شرح العقيدة الطّحاويّة

ابن أبي العزّ الحنفي

شرح العقيدة الطّحاويّة

المؤلف:

ابن أبي العزّ الحنفي


المحقق: الشيخ محمّد ناصر الدين الألباني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بغداد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٤

مسح على ظهره ، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة ، وجعل بين عيني كل انسان منهم وبيضا من نور ، ثم عرضهم على آدم ، فقال : أي ربّ ، من هؤلاء؟ قال : هؤلاء ذريتك ، فرأى رجلا منهم ، فأعجبه وبيص ما بين عينيه ، فقال : أي رب ، من هذا؟ قال : هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له : داود ، قال : [ربّ] ، كم عمره؟ قال : ستون سنة ، قال : أي رب ، زده من عمري أربعين سنة ، فلما انقضى عمر آدم ، جاء ملك الموت ، قال : أو لم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال : أو لم تعطها ابنك داود؟ قال فجحد! فجحدت ذريته ، ونسي آدم ، فنسيت ذريته ، وخطئ آدم ، فخطئت ذريته» (٢٢١). ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح. ورواه الحاكم وقال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.

وروى الإمام أحمد أيضا عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة : أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء ، أكنت مفتديا به؟ قال : فيقول : نعم ، قال : فيقول : قد أردت منك أهون من ذلك ، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي شيئا» (٢٢٢). وأخرجاه في «الصحيحين» أيضا.

وذكر أحاديث أخرى أيضا كلها دالة على أن الله استخرج ذرية آدم من صلبه ، وميز بين أهل النار وأهل الجنة. ومن هنا قال من قال : إن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد (٢٢٣). وهذه الآثار لا تدل على سبق الأرواح الأجساد (٢٢٤) سبقا مستقرا ثابتا ، وغايتها أن تدل على أن باريها وفاطرها سبحانه صوّر النسمة وقدّر خلقها وأجلها

__________________

(٢٢١) صحيح ، وجدت له أربعة طرق ، بعضها عند ابن ابي عاصم في «السنة» (٢٠٤ ، ٢٠٥ بتحقيقي ـ طبع المكتب الاسلامي).

(٢٢٢) صحيح ، متفق عليه ، وهو في «المسند» (٣ / ١٢٧ ، ١٢٩) طبع المكتب الاسلامي.

(٢٢٣) قال عفيفي : انظر المسألة ١٨ من كتاب «الروح» لابن القيم ، و «تفسير ابن كثير» عند قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) الآيات من سورة الاعراف.

(٢٢٤) في الأصل : أو الاجساد

.

٢٤١

وعملها ، واستخرج تلك الصور من مادتها ، ثم أعادها إليها ، وقدّر خروج كل فرد من أفرادها في وقته المقدر له ، ولا يدل على أنها خلقت خلقا مستقرا واستمرت موجودة ناطقة كلها في موضع واحد ثم يرسل منها الى الأبدان جملة بعد جملة ، كما قاله ابن حزم. فهذا لا تدل الآثار عليه. نعم ، الربّ سبحانه يخلق منها جملة بعد جملة ، [كما قاله] على الوجه الذي سبق به التقدير (٢٢٥) أولا ، فيجيء الخلق الخارجي مطابقا للتقدير السابق ، كشأنه سبحانه في جمع مخلوقاته ، فإنه قدر لها أقدارا وأجالا ، وصفات وهيآت ، ثم أبرزها الى الوجود مطابقة لذلك التقدير السابق. فالآثار المروية في ذلك إنما تدل على القدر السابق ، وبعضها يدل على أنه سبحانه استخرج أمثالهم وصورهم وميز أهل السعادة من أهل الشقاوة. وأما الإشهاد عليهم هناك ، فانما هو في حديثين موقوفين على ابن عباس وعمر رضي الله عنهم. ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف : إن المراد بهذا الإشهاد انما هو فطرتهم (٢٢٦) على التوحيد ، كما تقدم [كلام المفسرين على هذه الآية الكريمة] في حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ومعنى قوله (شهدنا) : أي قالوا : بلى شهدنا أنك ربنا. وهذا قول ابن عباس وأبيّ بن كعب. وقال ابن عباس أيضا : أشهد بعضهم على بعض. وقيل : (شهدنا) من قول الملائكة ، [و] الوقف على قوله (بلى). وهذا قول مجاهد والضحاك وقال السدّي أيضا : هو خبر من الله تعالى عن نفسه وملائكته أنهم شهدوا على إقرار بني آدم. والأول أظهر ، وما عداه احتمال لا دليل عليه ، وانما يشهد ظاهر الآية للأول.

واعلم أن من المفسرين من لم يذكر سوى القول بأن الله استخرج ذرية آدم من ظهره وأشهدهم على أنفسهم ثم أعادهم ، كالثعلبي والبغوي وغيرهما. ومنهم من لم يذكره ، بل ذكر أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها الله فيهم ، كالزمخشري وغيره ، ومنهم من ذكر القولين ، كالواحدي والرازي والقرطبي وغيرهم ، لكن نسب الرازي القول الأول إلى أهل السنة ، والثاني الى المعتزلة. ولا ريب أن الآية لا تدل على القول الأول ، أعني أن الأخذ كان من ظهر آدم ، وإنما فيها أن الأخذ من ظهور بني آدم ، وإنما ذكر الأخذ من

__________________

(٢٢٥) في الأصل : التدبير.

(٢٢٦) في الأصل : فطرهم.

٢٤٢

ظهر آدم والإشهاد عليهم هناك في بعض الأحاديث ، وفي بعضها الأخذ والقضاء بأن بعضهم الى الجنة وبعضهم الى النار ، كما في حديث عمر رضي الله عنه ، وفي بعضها الأخذ وإراء آدم اياهم من غير قضاء ولا اشهاد ، كما في حديث أبي هريرة. والذي فيه الإشهاد ـ على الصفة التي قالها أهل القول الأول ـ موقوف على ابن عباس وعمر ، وتكلم فيه أهل الحديث ، ولم يخرجه أحد من أهل الصحيح غير الحاكم في «المستدرك على الصحيحين» والحاكم معروف التساهل رحمه‌الله.

والذي فيه القضاء بأن بعضهم الى الجنة وبعضهم الى النار دليل على مسألة القدر. وذلك شواهده كثيرة ، ولا نزاع فيه بين أهل السنة ، وإنما يخالف فيه القدرية المبطلون المبتدعون.

وأما الأول : فالنزاع فيه بين أهل السنة من السلف والخلف ، ولو لا ما التزمته من الاختصار لبسطت الأحاديث الواردة في ذلك ، وما قيل من الكلام عليها ، وما ذكر فيها من المعاني المعقولة ودلالة ألفاظ الآية الكريمة.

