شرح العقيدة الطّحاويّة

ابن أبي العزّ الحنفي

شرح العقيدة الطّحاويّة

المؤلف:

ابن أبي العزّ الحنفي


المحقق: الشيخ محمّد ناصر الدين الألباني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بغداد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٤

وعن معاوية ابن أبي سفيان رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملة ، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة» (٢٦٥). يعني : الأهواء ، كلها (٢٦٦) في النار إلا واحدة ، وهي الجماعة.

وأكبر المسائل التي وقع فيها الخلاف بين الأمة : مسألة القدر. وقد اتسع الكلام فيها غاية الاتساع.

وقوله : فمن سأل : لم فعل؟ فقد ردّ حكم الكتاب ، ومن ردّ حكم الكتاب كان من الكافرين.

اعلم أن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله ـ على التسليم وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع. ولهذا لم يحك الله سبحانه عن أمة نبيّ صدقت بنبيها وآمنت بما جاء به ، أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به ونهاها عنه وبلّغها عن ربها ، ولو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيها ، بل انقادت وسلمت وأذعنت ، وما عرفت من الحكمة عرفته ، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها وتسليمها على معرفته ، ولا جعلت ذلك من شأنها ، وكان رسولها أعظم عندها من أن تسأله عن ذلك ، كما في الإنجيل : «يا بني اسرائيل لا تقولوا : لم أمر ربنا؟ ولكن قولوا : بم أمر ربنا» ، ولهذا كان سلف هذه الأمة ، التي هي أكمل الأمم عقولا ومعارف وعلوما ـ لا تسأل نبيها : لم أمر الله بكذا؟ ولم نهى عن كذا؟ ولم قدّر كذا؟ ولم فعل كذا؟ لعلمهم أن ذلك مضادّ للإيمان والاستسلام ، وأن قدم الإسلام لا تثبت إلا على درجة التسليم. فأول مراتب تعظيم الأمر التصديق به ، ثم العزم الجازم على امتثاله ، ثم المسارعة إليه والمبادرة به ، والحذر عن القواطع والموانع ، ثم بذل الجهد والنصح في الإتيان به على أكمل الوجوه ، ثم فعله لكونه مأمورا ، بحيث لا يتوقف الإتيان به على معرفة حكمته ـ فإن ظهرت له

__________________

(٢٦٥) صحيح ، ومخرج في المصدر المذكور (٢٠٤).

(٢٦٦) في الاصل : كلّهم

.

٢٦١

فعله وإلا عطّله ، فإن هذا ينافي الانقياد ، ويقدح في الامتثال. قال القرطبي ناقلا عن ابن عبد البر : فمن سأل مستفهما راغبا في العلم ونفي الجهل عن نفسه ، باحثا عن معنى يجب الوقوف في الديانة عليه : فلا بأس به ، فشفاء العي السؤال. ومن سأل متعنتا غير متفقه ولا متعلم ، فهو الذي لا يحل قليل سؤاله ولا كثيره. قال ابن العربي (٢٦٧) : الذي ينبغي للعالم أن يشتغل به هو بسط الأدلة ، وإيضاح سبل النظرة ، وتحصيل مقدمات الاجتهاد ، وإعداد الآلة المعينة على الاستمداد. قال : فإذا عرضت نازلة ، أتيت من بابها ، ونشدت من مظانها ، والله يفتح وجه الصواب فيها. انتهى. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» (٢٦٨). رواه الترمذي وغيره. ولا شك في تكفير من رد حكم الكتاب ، ولكن من تأول حكم الكتاب لشبهة عرضت له ، بين له الصواب ليرجع إليه ، فالله سبحانه وتعالى لا يسأل عما يفعل ، لكمال حكمته ورحمته وعدله ، لا لمجرّد قهره وقدرته ، كما يقول جهم وأتباعه. وسيأتي لذلك زيادة بيان عند قول الشيخ : ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله.

قوله : (فهذا جملة ما يحتاج إليه من هو منوّر قلبه من أولياء الله تعالى ، وهي درجة الراسخين في العلم ، لأن العلم علمان : علم في الخلق موجود ، وعلم في الخلق مفقود ، فانكار العلم الموجود كفر ، وادعاء العلم المفقود كفر ، ولا يثبت الايمان الا بقبول العلم الموجود ، وترك طلب العلم المفقود).

ش : الإشارة بقوله : فهذا. الى ما تقدم ذكره ، مما يجب اعتقاده والعمل به ، مما جاءت به الشريعة. وقوله : وهي درجة الراسخين في العلم. أي علم ما جاء به الرسول جملة وتفصيلا ، نفيا وإثباتا. ويعني بالعلم المفقود : علم القدر الذي طواه الله عن أنامه ، ونهاهم عن مرامه. ويعني بالعلم الموجود : علم الشريعة ، أصولها وفروعها ، فمن أنكر شيئا مما جاء به الرسول كان من الكافرين ، ومن ادعى

__________________

(٢٦٧) هو الإمام محمد بن عبد الله المعافري الاشبيلي من حفاظ الحديث المتوفى ٥٤٣ ه‍. وهو غير محمد بن علي الحاتمي الصوفي صاحب «وحدة الوجود» المتوفى ٦٣٨ ه‍.

(٢٦٨) صحيح روي عن جمع من الصحابة ، خرجته في «الروض النضير» (٢٩٣ ، ٣٢١).

٢٦٢

علم الغيب كان من الكافرين. قال تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) الجنّ : ٢٦ ـ ٢٧ ، الآية. وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ، إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) لقمان : ٣٤. ولا يلزم من خفاء حكمة الله علينا عدمها ، ولا من جهلنا انتفاء حكمته (٢٦٩). ألا ترى أن خفاء حكمة الله علينا في خلق الحيّات والعقارب والفأر والحشرات ، التي لا يعلم منها إلا المضرة : لم ينف أن يكون الله تعالى خالقا لها ، ولا يلزم أن لا يكون فيها حكمة خفيت علينا ، لأن عدم العلم لا يكون علما بالمعدوم.

قوله : (ونؤمن باللوح والقلم ، وبجميع ما فيه قد رقم).

