شرح العقيدة الطّحاويّة

ابن أبي العزّ الحنفي

شرح العقيدة الطّحاويّة

المؤلف:

ابن أبي العزّ الحنفي


المحقق: الشيخ محمّد ناصر الدين الألباني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بغداد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٤

وجهه ، يرميهم بالتراب ، ويقول : «مهلا يا قوم! بهذا أهلكت الأمم من قبلكم ، باختلافهم على أنبيائهم ، وضربهم الكتب بعضها ببعض ، إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضا ، بل يصدق بعضه بعضا ، فما عرفتم منه فاعملوا به ، وما جهلتم منه فردوه الى عالمه» (١٧٤).

ولا شك أن الله قد حرم القول عليه بغير علم ، قال تعالى : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) الاعراف : ٣٣. وقال تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) الاسراء : ٣٦. فعلى العبد أن يجعل ما بعث الله به رسله ، وأنزل به كتبه هو الحق الذي يجب اتباعه ، فيصدق بأنه حق وصدق ، وما سواه من كلام سائر الناس يعرضه عليه ، فإن وافقه فهو حق ، وإن خالفه فهو باطل ، وان لم يعلم : هل خالفه أو وافقه ـ يكون ذلك الكلام مجملا لا يعرف مراد صاحبه ، أو قد عرف مراده لكن لم يعرف هل جاء الرسول بتصديقه أو بتكذيبه ـ فإنه يمسك عنه ، ولا يتكلم إلا بعلم ، والعلم ما قام عليه الدليل ، والنافع منه ما جاء به الرسول ، وقد يكون علم من غير الرسول ، لكن في الامور الدنيوية ، مثل الطب والحساب والفلاحة ، وأما الامور الإلهية والمعارف الدينية ، فهذه العلم فيها ما أخذ عن الرسول لا غير.

قوله : (ولا تثبت قدم الاسلام الا على ظهر التسليم والاستسلام).

ش : هذا من باب الاستعارة ، اذ القدم الحسي لا تثبت الا على ظهر شيء. أي لا يثبت اسلام من لم يسلّم لنصوص الوحيين ، وينقاد إليها ، ولا يعترض عليها ولا يعارضها برأيه ومعقوله وقياسه. روى البخاري عن الإمام محمد بن شهاب الزهري رحمه‌الله أنه قال : من الله الرسالة ، ومن الرسول البلاغ ، وعلينا التسليم.

وهذا كلام جامع نافع.

وما أحسن المثل المضروب للنقل مع العقل ، وهو : أن العقل مع النقل كالعامي

__________________

(١٧٤) صحيح وأخرجه البغوي أيضا في شرح السنة رقم (١٢١) طبع المكتب الاسلامي.

ورجاله ثقات على خلاف معروف في عمرو بن شعيب.

٢٠١

المقلد مع العالم المجتهد ، بل هو دون ذلك بكثير ، فإن العامي يمكنه أن يصير عالما ، ولا يمكن العالم أن يصير نبيا رسولا ، فاذا عرف العامي المقلد عالما ، فدل عليه عاميّا آخر. ثم اختلف المفتي والدال ، فإن المستفتي يجب عليه قبول قول المفتي ، دون الدال ، فلو قال الدال : الصواب معي دون المفتي ، لأني أنا الأصل في علمك بأنك مفت ، فإذا قدمت قوله على قولي قدحت في الأصل الذي به عرفت أنه مفت ، فلزم القدح في فرعه! فيقول له المستفتي : أنت لما شهدت له بأنه مفت ، ودللت عليه ، شهدت له بوجوب تقليده دونك ، فموافقتي لك في هذا العلم المعين ، لا تستلزم موافقتك في كل مسألة ، وخطؤك فيما خالفت فيه المفتي الذي هو أعلم منك ، لا يستلزم خطأك في علمك بأنه مفت ، هذا مع علمه أن ذلك المفتي قد يخطئ.

