصلت : ٤٢. (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) النحل : ١٠٢ (حم. وَالْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ. فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) الدخان : ١ ـ ٥. الثامن : التصريح باختصاص بعض المخلوقات بأنها عنده ، وأن بعضها أقرب إليه من بعض ، كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) الاعراف : ٢٠٦. (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ) الأنبياء : ١٩. ففرق بين «من له» عموما وبين «من عنده» من ملائكته وعبيده خصوصا. وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الكتاب الذي كتبه الرب تعالى على نفسه : «أنه عنده فوق العرش» (٣١٦). التاسع : التصريح بأنه تعالى في السماء ، وهذا عند المفسرين من أهل السنة على أحد وجهين : إما أن تكون «في» بمعنى «على» ، وإما أن يراد بالسماء العلو ، لا يختلفون في ذلك ، ولا يجوز الحمل على غيره. العاشر : التصريح بالاستواء مقرونا بأداة «على» مختصا بالعرش ، الذي هو أعلى المخلوقات ، مصاحبا في الأكثر لأداة : «ثم» الدالة على الترتيب والمهلة. الحادي عشر : التصريح برفع الأيدي الى الله تعالى ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا» (٣١٧). والقول بأن العلو قبلة الدعاء فقط ـ باطل بالضرورة والفطرة ، وهذا يجده من نفسه كل داع ، كما يأتي إن شاء الله تعالى. الثاني عشر : التصريح بنزوله كل ليلة الى سماء الدنيا ، والنزول المعقول عند جميع الأمم إنما يكون من علو الى سفل. الثالث عشر : الإشارة إليه حسا الى العلو ، كما أشار إليه من هو أعلم بربه (٣١٨) وبما يجب له ويمتنع عليه من جميع البشر ، لما كان بالمجمع الأعظم [الذي لم يجتمع لأحد مثله ، في اليوم الأعظم ، في المكان الأعظم ، قال لهم : «أنتم

__________________

(٣١٦) متفق عليه وتقدم الحديث (برقم ٣٠٨).

(٣١٧) صحيح ، اخرجه الحاكم وغيره ، وصححه هو والذهبي ومن قبلهما ابن حبان.

(٣١٨) في الاصل : به.

٢٨٦

مسئولون عني ، فما ذا أنتم قائلون؟ قالوا : نشهد أنك قد بلّغت وأدّيت ونصحت» (٣١٩) ، فرفع إصبعه الكريمة الى السماء رافعا لها إلى من هو فوقها وفوق كل شيء ، قائلا : «اللهم أشهد». فكأنّا نشاهد تلك الأصبع الكريمة وهي مرفوعة الى الله ، وذلك اللسان الكريم وهو يقول لمن رفع إصبعه إليه : «اللهم أشهد» ، ونشهد أنه بلّغ البلاغ المبين ، وأدى رسالة ربه كما أمر ، ونصح أمته غاية النصيحة ، فلا يحتاج مع بيانه وتبليغه وكشفه وإيضاحه إلى تنطّع المتنطّعين ، وحذلقة المتحذلقين! والحمد لله رب العالمين. الرابع عشر : التصريح بلفظ : «الأين» كقول أعلم الخلق به ، وأنصحهم لأمته ، وأفصحهم بيانا عن المعنى الصحيح ، بلفظ لا يوهم باطلا بوجه : «أين الله» (٣٢٠) ، في غير موضع. الخامس عشر : شهادته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن قال إن ربه في السماء ـ بالإيمان. السادس عشر : إخباره تعالى عن فرعون أنه رام الصعود الى السماء ، ليطلّع الى إله موسى فيكذبه فيما أخبره من أنه سبحانه فوق السموات ، فقال : (يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) المؤمن : ٣٦. فمن نفى العلو من الجهمية فهو فرعوني ، ومن أثبته فهو موسوي محمدي. السابع عشر : إخباره صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه تردد بين موسى عليه‌السلام وبين ربه ليلة المعراج بسبب تخفيف الصلاة ، فيصعد إلى ربه ثم يعود الى موسى عدة مرار (٣٢١). الثامن عشر : النصوص الدالة على رؤية أهل الجنة له تعالى ، من الكتاب والسنة ، وإخبار النبي

__________________

(٣١٩) صحيح ، وهو قطعة من حديث جابر الطويل في حجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. رواه مسلم وأبو داود والدارمي وابن ماجه وغيرهم وقد افردته في جزء لطيف ، وضممت إليه كل ما وقع لي من الروايات والزيادات الثابتة عن جابر رضي الله عنه في سياق واحد ، وعلقت عليه بتعليقات مفيدة. وقد طبع مرات في المكتب الاسلامي العامر.

(٣٢٠) صحيح ، رواه مسلم (٢ / ٧١) وغيره عن معاوية بن الحكم السلمي ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للجارية : أين الله؟ قالت : في السماء ، قال : من أنا؟ قالت : أنت رسول الله ، قال : اعتقها فإنها مؤمنة. وهو مخرج في «الظلال» (٤٨٩ و ٤٩٠) وفي «مختصر العلو» (ص ٨١) ، وقال الذهبي فيه : «حديث صحيح أخرجه مسلم ..».