قال القرطبي : وهذه الآية مشكلة ، وقد تكلم العلماء في تأويلها ، فنذكر ما ذكروه من ذلك ، حسب ما وقفنا عليه. فقال قوم : معنى الآية : أن الله أخرج من ظهر بني آدم بعضهم من بعض ، ومعنى (أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) الاعراف : ١٧٢. دلهم على توحيده ، لأن كل بالغ يعلم ضرورة أن له ربّا واحدا [سبحانه وتعالى] قال : فقام ذلك مقام الإشهاد عليهم ، كما قال تعالى في السماوات والأرض : (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) ، ذهب إلى هذا القفّال وأطنب. وقيل : انه [سبحانه وتعالى] أخرج الأرواح قبل خلق الأجساد ، وأنه جعل فيها من المعرفة ما علمت به ما خاطبها. ثم ذكر القرطبي بعد ذلك الأحاديث الواردة في ذلك ، إلى آخر كلامه.

وأقوى ما يشهد لصحة القول الأول : حديث أنس المخرج في «الصحيحين»! الذي فيه : قد أردت منك ما هو أهون من ذلك ، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي (٢٢٧). ولكن قد روي

__________________

(٢٢٧) صحيح ، وهو الذي قبله ، والطريق الاخرى عند مسلم (٨ / ١٣٤ ، ١٣٥) وكذا البخاري (٤ / ٢٣٦) ولا منافاة بينها وبين التي قبلها ، لأن زيادة الثقة مقبولة ، كما لا يخفى ، وفي ـ

٢٤٣

من طريق أخرى : قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل ، فيرد الى النار. وليس فيه : في ظهر آدم. وليس في الرواية الأولى إخراجهم من ظهر آدم على الصفة التي ذكرها أصحاب القول الأول.

بل القول الأول متضمن (٢٢٨) لأمرين عجيبين : أحدهما : كون الناس تكلموا حينئذ وأقروا بالإيمان وأنه بهذا تقوم الحجة عليهم يوم القيامة. والثاني : أن الآية دلت على ذلك ، والآية لا تدل عليه لوجوه : أحدها : أنه قال : «من بني آدم» ، ولم يقل : من آدم. الثاني : أنه قال : «من ظهورهم» ، ولم يقل : من ظهره ، وهذا بدل بعض ، أو بدل اشتمال ، وهو أحسن. الثالث : أنه قال : «ذرياتهم» ولم يقل : ذريته. الرابع : أنه قال : «وأشهدهم على أنفسهم» ، ولا بد أن يكون الشاهد ذاكرا لما شهد به ، وهو إنما يذكر شهادته بعد خروجه الى هذه الدار ـ كما تأتي الاشارة الى ذلك ـ لا يذكر شهادة قبله. الخامس : أنه سبحانه أخبر أن حكمة هذا الإشهاد إقامة للحجة عليهم ، لئلا يقولوا يوم القيامة : (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) ، والحجة انما قامت عليهم بالرسل والفطرة التي فطروا عليها ، كما قال تعالى : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) النساء : ١٦٥. السادس : تذكيرهم بذلك ، لئلا يقولوا يوم القيامة : (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) الاعراف : ١٧٢ ، ومعلوم أنهم غافلون عن الإخراج لهم من صلب آدم كلهم وإشهادهم جميعا ذلك الوقت ، فهذا لا يذكره أحد منهم. السابع : قوله تعالى : (أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ) الاعراف : ١٧٣ ، فذكر حكمتين في هذا الإشهاد (٢٢٩) : لئلا يدعوا الغفلة ، أو يدّعوا التقليد ، فالغافل لا شعور له ، والمقلد متبع في تقليده لغيره. ولا تترتب هاتان الحكمتان إلا على ما قامت به الحجة من الرسل والفطرة. الثامن : قوله :

__________________

ـ هذا الحديث زيادات اخرى وقد جمعتها في الحديث وخرجته في «سلسلة الاحاديث الصحيحة» (رقم ١٧٢) ثم تبينت أن الطريق الأخرى ليست هي التي عند الشيخين ، وإنما هي عند أحمد والحاكم بإسناد صحيح على شرط مسلم باللفظ الذي ذكره المؤلف حرفا بحرف ، وهي في الصحيحة (٣٠٠٨).

(٢٢٨) في الأصل يتضمن.

(٢٢٩) في الاصل : الاخذ الاشهاد.

٢٤٤

(أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) الاعراف : ١٧٣ ، أي توعدهم (٢٣٠) بجحودهم وشركهم لما قالوا ذلك ، وهو سبحانه إنما يهلكهم بمخالفة رسله وتكذيبهم ، وقد أخبر سبحانه أنه لم يكن ليهلك القرى بظلم وأهلها غافلون ، وإنما يهلكهم بعد الإعذار والإنذار بإرسال الرسل. التاسع : أنه سبحانه أشهد كل واحد على نفسه أنه ربّه وخالقه ، واحتجّ عليه بهذا في غير موضع من كتابه ، كقوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) لقمان : ٢٥ ، فهذه هي الحجة التي أشهدهم (٢٣١) على أنفسهم بمضمونها ، وذكّرتهم بها رسله ، بقولهم : (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ابراهيم : ١٠. العاشر : أنه جعل هذا آية ، وهي الدلالة الواضحة البينة المستلزمة لمدلولها ، وهذا شأن آيات الرب تعالى ، فقال تعالى : (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) الاعراف : ١٧٤ ، وإنما ذلك بالفطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ، فما من مولود إلا يولد على الفطرة ، لا يولد مولود على غير هذه الفطرة ، هذا أمر مفروغ منه ، لا تبديل ولا تغيير. وقد تقدمت الإشارة إلى هذا. والله أعلم.

وقد تفطن لهذا ابن عطية وغيره ، ولكن هابوا مخالفة [ظاهر] تلك الأحاديث التي فيها التصريح بأن الله أخرجهم وأشهدهم على أنفسهم ثم أعادهم. وكذلك حكى القولين الشيخ أبو منصور الماتريدي في «شرح التأويلات» ورجح القول الثاني ، وتكلم عليه ومال إليه (٢٣٢).

ولا شك أن الإقرار بالربوبية أمر فطري ، والشرك حادث طارئ ، والأبناء تقلدوه (٢٣٣) عن الآباء ، فإذا احتجوا يوم القيامة بأن الآباء أشركوا ونحن جرينا على عادتهم كما يجري الناس على عادة آبائهم في المطاعم والملابس والمساكن ، يقال لهم : أنتم كنتم معترفين (٢٣٤) بالصانع ، مقرين بأن الله ربكم لا شريك له ، وقد

__________________

(٢٣٠) في الاصل : لو عذّبهم.

