شرح العقيدة الطّحاويّة

ابن أبي العزّ الحنفي

شرح العقيدة الطّحاويّة

المؤلف:

ابن أبي العزّ الحنفي


المحقق: الشيخ محمّد ناصر الدين الألباني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بغداد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٤

مقدّمة المحدّث الشيخ محمّد ناصر الدّين الالبانيّ

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، والعاقبة للمتقين ، وصلاة الله وسلامه على نبينا محمد سيد المرسلين ، وخاتم النبيين ، وعلى آله الطاهرين ، وأصحابه الطيبين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد ، فلقد يسر الله تبارك وتعالى ، للأخ الفاضل الاستاذ زهير الشاويش أن يعيد طبع الكتاب العظيم «شرح العقيدة الطحاوية» طبعة رابعة مهذبة ، فرأيت أنا بدوري أن أعيد النظر في تخريج أحاديثه ، وأستدرك ما كان قد فاتني من تحقيق القول في بعضها ، أو سهو وقع لي في بعض أفرادها ، وأن أنسق الكلام عليها ، فإن التخريج بأول أمره كان أشبه شيء بالتعليقات السريعة التي من طبيعتها أن لا تمكن صاحبها من مراجعة الكتب من أجلها إلا قليلا ، ولا من إعادة النظر فيها ، لأني كنت يومئذ على سفر ، والمكتب راغب في سرعة طبع الكتاب.

ولقد كنت استدركت شيئا من ذلك فيما بعد ، في مقدمتي التي كان الأخ زهير تفضل بإلحاقها بالنسخ الباقية من الطبعة الثالثة ، كما هو معلوم عند من وقعت له نسخة منها ، أو أرسلت إليه هذه المقدمة مفردة.

وكان مما فاتني يومئذ توحيد طريقة التخريج في أحاديث الكتاب التي أخرجها الشيخان أو أحدهما ، فقد جريت في كثير من تخريجاتي وتأليفاتي على التصريح في أول التخريج بمرتبة الحديث التي ينتهي إليها التحقيق ، سواء كان مما أخرجه

٢١

الشيخان أو أحدهما ، فأقول مثلا : «صحيح ، أخرجه الشيخان». أو «صحيح ، أخرجه البخاري» ، أو «صحيح ، رواه مسلم» ، ونحو ذلك. ولكن لم يطرد لي ذلك في كل أحاديثهما ، بل وقع هذا التصريح في بعضها دون بعض.

وكان قد بلغني عن بعضهم أنه استشكل أو استنكر هذا التصريح ، فحملني ذلك على أن كتبت كلمة في المقدمة التي سبقت الإشارة إليها ، أدفع بها الاستشكال المشار إليه ، فقلت فيها ما نصه :

«يلاحظ القارئ الكريم أن كثيرا من الأحاديث التي جاءت في الكتاب معزوّة إلى «الصحيحين» أو أحدهما ، قد علقنا عليه بقولنا : «صحيح». وتارة نقول : «صحيح ، متفق عليه» ، أو «صحيح ، رواه البخاري» ، أو «صحيح ، رواه مسلم» وذلك حين يكون الحديث غير مخرّج في الكتاب ، فالذي نريد بيانه حول ذلك ، أنه قد يقول قائل : إن الجمع بين «صحيح» و «متفق عليه» ونحوه ، اصطلاح غير معروف ، وقد يتوهم فيه البعض أن أحاديث «الصحيحين» كأحاديث «السنن» وغيرها من الكتب التي تجمع الصحيح والضعيف من الحديث ولم يفرد للصحيح فقط.

وجوابا على ذلك نقول :

إن الذي دعانا إلى هذا الاصطلاح ، إنما هو شيء واحد ، ألا وهو رغبتنا في إيقاف القارئ بأقرب طريق على درجة الحديث بعبارة قصيرة صريحة ، مثل قولنا : «صحيح» ، جرينا على هذا في كل حديث صحيح ، ولو كان من المتفق عليه ، لما ذكرنا ، ولسنا نعني بذلك ما أشرنا إليه مما قد يتوهمه البعض. كيف والصحيحان هما أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى باتفاق علماء المسلمين من المحدثين وغيرهم ، فقد امتازا على غيرهما من كتب السنة بتفردهما بجمع أصح الأحاديث الصحيحة ، وطرح الأحاديث الضعيفة والمتون المنكرة ، على قواعد متينة ، وشروط دقيقة ، وقد وفّقوا في ذلك توفيقا بالغا لم يوفق إليه من بعدهم ممن نحا نحوهم في جمع الصحيح ، كابن خزيمة ، وابن حبان ، والحاكم ، وغيرهم حتى صار عرفا عاما أن الحديث إذا أخرجه الشيخان أو أحدهما ، فقد جاوز القنطرة ، ودخل في طريق

٢٢

الصحة والسلامة. ولا ريب في ذلك ، وأنه هو الأصل عندنا ، وليس معنى ذلك أن كل حرف أو لفظة أو كلمة في «الصحيحين» هو بمنزلة ما في «القرآن» لا يمكن أن يكون فيه وهم أو خطأ في شيء من ذلك من بعض الرواة ، كلا فلسنا نعتقد العصمة لكتاب بعد كتاب الله تعالى أصلا ، فقد قال الإمام الشافعي وغيره «أبى الله أن يتم إلا كتابه» ، ولا يمكن أن يدّعي ذلك أحد من أهل العلم ممن درسوا الكتابين دراسة تفهم وتدبر مع نبذ التعصب ، وفي حدود القواعد العلمية الحديثة ، لا الأهواء الشخصية ، أو الثقافة الأجنبية عن الاسلام وقواعد علمائه ، فهذا مثلا حديثهما الذي أخرجاه باسنادهما عن ابن عباس «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تزوج ميمونة وهو محرم» فإن من المقطوع به أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم تزوج ميمونة وهو غير محرم ، ثبت ذلك عن ميمونة نفسها. ولذلك قال العلامة المحقق محمد بن عبد الهادي في «تنقيح التحقيق» (٢ / ١٠٤ / ١) وقد ذكر حديث ابن عباس :

«وقد عد هذا من الغلطات التي وقعت في «الصحيح» ، وميمونة : أخبرت أن هذا ما وقع ، والانسان أعرف بحال نفسه ...» انظر الحديث (١٠٣٧) من «إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل».

وعلى الرغم من هذا البيان القاضي على الإشكال ، فقد علمت في هذه الأيام أن أحد أعداء عقيدة أهل السنة والجماعة من متعصبة الحنفية ـ قد رفع تقريرا إلى بعض المراجع المسئولة في الدولة السعودية التي هو مدرس في بعض معاهدها ؛ يحط فيه من قيمة هذا التخريج ، وينسب إليّ ما لم يخطر لي على بال ، فرأيت أن ألخص هنا مآخذه علي ، لأعود بعد ذلك ، فأكر عليها بالرد والنقض. ويمكن تلخيصها في خمسة أمور.

