شرح العقيدة الطّحاويّة

ابن أبي العزّ الحنفي

شرح العقيدة الطّحاويّة

المؤلف:

ابن أبي العزّ الحنفي


المحقق: الشيخ محمّد ناصر الدين الألباني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بغداد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٤

فكذلك يجب أن لا يعدل عن الألفاظ الشرعية نفيا ولا إثباتا ، لئلا يثبت معنى فاسد ، أو ينفى معنى صحيح. وكل هذه الألفاظ المجملة عرضة للمحق والمبطل.

وأما لفظ الجهة ، فقد يراد به ما هو موجود ، وقد يراد به ما هو معدوم ، ومن المعلوم أنه لا موجود إلا الخالق والمخلوق ، فإذا أريد بالجهة أمر موجود غير الله تعالى كان مخلوقا ، والله تعالى لا يحصره شيء ، ولا يحيط به شيء من المخلوقات ، تعالى الله عن ذلك. وإن أريد بالجهة أمر عدمي ، وهو ما فوق العالم ، فليس هناك إلا الله وحده. فإذا قيل : إنه في جهة بهذا الاعتبار ، فهو صحيح ، ومعناه : أنه فوق العالم حيث انتهت المخلوقات فهو فوق الجميع ، عال عليه. ونفاة لفظ «الجهة» الذين يريدون بذلك نفي العلوّ ، يذكرون من أدلتهم : أن الجهات كلها مخلوقة ، وأنه كان قبل الجهات ، وأن من قال إنه في جهة يلزمه القول بقدم شيء من العالم ، وأنه كان مستغنيا عن الجهة ثم صار فيها. وهذه الألفاظ ونحوها إنما تدل على أنه ليس في شيء من المخلوقات ، سواء سمي جهة أو لم يسم ، وهذا حق. ولكن الجهة ليست أمرا وجوديّا ، بل أمر اعتباريّ ، ولا شك أن الجهات لا نهاية لها ، وما لا يوجد فيما لا نهاية له فليس بموجود.

وقول الشيخ رحمه‌الله : لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات. ـ هو حق ، باعتبار أنه لا يحيط به شيء من مخلوقاته ، بل هو محيط بكل شيء وفوقه. وهذا المعنى هو الذي أراده الشيخ رحمه‌الله ، لما يأتي في كلامه : أنه تعالى محيط بكل شيء وفوقه. فإذا جمع بين كلاميه ، وهو قوليه : لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات ، وقوله : محيط بكل شيء وفوقه ـ علم أن مراده أن الله تعالى لا يحويه شيء ، ولا يحيط به شيء ، كما يكون لغيره من المخلوقات ، وأنه تعالى هو المحيط بكل شيء ، العالي عن كل شيء.

لكن بقي في كلامه شيئان : أن إطلاق مثل هذا اللفظ ـ مع ما فيه من الإجمال والاحتمال ـ كان تركه أولى ، وإلا تسلط عليه ، وألزم بالتناقض في اثبات الإحاطة والفوقية ونفي جهة العلو ، وإن أجيب عنه بما تقدم ، من أنه انّما نفى أن يحويه شيء

٢٢١

من مخلوقاته ، فالاعتصام بالألفاظ الشرعية أولى. الثاني : أن قوله : كسائر المبتدعات ـ يفهم منه أنه ما من مبتدع إلا وهو محويّ!! وفي هذا نظر. فإنه إن أراد أنه محوي بأمر وجودي ، فممنوع ، فإن العالم ليس في عالم آخر ، وإلا لزم التسلسل. وان أراد أمرا عدميّا ، فليس كل مبتدع في العدم ، بل منها [ما هو داخل في غيره ، كالسماوات والأرض في الكرسي ، ونحو ذلك ، ومنها] ما هو منتهى المخلوقات ، كالعرش. فسطح العالم ليس في غيره من المخلوقات ، قطعا للتسلسل ، كما تقدم. ويمكن أن يجاب عن هذا الإشكال : بأن «سائر» بمعنى البقية ، لا بمعنى الجميع ، وهذا أصل معناها ، ومنه «السؤر» ، وهو ما يبقيه الشارب في الإناء. فيكون مراده غالب المخلوقات ، لا جميعها ، إذ «السائر» على الغالب أدل منه على الجميع ، فيكون المعنى : أن الله تعالى غير محويّ ـ كما يكون أكثر المخلوقات محويّا ، بل هو غير محوي ـ بشيء ، تعالى الله عن ذلك. ولا نظن بالشيخ رحمه‌الله أنه ممن يقول إن الله تعالى ليس داخل العالم ولا خارجه بنفي التعيينين ، كما ظنه بعض الشارحين ، بل مراده : أن الله تعالى منزه عن أن يحيط به شيء من مخلوقاته ، وأن يكون مفتقرا إلى شيء منها ، العرش أو غيره.

وفي ثبوت هذا الكلام عن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه نظر ، فإن أضداده قد شنعوا عليه بأشياء أهون منه ، فلو سمعوا مثل هذا الكلام لشاع عنهم تشنيعهم عليه به ، وقد نقل أبو مطيع البلخي عنه إثبات العلو ، كما سيأتي ذكره ان شاء الله تعالى. وظاهر هذا الكلام يقتضي نفيه ، ولم يرد بمثله كتاب ولا سنة ، فلذلك قلت : إن في ثبوته عن الإمام نظرا ، وان الأولى التوقف في إطلاقه ، فإن الكلام بمثله خطر ، بخلاف الكلام بما ورد عن الشارع ، كالاستواء والنزول ونحو ذلك. ومن ظن من الجهال أنه اذا «نزل الى سماء الدنيا» (١٨٥) كما أخبر الصادق صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يكون العرش فوقه ، ويكون محصورا بين طبقتين من العالم! فقوله مخالف لإجماع السلف ، مخالف للكتاب والسنة. وقال شيخ الإسلام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن

__________________

(١٨٥) متفق عليه بل هو متواتر ، وقد خرجته في «ارواء الغليل» (٤٥٠) وراجع ان شئت بعض الفاظه الصحيحة في «صحيح الجامع الصغير» رقم ١٩١٤).

٢٢٢

الصابوني : سمعت الأستاذ أبا منصور بن [حماد] ـ بعد روايته حديث النزول ـ يقول : سئل أبو حنيفة رضي الله عنه؟ فقال : ينزل بلا كيف. انتهى.

وإنما توقف من توقف في نفي ذلك ، لضعف علمه بمعاني الكتاب والسنة وأقوال السلف ، ولذلك ينكر بعضهم أن يكون فوق العرش ، بل يقول : لا مباين ، ولا مجانب (١٨٦) ، لا داخل العالم ولا خارجه ، فيصفونه بصفة العدم والممتنع ، ولا يصفونه (١٨٧) بما وصف به نفسه من العلوّ والاستواء على العرش ، ويقول بعضهم : بحلوله في كل موجود ، أو يقول : هو وجود كل موجود ونحو ذلك ، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوّا كبيرا.