(٢٣١) في الاصل : اشهد.

(٢٣٢) قال الشيخ عفيفي : انظر المسألة ١٨ من «الروح» لابن القيم.

(٢٣٣) في الاصل : يقلّدون.

(٢٣٤) في الاصل : مقرون.

٢٤٥

شهدتم بذلك على أنفسكم ، فإن شهادة المرء على نفسه هي إقراره بالشيء ليس إلا ، قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) النساء : ١٣٥. وليس المراد أن يقول : أشهد على نفسي بكذا ، بل من أقرّ بشيء فقد شهد على نفسه به ، فلم عدلتم عن هذه المعرفة والإقرار الذي شهدتم به على أنفسكم الى الشرك؟ بل عدلتم عن المعلوم المتيقن الى ما لا يعلم له حقيقة ، تقليدا لمن لا حجة معه ، بخلاف اتباعهم في العادات الدنيوية ، فإن تلك لم يكن عندكم ما يعلم به فسادها ، وفيه مصلحة لكم ، بخلاف الشرك ، فإنه كان عندكم من المعرفة والشهادة على أنفسكم ما يبين فساده وعدو لكم فيه عن الصواب.

فإن الدين الذي يأخذه الصبي عن أبويه هو : دين التربية والعادة ، وهو لأجل مصلحة الدنيا ، فإن الطفل لا بدّ له من كافل ، وأحقّ الناس به أبواه ، ولهذا جاءت الشريعة بأن الطفل مع (٢٣٥) أبويه على دينهما في أحكام الدنيا الظاهرة ، وهذا الدين لا يعاقبه الله عليه ـ على الصحيح ـ حتى يبلغ ويعقل وتقوم عليه الحجة ، وحينئذ فعليه أن يتبع : دين العلم والعقل ، وهو الذي يعلم بعقله هو أنه دين صحيح ، فإن كان آباؤه مهتدين ، كيوسف الصديق مع آبائه ، قال : (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) يوسف : ٣٨ ، وقال ليعقوب بنوه : (نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) البقرة : ١٣٣ ، وان كان الآباء مخالفين الرسل ، كان عليه أن يتبع الرسل ، كما قال تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً ، وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) العنكبوت : ٨ ، الآية. (٢٣٦).

فمن اتبع دين آبائه بغير بصيرة وعلم ، بل يعدل عن الحق المعلوم إليه ، فهذا اتبع هواه ، كما قال تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ ، قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا ، أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) البقرة : ١٧٠.

وهذه حال كثير من الناس من الذين ولدوا على الإسلام ، يتبع أحدهم أباه فيما كان عليه من اعتقاد ومذهب ، وإن كان خطأ ليس هو فيه على بصيرة ، بل هو

__________________

(٢٣٥) في الاصل : على.

(٢٣٦) وتمامها : (.. إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

٢٤٦

من مسلمة الدار ، لا مسلمة الاختيار ، وهذا إذا قيل له في قبره : من ربك؟ قال هاه هاه ، لا أدري ، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته.

فليتأمل اللبيب هذا المحل ، ولينصح نفسه ، وليقم معه ، ولينظر من أي الفريقين هو؟ والله الموفق ، فإن توحيد الربوبية لا يحتاج الى دليل ، فإنه مركوز في الفطر وأقرب ما ينظر فيه المرء (٢٣٧) أمر نفسه لما كان نطفة ، وقد خرج من بين الصلب والترائب [والترائب] : عظام الصدر (٢٣٨) ، ثم صارت تلك النطفة في قرار مكين ، في ظلمات ثلاث ، وانقطع عنها تدبير الأبوين وسائر الخلائق ، ولو كانت موضوعة على لوح أو طبق ، واجتمع حكماء العالم على أن يصوّروا منها شيئا لم يقدروا. ومحال توهم عمل الطبائع فيها ، لأنها موات عاجزة ، ولا توصف بحياة ، ولن يتأتى من الموات فعل وتدبير ، فإذا تفكر في ذلك وانتقال هذه النطفة من حال الى حال ، علم بذلك توحيد الربوبية ، فانتقل منه الى توحيد الإلهية. فإنّه اذا علم بالعقل أن له ربّا أوجده ، كيف يليق به أن يعبد غيره؟ وكلما تفكّر وتدبر ازداد يقينا وتوحيدا ، والله الموفق ، لا رب غيره ، ولا إله سواه.

قوله : (وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة ، وعدد من يدخل النار ، جملة واحدة ، فلا يزداد في ذلك العدد ولا ينقص منه. وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه).

ش : قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) الانفال : ٧٥. (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) الأحزاب : ٤٠. فالله تعالى موصوف بأنه بكل شيء عليم أزلا وأبدا ، لم يتقدم علمه بالأشياء جهالة. وما كان ربك نسيّا. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، قال : كنا في جنازة في بقيع الغرقد ، فأتانا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقعد وقعدنا حوله ، ومعه مخصرة ، فنكس رأسه فجعل ينكت بمخصرته ثم قال : ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار ، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة ، قال : فقال رجل : يا رسول الله ، أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟

__________________

(٢٣٧) في الاصل : من.

(٢٣٨) في الاصل : الصدور.

٢٤٧

فقال : من كان من أهل السعادة فسيصير الى عمل أهل السعادة ، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير الى عمل أهل الشقاوة. ثم قال : اعملوا فكل ميسّر لما خلق له ، أما أهل السعادة فييسّرون لعمل أهل السعادة ، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة ، ثم قرأ : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى ، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) (٢٣٩) الليل : ٥ ـ ١٠ ، خرجاه في «الصحيحين».

قوله : (وكلّ ميسر لما خلق له ، والأعمال بالخواتيم ، والسعيد من سعد بقضاء الله ، والشقي من شقي بقضاء الله).

ش : تقدم حديث علي رضي الله عنه وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» ، وعن زهير عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، قال : جاء سراقة بن مالك بن جعشم ، فقال : يا رسول الله ، بيّن لنا ديننا كأنا خلقنا الآن ، فيم العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير ، أم فيما يستقبل؟ قال : لا ، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير ، قال : ففيم العمل؟ قال زهير : ثم تكلم أبو الزبير بشيء لم أفهمه ، فسألت : ما قال؟ فقال : اعملوا فكل ميسر» (٢٤٠). رواه مسلم. وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار ، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة» (٢٤١) ، خرجاه في «الصحيحين» وزاد البخاري : «وإنما الأعمال بالخواتيم». وفي «الصحيحين» أيضا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال : حدثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو الصادق المصدوق ـ : «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل إليه الملك فينفخ

__________________

(٢٣٩) متفق عليه ، وهو مخرج في «ظلال الجنة» (١٧١).