ش : قال تعالى : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) البروج : ٢١ ـ ٢٢. وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني بسنده إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله خلق لوحا محفوظا ، من درة بيضاء ، صفحاتها ياقوتة حمراء ، قلمه نور وكتابه نور ، لله فيه كل يوم ستون وثلاثمائة لحظة ، وعرضه ما بين السماء والأرض ، ينظر فيه كل يوم ستين وثلاثمائة نظرة ، يخلق ويرزق ويميت ويحيي ، ويعز ويذل ، ويفعل ما يشاؤه» (٢٧٠). اللوح المذكور هو الذي كتب الله مقادير الخلائق فيه ، والقلم

__________________

(٢٦٩) في الاصل : ولا انتفاؤها جهلنا حكمته.

(٢٧٠) ضعيف ، رواه الطبراني في «المعجم الكبير» (٣ / ١٦٥ / ١) ، وفيه زياد بن عبد الله وهو البكائي عن ليث وهو ابن أبي سليم وكلاهما ضعيف ، وقد رواه (٣ / ٨٨ / ٢) من طريق أخرى نحوه عن ابن عباس موقوفا عليه ، واسناده يحتمل التحسين ، فان رجاله كلهم ثقات غير بكير بن شهاب وهو الكوفي قال فيه أبو حاتم : «شيخ» ، وذكره ابن حبان في «الثقات» (٢ / ٣٢).

(تنبيه) : كان الحديث محرفا في مطبوعة أحمد شاكر ، وكان هو صححه من «مجمع الزوائد» الذي أورد الحديث عن ابن عباس موقوفا ، وصححناه نحن من حديثه المرفوع من «المعجم» وهو الصواب ، لأن المؤلف ساقه من الطريق المرفوعة ، فلا يصح تصحيح ما وقع فيه من التحريف من الطريق الموقوفة ، كما لا يخفى ، لاختلاف لفظيهما ، كما أشرت الى ذلك بقولي : «نحوه».

٢٦٣

المذكور هو الذي خلقه الله وكتب به في اللوح المذكور المقادير ، كما في «سنن أبي داود» ، عن عبادة بن الصامت ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «[إن] أول ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب ، قال : يا رب ، وما [ذا] اكتب؟ قال : اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة» (٢٧١).

__________________

(٢٧١) صحيح ، غير أنني متوقف في صحة الحرف الذي استدل به المؤلف وهو «فقال» ، فقد جاء في بعض الروايات بلفظ : «ثم قال» ، فأخرجه ابو داود (٤٧٠٠) من طريق أبي حفصة قال : قال عبادة بن الصامت فذكره بلفظ «فقال ...»

قلت : وأبو حفصة اسمه حبيش بن شريح الشامي لم يوثقه غير ابن حبان ، وفي «التقريب» : «مقبول» يعني عند المتابعة ، والا فلين الحديث كما نص عليه في المقدمة ، وقد توبع ، لكن الطريق الى المتابع لا يصح ، فقال الطيالسي : (٥٧٧) : حدثنا عبد الواحد بن سليم عن عطاء ابن أبي رباح ، حدثني الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبيه به .. ومن طريق الطيالسي رواه الترمذي (٢ / ٢٣٢) وقال : «حديث حسن غريب ، وفيه عن ابن عباس».

قلت : وعبد الواحد هذا ضعيف كما في «التقريب».

وقد خالفه أيوب بن زياد فقال : حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة حدثني أبي به ، لكنه قال : «ثم قال : اكتب ...»

وهذا أخرجه أحمد (٥ / ٣١٧) وسنده حسن ، رجاله كلهم ثقات معروفون ، غير زياد هذا ، وقد روى عنه جماعة ، ووثقه ابن حبان ، فهو حسن الحديث ان شاء الله تعالى ، لكن قد أخرجه الآجري في «كتاب الشريعة» (ص ١٧٧) من طريقه بلفظ «فقال له : اجر ..».

ورواه يزيد ابن أبي حبيب عن الوليد بن عبادة به بلفظ : «ثم قال له : اكتب».

ورجاله ثقات غير ابن لهيعة فإنه سيئ الحفظ.

ويشهد له حديث أبي هريرة بلفظ : «ان اوّل شيء خلق الله عزوجل القلم ، ثم خلق النون وهي الدواة ، ثم قال : اكتب ...» الحديث.

رواه الآجري والواحدي في تفسيره (٤ / ١٥٧ / ٢) وفيه الحسن بن يحيى الخشني مختلف فيه ، وفي «التقريب» «صدوق كثير الغلط».

وبالجملة ، فالروايات في هذا الحرف مختلفة ، ولذلك فانه لا يتم للمصنف الاستدلال بالرواية الأولى على تقدم خلق العرش على القلم ، حتى يثبت أرجحيتها على الأخرى : «ثم قال ..» ،

٢٦٤

واختلف العلماء : هل القلم أول المخلوقات ، أو العرش؟ على قولين ، ذكرهما الحافظ أبو العلاء الهمداني ، أصحهما : أن العرش قبل القلم ، لما ثبت في «الصحيح» من حديث عبد الله بن عمرو ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، [قال] : وعرشه على الماء» (٢٧٢). فهذا صريح أن التقدير وقع بعد خلق العرش ، والتقدير وقع عند أول خلق القلم ، بحديث عبادة هذا. ولا يخلو قوله : «أول ما خلق الله القلم» ، إلخ ـ إما أن يكون جملة أو جملتين. فإن كان جملة ، وهو الصحيح ، كان معناه : أنه عند أول خلقه قال له : «اكتب» ، [كما في اللفظ : «أول ما خلق الله القلم قال له : اكتب]» بنصب «أول» و «القلم» ، وإن كان جملتين ، وهو مروي برفع «أول» و «القلم» ، فيتعين حمله على أنه أول المخلوقات من هذا العالم ، فيتفق الحديثان ، إذ حديث عبد الله بن عمرو صريح في أن العرش سابق على التقدير ، والتقدير مقارن لخلق القلم. وفي اللفظ الآخر : «لما خلق الله القلم قال له : اكتب» ، فهذا القلم أول الأقلام وأفضلها وأجلها. وقد قال غير واحد من أهل التفسير : إنه القلم الذي أقسم الله به في قوله تعالى : (ن. وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) القلم : ١ ، ٢. والقلم الثاني : قلم الوحي : وهو الذي يكتب به وحي الله إلى أنبيائه ورسله ، وأصحاب هذا القلم هم : الحكّام على العالم. والأقلام كلها خدم لأقلامهم. وقد رفع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لله ليلة أسري به إلى مستوى يسمع فيه

__________________

واذا كان لا بد من الترجيح بينهما ، فالأخرى أرجح من الاولى لاتفاق اكثر الرواة عليها ، ولأن لها شاهدا عن أبي هريرة كما تقدم ، ولانها تتضمن زيادة في المعنى ، وعليه فلا تعارض بين الحديث على هذه الرواية وبين حديث عبد الله بن عمرو ، لأن حديثه صريح في أن الكتابة تأخرت عن خلق العرش ، والحديث على الرواية الراجحة صريح في أن القلم أول مخلوق ، ثم أمر بأن يكتب كل شيء يكون ، ومنه العرش ، فالارجح عندي أن القلم متقدم على العرش. والله أعلم.