(٣٢١) متفق عليه. انظر سياقه في «مختصر العلو» (رقم ١٧).

٢٨٧

صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم يرونه كرؤية الشمس والقمر ليلة البدر ليس دونه سحاب ، فلا يرونه إلا من فوقهم ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بينا أهل الجنة في نعيمهم ، إذ سطع لهم نور ، فرفعوا رءوسهم ، فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم ، وقال : يا أهل الجنة ، سلام عليكم ، ثم قرأ قوله تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) يس : ٥٨. ثم يتوارى عنهم ، وتبقى رحمته وبركته عليهم في ديارهم» (٣٢٢) رواه الإمام أحمد في «المسند» ، وغيره ، من حديث جابر رضي الله عنه. ولا يتم إنكار الفوقية إلا بإنكار الرؤية. ولهذا طرد الجهمية الشقين (٣٢٣) ، وصدّق أهل السنة بالأمرين معا ، وأقروا بهما ، وصار من أثبت الرؤية ونفى العلوّ مذبذبا بين ذلك ، لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء! وهذه الأنواع من الأدلة لو بسطت أفرادها لبلغت نحو ألف دليل ، فعلى المتأول أن يجيب عن ذلك كله! وهيهات له بجواب صحيح عن بعض ذلك! وكلام السلف في إثبات صفة العلو كثير جدّا : فمنه : ما روى شيخ الاسلام أبو اسماعيل الأنصاري في كتابه الفاروق ، بسنده الى مطيع البلخي : أنه سأل أبا حنيفة عمن قال : لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض؟ فقال : قد كفر ، لأن الله يقول : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) طه : ٥ وعرشه فوق سبع سماواته ، قلت : فإن قال : إنه على العرش ، ولكن يقول : لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ قال : هو كافر ، لأنه أنكر أنه في السماء ، فمن أنكر أنه في السماء فقد كفر. وزاد غيره : لأن الله في أعلى عليين ، وهو يدعى من أعلى ، لا من أسفل. انتهى. ولا يلتفت الى من أنكر ذلك ممن ينتسب الى مذهب أبي حنيفة ، فقد انتسب إليه طوائف معتزلة وغيرهم ، مخالفون له في كثير من اعتقاداته. وقد ينتسب الى مالك والشافعي وأحمد من يخالفهم في [بعض] اعتقاداتهم. وقصة أبي يوسف في استتابة بشر المريسي ، لما أنكر أن يكون الله عزوجل فوق العرش ـ : مشهورة. رواها عبد الرحمن بن أبي حاتم وغيره.

ومن تأول «فوق» ، بأنه خير من عباده وأفضل منهم ، وأنه خير من العرش

__________________

(٣٢٢) ضعيف ، وتقدم بالحديث (رقم ١٤١).

(٣٢٣) في الاصل : النفيين.

٢٨٨

وأفضل منه ، كما يقال : الأمير فوق الوزير ، والدينار فوق الدرهم ـ : فذلك مما تنفر عنه العقول السليمة ، وتشمئز منه القلوب الصحيحة! فإن قول القائل [ابتداء] : الله خير من عباده ، وخير من عرشه : من جنس قوله : الثلج بارد ، والنار حارة ، والشمس أضوأ من السراج ، والسماء أعلى من سقف الدار ، والجبل أثقل من الحصى ، ورسول الله أفضل من فلان اليهود [ي] ، والسماء فوق الأرض!! وليس في ذلك تمجيد ولا تعظيم ولا مدح ، بل هو من أرذل الكلام وأسمجه وأهجنه! فكيف يليق بكلام الله ، الذي لو اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لما أتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا؟! بل في ذلك تنقّص ، كما قيل في المثل السائر :

ألم تر أن السيف ينقص قدره

إذا قيل إن السيف أمضى من العصا

ولو قال قائل : الجوهر فوق قشر البصل وقشر السمك! لضحك منه العقلاء ، للتفاوت الذي بينهما ، فإن التفاوت الذي بين الخالق والمخلوق أعظم وأعظم. بخلاف ما إذا كان المقام يقتضي ذلك ، بأن كان احتجاجا على مبطل ، كما في قول يوسف الصديق عليه‌السلام : (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) يوسف : ٣٩. وقوله تعالى : (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) النمل : ٥٩. (وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) طه : ٧٣.

وإنما يثبت هذا المعنى من الفوقية في ضمن ثبوت الفوقية المطلقة من كل وجه ، فله سبحانه وتعالى فوقية القهر ، وفوقية القدر (٣٢٤) ، وفوقية الذات. ومن أثبت البعض ونفى البعض فقد تنقّص ، وعلوه تعالى مطلق من كل الوجوه. فإن قالوا ، بل علو المكانة لا المكان؟ فالمكانة : تأنيث المكان ، والمنزلة : تأنيث المنزل ، فلفظ «المكانة والمنزلة» تستعمل في المكانات النفسانية والروحانية (٣٢٥) ، كما يستعمل لفظ «المكان والمنزل» في الأمكنة الجسمانية ، فإذا قيل : لك في قلوبنا منزلة ، ومنزلة فلان في قلوبنا وفي نفوسنا أعظم من منزلة فلان ، كما جاء في الاثر : «إذا

__________________

(٣٢٤) في الاصل : الفضل.