(٢٤٠) أخرجه مسلم في «القدر» (٨ / ٤٨) وأحمد أيضا (٣ / ٢٩٢ ـ ٢٩٣) وصححه ابن حبان (١٨٠٨ و ١٨٠٩).

(٢٤١) متفق عليه ، وهو مخرج في «الظلال» (٢١٦)

.

٢٤٨

فيه الروح ، ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ، فوالذي لا إله غيره ، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» (٢٤٢). والأحاديث في هذا الباب كثيرة ، وكذلك الآثار عن السلف. قال أبو عمر بن عبد البر في «التمهيد» : قد أكثر الناس من تخريج الآثار في هذا الباب ، وأكثر المتكلمون من الكلام فيه ، وأهل السنة مجتمعون على الإيمان بهذه الآثار واعتقادها وترك المجادلة فيها ، وبالله العصمة والتوفيق.

وقوله : (وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه ، لم يطلع على ذلك ملك مقرّب ، ولا نبي مرسل ، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان ، وسلّم الحرمان ، ودرجة الطغيان ، فالحذر كل الحذر من ذلك نظرا وفكرا ووسوسة ، فان الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه ، ونهاهم عن مرامه ، كما قال تعالى في كتابه : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) الأنبياء : ٢٣. فمن سأل : لم فعل؟ فقد ردّ حكم الكتاب ، ومن رد حكم الكتاب ، كان من الكافرين).

ش : أصل القدر سر الله في خلقه ، وهو كونه أوجد وأفنى ، وأفقر وأغنى ، وأمات وأحيا ، وأضل وهدى. قال علي كرم الله وجهه ورضي الله عنه : القدر سر الله فلا نكشفه. والنزاع بين الناس في مسألة القدر مشهور.

والذي عليه أهل السنة والجماعة : أن كل شيء بقضاء الله وقدره ، وأن الله تعالى خالق أفعال العباد. قال تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) القمر : ٤٩. وقال تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) الفرقان : ٢. وأن الله تعالى يريد الكفر من الكافر ويشاؤه ، ولا يرضاه ولا يحبه ، فيشاؤه كونا ، ولا يرضاه دينا.

وخالف في ذلك القدرية والمعتزلة ، وزعموا : أن الله شاء الإيمان من الكافر ، ولكنّ الكافر شاء الكفر ، فردوا الى هذا لئلا يقولوا : شاء الكفر من الكافر وعذّبه عليه! ولكن صاروا : كالمستجير من الرمضاء بالنار!. (٢٤٢١) فإنهم هربوا من شياء

__________________

(٢٤٢) متفق عليه ، وهو مخرج أيضا في «الظلال» (١٧٥ و ١٧٦).

(٢٤٢١) صدر البيت : المستجير بعمر عند كربته ..

٢٤٩

فوقعوا فيما هو شر منه! فإنه يلزم أن مشيئة الكافر غلبت مشيئة الله تعالى ، فإن الله قد شاء الإيمان منه ـ على قولهم ـ والكافر شاء الكفر ، فوقعت مشيئة الكافر دون مشيئة الله تعالى!! وهذا من أقبح الاعتقاد ، وهو قول لا دليل عليه ، بل هو مخالف للدليل.

روى اللالكائي ، من حديث بقية عن الأوزاعي ، حدثنا العلاء بن الحجاج ، عن محمد بن عبيد المكي : عن ابن عباس قال : قيل لابن عباس : إن رجلا قدم علينا يكذّب بالقدر ، فقال : دلوني عليه ، وهو يومئذ قد عمي ، فقالوا له : ما تصنع به؟ فقال : والذي نفسي بيده ، لئن استمكنت منه لأعضّنّ أنفه حتى أقطعه ، ولئن وقعت رقبته بيدي لأدقنّها ، فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «كأني بنساء بني فهر (٢٤٣) يطفن بالخرزج ، تصطفق ألياتهن مشركات ، هذا أول شرك في الإسلام ، والذي نفسي بيده لينتهين بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يقدر الخير ، كما أخرجوه من أن يقدّر الشر» (٢٤٤). قوله : وهذا أول شرك في الإسلام. الى آخره ، من كلام ابن عباس. وهذا يوافق قوله : «القدر نظام التوحيد ، فمن وحّد الله وكذّب بالقدر نقض تكذيبه توحيده» (٢٤٥). وروى عمرو بن الهيثم قال : خرجنا في سفينة ، وصحبنا فيها قدري ومجوسي ، فقال القدري للمجوسي : أسلم ، قال المجوسي : حتى يريد الله فقال القدري : إن الله يريد ولكن الشيطان لا يريد! قال المجوسي : أراد الله وأراد الشيطان ، فكان ما أراد الشيطان! هذا شيطان قوي!! وفي رواية أنه قال : فأنا مع أقواهما!!. ووقف أعرابي على حلقة فيها عمرو بن عبيد ، فقال : يا هؤلاء إن ناقتي سرقت فادعوا الله أن يردّها علي ،

__________________

(٢٤٣) بالفاء وهم بطن من قيس غيلان كما في «الانساب «للسمعاني.

(٢٤٤) ضعيف ، وعلته العلاء بن الحجاج ، فانه في عداد المجهولين ، ولم يوثقه أحد ، حتى ولا ابن حبان! بل ضعفه الأزدي ، كما قال الذهبي ، وتضعيفه وإن كان مغموزا فيه ، فهو معتبر هاهنا لأنه لم يخالف بذلك توثيق احد ، ولذلك فان تحسين الشيخ أحمد شاكر رحمه‌الله تعالى لمثل هذا اسناد من تساهله الذي عرف به عند أهل العلم بهذا الشأن. وقد اخرجه ابن ابي عاصم في «السنة» (٧٩).

(٢٤٥) ضعيف موقوفا ومرفوعا ، أما الموقوف فرواه اللالكائي في «شرح السنة» (١ / ١٤٢ / ١ ، ٦ / ٢٦٢ / ٢) وفيه من لم يسم ، وأما المرفوع ، فرواه بنحوه الطبراني في «الأوسط» وفيه هانئ بن المتوكل وهو ضعيف ، وهو مخرج في «الضعيفة» (٤٠٧٢).

٢٥٠

فقال عمرو بن عبيد : اللهم إنك لم ترد أن تسرق ناقته فسرقت ، فارددها عليه! فقال الأعرابي : لا حاجة لي في دعائك! قال : ولم؟ قال : أخاف ـ كما أراد أن لا تسرق فسرقت ـ أن يريد ردّها فلا ترد!!. وقال رجل لأبي عصام القسطلاني (٢٤٦). أرأيت إن منعني الهدى وأوردني الضلال ثم عذّبني ، أيكون منصفا؟ فقال له أبو عصام : إن يكن الهدى شيئا هو له فله أن يعطيه من يشاء ويمنعه من يشاء.