وفي الحديث اشارة لطيفة الى الرد على من يقول من العلماء : بحوادث لا أول لها ، وانه ما من مخلوق الا وهو مسبوق بمخلوق وهكذا الى ما لا أول له! فتأمل. وراجع لهذا «سلسلة الأحاديث الصحيحة» (رقم ١٣٣).

(٢٧٢) صحيح وتقدم (برقم ٨٠).

٢٦٥

صريف الأقلام ، فهذه الأقلام هي التي تكتب ما يوحيه الله تبارك وتعالى من الأمور التي يدبرها ، أمر العالم العلوي والسفلي.

قوله : (فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه أنه كائن ، ليجعلوه غير كائن ـ لم يقدروا عليه. ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه ، ليجعلوه كائنا ـ لم يقدروا عليه. جفّ القلم بما هو كائن الى يوم القيامة).

ش : تقدم حديث جابر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : جاء سراقة بن مالك بن جعشم ، فقال : يا رسول الله ، بيّن لنا ديننا كأنا خلقنا الآن ، فيم العمل اليوم ، أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير؟ أم فيما استقبل؟ قال : «لا ، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير» (٢٧٣). وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : كنت خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما ، فقال : يا غلام ألا أعلمك كلمات : «احفظ الله بحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فسأل الله ، واذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام ، وجفت الصحف» (٢٧٤). رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح. وفي رواية غير الترمذي : «احفظ الله تجده أمامك ، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليخطئك ، واعلم أن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسرا».

وقد جاءت «الأقلام» في هذه الأحاديث وغيرها مجموعة ، فدل ذلك على أن للمقادير أقلاما غير القلم الأول ، الذي تقدم ذكره مع اللوح المحفوظ.

والذي دلت عليه السّنة أن الأقلام أربعة ، وهذا التقسيم غير التقسيم المقدّم ذكره :

__________________

(٢٧٣) صحيح وتقدم (برقم ٢٤٠).

(٢٧٤) صحيح لغيره وقد خرجته في «السنة» لابن أبي عاصم (٣١٦ ـ ٣١٨).

٢٦٦

القلم الأول : العام الشامل لجميع المخلوقات ، وهو الذي تقدم ذكره مع اللوح.

القلم الثاني : خبر (٢٧٥) خلق آدم ، وهو قلم عام أيضا ، لكن لبني آدم ، ورد في هذا آيات تدل على أن الله قدّر أعمال بني آدم وأرزاقهم وآجالهم وسعادتهم ، عقيب خلق أبيهم.

القلم الثالث : حين يرسل الملك إلى الجنين في بطن أمه ، فينفخ فيه الروح ، ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أو سعيد (٢٧٦). كما ورد ذلك في الأحاديث الصحيحة.

القلم الرابع : الموضوع على العبد عند بلوغه ، الذي بأيدي الكرام الكاتبين ، الذين يكتبون ما يفعله بنو آدم ، كما ورد ذلك في الكتاب والسنة.

واذا علم العبد أن كلّا من عند الله ، فالواجب إفراده سبحانه بالخشية والتقوى. قال تعالى : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) المائدة : ٤٤. (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) البقرة : ٤٠. (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) البقرة : ٤١. (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) النور : ٥٢. (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) المدثّر : ٥٦.

ونظائر هذا المعنى في القرآن كثيرة. ولا بد لكل عبد أن يتقي أشياء ، فإنه لا يعيش وحده ، ولو كان ملكا مطاعا فلا بد أن يتقي أشياء يراعي بها رعيته. فحينئذ فلا بد لكل إنسان أن يتقي ، فإن لم يتق الله اتقى المخلوق ، والخلق لا يتفق حبهم كلهم وبغضهم ، بل الذي يريده هذا يبغضه هذا ، فلا يمكن إرضاؤهم كلهم ، كما قال الشافعي رضي الله عنه : رضى الناس غاية لا تدرك ، فعليك بالأمر الذي يصلحك فالزمه ، ودع ما سواه فلا تعانه. فإرضاء الخلق لا مقدور ولا مأمور ، وإرضاء الخالق مقدور (٢٧٧) ومأمور. [و] أيضا فالمخلوق لا يغني عنه من الله شيئا ، فإذا اتقى العبد ربّه كفاه مئونة الناس. كما كتبت عائشة الى معاوية ، روي

__________________

(٢٧٥) في الأصل : حين.

(٢٧٦) متفق عليه من حديث ابن مسعود ، وقد مضى بتمامه (برقم ٢٤٢).

(٢٧٧) في الأصل : فمقدور.

٢٦٧

مرفوعا ، وروي موقوفا عليها : من أرضى الله بسخط الناس ، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ، ومن أرضى الناس بسخط الله ، عاد حامده من الناس [له] ذامّا (٢٧٨).

__________________

(٢٧٨) صحيح ، رواه الترمذي (٢ / ٦٧) من طريق عبد الوهاب بن الورد عن رجل من أهل المدينة قال : كتب معاوية الى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهما أن اكتبي لي كتابا وصيني فيه ، ولا تكثري علي ، فكتبت عائشة رضي الله عنها الى معاوية : سلام عليك أما بعد فاني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من التمس رضى الله بسخط الناس ، كفاه الله مئونة الناس ، ومن التمس رضى الناس بسخط الله ، وكله الله الى الناس ، والسلام عليك». ثم رواه من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة انها كتبت الى معاوية فذكر الحديث بمعناه ، ولم يرفعه.

قلت : والمرفوع اسناده ضعيف لجهالة الرجل الذي لم يسم.

واما الموقوف فسنده صحيح رجاله كلهم ثقات.