وسيأتي لإثبات صفة العلو لله تعالى زيادة بيان ، عند الكلام على قول الشيخ رحمه‌الله : محيط بكل شيء وفوقه ، إن شاء الله تعالى.

قوله : (والمعراج حق ، وقد أسري بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعرج بشخصه في اليقظة ، الى السماء ، ثم الى حيث شاء الله من العلاء وأكرمه الله بما شاء ، وأوحى إليه ما أوحى ، ما كذب الفؤاد ما رأى. فصلى‌الله‌عليه‌وسلم في الآخرة والأولى.

ش : «المعراج» : مفعال ، من العروج (١٨٨) ، أي الآلة التي يعرج فيها ، أي يصعد ، وهو بمنزلة السّلم ، لكن لا يعلم كيف هو ، وحكمه كحكم غيره من المغيّبات ، نؤمن به ولا نشتغل بكيفيته.

وقوله : وقد أسري بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعرج بشخصه في اليقظة ـ اختلف الناس في الإسراء.

فقيل : كان الإسراء بروحه ولم يفقد جسده ، نقله ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية رضي الله عنهما ، ونقل عن الحسن البصري نحوه. لكن ينبغي أن يعرف الفرق بين أن يقال : كان الإسراء مناما ، وبين أن يقال : كان بروحه دون جسده ،

__________________

(١٨٦) في الاصل : محاير.

(١٨٧) في الاصل : يصفوا.

(١٨٨) في الاصل : المعروج.

٢٢٣

وبينهما فرق عظيم. فعائشة ومعاوية رضي الله عنهما لم يقولا : كان مناما ، وإنما قالا : أسري بروحه ولم يفقد جسده ، وفرق ما بين الأمرين : [أن] ما يراه النائم قد يكون أمثالا مضروبة للمعلوم في الصورة المحسوسة ، فيرى كأنه قد عرج الى السماء ، وذهب به إلى مكة ، وروحه لم تصعد ولم تذهب ، وانما ملك الرؤيا ضرب له المثال. فما أراد (١٨٩) أن الإسراء مناما ، وإنما أراد أن الروح ذاتها أسري بها ، ففارقت الجسد ثم عادت إليه ، ويجعلان هذا من خصائصه ، فإن غيره لا تنال ذات روحه الصعود الكامل الى السماء إلا بعد الموت.

وقيل : كان الإسراء مرتين ، مرة يقظة ، ومرة مناما. وأصحاب هذا القول كأنهم أرادوا الجمع بين حديث شريك وقوله : «ثم استيقظت» ، وبين سائر الروايات. وكذلك منهم من قال : بل كان مرتين ، مرة قبل الوحي ، ومرة بعده. ومنهم من قال : بل ثلاث مرات ، مرة قبل الوحي ، ومرتين بعده. وكلما اشتبه عليهم لفظ زادوا مرة ، للتوفيق!! وهذا يفعله ضعفاء أهل الحديث ، وإلا فالذي عليه أئمة النقل : أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة ، بعد البعثة ، قبل الهجرة بسنة ، وقيل : بسنة وشهرين ، ذكره ابن عبد البر. قال شمس الدين ابن القيم : يا عجبا لهؤلاء الذين زعموا أنه كان مرارا! كيف ساغ لهم أن يظنوا أنه في كل مرة يفرض عليهم الصلوات خمسين ، ثم يتردد بين ربه وبين موسى حتى تصير خمسا ، فيقول : «أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي» ، ثم يعيدها في المرة الثانية الى خمسين ، ثم يحطها الى خمس؟! وقد غلط الحفّاظ شريكا في ألفاظ من حديث الإسراء ، ومسلم أورد المسند منه ، ثم قال : «فقدّم وأخّر وزاد ونقص». ولم يسرد الحديث. وأجاد رحمه‌الله. انتهى كلام الشيخ شمس الدين رحمه‌الله.

وكان من حديث الإسراء : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسري بجسده في اليقظة ، على الصحيح ، من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، راكبا على البراق ، صحبة جبرائيل عليه‌السلام ، فنزل هناك ، صلى بالأنبياء إماما ، وربط البراق بحلقة باب المسجد. وقد قيل : انه نزل بيت لحم وصلى فيه ، ولا يصح عنه ذلك البتة. ثم عرج من بيت

__________________

(١٨٩) قلت : لم يصح ذلك عنهما ، فهو في غنية عن التأويل.

٢٢٤

المقدس تلك الليلة الى السماء الدنيا ، فاستفتح له جبرائيل ، ففتح لهما ، فرأى هناك آدم أبا البشر ، فسلم عليه ، فرحب به ورد عليه‌السلام ، وأقرّ بنبوته ، ثم عرج [به] الى السماء الثانية. فاستفتح له ، فرأى فيها يحيى ابن زكريا وعيسى ابن مريم ، فلقيهما ، فسلم عليهما ، فردّا عليه‌السلام ، ورحبا به ، وأقرّا بنبوته ثم عرج [به] الى السماء الثالثة ، فرأى فيها يوسف ، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته ، ثم عرج [به] الى السماء الرابعة ، فرأى فيها إدريس ، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته ، ثم عرج [به] الى السماء الخامسة ، فرأى فيها هارون بن عمران ، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته ، ثم عرج الى السماء السادسة ، فلقي فيها موسى فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته ، فلما جاوزه بكى موسى ، فقيل له : ما يبكيك؟ قال : أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي ، ثم عرج الى السماء السابعة ، فلقي فيها إبراهيم ، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته ، ثم رفع الى سدرة المنتهى ، ثم رفع له البيت المعمور ، ثم عرج به الى الجبّار ، جل جلاله وتقدست أسماؤه ، فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى الى عبده ما أوحى ، وفرض عليه خمسين صلاة ، فرجع حتى مر على موسى ، فقال : بم أمرت؟ قال : بخمسين صلاة ، فقال : [إن] أمتك لا تطيق ذلك ، ارجع الى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ، فالتفت الى جبرائيل كأنه يستشيره في ذلك ، فأشار : أن نعم ، إن شئت ، فعلا به جبرائيل حتى أتى به [الى] الجبار تبارك وتعالى وهو في مكانه ـ هذا لفظ البخاري في صحيحه وفي بعض الطرق ـ فوضع عنه عشرا ، ثم نزل حتى مر بموسى ، فأخبره ، فقال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله تبارك وتعالى ، حتى جعلها خمسا ، فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف ، فقال : قد استحييت من ربي ، ولكن أرضى وأسلّم ، فلما نفذ ، نادى مناد : قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي (١٩٠).