والعاقل يعلم أن الرسول معصوم في خبره عن الله تعالى ، لا يجوز عليه الخطأ ، فيجب عليه التسليم له والانقياد لأمره ، وقد علمنا بالاضطرار من دين الإسلام أن الرجل لو قال للرسول : هذا القرآن الذي تلقيه علينا ، والحكمة التي جئتنا بها ، قد تضمن كل منهما أشياء كثيرة تناقض ما علمناه بعقولنا ، ونحن إنما علمنا صدقك بعقولنا ، فلو قبلنا جميع ما تقوله مع أن عقولنا تناقض ذلك لكان قدحا في ما علمنا به صدقك ، فنحن نعتقد موجب العقول الناقضة لما ظهر من كلامك ، وكلامك نعرض عنه ، لا نتلقى منه هديا ولا علما ، لم يكن مثل هذا الرجل مؤمنا بما جاء به الرسول ، ولم يرض منه الرسول بهذا ، بل يعلم أن هذا لو ساغ لأمكن كل أحد أن يؤمن بشيء مما جاء به الرسول ، إذ العقول متفاوتة ، والشبهات كثيرة ، والشياطين لا تزال تلقي الوسواس في النفوس ، فيمكن كل أحد أن يقول مثل هذا في كل ما أخبر به الرسول وما أمر به!! وقد قال تعالى : (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) النور : ٥٤. وقال : (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) النحل : ٣٥. وقال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) ابراهيم : ٤. (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) المائدة : ١٥. (حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) الدخان : ١ ـ ٢ ، والزخرف : ١ ـ ٢. (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) يوسف : ٢. (ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يوسف : ١١١. (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ

٢٠٢

الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) النحل : ٨٩. ونظائر ذلك كثيرة في القرآن. فأمر الإيمان بالله واليوم الآخر : إما أن يكون الرسول تكلم فيه بما يدل على الحق أم لا؟ الثاني باطل ، وإن كان قد تكلم [بما يدل] على الحق بألفاظ مجملة محتملة ، فما بلّغ البلاغ المبين ، وقد شهد له خير القرون بالبلاغ ، وأشهد الله عليهم في الموقف الأعظم ، فمن يدعي أنه في أصول الدين لم يبلغ البلاغ المبين ، فقد افترى عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله : (فمن رام علم ما حظر عنه علمه ، ولم يقنع بالتسليم فهمه ، حجبه مرامه عن خالص التوحيد ، وصافي المعرفة ، وصحيح الإيمان).

ش : هذا تقرير للكلام الاول ، وزيادة تحذير أن يتكلم في أصول الدين ـ بل وفي غيرها ـ بغير علم. وقال تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) الاسراء : ٣٦. وقال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ. كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) الحج : ٣ ـ ٤. وقال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ. ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) الحج : ٨ ـ ٩. وقال تعالى : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) القصص : ٥٠. وقال تعالى : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ ، وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) النجم : ٢٣. الى غير ذلك من الآيات لدالة على هذا المعنى.

وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل» ثم تلا : (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً) (١٧٥) الزخرف : ٥٨. رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن. وعن عائشة رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ان أبغض الرجال الى الله الألد الخصم». خرجاه في «الصحيحين».

__________________

(١٧٥) حسن كما قال الترمذي. «المشكاة» (١٨٠) و «صحيح الترغيب» (رقم ١٣٧).

٢٠٣

ولا شك أن من لم يسلم للرسول نقص توحيده ، فإنه يقول برأيه وهواه ، ويقلد ذا رأي وهوى بغير هدى من الله ، فينقص من توحيده بقدر خروجه عما جاء به الرسول ، فانه قد اتخذه في ذلك إلها غير الله. قال تعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) الفرقان : ٤٣. أي : عبد ما تهواه نفسه. وإنما دخل الفساد في العالم من ثلاث فرق ، كما قال عبد الله بن المبارك رحمة الله عليه :

رأيت الذنوب تميت القلوب

وقد يورث الذلّ إدمانها

وترك الذنوب حياة القلوب

وخير لنفسك عصيانها

وهل أفسد الدين إلا الملوك

وأحبار سوء ورهبانها

فالملوك الجائرة يعترضون على الشريعة بالسياسات الجائرة ، ويعارضونها بها ، ويقدمونها على حكم الله ورسوله. وأحبار السوء ، وهم العلماء الخارجون عن الشريعة بآرائهم وأقيستهم الفاسدة ، المتضمنة تحليل ما حرم الله ورسوله ، وتحريم ما أباحه ، واعتبار ما ألغاه ، وإلغاء ما اعتبره ، واطلاق ما قيده ، وتقييد ما أطلقه ، ونحو ذلك. والرهبان وهم جهال المتصوفة ، المعترضون على حقائق الإيمان والشرع ، بالأذواق والمواجيد والخيالات والكشوفات الباطلة الشيطانية ، المتضمنة شرع دين لم يأذن به الله ، وإبطال دينه الذي شرعه على لسان نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتعوض عن حقائق الايمان بخدع الشيطان وحظوظ النفس. فقال الأولون : إذا تعارضت السياسة والشرع قدمنا السياسة! وقال الآخرون : إذا تعارض العقل والنقل قدمنا العقل! وقال أصحاب الذوق إذا تعارض الذوق والكشف ، وظاهر الشرع قدمنا الذوق والكشف.