(٣٢٥) في الاصل : والعرجانية

.

٢٨٩

أحب أحدكم أن يعرف كيف منزلته عند الله ، فلينظر كيف منزلة الله في قلبه ، فإن الله ينزل العبد من نفسه حيث أنزله العبد من قلبه» (٣٢٦). فقوله : «منزلة الله في قلبه» : هو ما يكون في قلبه من معرفة الله ومحبته وتعظيمه وغير ذلك ، فإذا عرف أن «المكانة والمنزلة» : تأنيث المكان والمنزل ، والمؤنث فرع على المذكر في اللفظ والمعنى ، وتابع له ، فعلوّ المثل الذي يكون في الذهن يتبع علوّ (٣٢٧) الحقيقة ، إذا كان مطابقا كان حقّا ، وإلا باطلا. فإن قيل : المراد علوه في القلوب ، وأنه أعلى في القلوب من كل شيء. قيل : وكذلك هو ، وهذا العلوّ مطابق لعلوه في نفسه على كل شيء ، فإن لم يكن عاليا بنفسه على كل شيء ، كان علوّه في القلوب غير مطابق ، كمن جعل ما ليس بأعلى أعلى.

وعلوه سبحانه وتعالى كما هو ثابت بالسمع ، ثابت بالعقل والفطرة ، أما ثبوته بالعقل فمن وجوه : أحدها : العلم البديهي القاطع بأن كل موجودين ، إما أن يكون أحدهما ساريا في الآخر قائما به كالصفات ، وإما أن يكون قائما بنفسه بائنا من الآخر. الثاني : أنه لما خلق العالم ، فإما أن يكون خلقه في ذاته أو خارجا عن ذاته ، والأول باطل : أما أولا : فبالاتفاق ، وأما ثانيا : فلأنه يلزم أن يكون محلا للخسائس (٣٢٨) والقاذورات تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. والثاني يقتضي كون العلم واقعا خارج ذاته ، فيكون منفصلا ، فتعينت المباينة ، لأن القول بأنه غير متصل بالعالم وغير منفصل عنه ـ غير معقول. الثالث : أن كونه تعالى لا داخل

__________________

(٣٢٦) لا أعرفه.

ثم وجدته بدلالة بعض الاخوان جزاه الله خيرا في «مستدرك الحاكم» (١ / ٤٩٤ ـ ٤٩٥) بنحوه وصححه ، وتعقبه الذهبي بأن فيه عمر بن عبد الله مولى غفرة ، ضعيف ، ومن طريقه أخرجه ابو يعلى وغيره ، وهو مخرج في «الضعيفة» (٥٤٢٧) ، وهو من الأحاديث الكثيرة ، من الضعيفة والموضوعة ، التي سود بها المدعو عز الدين بليق «منهاجه» وهي قرابة أربعمائة حديث ما بين ضعيف وموضوع ، ومع ذلك زعم في مقدمته أن أحاديث «منهاجه» كلها صحيحة! وعسى أن ييسّر لي نشرها في رد عليه ومع ذلك أرجو أن انتهي منه قريبا إن شاء الله تعالى.

(٣٢٧) في الاصل : يقع على.

(٣٢٨) في الاصل : للحشائش.

٢٩٠

العالم ولا خارجه ـ : يقتضي [نفي] وجوده بالكلية ، لأنه غير معقول : فيكون موجودا إما داخله وإما خارجه. والأول باطل فتعين الثاني ، فلزمت المباينة.

وأما ثبوته بالفطرة ، فإن الخلق جميعا بطباعهم وقلوبهم السليمة يرفعون أيديهم عند الدعاء ، ويقصدون جهة العلوّ بقلوبهم عند التضرع الى الله تعالى. وذكر محمد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر مجلس الأستاذ أبي المعالي الجويني المعروف بإمام الحرمين ، وهو يتكلم في نفي صفة العلوّ ، ويقول : كان الله ولا عرش وهو الآن على ما كان! فقال الشيخ أبو جعفر : أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا؟ فإنه ما قال عارف قط : يا الله ، إلّا وجد في قلبه ضرورة طلب (٣٢٩) العلوّ ، لا يلتفت يمنة ولا يسرة ، فكيف ندفع بهذه الضرورة عن أنفسنا؟ قال : فلطم أبو المعالي على رأسه ونزل! وأظنه قال : وبكى! وقال : حيّرني الهمداني حيّرني! أراد الشيخ : أنّ هذا أمر فطر الله عليه عباده ، من غير أن يتلقّوه من المرسلين ، يجدون في قلوبهم طلبا ضروريّا يتوجه الى الله ويطلبه في العلو.