ورواه عثمان بن واقد عن أبيه عن محمد بن المنكدر عن عروة بن الزبير به مرفوعا بلفظ :

«من التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه ، وأرضى عنه الناس ، ومن التمس رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه ، واسخط عليه الناس».

رواه القضاعي في «مسند الشهاب» (ق ٤٢ / ٢) ومشرق بن عبد الله في «حديثه» (ق ٦١ / ٢) وابن عساكر (١٥ / ٢٧٨ / ١).

قلت : وهذا سند حسن ، رجاله كلهم ثقات معروفون ، وفي عثمان ابن واقد كلام لا ينزل حديثه عن رتبة الحسن ، وفي «التقريب» : «صدوق ربما وهم».

وروى بعضه ابن بشران في «الأمالي» (١٤٤ / ١٤٥) وابن الاعرابي في «معجمه» (٨٢ / ١) وابو القاسم المهراني في «الفوائد المنتخبة» (٣ / ٢٣ / ١) وابن شاذان الأزجي في «الفوائد المنتقاة» (١ / ١١٨ / ٢) و «القضاعي» (٤٢ / ٢) عن قطبة بن العلاء بن المنهال الغنوي حدثنا أبي عن هشام بن عروة به بلفظ :

«من طلب محامد الناس بمعصية الله عاد حامده ذاما».

وقال المهراني :

«حديث غريب ، لا أعلم رواه عن هشام غير العلاء بن المنهال».

وروي عنه بلفظ :

«من التمس محامد الناس بمعاصي الله تعالى عاد حامده من الناس ذاما له».

رواه الخرائطي في «مساوئ الاخلاق» (٢ / ٥ / ٢) والعقيلي في «الضعفاء» (٣٢٥) وابن عدي في «الكامل» (ق ٢٧٢ / ٢) وأبو الحسن ابن الصلت في حديث ابن عبد العزيز الهاشمي

٢٦٨

فمن أرضى الله كفاه مئونة الناس ورضي عنه ، ثم فيما بعد يرضون ، إذ العاقبة للتقوى ، ويحبه الله فيحبه الناس. كما في «الصحيحين» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «اذا أحب الله العبد نادى : يا جبرائيل ، إني أحب فلانا فأحبه ، فيحبه جبرائيل ، ثم ينادي جبرائيل في السماء : إن الله يحب فلانا فأحبوه ، فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول في الأرض» (٢٧٩) ، وقال في البغض مثل ذلك. فقد بين أنه لا بد لكل مخلوق من أن يتقي إما المخلوق ، واما الخالق. وتقوى المخلوق ضررها راجح على نفعها من وجوه كثيرة ، وتقوى الله هي التي يحصل بها (٢٨٠) سعادة الدنيا والآخرة ، فهو سبحانه أهل التقوى ، وهو أيضا أهل المغفرة ، فإنه هو الذي يغفر الذنوب ، لا يقدر مخلوق على أن يغفر الذنوب ويجير من عذابها غيره ، وهو الذي يجير ولا يجار عليه. قال بعض السلف : ما احتاج تقي قط ، لقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) الطلاق : ٢ ـ ٣ ، فقد ضمن الله للمتقين أن يجعل لهم مخرجا مما يضيق على الناس ، وأن يرزقهم من حيث لا يحتسبون ، فإذا لم يحصل ذلك دل على أن في التقوى خللا ، فليست نفر الله وليتب إليه ، ثم قال تعالى : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) الطلاق : ٣ ، أي فهو كافيه ، لا يحوجه الى غيره.

__________________

(ق ٧٦ / ١) وقال العقيلي : «العلاء بن المنهال لا يتابع عليه ، ولا يعرف الا به».

وقال ابن عدي : «وليس القوي».

قلت : وأما ابن حبان فذكره في «الثقات»!

ثم قال العقيلي :

«ولا يصح في الباب مسند ، وهو موقوف من قول عائشة».

قلت : الصواب عندي : أن الحديث صحيح موقوفا ومرفوعا ، أما الموقوف فظاهر الصحة ، وأما المرفوع ، فلأنه جاء من طريق حسنة عن عثمان بن واقد كما تقدم ، فإذا انضم إليه طريق الترمذي ارتقى الحديث ان شاء الله الى درجة الصحة.

(٢٧٩) متفق عليه عن ابي هريرة ، وهو مخرج في «الضعيفة» (٢٢٠٧) تحت حديث آخر عن انس مخالف لهذا في اللفظ.

(٢٨٠) في الأصل : لها.

٢٦٩

وقد ظن بعض الناس أن التوكل ينافي الاكتساب وتعاطي الأسباب ، وأن الأمور إذا كانت مقدرة فلا حاجة الى الأسباب! وهذا فاسد ، فإن الاكتساب : منه فرض ، ومنه مستحبّ ، ومنه مباح ، ومنه مكروه ، ومنه حرام ، كما قد عرف في موضعه. وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل المتوكلين ، يلبس لأمة الحرب ، ويمشي في الأسواق للاكتساب ، حتى قال الكافرون : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) الفرقان : ٧. ولهذا تجد كثيرا ممن يرى الاكتساب ينافي التوكل يرزقون على يد من يعطيهم ، إما صدقة ، واما هدية ، وقد يكون [ذلك] من مكّاس ، أو والي شرطة ، أو نحو ذلك ، وهذا مبسوط في موضعه ، لا يسعه هذا المختصر. وقد تقدمت الإشارة الى بعض الأقوال التي في [تفسير] قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ، وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) الرعد : ٣٩. وأما قوله تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) الرحمن : ٢٩ ـ فقال البغوي. قال مقاتل : نزلت في اليهود حين قالوا : إن الله لا يقضي يوم السبت! قال المفسرون : من شأنه أنه يحيي ويميت ، ويرزق ، ويعز قوما ويذل آخرين ، ويشفي مريضا ، ويفك عانيا ، ويفرج مكروبا ، ويجيب داعيا ، ويعطي سائلا ، ويغفر ذنبا ، الى ما لا يحصى من أفعاله وإحداثه في خلقه ما يشاء.

قوله : (وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه ، وما أصابه لم يكن ليخطئه).