الأول : قولي فيما عزاه المصنف للشيخين أو أحدهما : «صحيح» وقولي احيانا : «صحيح ، أخرجه مسلم» أو «صحيح ، متفق عليه». وأحيانا لا أقول في كل ذلك : «صحيح» : فاستنتج المتعصب المشار إليه ما أفصح عنه بقوله :

«وما لم يقل فيه ذلك يكون متوقفا فيه تحت النظر والمراجعة له فيه حتى يأتي هو بحكمه ، فجاء بشيء لم يسبقه إليه المتقدمون ولا المتأخرون!».

٢٣

الثاني : قولي في بعض الأحاديث والآثار : «لا أعرفه». ويرد عليه بقوله :

«فكان ما ذا إذا عرفه غيره كالشارح أو غيره مثلا»! وقال في أثر ابن مسعود «هلك من لم يكن له قلب يعرف به المعروف والمنكر» الذي قلت فيه : لا أعرفه : فقال في ذلك : «فهل المراد من هذا أنه لا يعرف المعروف من المنكر ، أو لا يعرف كلام عبد الله بن مسعود»!!.

الثالث : أخذ عليّ قولي في حديث صحيح مستدركا على الشارح عزوه إياه ل «الصحيح» : لكن لم يروه أحد من أهل «الصحيح» والمراد به البخاري أو مسلم».

الرابع : قال : «استدرك بعض المصححين حديثا نفاه كذا الأصل أن يكون موجودا في كتب السنة التي اطلع عليها ، وقال : لا أصل له باللفظ المذكور في شيء من كتب السنة التي وقفت عليها وأظنه وهما من المؤلف. فإذا به قد رواه الترمذي في سننه وابن جرير أيضا كما قد نبهه إلى ذلك أحد المصححين في «المكتب الاسلامي» وأن الحديث بلفظه الذي نفاه جاء في «مشكاة المصابيح» برقم ٢٣٤ فيها»!.

الخامس : أخذ عليّ أيضا قولي في حديث «من عادى لي وليا ...» : «رواه البخاري ، وفي سنده ضعف ، لكن له طرق لعله يتقوى بها ، ولم يتيسر لي حتى الآن تتبعها وتحقيق الكلام عليها».

هذه هي الأمور الهامة التي أخذها عليّ ذلك المتعصب ، وثمة أمور أخرى لا تستحق الذكر ضربت لذلك عنها صفحا.

ولما كان كلامه قد ينطلي على البعض ، لا سيما الذين لم يتح لهم الاطلاع على المقدمة الملحقة بالطبعة الثالثة ، كان لا بد من أن أكشف النقاب عما فيه من البعد عن الحق والإنصاف ، بل وتعمد الكذب والتزوير وكتم الحقيقة عن الذين رفع تقريره إليهم ، والطعن في مخرج الكتاب بغير حق ، ظلمات بعضها فوق بعض. فأقول مجيبا على كل أمر من تلك الأمور الخمسة مراعيا ترتيبها :

٢٤

١ ـ إن قولي فيما رواه الشيخان أو أحدهما : «صحيح» وكنت قدمت الجواب عنه في المقدمة الملحقة المشار إليها آنفا وهو قولنا فيها :

«رغبتنا في إيقاف القارئ بأقرب طريق على درجة الحديث بعبارة قصيرة صريحة ...» واطردا لطريقتي في تخريج الأحاديث حسبما شرحته في مطلع هذه المقدمة. غاية ما في الأمر أنه لم يطرد لي ذلك في بعض الأحاديث للسبب الذي سبق بيانه فجاء هذا المتعصب فعلّل ذلك بتعليل من عند نفسه إرواء منه لحقده وغيظه ، فقال كما تقدم نقله عنه :

«وما لم يقل فيه ذلك يكون متوقفا فيه ...» الخ .. ثم أعاد هذا فقال (ص ٤) عن تقريره متسائلا ، مجيبا نفسه بنفسه :

«فهل الحكم لهذا الحديث بالصحة آت من حكمه هو له ، أو من إخراج مسلم لهذا الحديث في صحيحه وحكمه له بالصحة. الجواب أن الصحة لهذا الحديث وأمثاله آتية من حكمه هو له بالصحة ، وليس من حكم الإمام مسلم ، بدليل أنه علق على غيره مما أخرجه مسلم بقوله «صحيح» وتارة يقول : (صحيح ، متفق عليه)».

فأقول ، وبالله أستعين :

إن هذا الجواب الذي أجاب به نفسه لهو محض تخرص واختلاق ، لأن كل من شم رائحة العلم بالحديث الشريف يعلم بداهة أن قول المحدث في حديث ما : «رواه الشيخان» ، أو «البخاري أو مسلم» إنما يعني : أنه صحيح. فاذا قال في بعض المرات : «صحيح ، رواه الشيخان» أو «صحيح ، رواه البخاري» أو «صحيح ، رواه مسلم» فهو من باب البيان والتوضيح والتأكيد لصحة الحديث. فاذا قال «رواه الشيخان» أو نحوه فلا ينافي أنه صحيح. غاية ما في الأمر ، أن التعبير مختلف والمعنى متحد. فأي شيء في هذا الاختلاف في التعبير؟ وإنما أتي هذا المتعصب من جهله بهذا العلم ، وضيق فكره وعطنه ، إن سلم من سوء قصده ، وفساد طويته ، الذي يدل عليه بعض أقواله المتقدمة مما سيأتي التعليق عليه ، ولفت النظر إليه ، وإنما قلت : «من جهله» ، لأني لا أستبعد على مثله أن يخفى عليه مثل

٢٥

هذا التوجيه بين التعبيرين ، لأن الجمود على التقليد الذي ران على قلبه ، لا يفسح له المجال أن يتفهم الحقائق الظاهرة لكل ذي لب وبصيرة ، إلا أن يلقنها إياه شيخ مقلد مثله وهيهات! وظني به أنه يجهل أن قولي : «صحيح ، رواه الشيخان» ونحوه مما تقدم ، قد سبقت إليه ، وإلا لم يبادر إلى الإنكار وإلى هذا الافتراء الذي نسبه إليّ من أني إذا قلت : «رواه الشيخان» فأنا متوقف في صحته ـ زعم ـ ولما قال أيضا ما سبق نقله عنه. «فجاء بشيء لم يسبقه إليه المتقدمون ولا المتأخرون»!.