وأما الأدلة من الكتاب والسنة : فقد قال تعالى : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها ، وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) السجدة ١٣. وقال تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً ، أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) يونس : ٩٩. وقال تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) التكوير : ٢٩. (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ، إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) الدهر : ٣٠. وقال تعالى : (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ ، وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) الانعام : ٣٩. وقال تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ، وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) الانعام : ١٢٥.

ومنشأ الضلال : من التسوية بين : المشيئة ، والإرادة ، وبين : المحبة ، والرضى ، فسوّى الجبرية والقدرية ، ثم اختلفوا ، فقالت الجبرية : الكون كله بقضائه وقدره ، فيكون محبوبا مرضيا. وقالت القدرية النفاة : ليست المعاصي محبوبة لله ولا مرضية له ، فليست مقدّرة ولا مقضية ، فهي خارجة عن مشيئته وخلقه. وقد دل

__________________

(٢٤٦) دخل عبد الجبار الهمداني ـ أحد شيوخ المعتزلة ـ على الصاحب ابن عباد وعنده أبو إسحاق الأسفراييني ـ أحد ائمة السنة ـ فلما رأى الاستاذ قال : سبحان من تنزه عن الفحشاء ، فقال الاستاذ فورا : سبحان من لا يقع في ملكه الا ما يشاء ، فقال القاضي : أيشاء ربنا أن يعصى؟ قال الاستاذ : أيعصى ربنا قهرا؟ فقال القاضي : أرأيت ان منعني الهدى وقضى عليّ بالرديء أحسن الي أم أساء؟ فقال الاستاذ : ان منعك ما هو لك فقد اساء وان منعك ما هو له فهو يختص برحمته من يشاء. فبهت القاضي عبد الجبار. وفي «تاريخ الطبري» (٨ / ١٢٥) ان غيلان قال لميمون بن مهران بحضرة هشام بن عبد الملك الذي أتى به ليناقشه : أشاء الله أن يعصي؟ فقال له ميمون : أفعصي كارها.

٢٥١

على الفرق بين : المشيئة ، والمحبة. الكتاب والسنة والفطرة الصحيحة. أما نصوص المشيئة والإرادة من الكتاب ، فقد تقدم ذكر بعضها. وأما نصوص المحبة والرضى ، فقال تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) البقرة : ٢٠٥. (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) الزمر : ٧. وقال تعالى عقيب ما نهى عنه من الشرك والظلم والفواحش والكبر : : (كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) الاسراء : ٣٨. وفي «الصحيح» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله كره لكم ثلاثا : قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال» (٢٤٧). وفي «المسند» : إن الله يحب أن يؤخذ برخصه ، كما يكره أن تؤتى معصيته (٢٤٨). وكان من دعائه : «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك» (٢٤٩). فتأمل ذكر استعاذته بصفة الرضى من صفة السخط ، وبفعل المعافاة من فعل العقوبة. فالأول : الصفة ، والثاني : أثرها المرتب عليها ، ثم ربط ذلك كله بذاته سبحانه ، وأن ذلك كله راجع إليه وحده لا إلى غيره ، فما أعوذ منه واقع بمشيئتك وإرادتك ، وما أعوذ به من رضاك ومعافاتك هو بمشيئتك وإرادتك ، إن شئت أن ترضى عن عبدك وتعافيه ، وان شئت أن تغضب عليه وتعاقبه ، فإعاذتي مما أكره ومنعه أن يحل بي ، هي بمشيئتك أيضا ، فالمحبوب والمكروه كله بقضائك ومشيئتك ، فعياذي بك منك ، وعياذي بحولك وقوتك ورحمتك مما يكون بحولك وقوتك وعدلك وحكمتك ، فلا أستعيذ بغيرك من غيرك ولا أستعيذ بك من شيء صادر عن غير مشيئتك ، بل هو منك. فلا يعلم ما في هذه الكلمات من التوحيد والمعارف والعبودية ، إلا الراسخون في العلم بالله ومعرفته ومعرفة عبوديته.

فإن قيل : كيف يريد الله أمرا ولا يرضاه ولا يحبه؟ وكيف يشاؤه ويكوّنه؟ وكيف يجمع إرادته له وبغضه وكراهته؟ قيل : هذا السؤال هو الذي افترق الناس لأجله فرقا ، وتباينت طرقهم وأقوالهم. فاعلم أن المراد نوعان : مراد لنفسه ، ومراد لغيره.

__________________

(٢٤٧) صحيح متفق عليه ، البخاري في «الاستقراض» ومسلم في «الأقضية».

(٢٤٨) صحيح ، رواه احمد وغيره بسند صحيح. وهو مخرج في «إرواء الغليل» (٥٦٤).

(٢٤٩) صحيح ، وتقدم (برقم ٧٢) وهو مخرج في صحيح ابي داود (٨٢٣).

٢٥٢

فالمراد لنفسه ، مطلوب محبوب لذاته وما فيه من الخير ، فهو مراد إرادة الغايات والمقاصد. والمراد لغيره ، قد لا يكون مقصودا لما يريد ، ولا فيه مصلحة له بالنظر إلى ذاته ، وإن كان وسيلة الى مقصوده ومراده ، فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته ، مراد له من حيث قضاؤه وايصاله الى مراده. فيجتمع فيه الأمران : بغضه ، وارادته. ولا يتنافيان ، لاختلاف متعلقهما. وهذا كالدواء الكريه ، إذا علم المتناول له أن فيه شفاءه ، وقطع العضو المتأكل ، اذا علم أن في قطعه بقاء جسده ، وكقطع المسافة الشاقة ، اذا علم أنها توصل الى مراده ومحبوبه. بل العاقل يكتفي في إيثار هذا المكروه وإرادته بالظن الغالب ، وان خفيت عنه عاقبته ، فكيف ممن لا يخفى عليه خافية. فهو سبحانه يكره الشيء ، ولا ينافي ذلك إرادته لأجل غيره ، وكونه سببا الى أمر هو أحبّ إليه من فوقه. من ذلك : أنه خلق إبليس ، الذي هو مادة لفساد الأديان والأعمال والاعتقادات والإرادات ، وهو سبب لشقاوة كثير من العباد ، وعملهم بما يغضب الرب سبحانه تبارك وتعالى (٢٥٠) وهو الساعي في وقوع خلاف ما يحبه الله ويرضاه. ومع هذا فهو وسيلة إلى محابّ كثيرة للرب تعالى ترتبت على خلقه ، ووجودها أحبّ إليه من عدمها. منها : أنه يظهر للعباد قدرة الرب تعالى على خلق المتضادات المتقابلات ، فخلق هذا الذات ، التي هي أخبث الذوات وشرها ، وهي سبب كل شر ، في مقابلة ذات جبرائيل ، التي هي من أشرف الذوات وأطهرها وأزكاها ، وهي مادة كل خير ، فتبارك خالق هذا وهذا. كما ظهرت قدرته في خلق الليل والنهار ، والدواء والداء ، والحياة والموت ، والحسن والقبيح والخير والشر. وذلك أدل دليل على كمال قدرته وعزته وملكه وسلطانه ، فإنه خلق هذه المتضادات ، وقابلها بعضها ببعض ، وجعلها محالّ تصرفه وتدبيره. فخلو الوجود عن بعضها بالكلية تعطيل لحكمته وكمال تصرفه وتدبير ملكه. ومنها : ظهور آثار أسمائه القهرية ، مثل : القهار ، والمنتقم ، والعدل ، والضار ، والشديد العقاب ، والسريع العقاب ، وذي البطش الشديد ، والخافض ، والمذل. فإن هذه