__________________

(١٩٠) حديث الاسراء صحيح ، وهو ملتقط من أحاديث متفرقة ، غير ان الدنو المذكور في هذا السياق هو من رواية شريك بن عبد الله ابن أبي نمر الذي غلطه الحفاظ في الفاظ من حديث الاسراء كما ذكر المؤلف آنفا ، ومن ذلك هذا اللفظ كما بينه الحافظ ابن كثير في تفسير (الاسراء). ومن قبله البيهقي في «الاسماء والصفات» (ص ٤٤٠ ـ ٤٤٢).

٢٢٥

وقد تقدم ذكر اختلاف الصحابة في رؤيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ربّه عزوجل بعين رأسه ، وأن الصحيح أنه رآه بقلبه ، ولم يره بعين رأسه ، وقوله : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) النجم : ١١ ، (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) النجم : ١٣ ، صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن هذا المرئيّ [جبرائيل] ، رآه مرتين على صورته التي خلق عليها.

وأما قوله تعالى في سورة النجم : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) ، فهو غير الدنوّ والتدلي المذكورين في قصة الإسراء ، فإن الذي في سورة النجم هو دنو جبرائيل وتدلّيه ، كما قالت عائشة وابن مسعود رضي الله عنهما ، فإنه قال : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى. وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى. ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) النجم : ٥ ـ ٨. فالضمائر كلها راجعة الى هذا المعلم الشديد القوى ، وأما الدنوّ والتدلي الذي في حديث الإسراء ، فذلك صريح في أنه دنوّ الرب تعالى وتدليه (١٩١). وأما الذي في سورة النجم : أنه رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ، فهذا هو جبرائيل ، رآه مرتين ، مرة في الأرض ، ومرة عند سدرة المنتهى.

ومما يدل على أن الإسراء بجسده في اليقظة ، قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) الاسراء : ١. والعبد عبارة عن مجموع الجسد والروح ، كما أن الإنسان اسم لمجموع الجسد والروح ، هذا هو المعروف عند الإطلاق ، وهو الصحيح. فيكون الإسراء بهذا المجموع ، ولا يمتنع ذلك عقلا ، ولو جاز استبعاد صعود البشر لجاز استبعاد نزول الملائكة ، وذلك يؤدي الى إنكار النبوة وهو كفر.

فإن قيل : فما الحكمة في الإسراء الى بيت المقدس أولا؟ فالجواب ـ والله أعلم ـ : أن ذلك كان إظهارا لصدق دعوى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم المعراج حين سألته قريش عن نعت بيت المقدس فنعته لهم وأخبرهم عن غيرهم التي مر عليها في طريقه ، ولو كان عروجه الى السماء من مكة لما حصل ذلك ، إذ لا يمكن اطلاعهم على ما في السماء لو أخبرهم عنه ، وقد اطلعوا على بيت المقدس ، فأخبرهم بنعته.

وفي حديث المعراج دليل على ثبوت صفة العلو لله تعالى من وجوه ، لمن تدبره ، وبالله التوفيق.

__________________

(١٩١) قلت لكن في ثبوته نظر كما تقدم آنفا

.

٢٢٦

قوله : (والحوض ـ الذي أكرمه الله تعالى به غياثا لأمته ـ حق).

ش : الأحاديث الواردة في ذكر الحوض تبلغ حد التواتر ، رواها من الصحابة بضع وثلاثون صحابيّا ، ولقد استقصى طرقها شيخنا الشيخ عماد الدين ابن كثير ، تغمده الله برحمته ، في آخر تاريخه الكبير ، المسمى ب «البداية والنهاية». فمنها : ما رواه البخاري رحمه‌الله تعالى ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن قدر حوضي كما بين أيلة الى صنعاء من اليمن ، وان فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء» (١٩٢). وعنه أيضا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليردنّ عليّ ناس من أصحابي ، حتى اذا عرفتهم اختلجوا دوني ، فأقول : أصحابي ، فيقول : لا تدري ما أحدثوا بعدك» (١٩٣). رواه مسلم. وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك ، قال : أغفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إغفاءة ، فرفع رأسه مبتسما ، إما قال لهم ، وإما قالوا له : لم ضحكت؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنه أنزلت عليّ آنفا سورة ، فقرأ : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) الكوثر : ١ ، حتى ختمها ، ثم قال لهم : هل تدرون ما الكوثر؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : هو نهر أعطانيه ربي عزوجل في الجنة ، عليه خير كثير ، ترد عليه أمتي يوم القيامة ، آنيته عدد الكواكب ، يختلج العبد منهم ، فأقول : يا رب إنه من أمتي ، فيقال لي : انك لا تدري ما أحدثوا بعدك» (١٩٤). ورواه مسلم ، ولفظه : «هو نهر وعدنيه ربي ، عليه خير كثير ، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة» ، والباقي مثله. ومعنى ذلك أنه يشخب فيه ميزابان من ذلك الكوثر إلى الحوض ، والحوض في العرصات

__________________

(١٩٢) صحيح ، وروى منه أحمد (٣ / ٢٢٥ ، ٢٣٨) بإسنادين صحيحين الشطر الثاني ، وزاد في أحدهما «اباريق الذهب والفضة» وهو رواية لمسلم ، ورواه البخاري أيضا (٤ / ٢٤٨) بتمامه.

(١٩٣) صحيح ، ورواه البخاري أيضا (٤ / ٢٤٨ ، ٢٤٩) فلو عزاه إليه المؤلف لكان أولى ، فإن اللفظ له ، ولفظ مسلم (٧ / ٧٠ ـ ٧١) بنحوه.

(١٩٤) صحيح ، وهو في «المسند» (٣ / ١٠٢) بسند صحيح على شرط مسلم ، وقد أخرجه في «صحيحه» كما ذكر المؤلف.

٢٢٧

قبل الصراط ، لأنه يختلج عنه ، ويمنع منه ، أقوام قد ارتدّوا على أعقابهم ، ومثل هؤلاء لا يجاوزون الصراط. وروى البخاري ومسلم عن جندب بن عبد الله البجلي ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «أنا فرطكم على الحوض» (١٩٥). والفرط : الذي يسبق إلى الماء. وروى البخاري عن سهل بن سعد الأنصاري ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني فرطكم على الحوض ، من مر عليّ شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبدا ، ليردن عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ، ثم يحال بيني وبينهم» (١٩٦). قال أبو حازم : فسمعني النعمان ابن أبي عياش فقال : هكذا سمعت من سهل؟ فقلت : نعم. فقال : أشهد على أبي سعيد الخدري ، سمعته وهو يزيد : فأقول : «إنهم من أمتي» فقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فقال : «سحقا سحقا لمن غيّر بعدي». سحقا : أي بعدا.