وقد سبقني إلى ما ذكرت إمام كبير من أئمة الحديث وحفاظه ألا وهو شيخ الاسلام محيي السنة أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي مؤلف الكتاب الجليل : «شرح السنة» الذي يقوم بطبعه المكتب الإسلامي لأول مرة ، (١) فقد جرى فيه مؤلفه رحمه‌الله تعالى على مثل ما جريت أنا عليه في تخريج هذا الكتاب : «شرح الطحاوية» ، فهو تارة يكتفي بعز والحديث إلى الشيخين أو أحدهما ، وتارة يضم إلى ذلك التصريح بالصحة ، والاستعمال الأول ، لا شبهة فيه عند صاحب التقرير الجائر ، ولذلك فلا فائدة من تسويد الورق بنقل الأمثلة عنه فيه. وإنما المستنكر عنده الاستعمال الآخر : الجمع بين التصريح بالصحة مع العز وإلى الشيخين أو أحدهما ، فهذا الذي ينبغي ضرب الأمثلة له من الكتاب المذكور ، لعل ذلك المتعصب يرتدع عن جهله وغيه.

لقد رأيت للحافظ البغوي في المجلد الأول من كتابه المذكور أنواعا من التعابير ، أنقلها مع الإشارة إلى أحاديث كل نوع منها برقمها.

الأول : «صحيح ، متفق على صحته». يعني بين الشيخين.

انظر الأحاديث (٦ ، ٦٨ ، ١٣٢) ، وقد يقول :

«صحيح ، أخرجاه». رقم (١٥٤).

__________________

(١) وقد تم طبعه في ١٦ مجلدا ، منها المجلد الأخير مختصا بالفهارس ، وهو بتحقيق الاستاذين شعيب الارناؤوط وزهير الشاويش.

٢٦

الثاني : «حديث صحيح ، أخرجه محمد». يعني الامام البخاري (١).

انظر الأحاديث : (٤١ ، ١١٣ ، ١٧١).

الثالث : «هذا حديث صحيح» ، يقوله في الأحاديث التي يرويها بسنده عن البخاري ، وهذا بإسناده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي في «صحيحه».

انظر الأحاديث : (١٢ ، ٢٣ ، ٣٤ ، ٤٤ ، ٥٧ ، ٨٦ ، ٩٤ ، ١٠٨ ، ١١٦ ، ١٢٥ ، ١٤١ ، ١٥٨ ، ٢٠٣ ، ٢٣٠).

الرابع : «هذا حديث صحيح ، أخرجه مسلم».

وهذا النوع كثير جدا عنده فانظر الأحاديث : (٢ ، ٤ ، ٨ ، ١٦ ، ١٧ ، ٢٤ ، ٣٦ ، ٤٧ ، ٥٠ ، ٥٣ ، ٥٦ ، ٥٩ ، ٦٢ ، ٦٤ ، ٦٧ ، ٧٤ ، ٧٨ ، ٨٠ ، ٨١ ، ٨٥ ، ٩١ ، ٩٣ ، ١٠١ ، ١٠٩ ، ١٢٣ ، ١٢٧ ، ١٣٩ ، ١٤٨ ، ١٥١ ، ١٥٢ ، ١٥٧ ، ١٩١ ، ٢٠١ ، ٢٠٥ ، ٢١١ ، ٢١٩ ، ٢٣١ ، ٢٣٢ ، ٢٣٦ ، ٢٣٨).

الخامس : ورأيته مرة قال : «هذا حديث حسن ، أخرجه مسلم» ، فلم يصححه! راجع رقم (١٠٧).

وظني أن عنده أمثلة أخرى من كل نوع من هذه الأنواع الخمسة ولا سيما الرابع منها ، ولكني لا أطول الآن بقية الأجزاء ، وفيما ذكرنا كفاية لمن أراد الله له الهداية.

وبهذا البيان يتبين للقارىء الكريم بوضوح تام بطلان ما رماني به المتعصب الجائر في قوله السابق :

«فجاء بشيء لم يسبقه إليه المتقدمون ولا المتأخرون»!

وإن أراد به ما سبق أن نقلته عنه ما لم أقل فيه «صحيح» مما أخرجه الشيخان

__________________

(١) ومثله قول الامام الذهبي في حديث : «كان الله على العرش .. «حديث صحيح ، قد خرجه البخاري في مواضع» ... انظر كتابي «مختصر العلو» (ص ٩٨ / ٤٠) وتعليقي عليه في هذا الموضع رقم (٢٩). ونحو ذلك قال في حديث «أين الله؟» كما سيأتي (ص ٢٨٧) ، فهلا اقتنع أبو غدة أم (إنها ...).

٢٧

أو أحدهما : اني متوقف فيه تحت النظر والمراجعة! فهو باطل وزور ، كما سبق بيانه في مطلع هذا الجواب ، وأزيد هنا فأقول :

إن الدليل الذي استدل به على هذا الباطل لو كان صحيحا ، لشمل معي الإمام البغوي ، ومن قال مثل ذلك ، فقد قدمت عنه الأمثلة الكثيرة في قوله : «صحيح ، متفق عليه» ونحوه ، مع أنه في أحاديث أخرى مما أخرجه الشيخان أو أحدهما لم يقل فيها : «صحيح» كما سبقت الإشارة إليه ، فهل معنى ذلك عند هذا المتعصب الجائر : أن البغوي أيضا متوقف في هذا النوع الذي لم يقل فيه : صحيح؟!

ومما يزيد القارئ الكريم علما ببطلان ما اتهمني به المتعصب المشار إليه أن أذكره بأن الأحاديث التي عزاها الشارح رحمه‌الله تعالى أو عزوتها أنا إلى الشيخين أو أحدهما ، ولم أقل فيها «صحيح» هي أكثر ـ باعتراف المتعصب في تقريره ـ من الأحاديث التي قلت فيها : «صحيح» ، فلو كان ما رماني به حقا وصدقا لكان مساويا لقوله ـ لو قال ـ «إن أكثر الأحاديث المعزوة في الكتاب للصحيحين أو أحدهما هي مما توقف فيه الألباني وتحت نظره ومراجعته حتى يأتي هو بحكمه»! لو قال هذا أحد لبادر كل القراء الذين لهم اطلاع على شيء من كتبي وتخريجاتي إلى تكذيبه ، وهذا المتعصب الجائر وإن لم يقل هذا القول الذي افترضته ، فقد قال القول المساوي له والمؤدي إليه ، فعليه وزره! بل إن هذا القول الذي رماني به يبطله أيضا ما كنت صرحت به في مقدمة الطبعة الثالثة : «إن الحديث إذا أخرجه الشيخان أو أحدهما ، فقد جاوز القنطرة ، ودخل في طريق الصحة والسلامة ...» والمتعصب الجائر على علم بهذا النص يقينا ، فلئن جاز له أن ينسب إلي ما لم يخطر في بالى مطلقا بنوع من الاجتهاد منه ـ إن كان أهلا له ـ قبل أن يطلع على هذا النص ، فكيف جاز له ذلك بعد أن علم به. فالله تعالى يتولى جزاءه.