وقد اعترض على الدليل العقلي بإنكار بداهته ، لأنه أنكره جمهور العقلاء ، فلو كان بديهيّا لما كان مختلفا فيه بين العقلاء ، بل هو قضية وهمية خيالية؟ والجواب عن هذا الاعتراض مبسوط في موضعه ، ولكن أشير إليه هنا إشارة مختصرة ، وهو أن يقال : إن العقل ان قبل قولكم فهو لقولنا أقبل ، وان ردّ العقل قولنا فهو لقولكم أعظم فإن كان قولنا باطلا في العقل ، فقولكم أبطل ، وإن كان قولكم حقّا مقبولا في العقل ، فقولنا أولى أن يكون مقبولا في العقل. فإن دعوى الضرورة مشتركة ، فإنا نقول : نعلم بالضرورة بطلان قولكم ، وأنتم تقولون كذلك ، فإذا قلتم : تلك الضرورة التي تحكم ببطلان قولنا هي من حكم الوهم لا من حكم العقل؟ قابلناكم بنظير قولكم ، وعامة فطر الناس ، ـ ليسوا منكم ولا منّا ـ موافقون لنا (٣٣٠) على هذا ، فإن كان حكم فطر بني آدم مقبولا ترجحنا عليكم ، وإن كان

__________________

(٣٢٩) في الاصل : بطلب.

(٣٣٠) في الاصل : يوافقونا.

٢٩١

مردودا غير مقبول بطل قولكم بالكلية ، فإنكم إنما بنيتم قولكم على ما تدّعون أنه مقدمات معلومة بالفطرة الآدمية ، وبطلت عقلياتنا أيضا ، وكان السمع الذي جاءت به الأنبياء معنا لا معكم ، فنحن مختصون بالسمع دونكم ، والعقل مشترك بيننا وبينكم.

فإن قلتم : أكثر العقلاء يقولون بقولنا؟ قيل : ليس الأمر كذلك ، فإن الذين يصرحون [بأن] صانع العالم شيء موجود ليس فوق العالم ، وأنه لا مباين للعالم ولا حالّ في العالم ـ : طائفة من النظار ، وأول من عرف عنه ذلك في الإسلام جهم ابن صفوان وأتباعه.

واعترض على الدليل الفطري : أن ذلك إنما لكون السماء قبلة للدعاء ، كما أن الكعبة قبلة للصلاة ، (٣٣١) ، ثم هو منقوض بوضع الجبهة على الأرض مع أنه ليس في جهة الأرض؟ وأجيب على هذا الاعتراض من وجوه :

أحدها : أن قولكم : إن السماء قبلة للدعاء ـ لم يقله أحد من سلف الأمة ، ولا أنزل الله به من سلطان ، وهذا من الأمور الشرعية الدينية ، فلا يجوز أن يخفى على جميع سلف الأمة وعلمائها.

الثاني : أن قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة ، فإنه يستحبّ للداعي أن يستقبل القبلة ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستقبل القبلة في دعائه في مواطن كثيرة (٣٣٢) ، فمن قال إن للدعاء قبلة غير قبلة الصلاة ، أو أن له قبلتين : إحداهما الكعبة والأخرى السماء ـ : فقد ابتدع في الدين ، وخالف جماعة المسلمين.

الثالث : أن القبلة : هي ما يستقبله العابد بوجهه ، كما تستقبل الكعبة في الصلاة والدعاء ، والذكر والذبح ، وكما يوجه المحتضر والمدفون ، ولذلك سميت وجهة. والاستقبال خلاف الاستدبار ، فالاستقبال بالوجه ، والاستدبار بالدبر ،

__________________

(٣٣١) قال عفيفي : انظر ج ٢ / ٥١ من «مختصر الموصلي للصواعق المرسلة» لابن القيم.

(٣٣٢) صحيح ، والاحاديث في ذلك كثيرة ، منها حديث عبد الله بن زيد قال : «خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى هذا المصلى يستسقي ، فدعا واستسقى ، ثم استقبل القبلة» متفق عليه ، وترجم له البخاري في «الدعوات» ب «باب الدعاء مستقبل القبلة».

٢٩٢

فأما ما حاذاه الإنسان برأسه أو يديه أو جنبه فهذا لا يسمى قبلة ، لا حقيقة ولا مجازا ، فلو كانت السماء قبلة الدعاء لكان المشروع أن يوجه الداعي وجهه إليها ، وهذا لم يشرع ، والموضع الذي ترفع اليد إليه لا يسمى قبلة ، لا حقيقة ولا مجازا ، ولأن القبلة في الدعاء أمر شرعي تنبع فيه الشرائع ، ولم تأمر الرسل أن الداعي يستقل السماء بوجهه ، بل نهوا [عن] ذلك. ومعلوم أن التوجه بالقلب ، واللجأ والطلب الذي يجده الداعي من نفسه أمر فطري ، يفعله المسلم والكافر والعالم والجاهل ، وأكثر ما يفعله المضطر والمستغيث بالله ، كما فطر على أنه إذا مسه الضر يدعو الله ، مع أن أمر القبلة مما يقبل النسخ والتحويل ، كما تحولت القبلة من الصخرة الى الكعبة. وأمر التوجّه في الدعاء الى الجهة العلوية مركوز في الفطر ، والمستقبل للكعبة يعلم أن الله تعالى ليس هناك ، بخلاف الداعي ، فإنه يتوجه الى ربه وخالقه ، ويرجو الرحمة أن تنزل من عنده. وأما النقض بوضع الجبهة فما أفسده من نقض ، فإن واضع الجبهة إنما قصده الخضوع لمن فوقه بالذلّ له ، لا أن يميل إليه إذ هو تحته! هذا لا يخطر في قلب ساجد. لكن يحكى عن بشر المريسي أنه سمع وهو يقول [في سجوده] : سبحان ربي الأسفل!! تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوّا كبيرا. وإنّ من أفضى به النفي الى هذه الحال حري أن يتزندق ، إن لم يتداركه الله برحمته ، وبعيد من مثله الصلاح ، قال تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) الانعام : ١١٠. وقال تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) الصفّ : ٥. فمن لم يطلب الاهتداء من مظانه يعاقب بالحرمان. نسأل الله العفو والعافية.