والذي يتلخص من الأحاديث الواردة في صفة الحوض : أنه حوض عظيم ، ومورد كريم ، يمد من شراب الجنة ، من نهر الكوثر ، الذي هو أشد بياضا من اللبن ، وأبرد من الثلج ، وأحلى من العسل ، وأطيب ريحا من المسك ، وهو في غاية الاتساع ، عرضه وطوله سواء ، كل زاوية من زواياه مسيرة شهر. وفي بعض الأحاديث : أنه كلما شرب منه وهو في زيادة واتساع ، وأنه ينبت في خلاله من المسك والرضراض من اللؤلؤ [و] قضبان الذهب ، ويثمر ألوان الجواهر ، فسبحان الخالق الذي لا يعجزه شيء. وقد ورد في أحاديث : أن لكل نبي حوضا ، وأن حوض نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعظمها وأحلاها وأكثرها واردا (١٩٧). جعلنا الله منهم بفضله وكرمه.

__________________

(١٩٥) صحيح ، متفق عليه ، بل هو حديث متواتر ، قد أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» عن تسعة من الصحابة (٧٣٦ ـ ٧٤٦) وزدت عليهم تسعة آخرين في «ظلال الجنة» (١ / ٣٤٧) ، مع تخريجها.

(١٩٦) صحيح ، رواه مسلم أيضا (٧ / ٦٦). وهو مخرج في «الظلال» (٧٤١ ـ ٧٤٣).

(١٩٧) حسن ، اخرجه الترمذي (٢ / ٦٧) طبع الهند ، وقال «غريب» ثم ذكر انه ورد مرسلا وقال : «وهو أصح» ورواه الطبراني أيضا كما في «المجمع» (١٠ / ٣٦٣) وقال : «وفيه مروان بن جعفر السمري وثقه ابن أبي حاتم ، وقال الازدي : يتكلمون فيه ، وبقية وحاله ثقات». ثم وجدت ما يقوي الحديث ، فخرجته في الصحيحة (١٥٨٩).

٢٢٨

قال العلامة أبو عبد الله القرطبي [رحمه‌الله] في «التذكرة» : واختلف في الميزان والحوض : أيهما يكون قبل الآخر؟ فقيل : الميزان ، وقيل : الحوض. قال أبو الحسن القابسي : والصحيح أن الحوض قبل. قال القرطبي : والمعنى يقتضيه ، فإن الناس يخرجون عطاشا من قبورهم ، كما تقدم فيقدّم قبل الميزان والصراط. قال أبو حامد الغزالي رحمه‌الله ، في كتاب «كشف علم الآخرة» : حكى بعض السلف من أهل التصنيف ، أن الحوض يورد بعد الصراط ، وهو غلط من قائله. قال القرطبي : هو كما قال ، ثم قال القرطبي : ولا يخطر ببالك أنه في هذه الأرض ، بل في الأرض المبدلة ، أرض بيضاء كالفضة ، لم يسفك فيها دم ، ولم يظلم على ظهرها أحد قط ، تظهر لنزول الجبار جل جلاله لفصل القضاء. انتهى. فقاتل الله المنكرين لوجود الحوض ، وأخلق بهم أن يحال بينهم وبين وروده يوم العطش الأكبر.

قوله : (والشفاعة التي ادخرها لهم حق ، كما روي في الأخبار).

ش : الشفاعة أنواع : منها ما هو متفق عليه بين الأمة ، ومنها ما خالف فيه المعتزلة ونحوهم من أهل البدع.

النوع الأول : الشفاعة الأولى ، وهي العظمى ، الخاصة بنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بين سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين ، صلوات الله عليهم أجمعين. في «الصحيحين» وغيرهما عن جماعة من الصحابة ، رضي الله عنهم أجمعين ، أحاديث الشفاعة.

منها : عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : «أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلحم ، فدفع إليه منها الذراع ، وكانت تعجبه ، فنهس منها نهسة ، ثم قال : أنا سيد الناس يوم القيامة ، وهل تدرون لم ذلك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد [واحد] ، فيقول بعض الناس لبعض : ألا ترون إلى ما أنتم فيه؟ ألا ترون الى ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم الى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض : أبوكم آدم ، فيأتون آدم ، فيقولون : يا آدم ، أنت أبو البشر ، فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى الى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم

٢٢٩

يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته ، نفسي نفسي ، [نفسي نفسي] ، اذهبوا الى غيري ، اذهبوا إلى نوح ، فيأتون نوحا ، فيقولون : يا نوح ، أنت أول الرسل الى أهل الأرض ، وسماك الله عبدا شكورا ، فاشفع لنا الى ربك ، ألا ترى الى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول نوح : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وانه كانت لي دعوة دعوت بها على قومي ، نفسي نفسي [نفسي نفسي] ، اذهبوا الى غيري ، اذهبوا الى إبراهيم ، فيأتون ابراهيم ، فيقولون : يا ابراهيم ، أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض ، ألا ترى [الى] ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول : ان ربي قد غصب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وذكر كذباته ، نفسي نفسي [نفسي نفسي] ، اذهبوا الى غيري ، اذهبوا الى موسى ، فيأتون موسى : فيقولون : يا موسى ، أنت رسول الله ، اصطفاك الله برسالاته وبتكليمه على الناس ، اشفع لنا الى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم موسى : ان ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإني قتلت نفسا لم أومر بقتلها ، نفسي نفسي [نفسي نفسي] ، اذهبوا الى غيري ، اذهبوا الى عيسى ، فيأتون عيسى ، فيقولون : يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها الى مريم وروح منه ، قال : هكذا هو ، وكلّمت الناس في المهد ، فاشفع لنا الى ربك ، ألا ترى [الى] ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم عيسى : ان ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده [مثله ، ولم يذكر له ذنبا] ، اذهبوا الى غيري ، اذهبوا الى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيأتوني ، فيقولون : يا محمد ، أنت رسول الله ، وخاتم الأنبياء ، غفر الله لك ذنبك ، ما تقدم منه وما تأخر ، فاشفع لنا الى ربك ، ألا ترى الى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فأقوم ، فآتي تحت العرش ، فأقع ساجدا لربي عزوجل ، ثم يفتح الله عليّ ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي ، فيقال : يا محمد ، ارفع رأسك ، سل تعطه ، اشفع تشفّع ، فأقول : [يا] رب امتي أمتي ، [يا رب أمتي امتي ، يا رب أمتي أمتي] ، فيقول : أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة ، وهم شركاء الناس فيما سواه من

٢٣٠

الأبواب ، ثم قال : والذي نفسي بيده ، لما بين مصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر ، أو كما بين مكة وبصرى» (١٩٨).