٢ ـ إن قولي في بعض الأحاديث والآثار : «لا أعرفه» معناه معروف عند طلاب هذا العلم الشريف فضلا عن العالمين به : لا أعرف إسناده ، فأحكم عليه بما يستحق من صحة أو ضعف ، وبعض العلماء يعبر في مثل هذا بتعبير آخر ، فيقول :

٢٨

لم أجده (١) أو لم أجد له أصلا وبعضهم يقول لا أصل له. وهذا كله معروف عند العلماء ، وهذا التعبير الأخير منتقد عند بعض المحققين ، لما فيه من الاطلاق الموهم أنه لا أصل له عند العلماء قاطبة ، ومثل هذا الحكم صعب ، فبالأولى التعابير التي قبله.

فهل المتعصب الجائر على جهل بهذا ، أم هو يتجاهل لغاية في نفسه. فإن كنت لا تدري ...

وغالب الظن أنه جمع المصيبتين الجهل والتجاهل معا ، أما الجهل فيدل عليه قوله المتقدم ذكره عنه : «فكان ما ذا إذا عرفه غيره كالشارح أو غيره مثلا».

قلت : فظاهر هذه العبارة أنه أراد المتن ، أي أن الشارح عرف المتن الذي لم أعرف أنا! وأنا إنما أعني كما جرى عليه من قبلي من المحدثين : لم أعرف إسناده ، فما الفائدة من معرفة الشارح لهذا المتن. وكل أحد يعلم ذلك من كتابه ، وإن كان يعني المتعصب الجائر أن الشارح عرف إسناده ـ وهذا بعيد جدا عن ظاهر كلامه ـ فمن أين له ذلك والشارح ، لم يخرجه ، ليمكننا الرجوع إلى مخرجه ولننظر في إسناده؟

__________________

(١) قلت : وهذا التعبير يكثر من استعماله أئمة الحديث في كتب «التخريجات» ، أمثال الحافظ الزيلعي والعراقي والعسقلاني ، وغيرهم ، وقد وجدت العراقي قد قال «لم أجده» في الجزء الأول من «تخريج الإحياء» في أكثر من عشرة أحاديث ، وهذه صفحاتها من الطبعة التجارية : (٩٢ ، ١٤٨ ، ١٥٠ ، ١٥٧ ، ١٥٩ ، ١٦٦ ، ١٧٠ ، ١٨٣ ، ١٨٧ ، ١٩٢ ، ٢٩٩ ، ٣٠٧).

وقال في نحو هذا العدد من الأحاديث : «لم أجد له أصلا». (٧٦ ، ٨١ ، ١٠٢ ، ١٣٥ ، ١٤١ ، ١٧٧ ، ١٩٨ ، ٢٠٠ ، ٢٣٢ ، ٢٤٠ ، ٢٤١ ، ٣١٧) ، وقال مرة : «لم أجد له إسنادا» (٢٩٦).

وتارة يقول : «قال ابن الصلاح : لم أجد له أصلا ، وقال النووي : غير معروف» (ص ١٣٧) ، وهذا مثل قولي : «لا أعرفه» ، فهل يفهم أحد من هذا التعبير ، غير هذا المتعصب أن العراقي يعني به لم يجد متنه وهو يراه مائلا أمامه ، وحينئذ فأي فرق بين «لم أجده» و «غير معروف» و «لم أعرفه»؟!

٢٩

وأما التجاهل فهو واضح من قوله : «فهل المراد من هذا أنه لا يعرف المعروف من المنكر»! فإن هذا لا علاقة له البتة بقولي في تخريج الخبر : «لا أعرفه». فما معنى تساؤله المذكور إلا لتجاهل المقصود للمراد ، وصرف الكلام إلى ما ليس له علاقة بالبحث ، ليروي بذلك غيظ قلبه ، ويظهر للناس كمين حقده ، وعظيم حسده ، بسوء لفظه ، حتى لا يدري ما يخرج من فمه. نسأل الله العافية.

وبعد كتابة ما تقدم رجعت إلى كتاب «المصنوع في معرفة الموضوع» للشيخ العلامة منلا علي القاري ، المطبوع حديثا. بتحقيق وتعليق صاحب التقرير الجائر ، فوجدت فيه عديدا من الأحاديث التي قال الحافظ السخاوي في كل واحد منها : «لا أعرفه» وهي برقم (١ ، ٢ ، ١٢ ، ١٦ ، ٤٣ ، ٨٣ ، ٩٨ ، ١٥٨ ، ١٦٣ ، ١٨٦ ، ٢٠٥ ، ٢٨٢ ، ٢٩٤ ، ٣٠٩ ، ٣٣٦ ، ٣٨١) ، وذكر مثله عن الحافظ ابن حجر في الحديث (٢٧٣) ، وقال هو في الحديثين (٢٩٧ ، ٣٠٢) : غير معروف.

قلت : فهل معنى قولهم : «لا أعرفه» ، أو «غير معروف» ، أنهم لا يعرفون المتن؟ طبعا : لا ، لما سبق بيانه.

وقد رأيت هذا المتعصب قال في تقدمته للكتاب (ص ٨) تحت عنوان «شذرات في بيان بعض عبارات المحدثين حول الأحاديث الموضوعة» :

«١ ـ قولهم في الحديث : لا أصل له ، أو لا أصل له بهذا اللفظ ، أو ليس له أصل ، أو لا يعرف له أصل ، أو لم يوجد له أصل ، أو لم يوجد ، أو نحو هذه الألفاظ ، يريدون أن الحديث المذكور ليس له إسناد ينقل به». ثم نقل عن ابن تيمية أن معنى قولهم : ليس له اصل ، أو لا أصل له ، معناه : ليس له إسناد.

قلت : فأنت ترى أن المنفي في هذه الأقوال إنما هو الإسناد ، وليس المتن ، باعتراف المتعصب نفسه ، فهو على علم به ، فهذا يرجح أنه تجاهل هذه الحقيقة ، حين انتقدني على قولي في بعض الأحاديث : «لا أعرفه» ، وعليه فقوله : «فكان ما ذا إذا عرفه غيره كالشارح أو غيره مثلا» ، يعني أنه عرف إسناده الشارح أو غيره ، فنقول : هذه دعوى ، والله عزوجل يقول : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ، ورحم الله من قال :

٣٠

والدعاوى ما لم تقيموا عليها

بينات أبناؤها أدعياء

أقول هذا دون أن يفوتني التنبيه على أنه من المحتمل أنه كان ناسيا لقول ابن تيمية السابق لما انتقدني في تقريره. فإن الرجل على كثرة نقله عن كتب العلماء ، فهو فيها كحاطب ليل ، لأنه في كثير من الأحيان ينقل عنهم ما لم يهضم معناه ، فهو لذلك لا يستحضره عند الحاجة إليه ، بل قد ينساه مطلقا فلا يتخذه له منهجا في منطلقه في هذا العلم ، ولذلك تراه متناقضا في تعليقاته أشد التناقض فيقر في بعضها ما كان انتقده سابقا ، أو العكس ، ولست الآن في صدد شرح ذلك في هذه المقدمة ، ولا هو يستحق ذلك ، وإنما بين يدي الآن مثالان من تعليق «المصنوع»! لا أريد أن أفوت على نفسي فائدة التنبيه عليهما :

الأول : قال بعد الفقرة السابقة مباشرة :

«٢ ـ لا أعرفه ، أو لم أعرفه أو لم أقف عليه ... أو ... أو ونحو هذه العبارات إذا صدر من أحد الحفاظ المعروفين ، ولم يتعقبه أحد كفى للحكم على ذلك الحديث بالوضع»!