وقوله : وقد أعجز عن الإحاطة خلقه ـ أي لا يحيطون به علما ولا رؤية ، ولا غير ذلك من وجوه الإحاطة ، بل هو سبحانه محيط بكل شيء ، ولا يحيط به شيء.

قوله : (ونقول : ان الله اتخذ ابراهيم خليلا ، وكلّم الله موسى تكليما ، ايمانا وتصديقا وتسليما).

ش : قال [الله] تعالى : (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) النساء : ١٢٥ ، وقال تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) النساء : ١٦٤. الخلة : كمال المحبة.

٢٩٣

وأنكرت الجهمية حقيقة المحبة من الجانبين ، زعما منهم أن المحبة لا تكون إلا لمناسبة بين المحب والمحبوب ، وأنه لا مناسبة بين القديم والمحدث توجب المحبة! وكذلك أنكروا حقيقة التكليم ، كما تقدم ، وكان أول من ابتدع هذا في الإسلام هو الجعد بن درهم ، في أوائل المائة الثانية فضحّى به خالد بن عبد الله القسري أمير العراق والمشرق بواسط ، خطب الناس يوم الأضحى فقال : أيها الناس ضحوا ، تقبل الله ضحاياكم ، فإني (٣٣٣) مضحّ بالجعد بن درهم ، إنه زعم أن الله لم يتخذ ابراهيم خليلا ، ولم يكلم موسى تكليما ، ثم نزل فذبحه. وكان ذلك بفتوى أهل زمانه من علماء التابعين رضي الله عنهم ، فجزاه الله عن الدين وأهله خيرا. وأخذ هذا المذهب [عن الجعد] ـ الجهم بن صفوان ، فأظهره وناظر عليه ، وإليه أضيف قول : «الجهمية». فقتله مسلم بن أحوز أمير خراسان بها ، ثم انتقل ذلك الى المعتزلة أتباع عمرو بن عبيد ، وظهر قولهم في أثناء خلافة المأمون ، حتى امتحن أئمة الإسلام ، ودعوهم الى الموافقة لهم على ذلك. وأصل هذا مأخوذ عن المشركين والصابئة ، وهم ينكرون أن يكون ابراهيم خليلا وموسى كليما ، لأن الخلة هي كمال المحبة المستغرقة للمحب ، كما قيل :

قد تخللت مسلك الروح مني

ولذا سمي الخليل خليلا

ولكن محبته وخلته كما يليق به تعالى ، كسائر صفاته. ويشهد لما دلت عليه الآية الكريمة ما ثبت في «الصحيح» عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكن صاحبكم خليل الله» (٣٣٤) ، يعني نفسه. وفي رواية : «إني أبرأ إلى كل خليل من خلته ، ولو كنت [متخذا] من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا». وفي رواية : «إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا». فبين صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لا يصلح له أن يتخذ من المخلوقين خليلا ، وأنه لو أمكن ذلك لكان أحق الناس به أبو بكر الصديق. مع أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد وصف نفسه بأنه يحبّ أشخاصا ، كقوله لمعاذ : «والله إني

__________________

(٣٣٣) في الاصل : فانه.

(٣٣٤) صحيح ، وتقدم نحوه بالحديث (رقم ١٢٦).