ش : هذا بناء على ما تقدم من أن المقدور كائن لا محالة ، ولقد أحسن القائل حيث يقول :

ما قضى الله كائن لا محاله

والشقي الجهول من لام حاله

والقائل الآخر :

اقنع بما ترزق يا ذا الفتى

فليس ينسى ربّنا نمله

إن أقبل الدهر فقم قائما

وان تولى مدبرا نم له

قوله : (وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه ، فقدر ذلك تقديرا محكما مبرما ، ليس فيه ناقض ، ولا معقّب ولا مزيل ولا مغير ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه).

٢٧٠

ش : هذا بناء على ما تقدم من أن الله تعالى قد سبق علمه بالكائنات ، وأنه قدر مقاديرها قبل خلقها ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قدّر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، وعرشه على الماء» (٢٨١). فيعلم أن الله قد علم أن الأشياء تصير موجودة لأوقاتها ، على ما اقتضته حكمته البالغة [فكانت كما علم]. فإن حصول المخلوقات على ما فيها من غرائب الحكم لا يتصوّر إلا من عالم قد سبق علمه على ايجادها. قال تعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) الملك : ١٤. وأنكر غلاة المعتزلة أن الله كان عالما في الأزل ، وقالوا : إن الله تعالى لا يعلم أفعال العباد [حتى يفعلوا]! تعالى الله عما يقولون علوّا كبيرا. قال الإمام الشافعي رضي الله عنه : ناظروا القدرية بالعلم ، فإن أقرّوا به خصموا ، وإن أنكروا كفروا. فإن الله [تعالى] يعلم أن هذا مستطيع يفعل ما استطاعه فيثيبه ، وهذا مستطيع لا يفعل ما استطاعه فيعذبه ، فإنما يعذبه لأنه لا يفعل مع القدرة ، وقد علم الله ذلك منه ، ومن لا يستطيع لا يأمره ولا يعذبه على ما لم يستطعه.

وإذا قيل : فيلزم أن يكون العبد قادرا على تغيير علم الله ، لأن الله علم أنه لا يفعل ، فإذا قدر على الفعل قدر على تغيير علم الله؟ قيل : هذه مغالطة ، وذلك أن مجرد مقدرته على الفعل لا تستلزم تغيير العلم ، وإنما يظن من يظن تغيير العلم اذا وقع الفعل ، ولو وقع الفعل لكان المعلوم وقوعه لا عدم وقوعه ، فيمتنع أن يحصل وقوع الفعل مع علم الله بعدم وقوعه ، بل إن وقع كان الله قد علم أنه يقع ، وإن لم يقع كان الله قد علم أنه لا يقع. ونحن لا نعلم علم الله إلا بما يظهر ، وعلم الله مطابق للواقع ، فيمتنع أن يقع شيء يستلزم تغيير العلم ، بل أي شيء وقع كان هو المعلوم ، والعبد الذي لم يفعل لم يأت بما يغيّر العلم ، [بل هو قادر على فعل لم يقع ، ولو وقع لكان الله قد علم أنه يقع ، لا أنه لا يقع.

وإذا قيل : فمن عدم وقوعه يعلم الله أنه لا يقع ، فلو قدر العبد على وقوعه قدر على تغيير العلم]؟ قيل : ليس الأمر كذلك ، بل العبد يقدر على وقوعه وهو لم يوقعه ، ولو أوقعه لم يكن المعلوم إلا وقوعه ، [فمقدور العبد إذا وقع لم يكن المعلوم

__________________

(٢٨١) صحيح ، وتقدم بالحديث (رقم ٨٠).

٢٧١

إلا وقوعه. وهؤلاء فرضوا وقوعه مع العلم بعدم وقوعه! وهو فرض محال. وذلك بمنزلة من يقول : افرض وقوعه مع عدم وقوعه]! وهو جمع بين النقيضين.

فإن قيل : فإذا كان وقوعه مع علم الرب [عدم] وقوعه محالا لم يكن مقدورا؟ قيل : لفظ المحال مجمل ، وهذا ليس محالا لعدم استطاعته له ولا لعجزه عنه ولا لامتناعه في نفسه ، بل هو ممكن مقدور مستطاع ، ولكن اذا وقع كان الله عالما بأنه سيقع ، وإذا لم يقع كان عالما بأنه لا يقع ، فإذا فرض وقوعه مع انتفاء لازم الوقوع صار محالا من جهة إثبات الملزوم بدون لازمه. وكل الأشياء بهذا الاعتبار هي محال! مما يلزم هؤلاء : أن لا يبقى أحد قادرا على شيء ، لا الرب ، ولا الخلق ، فإن الرب إذا علم من نفسه أنه سيفعل كذا لا يلزم من علمه ذلك انتفاء قدرته على تركه ، وكذلك إذا علم من نفسه أنه لا يفعله لا يلزم منه انتفاء قدرته على فعله ، فكذلك ما قدّره من أفعال عباده. والله تعالى أعلم.

قوله : (وذلك من عقد (٢٨٢) الايمان وأصول المعرفة والاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته ، كما قال تعالى في كتابه : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) الفرقان : ٢. وقال تعالى : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) الاحزاب : ٣٨).

ش : الإشارة إلى ما تقدم من الإيمان بالقدر وسبق علمه بالكائنات قبل خلقها. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جواب السائل عن الإيمان : «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشرّه» (٢٨٣). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في آخر الحديث : «يا عمر أتدري من السائل؟ قال : الله ورسوله أعلم ، قال : فإنه جبرائيل ، أتاكم يعلمكم دينكم». رواه مسلم.

وقوله : والاقرار بتوحيد الله وربوبيته ، أي لا يتم التوحيد والاقرار بالربوبية إلا بالإيمان بصفاته تعالى ، فإن من زعم خالقا غير الله فقد أشرك ، فكيف بمن يزعم أن كل أحد يخلق فعله؟! ولهذا كانت القدرية مجوس هذه الأمة ، وأحاديثهم في «السنن». وروى أبو داود عن ابن عمر ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «القدرية

__________________

(٢٨٢) في الأصل : عقائد.

(٢٨٣) صحيح ، رواه مسلم عن عمر ، والبخاري ومسلم أيضا عن أبي هريرة نحوه.