كذا قال : وهو خطأ واضح ، يدل على بعده عن هذا العلم ، فإن هذه العبارات التي ساقها في هذه الفقرة هي في الدلالة على المراد منها كالعبارات التي ذكرها في الفقرة الأولى السابقة ، فكما أن تلك معناها : ليس له إسناد ، فكذلك هذه ولا فرق ، وإذا كان كذلك ، فكون الحديث لم يقف المخرج على إسناده ، فليس معناه عنده أنه موضوع ، لأن الحديث الموضوع ، إما أن يكون وضعه من قبل إسناده ، وذلك بأن يكون فيه كذاب أو وضاع ، وهذا لا سبيل إليه إلا من إسناده ، والفرض هنا أنه غير معروف ، وإما أن يكون من قبل متنه ، وذلك بأن يكون فيه ما يخالف القرآن أو السنة الصحيحة ، أو غير ذلك مما هو مذكور في «مصطلح الحديث» ، ومن المعلوم بداهة ، أنه ليس كل حديث لا إسناد له ؛ في متنه ما يدل على وضعه ، بل لعل العكس هو الصواب ، أعني أن غالبها ليس فيها ما يدل على وضعها ، كما أشار إلى ذلك العلامة القاري في الكتاب المذكور (ص ١٣٧) وإن تعقبه المتعصب ، فإن موضع الشاهد منه مسلم به اتفاقا ، وهو أن كثيرا منها ليس عليها

٣١

أمارات الوضع ، وهذا مما يدل عليه تعليق المتعصب نفسه هناك. فثبت بذلك خطؤه في قوله المتقدم أن قول أحد الحفاظ «لا أعرفه» أو نحوه كاف للحكم على الحديث بالوضع! ولو بالشرط الذي ذكره. وبالجملة فقولهم : لا أعرفه ، أو لا أصل له ، لا يساوي في اصطلاحهم قولهم : حديث موضوع إلا إذا كان هناك قرينة في متنه تدل على وضعه ، فيشيرون إلى ذلك بإضافة لفظة «باطل» كقول الحافظ العراقي في حديث الصلاة ليلة الجمعة بين المغرب والعشاء ١٢ ركعة ، وحديث الصلاة ليلة الجمعة بعد العشاء وسنتها عشر ركعات (١ / ٢٠٠ ـ «تخريج الاحياء» المطبعة التجارية) قال في كل منهما : «باطل لا أصل له». وقال مثله في حديث رواه الخضر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم! (١ / ٣٥٢). وكذلك قال في حديث رابع (١ / ٣٥٣) ، بينما لم يقل ذلك في عشرات الأحاديث الأخرى مما لا أصل له ، فانظر الصفحات (٩٢ ، ١٤٨ ، ١٥٠ ، ١٥٧ ، ١٥٩ ، ١٦٦ ، ١٧٠ ، ١٨٣ ، ١٨٧ ، ١٩٢ ، ٢٩٩ ، ٣٠٧ ـ ولفظه فيها : لم أجده) و (٦٠ ، ١٥٦ بلفظ : لم أجده بهذا اللفظ) و (٦٢ ، ٧٦ ، ١٢٥ ، ٢٣٧ بلفظ : لم أجده هكذا). و (٧٢ ، ١٥٢ ، ١٦٩ ، ٢٤٣ ، ٢٦٠ ، ٣١٢ ، ٣٢٠ ، ٣٥٤ بلفظ : لم أقف له على أصل ، ومرة : ليس له أصل). و (٧٦ ، ٨١ ، ١٠٢ ، ١٣٥ ، ١٤١ ، ١٧٧ ، ١٩٨ ، ٢٠٠ ، ٢٣٢ ، ٢٤٠ ، ٢٤١ ، ٢٩٦ ، ٣١٧ ، بلفظ : لم أجد له أصلا ، ومرة : إسنادا).

وكذلك وجدت في «المصنوع» خمسة أمثلة في أحاديثها : «باطل لا أصل له» فانظر (٧٥ ، ٢٤٨ ، ٢٦١ ، ٣٧٩ ، ٣٨٣) ، وسائر الأحاديث التي لا أصل لها مما جاء فيه لم يقل فيها : «باطل» ، كل ذلك إشارة إلى ما ذكرنا ، وهذا النوع «باطل لا أصل له» مما فات على المتعصب ذكره في تلك الأنواع مع استيفائه إياها ، وذلك دليل أيضا على بعده عن التحقيق العلمي.

المثال الآخر : جاء في «المصنوع» حديث رد الشمس على علي رضي الله عنه ليصلي العصر بعد أن غربت ولم يصل. فذكر المتعصب في التعليق عليه : جماعة من العلماء قالوا بأنه حديث موضوع ، وآخرون ذهبوا إلى تصحيحه منهم شيخه الكوثري ، فضل المتعصب بين هذين الحكمين المتناقضين ، ولم يستطع ـ وهو الأمر الطبيعي الملازم له! ـ أن يرجح أحدهما على الآخر ، ولكنه حاول بادئ الرأي أن

٣٢

يرجح التصحيح بدون مرجح ، وإنما تقليدا منه لشيخه الكوثري فقال (ص ٢١٥) :

«وقد جاءت كلمته رحمه‌الله تعالى على وجازتها ملخصة المسألة أحسن تلخيص ، اذ قال : «ولا كلام في صحة الحديث من حيث الصناعة ، لكن حكمه حكم أخبار الآحاد الصحيحة في المطالب العلمية». فأفاد بهذا الإيجاز البالغ أن الخبر على صحته لا ينهض في بابه وموضوعه ، لأنه من المطالب العلمية التي تتوقف على اليقينيات وما قاربها. فلا بد على هذا من تأويل الخبر مع قولنا بصحته لمخالفته ما هو من الأمور العلمية ، والله تعالى أعلم».