__________________

(٢٥٠) قال عفيفي : انظر «مدارج السالكين» ١ / ٢٥٢ ـ ٢٥٥ طبع السنة المحمدية.

انظر كتاب «مشاهد الخلق في المعصية» للامام ابن القيم. تحقيق الاستاذ نذير عتمة. طبع المكتب الاسلامي.

٢٥٣

الأسماء والأفعال كمال ، لا بد من وجود متعلّقها ، ولو كان الجن والإنس على طبيعة الملائكة لم يظهر أثر هذه الأسماء. ومنها : ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه ومغفرته وستره وتجاوزه عن حقه وعتقه لمن شاء من عبيده ، فلو لا خلق ما يكرهه من الأسباب المفضية الى ظهور آثار هذه الأسماء لتعطلت هذه الحكم والفوائد. وقد أشار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى هذا بقوله : «لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم» (٢٥١). ومنها : ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة ، فإنه الحكيم الخبير ، الذي يضع الأشياء مواضعها ، وينزلها منازلها اللائقة بها ، فلا يضع الشيء في غير موضعه ، ولا ينزله غير منزلته التي يقتضيها كمال علمه وحكمته وخبرته. فهو أعلم حيث يجعل رسالاته ، وأعلم بمن يصلح لقبولها ويشكره على انتهائها إليه ، واعلم بمن لا يصلح لذلك. فلو قدر عدم الأسباب المكروهة ، لتعطلت حكم كثيرة ، ولفاتت مصالح عديدة ، ولو عطلت تلك الأسباب لما فيها من الشر ، لتعطل الخير الذي هو أعظم من الشر الذي في تلك الأسباب ، وهذا كالشمس والمطر والرياح (٢٥٢) ، التي فيها من المصالح ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل بها من الشر. ومنها : حصول العبودية المتنوعة التي لو لا خلق إبليس لما حصلت ، فإن عبودية الجهاد من أحبّ أنواع العبودية إليه سبحانه. ولو كان الناس كلهم مؤمنين لتعطلت هذه العبودية وتوابعها من الموالات لله سبحانه [وتعالى] والمعاداة فيه ، وعبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعبودية الصبر ومخالفة الهوى وإيثار محابّ الله تعالى ، وعبودية التوبة والاستغفار ، وعبودية الاستعاذة بالله أن يجيره من عدوه ويعصمه من كيده وأذاه. إلى غير ذلك من الحكم التي تعجز العقول عن إدراكها.

فإن قيل : فهل كان يمكن وجود تلك الحكم بدون هذه الأسباب؟

__________________

(٢٥١) اخرجه مسلم (٨ / ٩٤) عن ابي هريرة ، وابي أيوب نحوه ، وهما مخرجان في «الصحيحة» (٩٦٨ و ٩٦٩) ، وله فيه شواهد (٩٦٧ و ٩٧٠).

(٢٥٢) قال عفيفي : انظر هذا الاعتراض وتفصيل جوابه في ص ١٩٣ / ١٩٨ من «مدارج السالكين» و ٢٨٢ / ٢٨٣ من كتاب «الداء والدواء» والمسمى «الجواب الكافي» للإمام ابن القيم ، فإنه وفي هذا المقام حقه

.

٢٥٤

فهذا سؤال فاسد! وهو فرض وجود الملزوم بدون لازمه ، كفرض وجود الابن. بدون الأب. والحركة بدون المتحرك ، والتوبة بدون التائب.

فإن قيل : فإذا كانت هذه الأسباب مرادة لما تفضي إليه من الحكم ، فهل تكون مرضية محبوبة من هذا الوجه ، أم هي مسخوطة من جميع الوجوه؟ هذا السؤال يرد على وجهين : أحدهما : من جهة الرب تعالى ، وهل يكون محبّا لها من جهة إفضالها إلى محبوبه ، وان كان يبغضها لذاتها؟ والثاني : من جهة العبد ، وهو أنه هل يسوغ له الرضى بها من تلك الجهة أيضا؟ فهذا سؤال له شأن.

فاعلم أن الشر كله يرجع الى العدم ، أعني عدم الخير وأسبابه المفضية إليه ، وهو من هذه الجهة شر ، وأما من جهة وجوده المحض فلا شر فيه. مثاله : أن النفوس الشريرة وجودها خير من حيث هي موجودة ، وإنما حصل لها الشر بقطع مادة الخير عنها ، فإنها خلقت في الأصل متحركة ، فإن أعينت بالعلم وإلهام الخير تحركت به ، وإن تركت تحركت بطبعها الى خلافه. وحركتها من حيث هي حركة : خير ، وإنما تكون شرّا بالإضافة ، لا من حيث هي حركة ، والشر كله ظلم ، وهو وضع الشيء في غير محله ، فلو وضع في موضعه لم يكن شرا ، فعلم أن جهة الشر فيه نسبية إضافية. ولهذا كانت العقوبات الموضوعة في محالها خيرا في نفسها ، وإن كانت شرّا بالنسبة الى المحل الذي حلّت به ، لما أحدثت فيه من الألم الذي كانت الطبيعة قابلة لضده من اللذة مستعدة له ، فصار ذلك الألم شرّا بالنسبة إليها ، وهو خير بالنسبة الى الفاعل حيث وضعه في موضعه ، فإنه سبحانه لم يخلق شرّا محضا من جميع الوجوه والاعتبارات ، فإن حكمته تأبى ذلك. فلا يكون في جناب الحق تعالى أن يريد شيئا يكون فسادا من كل وجه ، لا مصلحة في خلفه بوجه ما ، هذا من أبين المحال ، فإنه سبحانه الخير كله بيديه ، والشر ليس إليه ، بل كل ما إليه فخير ، والشر إنما حصل لعدم هذه الإضافة والنسبة إليه ، فلو كان إليه لم يكن شرّا ، فتأمله. فانقطاع نسبته إليه هو (٢٥٣) الذي صيره شرّا.