أخرجاه في «الصحيحين» بمعناه ، واللفظ للإمام أحمد.

والعجب كل العجب ، من إيراد الأئمة لهذا الحديث من أكثر طرقه ، لا يذكرون أمر الشفاعة الأولى ، في مأتى الرب سبحانه وتعالى لفصل القضاء ، كما ورد هذا في حديث الصّور (١٩٩) ، فإنه المقصود في هذا المقام ، ومقتضى سياق أول الحديث. فإن الناس إنما يستشفعون الى آدم فمن بعده من الأنبياء في أن يفصل بين الناس ويستريحوا من مقامهم ، كما دلت عليه سياقاته من سائر طرقه ، فإذا وصلوا الى الجزاء إنما يذكرون الشفاعة في عصاة الأمة وإخراجهم من النار. وكان مقصود السلف ـ في الاقتصار على هذا المقدار من الحديث ـ هو الرد على الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة ، الذين أنكروا خروج أحد من النار بعد دخولها ، فيذكرون هذا القدر من الحديث الذي فيه النص الصريح في الرد عليهم ، فيما ذهبوا إليه من البدعة المخالفة للأحاديث. وقد جاء التصريح بذلك في حديث الصور ، ولو لا خوف الإطالة لسقته بطوله ، لكن من مضمونه : أنهم يأتون آدم ثم نوحا ، ثم إبراهيم ، ثم موسى ، ثم عيسى ، ثم يأتون رسول الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيذهب فيسجد تحت العرش في مكان يقال له : الفحص ، فيقول الله : ما شأنك؟ وهو أعلم ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأقول : يا رب ، وعدتني الشفاعة ، فشفّعني ، في خلقك ، فاقض بينهم ، فيقول سبحانه وتعالى : شفّعتك ، أنا آتيكم فأقضي بينهم ، قال : فأرجع فأقف مع الناس ، ثم ذكر انشقاق السموات ، وتنزل الملائكة في الغمام ، ثم يجيء الرب سبحانه وتعالى لفصل القضاء ، والكروبيون والملائكة المقربون يسبحون بأنواع التسبيح ، قال : فيضع الله كرسيه حيث شاء من أرضه ، ثم يقول : إني أنصتّ لكم منذ خلقتكم الى يومكم هذا أسمع أقوالكم ، وأرى أعمالكم ، فأنصتوا

__________________

(١٩٨) صحيح ، وهو في «المسند» (٢ / ٤٣٥) بسند «الصحيحين» ، وهو مخرج في «ظلال الجنة» في تخريج السّنة (٨١١).

(١٩٩) يأتي ذكر خلاصته بعد سطور.

٢٣١

إليّ ، فإنما هي أعمالكم وصحفكم تقرأ عليكم ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه ، الى أن قال : فإذا أفضى أهل الجنة الى الجنة ، قالوا : من يشفع لنا الى ربنا فندخل الجنة؟ فيقولون : من أحق بذلك من أبيكم ، إنه خلقه الله بيده ، ونفخ فيه روحه ، [وكلمه] قبلا ، فيأتون آدم ، فيطلبون (٢٠٠) ذلك إليه ، وذكر نوحا ، ثم ابراهيم ، ثم موسى ، ثم عيسى ، ثم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم .. الى أن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فآتي الجنة ، فآخذ بحلقة الباب ، ثم استفتح ، فيفتح لي ، فأحيّا ويرحب بي ، فإذا دخلت الجنة فنظرت الى ربي عزوجل خررت له ساجدا ، فيأذن لي من حمده وتمجيده بشيء ما أذن به لأحد من خلقه ، ثم يقول الله لي : ارفع يا محمد ، واشفع تشفّع ، وسل تعطه ، فاذا رفعت رأسي ، قال الله ـ وهو أعلم ـ : ما شأنك؟ فأقول : يا رب ، وعدتني الشفاعة ، فشفعني في أهل الجنة يدخلون الجنة ، فيقول الله عزوجل : قد شفعتك ، وأذنت لهم في دخول الجنة» (٢٠١) ... الحديث. رواه الأئمة : ابن جرير في تفسيره ، والطبراني ، وأبو يعلى الموصلي ، والبيهقي وغيرهم.

النوع الثاني والثالث من الشفاعة : شفاعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أقوام قد تساوت حسناتهم وسيئاتهم ، فيشفع فيهم ليدخلوا الجنة ، وفي أقوام آخرين قد أمر بهم الى النار ، أن لا يدخلونها.

النوع الرابع : شفاعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رفع درجات من يدخل الجنة فيها فوق ما كان يقتضيه ثواب أعمالهم. وقد وافقت المعتزلة هذه الشفاعة خاصة ، وخالفوا فيما عداها من المقامات ، مع تواتر الأحاديث فيها.

النوع الخامس : الشفاعة في أقوام أن يدخلوا (٢٠٢) الجنة بغير حساب ، ويحسن

__________________

(٢٠٠) في الاصل : فيطلب.

(٢٠١) ضعيف ، أخرجه ابن جرير في تفسيره كما ذكر الشارح. (٢ / ٣٣٠ ـ ٣٣١ ، ٢٤ / ٣٠ ، ١٨٦ ـ ١٨٧) من حديث ابي هريرة مرفوعا ، واسناده ضعيف لانه من طريق اسماعيل ابن رافع المدني عن يزيد ابن أبي زياد وكلاهما ضعيف بسندهما عن رجل من الأنصار ، وهو مجهول لم يسم ، وقول الحافظ ابن كثير في تفسيره (١ / ٢٤٨ ، ٤ / ٦٣) : انه حديث مشهور .. الخ ، لا يستلزم صحته كما لا يخفى على أهل العلم.

(٢٠٢) في الاصل : يدخلون بدل يدخلوا.

٢٣٢

أن يستشهد لهذا النوع بحديث عكاشة بن محصن ، حين دعا له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجعله من السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب (٢٠٣) ، والحديث مخرّج في الصحيحين.

النوع السادس : الشفاعة في تخفيف العذاب عمن يستحقه ، كشفاعته في عمه أبي طالب أن يخفف عنه عذابه (٢٠٤). ثم قال القرطبي في «التذكرة» بعد ذكر هذا النوع : «فإن قيل : فقد قال تعالى : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) المدثّر : ٤٨. قيل له : لا تنفعه في الخروج من النار ، كما تنفع عصاة الموحدين ، الذين يخرجون منها ويدخلون الجنة.

النوع السابع : شفاعته أن يؤذن لجميع المؤمنين في دخول الجنة ، كما تقدم. وفي «صحيح مسلم» عن أنس رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنا أول شفيع في الجنة» (٢٠٥).