٢٩٤

لأحبك» (٣٣٥). وكذلك قوله للأنصار (٣٣٦). وكان زيد بن حارثة حبّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وابنه أسامة حبه. وأمثال ذلك. وقال له عمرو بن العاص : أي الناس أحبّ إليك؟ قال : «عائشة» ، قال : فمن الرجال؟ قال : «أبوها» (٣٣٧). فعلم أن الخلة أخص من مطلق المحبة ، والمحبوب بها لكمالها يكون محبا لذاته ، لا لشيء آخر ، إذ المحبوب لغيره هو مؤخر في الحب عن ذلك الغير ، ومن كمالها لا تقبل الشركة [ولا] المزاحمة ، لتخللها المحبة ، ففيها كمال التوحيد وكمال الحب. ولذلك لما اتخذ الله ابراهيم خليلا ، وكان ابراهيم قد سأل ربه أن يهب له ولدا صالحا ، فوهب له اسماعيل ، فأخذ هذا الولد شعبة من قلبه ، فغار الخليل على قلب خليله أن يكون فيه مكان لغيره ، فامتحنه به بذبحه ، ليظهر سر الخلة في تقديمه محبة خليله على محبة ولده ، فلما استسلم لأمر ربه ، وعزم على فعله ، فظهر سلطان الخلة في الإقدام على ذبح الولد إيثارا لمحبة خليله على محبته ، نسخ الله ذلك عنه ، وفداه بالذّبح العظيم ، لأن المصلحة في الذبح كانت ناشئة من العزم وتوطين النفس على ما أمر ، فلما حصلت هذه المصلحة عاد الذبح نفسه مفسدة ، فنسخ في حقه ، وصارت الذبائح والقرابين من الهدايا والضحايا سنة في أتباعه الى يوم القيامة. وكما أن منزلة الخلة الثابتة لإبراهيم صلوات الله عليه قد شاركه فيها نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما تقدم ، كذلك منزلة التكليم الثابتة لموسى صلوات الله عليه قد شاركه فيها نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما ثبت ذلك في حديث الإسراء.

وهنا سؤال مشهور ، وهو : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل من إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكيف طلب له من الصلاة مثل ما لإبراهيم ، مع أن المشبّه به أصله أن يكون فوق المشبه؟ وكيف

__________________

(٣٣٥) صحيح ، رواه أحمد وغيره ، وصححه ابن خزيمة وابن حبان. وهو مخرج في «صحيح أبي داود» برقم (١٣٦٢).

(٣٣٦) يشير الى حديث انس قال : جاءت امرأة من الانصار الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعها صبي لها ، فكلمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : والذي نفسي بيده. انكم أحب الناس (الي مرتين) اخرجه البخاري.

(٣٣٧) متفق عليه من حديث عمرو بن العاص.

٢٩٥

الجمع بين هذين الأمرين المتنافيين؟ وقد أجاب عنه العلماء بأجوبة عديدة ، يضيق هذا المكان عن بسطها. وأحسنها : أن آل ابراهيم فيهم الأنبياء الذين ليس في آل محمد مثلهم ، فإذا طلب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولآله من الصلاة مثل ما لإبراهيم وآله وفيهم الأنبياء ، حصل لآل محمد ما يليق بهم لانهم لا يبلغون مراتب الأنبياء ، وتبقى الزيادة التي للأنبياء وفيهم ابراهيم لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيحصل له من المزية ما لم يحصل لغيره. وأحسن من هذا : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من آل ابراهيم ، بل هو أفضل آل ابراهيم ، فيكون قولنا : «كما صليت على [آل] ابراهيم» ـ متناولا الصلاة عليه وعلى سائر النبيين من ذرية ابراهيم وهو متناول لإبراهيم أيضا. كما في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) آل عمران : ٣٣. فإبراهيم وعمران دخلا في آل ابراهيم وآل عمران ، وكما في قوله تعالى : (إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) القمر : ٣٤. فإن لوطا داخل في آل لوط ، وكما في قوله تعالى : (إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) البقرة : ٤٩ وقوله : (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) المؤمن : ٤٦ فإن فرعون داخل في آل فرعون. ولهذا والله أعلم ، أكثر روايات حديث الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما فيها كما صليت على آل ابراهيم. وفي كثير منها : كما صليت على ابراهيم ولم يرد : كما صليت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم إلا في قليل من الروايات (٣٣٨) وما ذلك إلا لأن في قوله : كما صليت على ابراهيم ، يدخل آله تبعا. وفي قوله : كما صليت على آل ابراهيم ، هو داخل آل ابراهيم. وكذلك لما جاء أبو أو في رضي الله عنه بصدقة الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «اللهم صل على آل أبي أوفى» (٣٣٩). ولما كان بيت ابراهيم عليه‌السلام أشرف بيوت العالم على الإطلاق ، خصهم الله بخصائص : منها : أنه جعل فيه النبوة والكتاب ، فلم يأت بعد ابراهيم نبي إلا من أهل بيته. ومنها : أنه سبحانه جعلهم أئمة يهدون بأمره الى يوم القيامة ، فكل من دخل الجنة

__________________

(٣٣٨) قلت : وذلك لا يمنع صحتها ، لا سيما وبعضها في «صحيح البخاري» انظر كتابي «صفة الصلاة» ص ١٤٧ ـ الطبعة الحادية عشر طبع المكتب الاسلامي.

(٣٣٩) اخرجه البخاري في «صحيحه» عن عبد الله بن ابي اوفى

.

٢٩٦

من أولياء الله بعدهم فإنما دخل من طريقهم وبدعوتهم. ومنها : أنه سبحانه اتخذ منهم الخليلين ، كما تقدم ذكره. ومنها : أنه جعل صاحب هذا البيت إماما للناس. قال تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ، قالَ : وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ، قالَ : لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) البقرة : ١٢٤. ومنها : أنه أجرى على يديه بناء بيته الذي جعله قياما للناس ومثابة للناس وأمنا ، وجعله قبلة لهم وحجا ، فكان ظهور هذا البيت في الأكرمين. ومنها : أنه أمر عباده أن يصلّوا على أهل البيت. الى غير ذلك من الخصائص.