هكذا قال هذا المسكين ، ولم يدر أنه بهذه الفلسفة التي تلقاها من شيخه يجعله كما تقول العامة : «كنا تحت المطر ، فصرنا تحت المزارب» ، لأنه فتح على نفسه بابا للشباب الذين لا علم لهم بالسنة أن يردوا كل حديث صحيح ورد في الأمور التي ليست من الأحكام ، وإنما هي في المعجزات أو بدء الخلق والجنة والنار ، وبكلمة واحدة في الغيبيات التي تتوقف على اليقينيات بزعمه ويعني بذلك الأحاديث المتواترة ، ثم تحفظ فقال : «أو ما قاربها» ويعني الأحاديث المشهورة التي رواها أكثر من اثنين. أما الحديث الذي تفرد به الثقة وهو صحيح عند أهل العلم فليس حجة في الغيبيات عنده فلا بد من تأويله بزعمه ، وليت شعري كيف يؤول مثل هذا الحديث الذي يتحدث عن واقعة معينة؟ اللهم إلا بإنكار معناه وتعطيله حتى يتفق مع العقول المريضة والقلوب العليلة ، تماما كما فعلوا في آيات الصفات وأحاديثها! ثم إن المتعصب المذكور يبدو أنه بعد أن كتب عن شيخه ما كتب وقف على كلام شيخ الاسلام ابن تيمية في هذا الحديث فألحقه بكلام شيخه قائلا :

«على أن الذي يقرأ كلام الشيخ ابن تيمية يجزم بوضع الحديث»!

هكذا قال بالحرف الواحد ، فليتأمل القارئ كيف حكم في أول الأمر بصحة الحديث ، ثم ختمه بهذه العبارة التي توهم أنه قد مال أخيرا إلى أن الحديث موضوع! والحقيقة أنه لضعفه في هذا العلم لا يستطيع أن يقطع فيه برأي ، هذا اذا أحسنا الظن به ، وإلا فمن غير المعقول أن يخالف شيخه الكوثري إلى رأي ابن تيمية الذي حكم عليه شيخه بأن أكبر بلية أصيب المسلمون بها إنما هو ابن تيمية! وإنما

٣٣

حكى القولين المتناقضين ليفسح له المجال للدفاع عن نفسه إذا ما خاصمه أنصار أحدهما. ولله عاقبة الأمور (١).

٣ و ٤ ـ يريد المتعصب الجائر بما أخذه علي في الفقرتين السابقتين ، الطعن في قيمة تخريجي لأحاديث الكتاب ، كأنه يقول : كما وهم في إنكاره اللفظ المخرج عند الترمذي ، فمن الممكن أن يكون نفيه لكون الحديث الآخر في «الصحيح» وهما منه أيضا!

وجوابي على ذلك أن أقول : إذا فتح باب رد كلام الثقة بدون حجة ، وإنما لمجرد إمكان كونه أخطأ ، أو لأنه أخطأ فعلا في بعض المواطن ، لم يبق هناك مجال لقبول خبر أو علم أي ثقة أو عالم في الدنيا ، لأنه لا عصمة لأحد بعد نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما هو معلوم من الدين بالضرورة. وإن مما يدلك أيها القارئ على تحامل هذا المتعصب ، وأنه يقول في نقده إياي ما لا يعتقد ، أنه هو نفسه قد طبع في تعليقه على «الرفع والتكميل» (ص ١٢٢ ـ الطبعة الثانية) ما نصه :

«وقد يقع للثقة وهم أو أوهام يسيرة ، فلا يخرجه ذلك عن كونه ثقة»!

فهل نسي المتعصب الجائر قوله هذا أم تناساه؟! وصدق الله العظيم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ). (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ).

وإذا كان هذا المتعصب الجائر يحاول أن يسقط الثقة بمخرج «شرح الطحاوية» لوهم أو أكثر من وهم ، فما ذا يقول في شارح «الطحاوية» نفسه الذي يتظاهر هو بتبجيله والثقة به في مطلع تقريره وهو قوله :

«يرى الناظر في شرح الطحاوية أن الشارح لها من أهل التوثق والضبط والإتقان فيما ينقله من الأحاديث».

ونحن وإن كنا نعتقد أن الشارح رحمه‌الله تعالى هو من أهل الثقة والضبط حقا ، فإني أريد أن أحصر هنا الأوهام التي تنبهت لها ، وليس ذلك من باب الطعن فيه ، ورفع الثقة عنه ، كما هو ظاهر من ردنا الآنف على المتعصب الجائر ، وإنما لأمرين :

__________________

(١) والحق عندنا مع ابن تيمية كما شرحته قديما في «سلسلة الاحاديث الضعيفة» (٩٧١).

٣٤

الأول : إما أن أكون مصيبا فيما نسبت إلى الشارح من الأوهام عند المتعصب الجائر. وحينئذ نسأله : هل الشارح لا زال عندك «من أهل التوثق والضبط والاتقان» على الرغم من أوهامه كما هو عندنا قبل ذلك وبعده لما سبق ذكره من أن العصمة لله وحده؟ فإن أجاب بالإيجاب ، قلنا : فكيف يلتقي ذلك مع سعيك الحثيث لرفع الثقة عن مخرج أحاديث كتابه لمجرد أنه وهم في تخريج حديث واحد؟! أليس هذا من باب الوزن بميزانين والكيل بكيلين ، أو من قبيل الجمع بين الصيف والشتاء على سطح واحد؟!

وإن أجاب بالنفي ، فقد ظهر للناس حقيقة ما تخفيه نفسك ، وعرفوا أن ما تظهر على خلاف ما تبطن!

والأمر الآخر : إذا كنت مخطئا في ذلك عنده ، فيرجى منه أن يبين لنا ذلك لنرجع عنه كما رجعنا عن الوهم السابق ذكره. وبذلك يعرف الناس أن للألباني أخطاء كثيرة ، وأوهاما عديدة ، وهذا هدف هام للمتعصب يسعى إليه حثيثا ، لأنه بذلك ترتفع ـ بزعمه ـ ثقة الناس عن الألباني فعلا!

إذا تبين هذا ، فلنذكر الأوهام المشار إليها ، في خطوط عريضة ـ كما يقال اليوم ـ دون أن نذكرها مفصلا بمفرداتها ، مكتفين بالاشارة إلى صفحاتها من هذه الطبعة.

١ ـ عزا للصحيحين أو أحدهما وإلى اصحاب السنن الأربعة ما ليس عندهم ، فانظر الصفحات (١٥٩ ، ٣١٤ ، ٣٦١ ، ٤٥١ ، ٤٦٢ ، ٤٧٥ ، ٤٧٦ ، ٤٨٥ ، ٤٨٦ ، ٥١١).

٢ ـ يذكر الحديث عن صحابي يسميه ، وهو في الحقيقة لغيره.

انظر الصفحة (٢٨٣ ، ٣٨٠ ، ٣٩٣ ، ٥١٨).

٣ ـ صدّر حديثا عزاه لمسلم بصيغة «روي» ، وهي في اصطلاح العلماء موضوعة للحديث الضعيف ، مع أن الحديث صحيح ، أيضا فقد رواه البخاري دون مسلم!! (٣١٤).