فإن قيل : لم تنقطع نسبته إليه خلقا ومشيئة؟ قيل : هو من هذه الجهة ليس

__________________

(٢٥٣) في أصل مخطوطتنا : هذا. وله وجهه غير أن هذا اوضح.

٢٥٥

بشرّ ، فإن وجوده هو المنسوب إليه ، وهو من هذه الجهة ليس بشرّ ، والشر الذي فيه من عدم إمداده بالخير وأسبابه ، والعدم ليس بشيء ، حتى ينسب الى من بيده الخير.

فإن أردت مزيد إيضاح لذلك ، فاعلم أن أسباب الخير ثلاثة : الإيجاد ، والإعداد ، والامداد. فإيجاد هذا خير ، وهو الى الله ، وكذلك إعداده وإمداده ، فإن لم يحدث فيه اعداد ولا امداد حصل فيه الشر بسبب هذا العدم الذي ليس الى الفاعل ، وإنما إليه ضده.

فإن قيل : هلّا أمده إذا أوجده؟ قيل : ما اقتضت الحكمة إيجاده وإمداده ، وإنما اقتضت إيجاده وترك امداده. فإيجاده خير ، والشر وقع من عدم إمداده.

فإن قيل : فهلّا أمد الموجودات كلها؟ فهذا سؤال فاسد ، يظن مورده أن التسوية بين الموجودات أبلغ في الحكمة! وهذا عين الجهل! بل الحكمة في هذا التفاوت العظيم الذي بين الأشياء ، وليس في خلق كل نوع منها تفاوت ، فكل نوع منها ليس في خلقه تفاوت ، والتفاوت إنما وقع لأمور عدمية لم يتعلق بها الخلق ، وإلا فليس في الخلق من تفاوت. فإن اعتاص عليك هذا ، ولم تفهمه حق الفهم ، فراجع قول القائل :

إذا لم تستطع شيئا فدعه

وجاوزه إلى ما تستطيع (٢٥٣١)

فإن قيل : كيف يرضى لعبده شيئا ولا يعينه عليه؟ قيل : لأن إعانته عليه قد تستلزم فوات محبوب له أعظم من حصول تلك الطاعة (٢٥٤) التي رضيها له ، وقد يكون وقوع تلك الطاعة منه يتضمن مفسدة هي أكره إليه سبحانه من محبته لتلك الطاعة. وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله : (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ ..) التوبة : ٤٦ ـ الآيتين. فأخبر سبحانه أنه كره انبعاثهم إلى الغزو مع رسوله ، وهو طاعة ، فلما كرهه منهم ثبّطهم عنه ، ثم ذكر

__________________

(٢٥٤) قال عفيفي : ارجع في الاعتراضات والأجوبة التي ذكرها الشارح من هذا الموضع الى قول المصنف في ص ٢٠٦ وللتعمق والنظر في ذلك الى ٢ / ١٩٨ من «المدارج».

(٢٥٣١) هو منسوب الى الشاعر عمرو بن معد يكرب.

٢٥٦

سبحانه بعض المفاسد التي تترتب على خروجهم مع رسوله ، فقال : (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) التوبة : ٤٧ ، أي فسادا وشرّا ، (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ) التوبة : ٤٧ ، أي سعوا بينكم بالفساد والشرّ ، (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ ، وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) التوبة : ٤٧ ، أي قابلون منهم (٢٥٥) مستجيبون لهم ، فيتولد من سعي هؤلاء وقبول هؤلاء من الشرّ ما هو أعظم من مصلحة خروجهم ، فاقتضت الحكمة والرحمة أن أقعدهم عنه. فاجعل هذا المثال أصلا ، وقس عليه.

وأما الوجه الثاني ، وهو الذي من جهة العبد : فهو أيضا ممكن ، بل واقع. فإن العبد يسخط الفسوق والمعاصي ويكرهها ، من حيث هي فعل العبد ، واقعة بكسبه وإرادته واختياره ، ويرضى بعلم الله وكتابه ومشيئته وإرادته وأمره الكوني ، فيرضى بما منّ الله ويسخط ما هو منه. فهذا مسلك طائفة من أهل العرفان. وطائفة أخرى كرهتها مطلقا ، وقولهم يرجع إلى هذا القول ، لأن إطلاقهم الكراهة لا يريدون به شموله لعلم الرب وكتابه (٢٥٦) ومشيئته. وسر المسألة : أن الذي الى الرب منها غير مكروه ، والذي إلى العبد مكروه.

فإن قيل : ليس إلى العبد شيء منها. قيل : هذا هو الجبر الباطل الذي لا يمكن صاحبه التخلص من هذا المقام الضيق ، والقدري المنكر أقرب إلى التخلص منه من الجبري. وأهل السّنة ، المتوسطون بين القدرية والجبرية أسعد بالتخلص من الفريقين.

فإن قيل : كيف يتأتّى الندم والتوبة مع شهود الحكمة في التقدير ، ومع شهود القيّومية والمشيئة النافذة؟ قيل : هذا هو الذي أوقع من عميت بصيرته في شهود الأمر على غير ما هو عليه ، فرأى تلك الأفعال طاعات ، لموافقته فيها المشيئة والقدر ، وقال : إن عصيت أمره فقد أطعت إرادته! [و] في ذلك قيل :

أصبحت منفعلا لما يختاره

منّي ، ففعلي كله طاعات!

وهؤلاء أعمى الخلق بصائر ، وأجهلهم بالله وأحكامه الدينية والكونية ، فإن الطاعة

__________________

(٢٥٥) في الاصل : قائلون معهم ، وهو غير سديد.

(٢٥٦) في الاصل : وكتابته.

٢٥٧

هي موافقة الأمر الديني الشرعي ، لا موافقة القدر والمشيئة ، ولو كان موافقة القدر طاعة لكان إبليس من أعظم المطيعين له ، ولكان قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وقوم فرعون ـ كلهم مطيعين! وهذا غاية الجهل ، لكن إذا شهد العبد عجز نفسه ، ونفوذ الأقدار فيه ، وكمال فقره إلى ربه ، وعدم استغنائه عن عصمته وحفظه طرفة عين : كان بالله في هذه الحال لا بنفسه ، فوقوع الذنب منه لا يتأتى في هذه الحال البتة ، فإنّ عليه حصنا حصينا ، فبي يسمع ، وبي يبصر ، وبي يبطش ، وبي يمشي ، فلا يتصور منه الذنب في هذه الحال ، فإذا حجب عن هذا المشهد وبقي بنفسه ، استولى عليه حكم النفس ، فهنالك نصبت عليه الشباك والإشراك ، وأرسلت عليه الصيادون ، فاذا انقشع عنه ضباب ذلك الوجود الطبعي ، فهنالك يحضره الندم والتوبة والإنابة ، فإنه كان في المعصية محجوبا بنفسه عن ربه ، فلما فارق ذلك الوجود صار في وجود آخر ، فبقي بربه لا بنفسه.