قوله : (ونؤمن بالملائكة والنبيين ، والكتب المنزلة على المرسلين ، ونشهد أنهم كانوا على الحق المبين).

ش : هذه الأمور من أركان الإيمان. قال تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ، كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) البقرة : ٢٨٥ ـ الآيات. وقال تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ، وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ) البقرة : ١٧٧ ـ الآية. فجعل الله سبحانه وتعالى الإيمان هو الإيمان بهذه الجملة ، وسمى من آمن بهذه الجملة مؤمنين ، كما جعل الكافرين من كفر بهذه الجملة ، بقوله : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) النساء : ١٣٦. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في الحديث المتفق على صحته ، حديث جبرائيل وسؤاله للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الإيمان ، فقال : «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره» (٣٤٠). فهذه الأصول التي اتفقت عليها الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم وسلامه ، ولم يؤمن بها حقيقة الإيمان إلا أتباع الرسل.

وأما أعداؤهم ومن سلك سبيلهم من الفلاسفة وأهل البدع ، فهم متفاوتون في جحدها وإنكارها ، وأعظم الناس لها إنكارا الفلاسفة المسمّون عند من يعظمهم بالحكماء ، فإن من علم حقيقة قولهم علم أنهم لم يؤمنوا بالله ولا رسله ولا كتبه ولا ملائكته ولا باليوم الآخر ، فإن مذهبهم أن الله سبحانه موجود لا ماهية له ولا

__________________

(٣٤٠) متفق عليه من حديث ابي هريرة رضي الله عنه.

٢٩٧

حقيقة ، فلا يعلم الجزئيات بأعيانها ، وكل موجود في الخارج فهو جزئي ، ولا يفعل عندهم بقدرته ومشيئته ، وإنما العالم عندهم لازم له أزلا وأبدا ، وإن سموه مفعولا له فمصانعة ومصالحة للمسلمين في اللفظ ، وليس عندهم بمفعول ولا مخلوق ولا مقدور عليه ، وينفون عنه سمعه وبصره وسائر صفاته! فهذا إيمانهم بالله. وأما كتبه عندهم ، فإنهم لا يصفونه بالكلام ، فلا يكلم ولا يتكلم ، ولا قال ولا يقول ، والقرآن عندهم فيض فاض من العقل الفعّال على قلب بشر زاكي النفس طاهر ، متميز عن النوع الإنساني بثلاث خصائص : قوة الإدراك وسرعته ، لينال [من] العلم أعظم ما يناله غيره! وقوة النفس ، ليؤثر بها في هيولى العالم يقلب صورة الى صورة! وقوة التخييل ، ليخيل بها القوى العقلية في أشكال محسوسة ، وهي الملائكة عندهم! وليس في الخارج ذات منفصلة تصعد وتنزل وتذهب وتجيء وترى وتخاطب الرسول ، وإنما ذلك عندهم أمور ذهنية لا وجود لها في الأعيان. وأما اليوم الآخر ، فهم أشد الناس تكذيبا وإنكارا له في الأعيان ، وعندهم أن هذا العالم لا يخرب ، ولا تنشق السموات ولا تنفطر ، ولا تنكدر النجوم ولا تكوّر الشمس والقمر ، ولا يقوم الناس من قبورهم ويبعثون إلى جنة ونار! كل هذا عندهم أمثال مضروبة لتفهيم العوام ، لا حقيقة لها في الخارج ، كما يفهم منها أتباع الرسل. فهذا إيمان هذه الطائفة ـ الذليلة الحقيرة ـ بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وهذه هي أصول الدين الخمسة.

وقد أبدلتها المعتزلة بأصولهم الخمسة التي هدموا بها كثيرا من الدين : فإنهم بنوا أصل دينهم على الجسم والعرض ، الذي هو الموصوف والصفة عندهم ، واحتجوا بالصفات التي هي الأعراض ، على حدوث الموصوف الذي هو الجسم ، وتكلموا في التوحيد على هذا الأصل ، فنفوا عن الله كل صفة ، تشبيها بالصفات الموجودة في الموصوفات التي هي الأجسام ، ثم تكلموا بعد ذلك في أفعاله التي هي القدر ، وسموا ذلك «العدل» ، ثم تكلموا في النبوة والشرائع والأمر والنهي والوعد والوعيد ، وهي مسائل الأسماء والأحكام ، التي هي المنزلة بين المنزلتين ، ومسألة إنقاذ الوعيد ، ثم تكلموا في إلزام الغير بذلك ، الذي هو الأمر بالمعروف والنهي عن

٢٩٨

المنكر ، وضمّنوه جواز الخروج على الأئمة بالقتال. فهذه أصولهم الخمسة ، التي وضعوها بإزاء أصول الدين الخمسة التي بعث بها الرسول.