٢٧٢

مجوس هذه الأمة ، إن مرضوا فلا تعودوهم ، وإن ماتوا فلا تشهدوهم» (٢٨٤). وروى أبو داود أيضا عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لكل أمة مجوس ، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون : لا قدر ، من مات منهم فلا تشهدوا جنازته ، ومن مرض منهم فلا تعودوهم ، وهم شيعة الدجال ، وحق على الله أن يلحقهم بالدجال» (٢٨٥). وروى أبو داود أيضا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم» (٢٨٦). وروى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صنفان من بني آدم ليس لهم في الإسلام نصيب : المرجئة والقدرية» (٢٨٧). لكن كل أحاديث القدرية المروعة ضعيفة. وإنما يصح الموقوف منها : فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : القدر نظام التوحيد ، فمن وحّد الله وكذّب بالقدر نقض تكذيبه توحيده» (٢٨٨). وهذا لأن الإيمان بالقدر يتضمن الايمان بعلم الله القديم وما أظهر من علمه الذي لا يحاط به وكتابة مقادير الخلائق. وقد ضل في هذا الموضع خلائق من المشركين والصابئين والفلاسفة وغيرهم ، ممن ينكر علمه بالجزئيات أو بغير ذلك ، فإن ذلك كله مما يدخل في التكذيب بالقدر. وأما قدرة الله على كل شيء فهو الذي يكذب به القدرية جملة ، حيث جعلوه لم يخلق أفعال العباد ، فأخرجوها عن قدرته وخلقه.

والقدر ، الذي لا ريب في دلالة الكتاب والسنة والإجماع عليه ، وأن الذي جحدوه هم القدرية المحضة بلا نزاع : هو ما قدّره الله من مقادير العباد. وعامة ما

__________________

(٢٨٤) اسناده ضعيف لكن له طرق يتقوى بها. ثم خرجته في «ظلال الجنة في تخريج السنة» برقم (٣٣٨ ـ ٣٤٢).

(٢٨٥) اسناده ضعيف. وقد خرجته في المصدر المذكور برقم (٣٢٩).

(٢٨٦) اسناده ضعيف ، وهو مخرج في «المشكاة» (١٠٨) و «الظلال» (٣٣٠).

(٢٨٧) اسناده ضعيف ولا يغتر بتصحيح صاحب «التاج الجامع للأصول» اياه. ثم خرجته في «تخريج السنة» (٣٤٤ ، ٣٤٥).

(٢٨٨) ضعيف موقوفا ومرفوعا كما سبق بيانه (رقم ٢٤٥).

٢٧٣

يوجد من كلام الصحابة والأئمة في ذم القدرية يعني به هؤلاء ، كقول ابن عمر رضي الله عنهما ، لما قيل له : يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف : أخبرهم أني منهم بريء وأنهم مني برآء.

والقدر ، الذي هو التقدير المطابق للعلم : يتضمن أصولا عظيمة : أحدها : أنه عالم بالأمور المقدّرة قبل كونها ، فيثبت علمه القديم ، وفي ذلك الرد على من ينكر علمه القديم. الثاني : أن التقدير يتضمن مقادير المخلوقات ، ومقاديرها هي صفاتها المعينة المختصة بها ، فإن الله قد جعل لكل شيء قدرا ، قال تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) الفرقان : ٢. فالخلق يتضمن التقدير ، تقدير الشيء في نفسه ، بأن يجعل له قدرا ، وتقديره قبل وجوده. فإذا كان قد كتب لكل مخلوق قدره الذي يخصه في كميته وكيفيته ، كان ذلك أبلغ في العلم بالأمور الجزئية المعيّنة ، خلافا لمن أنكر ذلك وقال : إنه يعلم الكليات دون الجزئيات! فالقدر يتضمن العلم القديم والعلم بالجزئيات. الثالث : أنه يتضمن أنه أخبر بذلك وأظهره قبل وجود المخلوقات إخبارا مفصلا ، فيقضي أنه يمكن أن يعلم العباد الأمور قبل وجودها علما مفصلا ، فيدل ذلك بطريق التنبيه على أن الخالق أولى بهذا العلم ، فإنه كان يعلم عباده بذلك فكيف لا يعلمه هو؟! الرابع : أنه يتضمن أنه مختار لما يفعله ، محدث له بمشيئته وإرادته ، ليس لازما لذاته. الخامس : أنه يدل على حدوث هذا المقدور ، وأنه كان بعد أن لم يكن ، فإنه يقدّره ثم يخلقه.

قوله : (فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيما ، وأحضر للنظر فيه قلبا سقيما ، لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سرّا كتيما ، وعاد بما قال فيه أفّاكا أثيما).

ش : [اعلم أن] القلب له حياة وموت ، ومرض وشفاء ، وذلك أعظم مما للبدن. قال تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) الانعام : ١٢٢. أي كان ميتا بالكفر فأحييناه بالإيمان. فالقلب الصحيح الحي إذا عرض عليه الباطل والقبائح نفر منها بطبعه وأبغضها ولم يلتفت إليها ، بخلاف القلب الميت ، فإنه لا يفرق بين الحسن والقبيح ، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : «هلك من لم يكن له قلب

٢٧٤

يعرف به المعروف والمنكر» (٢٨٩). وكذلك القلب المريض بالشهوة ، فإنه لضعفه يميل الى ما يعرض له من ذلك بحسب قوة المرض وضعفه.

ومرض القلب نوعان ، كما تقدم : مرض شهوة ، ومرض شبهة ، وأردؤها مرض الشبهة ، وأردأ الشّبه ما كان من أمر القدر. وقد يمرض القلب ويشتد مرضه ولا يشعر (٢٩٠) به صاحبه ، لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها ، بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته ، وعلامة ذلك أنه لا تؤلمه جراحات القبائح ، ولا يوجعه جهله بالحق وعقائده الباطلة. فإن القلب إذا كان فيه حياة تألم بورود القبيح عليه ، وتألم بأهله بالحقّ بحسب حياته.* ما لجرح بميت إيلام* وقد يشعر بمرضه ، ولكن يشتد عليه تحمل مرارة الدواء والصبر عليها ، فيؤثر بقاء ألمه على مشقة الدواء فإن دواءه في مخالفة الهوى ، وذلك أصعب شيء على النفس ، وليس له أنفع منه ، وتارة يوطن نفسه على الصبر ، ثم ينفسخ عزمه ولا يستمر معه ، لضعف علمه وبصيرته وصبره ، كمن دخل في طريق مخوف مفض الى غاية الأمن ، وهو يعلم أنه إن صبر عليه انقضى في الخوف وأعقبه الأمن ، فهو محتاج إلى قوة صبر وقوة يقين بما يصير إليه ، ومتى ضعف صبره ويقينه رجع من الطريق ولم يتحمل مشقتها ، ولا سيما إن عدم الرفيق واستوحش من الوحدة وجعل يقول : أين ذهب الناس فلي أسوة بهم! وهذه حال أكثر الخلق ، وهي التي أهلكتهم. فالصابر (٢٩١) الصادق لا يستوحش من قلة الرفيق ولا من فقده ، إذا استشعر قلبه مرافقة الرّعيل الأول ، (الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) النساء : ٦٩.