فإن قيل : إذا كان الكفر بقضاء الله وقدره ، ونحن مأمورون أن نرضى بقضاء الله ، فكيف ننكره ونكرهه؟!

فالجواب : أن يقال أولا : نحن غير مأمورين بالرضى بكل ما يقضيه الله ويقدّره ، ولم يرد بذلك كتاب ولا سنة ، بل من المقضيّ ما يرضى به ، ومنه ما يسخط ويمقت ، كما لا يرضى به القاضي لأقضيته سبحانه ، بل من القضاء ما يسخط ، كما أن من الأعيان المقضية ما يغضب عليه ويمقت ويلعن ويذم.

ويقال ثانيا : هنا أمران : قضاء الله ، وهو فعل قائم بذات الله تعالى. ومفضي : وهو المفعول المنفصل عنه. فالقضاء كله خير وعدل وحكمة ، نرضى به كله. والمقضي قسمان : منه ما يرضى به ، ومنه ما لا يرضى به.

ويقال ثالثا : القضاء له وجهان : أحدهما : تعلقه بالرب تعالى ونسبته إليه ، فمن هذا الوجه يرضى به. والوجه الثاني : تعلقه بالعبد ونسبته إليه ، فمن هذا الوجه ينقسم إلى ما يرضى به والى ما لا يرضى به. مثال ذلك : قتل النفس ، له اعتباران : فمن حيث قدّره الله وقضاه وكتبه وشاءه وجعله أجلا للمقتول ونهاية لعمره ـ يرضى به ، ومن حيث صدر من القتل وباشره وكسبه وأقدم عليه باختياره وعصى الله بفعله ـ نسخطه ولا نرضى به.

٢٥٨

وقوله : والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان. آخره ـ التعمق : هو المبالغة في طلب الشيء. والمعنى : أن المبالغة في طلب القدر والغوص في الكلام فيه ذريعة الخذلان. الذريعة : الوسيلة. والذريعة والدرجة والسلم ـ متقاربة المعنى ، وكذلك الخذلان والحرمان والطغيان متقاربة المعنى أيضا. لكن الخذلان في مقابلة الظفر. والطغيان في مقابلة الاستقامة.

وقوله : فالحذر كل الحذر من ذلك نظرا وفكرا ووسوسة. عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : جاء ناس من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسألوه : إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به؟ قال : «وقد وجدتموه؟ قالوا : نعم ، قال : ذلك صريح الإيمان» (٢٥٧). رواه مسلم ، الإشارة بقوله : «ذلك صريح الإيمان» إلى تعاظم أن يتكلموا به. ولمسلم أيضا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الوسوسة؟ فقال : «تلك محض الإيمان» (٢٥٨). فهو بمعنى حديث أبي هريرة ، فإن وسوسة النفس أو مدافعة وسواسها بمنزلة المحادثة الكائنة بين اثنين ، فمدافعة الوسوسة الشيطانية واستعظامها صريح الإيمان ومحض الإيمان. هذه طريقة الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان. ثم خلف من بعدهم خلف ، سوّدوا الأوراق بتلك الوساوس ، التي هي شكوك وشبه ، بل سوّدوا الاوراق بتلك الوساوس ، التي هي شكوك وشبه ، بل وسوّدوا القلوب ، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق ، ولذلك أطنب الشيخ رحمه‌الله في ذم الخوض في الكلام في القدر والفحص عنه. وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أبغض الرجال الى الله الألد الخصم» (٢٥٩). وقال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا داود ابن أبي هند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم والناس يتكلمون في القدر ، قال (٢٦٠) : فكأنما تفقّأ في وجهه حبّ الرّمان من الغضب ،

__________________

(٢٥٧) اخرجه مسلم (١ / ٨٣) وكذا احمد (٢ / ٤٥٦).

(٢٥٨) رواه مسلم عنه ، وأحمد (٦ / ١٠٦) من حديث عائشة.

(٢٥٩) متفق عليه.

(٢٦٠) القائل هو المشاهد لغضب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ما سمعهم يخوضوا في بحث القدر ، لما في الخوض به من مخالفة لما شرعه الله سبحانه.

٢٥٩

قال : فقال لهم : «ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ بهذا هلك من كان قبلكم». قال : فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله لم أشهده ، بما غبطت نفسي بذلك المجلس ، أنّي لم أشهده (٢٦١). ورواه ابن ماجه أيضا. وقال تعالى : (فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) التوبة : ٦٩ ، الخلاق : النصيب ، قال تعالى : (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) البقرة : ٢٠٠ ، أي استمتعتم بنصيبكم كما استمتع الذين من قبلكم بنصيبهم وخضتم كالذي خاضوا ، أي كالخوض الذي خاضوه ، أو كالفوج أو الصنف أو الجيل الذي خاضوا. وجمع سبحانه بين الاستمتاع بالخلاق وبين الخوض ، لأن فساد الدين إما في العمل وإما في الاعتقاد ، فالأول من جهة الشهوات ، والثاني من جهة الشبهات. وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لتأخذن أمتي مأخذ القرون قلبها شبرا بشبر ، وذراعا بذراع» ، قالوا : فارس والروم؟ قال : «فمن الناس إلا أولئك» (٢٦٢). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليأتينّ على أمتي ما أتى على بني اسرائيل حذو النعل بالنعل ، حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية كان من أمتي من يصنع ذلك ، وإن بني اسرائيل تفرّقوا على اثنتين وسبعين ملة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة ، كلهم في النار إلا ملّة واحدة» قالوا : من هي يا رسول الله؟ قال : «ما أنا عليه وأصحابي» (٢٦٣). رواه الترمذي : وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تفرقت [اليهود] على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة ، والنصارى مثل ذلك ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» (٢٦٤). رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح.

__________________

(٢٦١) صحيح. رواه أحمد وغيره بسند جيد.

(٢٦٢) اخرجه البخاري في «الاعتصام» وكذا احمد (٢ / ٣٢٥ ، ٣٦٧)

(٢٦٣) ضعيف بهذا السياق ، وقد حسنه الترمذي في بعض النسخ ، وهو ممكن باعتبار شواهده ، ولذلك أوردته في «صحيح الجامع» (٥٢١٩) ، «الصحيحة» (١٣٤٨).

(٢٦٤) صحيح ، وهو مخرج في «الصحيحة» (٢٠٣).

٢٦٠