والرافضة المتأخرون ، جعلوا الأصول أربعة : التوحيد ، والعدل ، والنبوة ، والإمامة.

وأصول أهل السنة والجماعة تابعة لما جاء به الرسول. وأصل الدين : الإيمان بما جاء به الرسول ، كما تقدم بيان ذلك ، ولهذا كانت الآيتان من آخر سورة البقرة ـ لما تضمنتا هذا الأصل ـ : لهما شأن عظيم ليس لغيرهما ، ففي «الصحيحين» عن أبي مسعود عقبة بن عمرو ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» (٣٤١). وفي «صحيح مسلم» عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : «بينا جبرائيل قاعد عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمع نقيضا من فوقه ، فرفع رأسه ، فقال : هذا باب من السماء فتح اليوم ، لم يفتح قط إلا اليوم ، فنزل منه ملك ، فقال : هذا ملك نزل الى الارض ، لم ينزل قط إلا اليوم ، فسلم ، وقال : أبشر بنورين أوتيتهما ، لم يؤتهما نبي قبلك : فاتحة الكتاب ، وخواتيم سورة البقرة ، لن تقرأ بحرف منهما إلا أوتيته» (٣٤٢). وقال أبو طالب المكي : أركان الإيمان سبعة ، يعني هذه الخمسة ، والإيمان بالقدر ، والايمان بالجنة والنار. وهذا حق ، والأدلة عليه ثابتة محكمة قطعية. وقد تقدمت الإشارة إلى دليل التوحيد والرسالة.

وأما الملائكة فهم الموكلون بالسماوات والأرض ، فكل حركة في العالم فهي ناشئة عن الملائكة ، كما قال تعالى : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) النازعات : ٥. (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) الذاريات : ٤. وهم الملائكة عند أهل الإيمان وأتباع الرسل ، وأما المكذبون بالرسل المنكرون للصانع فيقولون : هي النجوم. وقد دل الكتاب والسنة على أصناف الملائكة ، وأنها موكلة بأصناف المخلوقات ، وأنه سبحانه وكّل

__________________

(٣٤١) صحيح لإخراج «الصحيحين» له ، وعزاه في «الجامع الصغير» لأصحاب السنن الأربعة فقصر ، انظر «صحيح الجامع» (٦٣٤١).

(٣٤٢) صحيح لإخراج مسلم اياه (٢ / ١٩٨).

٢٩٩

بالجبال ملائكة ، ووكل بالسحاب والمطر ملائكة ، ووكل بالرحم ملائكة تدبر أمر النطفة حتى يتم خلقها ، ثم وكّل بالعبد ملائكة لحفظ (٣٤٣) ما يعمله وإحصائه وكتابته ، ووكّل بالموت ملائكة ، ووكل بالسؤال في القبر ملائكة ، ووكل بالأفلاك ملائكة يحركونها ، ووكّل بالشمس والقمر ملائكة ، ووكل بالنار وإيقادها وتعذيب أهلها وعمارتها ملائكة ، ووكل بالجنة وعمارتها وغرسها وعمل آلاتها ملائكة. فالملائكة أعظم جنود الله ومنهم : (الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) المرسلات : ١ و (النَّاشِراتِ نَشْراً) المرسلات : ٣ و (فَالْفارِقاتِ فَرْقاً) المرسلات : ٤ و (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) المرسلات : ٥ ومنهم : (النَّازِعاتِ غَرْقاً) النازعات : ١ و (النَّاشِطاتِ نَشْطاً) النازعات : ٢ و (السَّابِحاتِ سَبْحاً) النازعات : ٣ (فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) النازعات : ٤ ومنهم : (الصَّافَّاتِ صَفًّا. فَالزَّاجِراتِ زَجْراً. فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) الصافات : ١ ـ ٣. ومعنى جمع التأنيث في ذلك كله : الفرق والطوائف والجماعات ، التي مفردها : «فرقة» و «طائفة» و «جماعة» ، ومنهم ملائكة الرحمة ، وملائكة العذاب ، وملائكة قد وكلوا بحمل العرش ، وملائكة قد وكلوا بعمارة السموات بالصلاة والتسبيح والتقديس ، الى غير ذلك من أصناف الملائكة التي لا يحصيها إلا الله. ولفظ «الملك» يشعر بأنه رسول منفّذ لأمر مرسله ، فليس لهم من الأمر شيء ، بل الأمر كله للواحد القهار ، وهم ينفذون أمره : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) الأنبياء : ٢٧. [(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ)] البقرة : ٢٥٥. (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) الأنبياء : ٢٨. (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) النحل : ٥٠. فهم عباد مكرمون ، منهم الصافون ، ومنهم المسبّحون ، ليس منهم إلا له مقام معلوم ، ولا يتخطاه ، وهو على عمل قد أمر به ، لا يقصر عنه ولا يتعداه ، وأعلاهم الذين عنده (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) الأنبياء : ١٩ ـ ٢٠ ، ورؤساؤهم الأملاك الثلاثة : جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ، الموكلون بالحياة ، فجبرائيل موكّل بالوحي

__________________

(٣٤٣) في الاصل : تحفظ.

٣٠٠