٤ ـ أشار إلى تضعيف حديث أخرجه الشيخان في «صحيحيهما»! دون أن يذكر وجه تضعيفه ، ولا علة فيه عندي ، بل له شاهد يقويه ذكرته هناك (ص ١٦١)

٣٥

٥ ـ عزا إلى «الصحيح» حديثا من فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما هو من فعل بعض أصحابه ، ولكنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أقره. (ص ٣٦٧).

٦ ـ رفع حديثا موقوفا. (ص ٤٥٣).

٧ ـ ذكر حديثين لا أصل لهما. (ص ١٢٠ ، ٣٩٤).

إلى غير ذلك من الأوهام التي بيناها في محالها ، مما لا يخلو منه كتاب إلا نادرا ، لا سيما إذا كان مؤلفه ليس له اختصاص معرفة بعلم الحديث الشريف.

فما رأي المتعصب الحنفي في هذه الأوهام ، وهل تسقط بها عنده ثقة شارح الطحاوية التي يتظاهر بها ليتخذها سلاحا للطعن في الألباني وإسقاط الثقة به ، مع أنه لم يعلم منه سوى وهم واحد؟! أم هو يلعب على الحبلين ـ كما تقول العامة عندنا ـ فالرجل ثقة عنده إذا كان مرضيا لديه ـ ويكفي في ذلك أن يكون حنفيا كالشارح! أو كانت له مصلحة في التظاهر بالرضا عنه لدى القوم المقدرين له! مهما كانت أخطاؤه! وآخر غير ثقة عنده إذا كان هواه في عدائه وإسقاط الثقة به ، مهما قلت أخطاؤه ، ولا ذنب له سوى أنه ـ في نظرك ـ طلق حنفيته البتة! واتخذ السلفية مذهبا له ومشربا.

وقبل أن أنهي الكلام على هاتين الفقرتين أريد أن ألفت النظر إلى تدليس خبيث لهذا المتعصب ، فإن قوله عني : «وفي (ص ٥٣٦) (١) استدرك بعض المصححين ...» يشعر من لم يقف على الاستدراك المشار إليه في الصفحة المذكورة أنه لبعض المصححين ، والواقع خلافه ، فأنا الذي كتبته ووقعته باسمي ، ورغبت في طبعه في آخر الكتاب ، خضوعا للحق واعترافا بالخطإ ، دون أن أنسى وجوب نسبة الفضل إلى الذي نبهني عليه ، فقد قلت في الاستدراك المشار إليه :

«قلت : ثم تبين لي انني وهمت في توهيم المؤلف رحمه‌الله تعالى فإن اللفظ المذكور قد أخرجه الترمذي في تمام حديث : «اتقوا الحديث ...» ورواه ابن جرير أيضا وقد خرجته على الصواب في تحقيق «المشكاة» رقم الحديث (٢٣٤). والفضل في هذا الاستدراك يعود إلى أحد المصححين في المكتب الاسلامي ـ جزاه الله خيرا. محمد ناصر الدين الالباني».

__________________

(١) كان هذا في الطبعة السابقة ، وأما في طبعتنا هذه فقد ذكرنا الصواب فقط وانظر الحاشية (١٦٦)

٣٦

فترى أن كاتب الاستدراك إنما هو أنا ، والمصحح المشار إليه إنما له فضل التنبيه إلى وجود الحديث في الترمذي ، فلما راجعت له بعض المصادر وجدتني قد كنت خرجته في تعليقي على «المشكاة» قبل تخريجي لشرح الطحاوية بسنوات.

فتأمل أيها القارئ الكريم هل في استدراكي هذا معترفا بالوهم ، وعدم المكابرة فيه ـ كما قد يفعل غيري ـ ما يذم عليه صاحبه أم يمدح؟ ثم انظر كيف يقلب الحقائق فيأخذ من كلامي المذكور في «الاستدراك» نفسه أن الحديث في «المشكاة» وأنه رواه ابن جرير أيضا ، وأنا الذي ذكرته فيه معزوا إليه! فيتجاهل ذلك ، ولا ينسبه إلي ، وإنما إلى غيري! فهو يشيع الخطأ عن أخيه المسلم ولو بعد اعترافه ، ويكتم فضله عن الناس ، أهكذا يكون حال المسلم الذي علق في كتاب «الرفع والتكميل» (ص ٥١) : قال التابعي الجليل محمد بن سيرين :

«ظلم لأخيك أن تذكر منه أسوأ ما تعلم ، وتكتم خيره»؟! وصدق الله العظيم (... كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ). ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ يقول : «إذا لم تستح فاصنع ما شئت»

٥ ـ من الواضح أن المتعصب الجائر يشير في هذه الفقرة إلى الطعن في لتضعيفي إسناد هذا الحديث وقد رواه البخاري. وجوابي عليه من وجهين :

الأول : انني لست مبتدعا بهذا التضعيف ، بل أنا متبع فيه لغيري ممن سبقني من كبار أئمة الحديث وحفاظه ، مثل الذهبي في «الميزان» ، وابن رجب الحنبلي في «شرح الأربعين النووية» ، والحافظ ابن حجر العسقلاني في «فتح الباري» ـ كتاب الرقاق ـ وقد نقل هذا عن الذهبي أنه قال في ترجمة راويه خالد بن مخلد :

«هذا حديث غريب جدا ، لو لا هيبة «الصحيح» لعدّوه في منكرات خالد بن مخلد ، فإن هذا المتن لم يرو إلا بهذا الاسناد ، ولا خرجه من عدا البخاري ، ولا أظنه في «مسند أحمد» قال الحافظ ابن حجر : «قلت : ليس هو في مسند أحمد جزما ، وإطلاق أنه لم يرو هذا المتن إلا بهذا الاسناد مردود ، ومع ذلك فشريك شيخ شيخ خالد ـ فيه مقال أيضا ـ وهو راوي حديث المعراج الذي زاد فيه ونقص ،

٣٧

وقدم وأخر ، وتفرد فيه بأشياء لم ينابع عليها ... ولكن للحديث طرقا أخرى ، يدل مجموعها على أن له أصلا».

ثم خرج الحافظ هذه الطرق التي أشار إليها ، وبعضها حسن عنده ، وابن رجب يقول فيها : «لا تخلو من مقال». ولذلك كنت توقفت عن إعطاء حكم صريح لهذا الحديث بالصحة حتى يتيسر لي النظر في طرقه ، ثم يسر الله لي ذلك ، منذ بضع سنين ، فتبين لي أنه صحيح بمجموعها ، وأودعت تحقيق الكلام فيها ، وبيان ما لها وما عليها في «سلسلة الأحاديث الصحيحة» (١٦٤٠) ، وبناء على ذلك جزمت بصحته في هذه الطبعة كما تراه في الصفحة (٤٩٨).