النوع الثامن : شفاعته في أهل الكبائر من أمته ، ممن دخل النار ، فيخرجون منها ، وقد تواترت بهذا النوع الأحاديث. وقد خفي علم ذلك على الخوارج والمعتزلة ، فخالفوا في ذلك ، جهلا منهم بصحة الأحاديث ، وعنادا ممن علم ذلك واستمر على بدعته. وهذه الشفاعة تشاركه فيها الملائكة والنبيون والمؤمنون أيضا. وهذه الشفاعة تتكرر منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم اربع مرات. ومن أحاديث هذا النوع ، حديث أنس ابن مالك رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» (٢٠٦). رواه الإمام أحمد رحمه‌الله. وروى البخاري رحمه‌الله في كتاب

__________________

(٢٠٣) صحيح ، متفق عليه ، وهو الذي فيه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سبقك بها عكاشة».

(٢٠٤) رواه مسلم وغيره من حديث ابي سعيد الخدري وغيره ، وقد خرجته في «الاحاديث الصحيحة» رقم (٥٤ ، ٥٥) :

(٢٠٥) وأخرجه احمد أيضا (٣ / ١٤٠) وغيره. المصدر السابق برقم (١٥٧٠).

(٢٠٦) صحيح ، وله طرق وشواهد ، «المشكاة» (٥٥٩٨ ـ ٥٥٩٩) وهو مخرج في «ظلال الجنة» (٨٣١ ـ ٨٣٢) ، وهو من الأحاديث الكثيرة التي أنكرها المدعو ب عز الدين بليق في «منهاجه» (ص ٦٢٢) تقليدا منه للربيع بن حبيب الاباضي الذي لهج بإمامته ، وأكثر من عز والأحاديث إليه ، وهو لا يعرف عنه شيئا يوجب الثقة به فضلا عن اتخاذه إياه إماما!!

٢٣٣

«التوحيد» : حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا معبد بن هلال العنزي ، قال : اجتمعنا ، ناس من أهل البصرة ، فذهبنا الى أنس بن مالك ، وذهبنا معنا بثابت [البناني إليه] ، يسأله لنا عن حديث الشفاعة ، فإذا هو في قصره ، فوافقناه يصلي الضحى ، فاستأذنا ، فأذن لنا وهو قاعد على فراشه ، فقلنا لثابت : لا تسأله عن شيء أول من حديث الشفاعة ، [فقال : يا أبا حمزة ، هؤلاء إخوانك من أهل البصرة ، جاءوك يسألونك عن حديث الشفاعة] ، فقال : حدثنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : إذا كان يوم القيامة ، ماج الناس بعضهم في بعض ، فيأتون آدم ، فيقولون : اشفع لنا الى ربك ، فيقول : لست لها ، ولكن عليكم بإبراهيم ، فإنه خليل الرحمن ، فيأتون إبراهيم ، فيقول : لست لها ، لكن عليكم بموسى ، فانه كليم الله ، فيأتون موسى ، فيقول : لست لها ، لكن عليكم بعيسى ، فإنه روح الله وكلمته ، فيأتون عيسى ، فيقول : لست لها ، ولكن عليكم بمحمد [صلى‌الله‌عليه‌وسلم] ، فيأتوني ، فأقول : أنا لها ، فأستأذن علي ربي فيؤذن لي ، ويلهمني محامد أحمده بها ، لا تحضرني الآن ، فأحمده بتلك المحامد ، وأخر له ساجدا ، فيقال : يا محمد ، ارفع رأسك ، وقل يسمع لك ، واشفع تشفّع ، وسل تعط ، فأقول : يا رب أمتي أمتي ، فيقال : انطلق فأخرج [منها] من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان ، فأنطلق فأفعل ، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ، ثم أخر له ساجدا ، فيقال : يا محمد ، ارفع رأسك ، وقل يسمع لك ، واشفع تشفّع ، وسل تعط ، فأقول : يا رب أمتي أمتي ، فيقال : انطلق فأخرج [منها] من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان ، فأنطلق فأفعل ، ثم أعود بتلك المحامد ، ثم أحر له ساجدا ، فيقال : يا محمد ، ارفع رأسك ، وقل يسمع لك ، وسل تعط ، واشفع تشفع ، فأقول : يا رب ، أمتي أمتي ، فيقول : انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان ، فأخرجه من النار ، فأنطلق فأفعل. قال : فلما خرجنا من عند أنس ، قلت [لبعض أصحابنا] لو مررنا بالحسن ، وهو متوار في منزل أبي خليفة ، فحدثناه بما حدثنا به أنس بن مالك ، فأتيناه ، فسلمنا عليه ، فأذن لنا ، فقلنا له : يا أبا سعيد ، جئناك من عندك أخيك أنس بن مالك ، فلم نر مثل ما حدثنا في الشفاعة ، فقال : هيه؟ فحدثناه بالحديث ، فانتهى الى هذا الموضع ، فقال : هيه؟ فقلنا لم يزد لنا على

٢٣٤

هذا ، فقال : لقد حدثني وهو جميع ، منذ عشرين سنة ، فما أدري ، أنسي أم كره أن تتّكلوا؟ فقلنا : يا أبا سعيد ، فحدثنا ، فضحك وقال : خلق الإنسان عجولا! ما ذكرته إلا وأنا أريد أن أحدثكم ، حدثني كما حدثكم [به] ، قال : ثم اعود الرابعة ، فأحمده بتلك المحامد ، ثم أخرّ له ساجدا ، فيقال : يا محمد ، ارفع رأسك ، وقل يسمع ، وسل تعطه ، واشفع تشفع ، فأقول : يا رب ، ائذن لي فيمن قال : لا إله الا الله ، فيقول : وعزتي وجلالي ، وكبريائي وعظمتي ، لأخرجن منها من قال : لا إله الا الله» (٢٠٧). وهكذا رواه مسلم. وروى الحافظ أبو يعلى عن عثمان رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ، ثم العلماء ، ثم الشهداء» (٢٠٨). وفي «الصحيح» من حديث أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعا ، قال : «فيقول الله تعالى : شفعت الملائكة ، وشفع النبيون ، وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين ، فيقبض قبضة من النار ، فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط» (٢٠٩) ، الحديث.

ثم إن الناس في الشفاعة على ثلاثة أقوال : فالمشركون والنصارى والمبتدعون من الغلاة في المشايخ وغيرهم : يجعلون شفاعة من يعظّمونه عند الله كالشفاعة المعروفة في الدنيا. والمعتزلة والخوارج أنكروا شفاعة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيره في أهل الكبائر. وأما أهل السنة والجماعة ، فيقرون بشفاعة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أهل الكبائر ، وشفاعة غيره ، لكن لا يشفع أحد حتى يأذن الله له ويحد له حدّا ، كما في الحديث الصحيح ، حديث الشفاعة : «إنهم يأتون آدم ، ثم نوحا ، ثم ابراهيم ، ثم موسى ، ثم عيسى ، فيقول لهم عيسى عليه‌السلام : اذهبوا الى محمد ، فإنه عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فيأتوني ، فأذهب ، فإذا رأيت ربي حررت له ساجدا ، فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي ، لا أحسنها الآن ، فيقول : أي محمد ،

__________________

(٢٠٧) صحيح ، كما ذكر المؤلف رحمه‌الله من حديث انس.