وما أحسن ما قال أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة ـ في كتاب «الحوادث والبدع» ـ : حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة ، فالمراد لزوم الحق واتباعه ، وإن كان المتمسك به قليلا والمخالف له كثيرا ، لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ، ولا ننظر إلى كثرة

__________________

(٢٨٩) لا أعرفه.

(٢٩٠) في الاصل : يعرف.

(٢٩١) في الاصل : فالبصير

.

٢٧٥

أهل الباطل بعدهم. وعن الحسن البصري رحمه‌الله أنه قال : السّنة ـ والذي لا إله إلا هو ـ بين الغالي والجافي ، فاصبروا عليها رحمكم الله ، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى ، وهم أقلّ الناس فيما بقي ، الذين [لم] يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم ، ولا مع أهل البدع في بدعتهم ، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم ، فكذلك فكونوا.

وعلامة مرض القلب عدوله عن الأغذية النافعة الموافقة ، إلى الأغذية الضارة ، وعدوله عن دوائه النافع ، إلى دوائه الضار. فههنا أربعة أشياء : غذاء نافع ، ودواء شاف ، وغذاء ضار ، ودواء مهلك. فالقلب الصحيح يؤثر النافع الشافي ، على الضارّ المؤذي ، والقلب المريض بضد ذلك. وأنفع الأغذية غذاء الإيمان ، وأنفع الأدوية دواء القرآن ، وكل منهما فيه الغذاء والدواء ، فمن طلب الشفاء في غير الكتاب والسنة فهو من أجهل الجاهلين وأضلّ الضالين ، فإن الله تعالى يقول : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) فصلت : ٤٤. وقال تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) الاسراء : ٨٢. و «من» في قوله : «من القرآن» لبيان الجنس ، لا للتبعيض. وقال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) يونس : ٥٧. فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية ، وأدواء الدنيا والآخرة ، وما كل أحد يؤهل للاستشفاء به. وإذا أحسن العليل التداوي به ، ووضعه على دائه بصدق وإيمان وقبول تامّ واعتقاد جازم واستيفاء شروطه : لم يقاوم الداء أبدا. وكيف تقاوم الأدواء كلام ربّ الأرض والسماء ، الذي لو نزل على الجبال لصدعها ، أو على الأرض لقطعها؟! فما من مرض [من أمراض] القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل الدلالة على دوائه وسببه والحمية منه ، لمن رزقه الله فهما في كتابه.

وقوله : لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سرّا كتيما. أي طلب بوهمه في البحث عن الغيب سرا مكتوما ، إذا القدر سر الله في خلقه ، فهو يروم ببحثه الاطلاع على الغيب ، وقد قال تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلَّا

٢٧٦

مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) الجن : ٢٦ ، ٢٧ ، الى آخر السورة. وقوله : وعاد بما قال فيه ، أي في القدر : أفّاكا كذابا أثيما ، أي مأثوما.

وقوله : (والعرش والكرسي حق).

ش : كما بين تعالى في كتابه ، قال تعالى : (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ. فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) البروج : ١٥ ـ ١٦. (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ) غافر : ١٥. (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) الاعراف : ٥٤ ، في غير ما آية من القرآن (٢٩٢) : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) طه : ٥. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) المؤمنون : ١١٦. (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) النمل : ٢٦. (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) غافر : ٧. (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) الحاقة : ١٧. (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) الزمر : ٧٥. وفي دعاء الكرب المروي في «الصحيح» : لا إله إلا الله العظيم الحليم ، لا إله الا هو رب العرش العظيم ، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم (٢٩٣). وروى الإمام أحمد في حديث الأوعال عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هل تدرون كم بين السماء والأرض؟ قال : قلنا الله ورسوله أعلم ، قال : بينهما مسيرة خمسمائة سنة ، ومن كل سماء الى سماء مسيرة خمسمائة سنة ، وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة ، وفوق السماء السابعة بحر [بين] أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض ، [ثم فوق ذلك ثمانية أو عال ، بين ركبهن وأظلافهنّ ـ كما بين السماء والأرض] ، ثم فوق ذلك العرش بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض ، والله فوق ذلك ، ليس يخفى عليه من أعمال بني آدم شيء» (٢٩٤). ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه. وروى أبو

__________________

(٢٩٢) في سورة الأعراف : ٥٣ ، ويونس : ٣ ، والرعد : ٢ ، والفرقان : ٥٩ ، والم السجدة : ٤ ، والحديد : ٤.

(٢٩٣) متفق عليه من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، وهو مخرج في «الضعيفة (٥٤٤٣) لزيادة منكرة وقعت في آخره عند الطبراني وغيره.

(٢٩٤) ضعيف الإسناد. وهو مخرج في «ظلال الجنة» (٥٧٧).

٢٧٧

داود وغيره ، بسنده الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من حديث الأطيط ، أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن عرشه على سماواته لهكذا ، وقال بأصابعه ، مثل القبة» (٢٩٥). الحديث ، وفي «صحيح» البخاري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس ، فإنه أوسط الجنة ، وفوقه عرش الرحمن» (٢٩٦). يروى «وفوقه» بالنصب على الظرفية ، وبالرفع على الابتداء ، أي : وسقفه.