والوجه الآخر : إذا كان المتعصب الجائر أخذ علي تضعيفي لإسناد الحديث دون متنه الذي كنت توقفت فيه إلى أن يتيسر لي تتبع طرقه ، فما ذا يقول في شيخه زاهد الكوثري الذي علق عليه في «الأسماء والصفات» للبيهقي (ص ٤٩١) بما يؤخذ منه أنه حديث منكر عنده جزما ، لأنه نقل كلام الذهبي المتقدم وفيه «ولم يرو هذا المتن إلا بهذا الاسناد» ثم أقره عليه ، ولم يتعقبه بشيء كما فعل الحافظ ، ولا تحفظ تحفظي السابق ، الأمر الذي يشعر الواقف على كلامه بأن الحديث عنده منكر لا يحتمل تقويه بطرقه ، خلافا لما صنعته أنا.

فيا أيها القارئ الفاضل : أليس الواجب على هذا المتعصب الجائر ، أن يقدر تحفظي هذا حق قدره ، بديل أن ينتقدني ، بل أن يوجه نقده إلى شيخه؟! بلى ثم بلى ، ذلك هو الواجب عليه لو تجرد عن الغرض والهوى ، وصدق من قال :

وعين الرضا عن كل عيب كليلة

ولكن عين السخط تبدي المساويا

وإذا كان هذا الجائر لم يجد في كل ما خرجته من أحاديث الكتاب ـ وهي تبلغ المئات ـ ما يتشبث به لينتقدني فيه إلا هذا الحديث الفرد على التفصيل الذي سلف ، ولي فيه سلف كما رأيت ، فما ذا يقول في نقد شيخه الكوثري لعشرات الأحاديث الصحيحة مما أخرجه الشيخان في «صحيحيهما» أو أحدهما ، فضلا عن غيرها من الأحاديث الثابتة عند أهل الحديث ، وذلك في رسائله وتعليقاته على بعض كتب السنة وغيرها ، ولا سلف له في تضعيف اكثرها! ولا بأس من أن أذكر في هذه

٣٨

العجالة ما تيسر لي منها الآن ، وبجانب كل حديث ذكر الكتاب والصفحة ومن خرجه.

١ ـ حديث «خلق الله التربة ...» رواه مسلم ـ التعليق على «الأسماء والصفات» (ص ٢٦ ، ٣٨٣).

٢ ـ حديث مراجعة موسى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الخمسين صلاة التي فرضت أول الأمر في ليلة الاسراء. متفق عليه (منه ص ١٨٩).

٣ ـ حديث الرؤية يوم القيامة ، وفيه أن الله تعالى يأتي المنافقين في غير صورته. أخرجه الشيخان (ص ٢٩٢ منه).

٤ ـ حديث : «تكون الأرض يوم القيامة خبزة ...» أخرجه الشيخان. (ص ٣٢٠ منه).

٥ ـ حديث ضحكه صلى‌الله‌عليه‌وسلم تصديقا لليهودي ... أخرجه الشيخان (ص ٣٣٦).

٦ ـ حديث الحشر والساق. أخرجه الشيخان. (ص ٣٤٤).

٧ ـ حديث قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : للجارية : «أين الله؟» رواه مسلم. (ص ٤٢١).

٨ ـ حديث أن الطلاق بلفظ الثلاث كان يحسب في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلقة واحدة. رواه مسلم «الإشفاق على أحكام الطلاق» (ص ٥٢ ـ ٥٦ طبعة حمص).

٩ ـ حديث علي رضي الله عنه في أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياه بهدم القبور المشرفة. رواه مسلم. (ص ١٥٩ ـ مقالات الكوثري).

١٠ ـ حديث جابر : «نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تجصيص القبور». رواه مسلم. (ص ١٥٩ ـ مقالات الكوثري).

١١ ـ حديث مالك بن الحويرث في رفع اليدين عند الركوع والرفع منه. أخرجه الشيخان. (ص ٨٣ ـ تأنيب الخطيب).

١٢ ـ حديث وائل بن حجر في رفع اليدين أيضا. رواه مسلم. (ص ٨٣ منه).

١٣ ـ حديث أنس في رضح رأس اليهودي لرضحه رأس جارية. رواه الشيخان (ص ٢٣ ـ منه).

١٤ ـ حديث ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى بيمين وشاهد. رواه مسلم. (ص ١٨٥ منه).

٣٩

هذه الأحاديث كلها في «الصحيحين» أو أحدهما كما رأيت ، وقد ضعّفها الكوثري كلها ، ومعها أمثالها ، لو تتبعها أحد من أهل العلم في كتبه وتعليقاته لجاءت في مجلد! وأما الأحاديث التي ضعفها مما ليس عند الشيخين فحدّث ولا حرج ، وتجد بعض الأمثلة منها مع الرد عليه فيها عند الشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني رحمه‌الله تعالى في كتابه الفذ «التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل (١)» ، وقد كنت قمت على تحقيقه وطبعه منذ بضع سنين.

فما رأي التلميذ البار في شيخه «العلامة المحقق الحجة الامام .. الكوثري» وقد ضعف هذه الأحاديث الصحيحة كلها؟!

بل ما رأيه هو نفسه في تضعيفه لحديث رواه مسلم في «صحيحه»؟! فقد قال تعليقا على قول اللكنوي في «الرفع» (ص ١٣٤ ـ ١٣٥) : ولا يصح الحديث لكونه شاذا أو معللا : قال المتعصب الجائر في تعليقه عليه :

«مثاله ما انفرد به مسلم في «صحيحه» (٤ / ١١١) من رواية .. قتادة عن أنس ابن مالك أنه حدثه قال : صليت خلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان ، فكانوا يستفتحون ب (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، لا يذكرون (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) في أول قراءة ولا في آخرها».

ثم نقل عن ابن الصلاح وجه الاعلال المشار إليه.

فما قول المتعصب الجائر في إقدامه المكشوف على تضعيفه لهذا الحديث في «صحيح مسلم» ، وهو ينقم عليّ توقفي عن تصحيح حديث البخاري المتقدم؟! مع ضعف سنده عند المحققين؟!

فإن قال : أنا في ذلك تابع لابن الصلاح : فالجواب : إن كان هذا لك عذرا ، فأنا أولى به منك لأن متبوعي في التضعيف المشار إليه أكثر وأشهر ، كما يعلم مما سبق! مع الفرق الكبير في ذلك وهو أنني ألمحت إلى إمكان ثبوت حديثي بطرقه ، وهذا ما لم يصنعه هو في حديثه الذي أعله ، بل إن الحافظ في «الفتح» دفع عنه علته ورحم الله من قال :

__________________

(١) ويقوم المكتب الاسلامي بإعادة طبعه مجددا مع اضافات كثيرة ، تبين حال أعداء السنة والحديث.

٤٠