(٢٠٨) موضوع ، رواه ابن ماجه (٤٣١٣) والعقيلي في «الضعفاء» (ص ٣٣١) في ترجمة عنبسة بن عبد الرحمن القرشي وقال «لا يتابع عليه» وروي عن البخاري انه قال : تركوه. وقال أبو حاتم : كان يضع الحديث ، وهو مخرج في «سلسلة الأحاديث الضعفة» (١٩٧٨).

(٢٠٩) صحيح. أخرجه مسلم (١ / ١١٥ ـ ١١٦) وأحمد (٣ / ٩٤).

٢٣٥

ارفع رأسك ، وقل يسمع ، واشفع تشفع ، فأقول : ربي : أمتي ، فيحدّ لي حدّا ، فأدخلهم الجنة ، ثم أنطلق فأسجد ، فيحد لي حدّا» (٢١٠) ذكرها ثلاث مرات.

وأما الاستشفاع بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيره في الدنيا الى الله تعالى في الدعاء ، ففيه تفصيل : فإن الداعي تارة يقول : بحق نبيّك أو بحق فلان ، يقسم على الله بأحد من مخلوقاته ، فهذا محذور من وجهين : أحدهما : أنه أقسم بغير الله. والثاني : اعتقاده أنّ لأحد على الله حقّا. ولا يجوز الحلف بغير الله ، وليس لأحد على الله حق إلا ما أحقه على نفسه ، كقوله تعالى : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) الروم : ٤٧. وكذلك ما ثبت في «الصحيحين» من صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمعاذ رضي الله عنه ، وهو رديفه : «يا معاذ ، أتدري ما حقّ الله على عباده؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، أتدري ما حقّ العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : حقّهم عليه أن لا يعذبهم» (٢١١). فهذا حق وجب بكلماته التامة ووعده الصادق ، لا أن العبد نفسه مستحق على الله شيئا كما يكون للمخلوق على المخلوق ، فإن الله هو المنعم على العباد بكل خير ، وحقهم الواجب بوعده هو أن لا يعذبهم ، وترك تعذيبهم معنى لا يصلح أن يقسم به ، ولا أن يسأل بسببه ويتوسل به ، لأن السبب هو ما نصبه الله سببا. وكذلك الحديث الذي في «المسند» من حديث أبي سعيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في قول الماشي الى الصلاة : «أسألك بحق ممشاي هذا ، وبحق السائلين عليك» (٢١٢) ، فهذا حق السائلين ، هو أوجبه على نفسه ، فهو الذي أحق للسائلين أن يجيبهم ، وللعابدين أن يثيبهم ، ولقد أحسن القائل :

ما للعباد عليه حق واجب

كلّا ، ولا سعي لديه ضائع

إن عذبوا فبعدله ، أو نعّموا

فبفضله وهو الكريم السامع

__________________

(٢١٠) متفق عليه من حديث ابي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(٢١١) متفق عليه. حديث ابن عباس خرجته في «الارواء» (٨٥٥).

(٢١٢) ضعيف ، وقد فصلت القول في ذلك في «سلسلة الاحاديث الضعيفة» (رقم ٢٤).

٢٣٦

فإن قيل : فأي فرق بين قول الداعي : «بحق السائلين عليك» وبين قوله : «بحق نبيك» أو نحو ذلك؟ فالجواب : أن معنى قوله : «بحق السائلين عليك» أنك وعدت السائلين بالإجابة ، وأنا من جملة السائلين ، فأجب دعائي ، بخلاف قوله : بحق فلان ـ فإن فلانا وإن كان له حقّ على الله بوعده الصادق ـ فلا مناسبة بين ذلك وبين إجابة دعاء هذا السائل. فكأنه يقول : لكون فلان من عبادك الصالحين أجب دعاي! وأي مناسبة في هذا وأي ملازمة؟ وإنما هذا من الاعتداء في الدعاء! وقد قال تعالى : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) الاعراف : ٥٥. وهذا ونحوه من الأدعية المبتدعة ، ولم ينقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا عن الصحابة ، ولا عن التابعين ، ولا عن أحد من الأئمة رضي الله عنهم ، وإنما يوجد مثل هذا في الحروز والهياكل التي يكتب بها الجهال والطرقية. والدعاء من أفضل العبادات ، والعبادات مبناها على السنة والاتباع ، لا على الهوى والابتداع.

وإن كان مراده الإقسام على الله بحق فلان ، فذلك محذور أيضا ، لأن الإقسام بالمخلوق لا يجوز ، فكيف على الخالق؟! وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حلف بغير الله فقد أشرك» (٢١٣). ولهذا قال أبو حنيفة وصاحباه رضي الله عنهم : يكره أن يقول الداعي : أسألك بحق فلان ، أو بحق أنبيائك ورسلك ، وبحق البيت الحرام ، والمشعر الحرام ، ونحو ذلك حتى كره أبو حنيفة ومحمد رضي الله عنهما أن يقول الرجل : اللهم إني أسألك بمعقد العزّ من عرشك ، ولم يكرهه أبو يوسف رحمه‌الله لما بلغه الأثر فيه (٢١٤). وتارة يقول : بجاه فلان عندك ، يقول : نتوسل إليك بأنبيائك ورسلك وأوليائك. ومراده أنّ فلانا عندك ذو وجاهة وشرف ومنزلة فأجب دعاءنا. وهذا أيضا محذور ، فإنه لو كان هذا هو التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لفعلوه بعد موته ، وإنما كانوا يتوسلون في حياته بدعائه ، يطلبون منه أن يدعو لهم ، وهم يؤمّنون على دعائه ، كما في الاستسقاء وغيره. فلما مات صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(٢١٣) صحيح ، رواه أحمد والحاكم وصححه. «الارواء» (٢٥٦١).

(٢١٤) قلت ، هو حديث مرفوع موضوع ، كما بينه الزيلعي في «نصب الراية» (٤ / ٢٧٣).

٢٣٧

قال عمر رضي الله عنه ـ لما خرجوا يستسقون ـ : اللهم إنا كنا اذا أجدبنا نتوسل أليك بنبينا فتسقينا ، وانا نتوسل أليك بعم نبينا. معناه بدعائه هو ربه وشفاعته وسؤاله ، ليس المراد أنا نقسم عليك [به] ، أو نسألك بجاهه عندك ، إذ لو كان ذلك مرادا لكان جاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعظم وأعظم من جاه العباس.