وذهب طائفة من أهل الكلام إلى أن العرش فلك مستدير من جميع جوانبه محيط بالعالم من كل جهة ، وربما سموه : الفلك الأطلس ، والفلك التاسع! وهذا ليس بصحيح ، لأنه قد ثبت في الشرع أن له قوائم تحمله الملائكة ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فإن الناس يصعقون ، فأكون أول من يفيق ، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش ، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور» (٢٩٧). والعرش في اللغة : عبارة عن السرير الذي للملك ، كما قال تعالى عن بلقيس : (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) النمل : ٢٣. وليس هو فلكا ، ولا تفهم منه العرب ذلك ، والقرآن إنما نزل بلغة العرب ، فهو : سرير ذو قوائم تحمله الملائكة ، وهو كالقبة على العالم ، وهو سقف المخلوقات. فمن شعر أمية ابن أبي الصلت :

مجدوا الله فهو للمجد أهل

ربنا في السماء أمسى كبيرا

بالنساء العالي الذي بهر النا

س وسوى فوق السماء سريرا

شرجعا لا يناله بصر الع

ين ترى حوله الملائك صورا

الصّور هنا : جمع : أصور ، وهو : المائل العنق لنظره الى العلو. والشرجع : هو العالي المنيف. والسرير : هو العرش في اللغة. ومن شعر عبد الله ابن رواحة رضي الله عنه ، الذي عرّض به عن القراءة لامرأته حين اتهمته بجاريته :

__________________

(٢٩٥) ضعيف الاسناد ، ولا يصح في أطيط العرش حديث ، وهو مخرج في «الظلال» (٥٧٥ و ٥٧٦) وانظر فيه الحديث الذي قبله.

(٢٩٦) صحيح ، وأخرجه الإمام أحمد أيضا ، وهو مخرج في «الصحيحة» (٩٢١) و «الظلال» (٥٨١).

(٢٩٧) متفق عليه ، وتقدم نحوه الحديث (برقم ١٢٦).

٢٧٨

شهدت بأن وعد الله حق

[وأن] النار مثوى الكافرينا

وأن العرش فوق الماء طاف

وفوق العرش ربّ العالمينا

وتحمله ملائكة شداد

ملائكة الإله مسوّمينا

ذكره ابن عبد البر وغيره من الأئمة ، وروى أبو داود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أذن لي أن أحدّث عن ملك من ملائكة الله عزوجل من حملة العرش ، إن ما بين [شحمة] أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام» (٢٩٨). ورواه ابن أبي حاتم ولفظه : «تخفق الطير سبعمائة عام».

وأما من حرف كلام الله ، وجعل العرش عبارة عن الملك ، كيف يصنع بقوله تعالى : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) الحاقة : ١٧. وقوله : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) هود : ٧. أيقول : ويحمل ملكه يومئذ ثمانية؟! وكان ملكه على الماء! ويكون موسى عليه‌السلام آخذا من قوائم الملك؟! هل يقول هذا عاقل يدري ما يقول؟!

وأما الكرسي فقال تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) البقرة : ٢٥٥. وقد قيل : هو العرش. والصحيح أنه غيره ، نقل ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره. روى ابن أبي شيبة في كتاب «صفة العرش» ، والحاكم في «مستدركه» ، وقال : إنه على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، في قوله تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) البقرة : ٢٥٥ ، أنه قال : الكرسي موضع القدمين ، والعرش لا يقدّر قدره إلا الله تعالى (٢٩٩). وقد روي مرفوعا ، والصواب أنه موقوف على ابن عباس. وقال السدي : السموات والأرض في جوف الكرسي بين يدي العرش. وقال ابن جرير : قال أبو ذر رضي الله عنه : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت

__________________

(٢٩٨) صحيح ، رواه ابو داود وغيره. وقد خرجته في «الصحيحة» (١٥١).

(٢٩٩) صحيح موقوفا ، وأما المرفوع فضعيف ، كما بينته في تخريج كتاب «ما دل عليه القرآن مما يعضد الهيئة الجديدة القويمة البرهان «للآلوسي ، وقد طبعه المكتب الاسلامي. وراجع له «الظلال» (١٠٢ / ٣٦).

٢٧٩

بين ظهري فلاة من الأرض» (٣٠٠). وقيل : كرسيه علمه ، وينسب الى ابن عباس. والمحفوظ عنه ما رواه ابن أبي شيبة ، كما تقدم. ومن قال غير ذلك فليس له دليل إلا مجرد الظن. والظاهر أنه من جراب الكلام المذموم ، كما قيل في العرش.

وإنما هو ـ كما قال غير واحد من السلف : بين يدي العرش كالمرقاة إليه.

قوله : (وهو مستغن عن العرش وما دونه ، محيط بكل شيء وفوقه ، وقد أعجز عن الاحاطة خلقه).

ش : أما قوله : وهو مستغن عن العرش وما دونه. فقال تعالى : (إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) العنكبوت : ٦. وقال تعالى : (وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) فاطر : ١٥. وإنما قال الشيخ رحمه‌الله هذا الكلام هنا ، لأنه لما ذكر العرش والكرسي ، ذكر بعد ذلك غناه سبحانه عن العرش وما دون العرش ، ليبين أن خلقه العرش لاستوائه عليه ، ليس لحاجته إليه ، بل له في ذلك حكمة اقتضته ، وكون العالي فوق السافل ، لا يلزم أن يكون السافل حاويا للعالي ، محيطا به ، حاملا له ، [ولا] أن يكون الأعلى (٣٠١) مفتقرا إليه. فانظر الى السماء ، كيف هي فوق الأرض وليست مفتقرة إليها؟ فالرب تعالى أعظم شأنا وأجلّ من أن يلزم من علوّه ذلك ، بل لوازم علوه من خصائصه ، وهي حمله بقدرته للسافل ، وفقر السافل ، وغناه هو سبحانه عن السافل ، وإحاطته عزوجل به ، فهو فوق العرش مع حمله بقدرته للعرش وحملته ، وغناه عن العرش ، وفقر العرش إليه ، وإحاطته بالعرش ، وعدم إحاطة العرش به ، وحصره للعرش ، وعدم حصر العرش له. وهذه اللوازم منتفية عن المخلوق.

ونفاة العلوّ ، [أهل التعطيل] ، لو فصّلوا بهذا التفصيل ، لهدوا الى سواء السبيل ، وعلموا مطابقة العقل للتنزيل ، ولسلكوا خلف الدليل ، ولكن فارقوا الدليل ، فضلّوا عن سواء السبيل. والأمر في ذلك كما قال الإمام مالك رحمه‌الله ، لما سئل عن قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) الاعراف : ٥٣ وغيرها : كيف

__________________

(٣٠٠) صحيح كما بينته في المصدر السابق ، وهو مخرج في «الصحيحة» (١٠٩).

(٣٠١) في الأصل : للاعلاء.

٢٨٠