وتارة يقول : باتباعي لرسولك ومحبتي له وإيماني به وسائر أنبيائك ورسلك وتصديقي لهم ، ونحو ذلك. فهذا من أحسن ما يكون في الدعاء والتوسل والاستشفاع.

فلفظ التوسل بالشخص والتوجه به فيه إجمال ، غلط بسببه (٢١٥) من لم يفهم معناه : فإن أريد به التسبب به لكونه داعيا وشافعا ، وهذا في حياته يكون ، أو لكون الداعي محبا له ، مطيعا لأمره ، مقتديا به ، وذلك أهل للمحبة والطاعة والاقتداء ، فيكون التوسل إما بدعاء الوسيلة وشفاعته ، وإما بمحبة السائل واتباعه ، أو يراد به الاقسام به والتوسل بذاته ، فهذا الثاني هو الذي كرهوه ونهوا عنه.

وكذلك السؤال بالشيء ، قد يراد به التسبب به ، لكونه سببا في حصول المطلوب ، وقد يراد [به] الإقسام به.

ومن الأول : حديث الثلاثة الذين أووا إلى الغار ، وهو حديث مشهور في «الصحيحين» وغيرهما ، فإن الصخرة انطبقت عليهم ، فتوسلوا الى الله بذكر أعمالهم الصالحة الخالصة ، وكل واحد منهم يقول : فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه ، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون (٢١٦). فهؤلاء دعوا الله بصالح الأعمال ، لأن الأعمال الصالحة هي أعظم ما يتوسل به العبد إلى الله ، ويتوجه به إليه ، ويسأله به ، لأنه وعد أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله.

فالحاصل أن الشفاعة عند الله [ليست] كالشفاعة عند البشر ، فإن الشفيع عند البشر كما أنه شافع للطالب شفعة في الطلب ، بمعنى أنه صار شفعا فيه بعد أن كان

__________________

(٢١٥) في الاصل : بتسببه.

(٢١٦) متفق عليه من حديث ابن عمر.

٢٣٨

وترا ، فهو أيضا قد شفع المشفوع إليه ، وبشفاعته صار فاعلا للمطلوب ، فقد شفع الطالب والمطلوب منه ، والله تعالى وتر ، لا يشفعه أحد ، [فلا يشفع عنده أحد] إلا بإذنه ، فالأمر كله إليه ، فلا شريك له بوجه. فسيد الشفعاء يوم القيامة اذا سجد وحمد الله تعالى فقال له الله : «ارفع رأسك ، وقل يسمع ، [وسأل تعطه] ، واشفع تشفع» ، فيحد له حدّا فيدخلهم الجنة ، فالأمر كله لله. كما قال تعالى : (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) ، آل عمران : ١٥٤. وقال تعالى : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) آل عمران : ١٢٨. وقال تعالى : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) الأعراف : ٥٤.

فإذا كان لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه (٢١٧) لمن يشاء ، ولكن يكرم الشفيع قبول شفاعته ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اشفعوا تؤجروا ، ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء» (٢١٨). وفي «الصحيح» : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يا بني عبد مناف ، لا أملك لكم من الله شيئا ، يا صفية يا عمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا أملك لك من الله شيئا ، يا عباس عمّ رسول الله ، لا أملك لك من الله شيئا» (٢١٨١). وفي «الصحيح» أيضا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا ألفينّ أحدكم يأتي يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء ، أو شاة لها يعار ، أو رقاع تخفق ، فيقول : أغثني أغثني ، فأقول : قد أبلغتك ، لا أملك لك من الله من شيء» (٢١٨٢). فإذا كان سيد الخلق وأفضل الشفعاء يقول لأخص الناس به : «لا أملك لكم من الله من شيء» فما الظن بغيره؟ وإذا دعاه الداعي ، وشفع عنده الشفيع ، فسمع الدعاء ، وقبل الشفاعة ، لم يكن هذا هو المؤثر فيه كما يؤثر المخلوق في المخلوق ، فإنه سبحانه [وتعالى] هو الذي جعل هذا يدعو ويشفع ، وهو الخالق لأفعال العباد ، فهو الذي وفّق العبد للتوبة ثم قبلها ، وهو الذي وفقه للعمل ثم أثابه ، وهو الذي وفقه للدعاء ثم أجابه. وهذا مستقيم على أصول أهل السنة المؤمنين بالقدر ، وأن الله خالق كل شيء.

__________________

(٢١٧) سقط سهوا فهو بأذن.

(٢١٨) متفق عليه من حديث ابي موسى. وهو مخرج في «الصحيحة» (١٤٦٤).

(٢١٨١) اخرجه مسلم (١ / ١٣٣) من حديث ابي هريرة بألم منه مركبا من روايتين عنه.

(٢١٨٢) اخرجه البخاري (٢ / ٢٦٦) ومسلم (٦ / ١٠) وأحمد (٢ / ٤٢٦) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

٢٣٩

قوله : (والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حقّ).

ش : قال تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ، قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) الأعراف : ١٧٢. أخبر سبحانه أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم وأنه لا إله الا هو. وقد وردت أحاديث في أخذ الذرية من صلب آدم عليه‌السلام ، وتمييزهم الى أصحاب اليمين والى أصحاب الشمال ، وفي بعضها الإشهاد عليهم بأن الله ربهم :

فمنها : ما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه‌السلام بنعمان يوم عرفة ، فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها ، فنثرها بين يديه ، ثم كلمهم قبلا ، قال : ألست بربكم؟ قالوا : بلى ، شهدنا .. إلى قوله : المبطلون» (٢١٩). ورواه النسائي أيضا ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم في «المستدرك» ، وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

وروى الإمام أحمد أيضا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أنه سئل عن هذه الآية ، فقال : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عنها ، فقال : إن الله خلق آدم عليه‌السلام ، ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية ، قال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون. ثم مسح ظهره ، فاستخرج منه ذرية قال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل : يا رسول الله ، ففيم العمل؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إن الله عزوجل] اذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة ، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة ، فيدخل [به] الجنة ، واذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار ، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل به النار» (٢٢٠). ورواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن أبي حاتم ، وابن جرير ، وابن حبان في «صحيحه».

وروى الترمذي عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لما خلق الله آدم

__________________

(٢١٩) صحيح ، لطرقه وشواهده وهو مخرج في «الصحيحة» (١٦٢٣).

(٢٢٠) صحيح لغيره ، الا مسح الظهر ، فلم أجد له شاهدا «الضعيفة» (٣٠٧٠).

٢٤٠