ومن كلام أبي حامد الغزالي رحمه‌الله في كتابه الذي سماه «إحياء علوم الدين» وهو من أجلّ كتبه ، أو أجلّها : «فإن قلت : فعلم الجدل والكلام مذموم كعلم النجوم أو هو مباح أو مندوب إليه؟ فاعلم أن للناس في هذا غلوّا وإسرافا في أطراف. فمن قائل : انه بدعة وحرام ، وان العبد أن يلقى الله بكل ذنب سوى الشرك خير له من أن يلقاه بالكلام. ومن قائل : إنه فرض ، إما على الكفاية ، واما على الاعيان ، وانه أفضل الأعمال وأعلى القربات ، فإنه تحقيق لعلم التوحيد ونضال

٢٠٤

عن دين الله. قال : وإلى التحريم ذهب الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وسفيان وجميع أئمة الحديث من السلف» وساق الالفاظ عن هؤلاء. قال : وقد اتفق أهل الحديث من السلف على هذا. لا ينحصر ما نقل عنهم من التشديدات فيه ، قالوا : ما سكت عنه الصحابة ـ مع أنهم أعرف بالحقائق وأفصح بترتيب الألفاظ من غيرهم ـ إلا لما يتولد منه من الشر. وكذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هلك المتنطعون» (١٧٦). أي المتعمقون في البحث والاستقصاء. واحتجوا أيضا بأن ذلك لو كان من الدين لكان أهم ما يأمر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويعلم طريقه ويثني على أربابه. ثم ذكر بقية استدلالهم ، ثم ذكر استدلال الفريق الآخر. إلى أن قال : فإن قلت : فما المختار عندك؟ فأجاب بالتفصيل ، فقال : فيه منفعة ، وفيه مضرة : فهو في وقت الانتفاع حلال أو مندوب أو واجب ، كما يقتضيه الحال. وهو باعتبار مضرته في وقت الاستضرار ومحله حرام. قال : فأما مضرته ، فإثارة الشبهات ، وتحريف العقائد وإزالتها عن الجزم والتصميم ، وذلك مما يحصل بالابتداء ، ورجوعها بالدليل مشكوك فيه ، ويختلف فيه الأشخاص. فهذا ضرره في اعتقاد الحق ، وله ضرر في تأكيد اعتقاد البدعة ، وتثبيتها في صدورهم ، بحيث تنبعث دواعيهم ويشتد حرصهم على الإصرار عليه ، ولكن هذا الضرر بواسطة التعصب الذي يثور من الجدل. قال : وأما منفعته ، فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه وهيئتها ، فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف ، ولعل التخبيط والتضليل أكثر من الكشف والتعريف. قال : وهذا إذا سمعته من محدّث أو حشوي ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا ، فاسمع هذا ممن خبر الكلام ، ثم قاله بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين ، وجاوز ذلك الى التعمق في علوم أخر سوى نوع الكلام ، وتحقق أن الطريق الى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود. ولعمري لا ينفك الكلام عن كشف وتعريف وإيضاح لبعض الأمور ، ولكن على الندور. انتهى ما نقلته عن الغزالي رحمه‌الله. وكلام مثله في ذلك حجة بالغة ، والسلف لم يكرهوه لمجرد كونه اصطلاحا

__________________

(١٧٦) مسلم ، من حديث ابن مسعود وهو مخرج في «غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام» (برقم ٧)

.

٢٠٥

جديدا على معان صحيحة ، كالاصطلاح على ألفاظ العلوم الصحيحة ، ولا كرهوا أيضا الدلالة على الحق والمحاجة لأهل الباطل ، بل كرهوه لاشتماله على أمور كاذبة مخالفة للحق. ومن ذلك : مخالفتها للكتاب والسنة وما فيه من علوم صحيحة ، فقد وعروا الطريق إلى تحصيلها ، وأطالوا الكلام في إثباتها مع قلة نفعها ، فهي لحم جمل غثّ على رأس جبل وعر ، لا سهل فيرتقى ، ولا سمين فينتقى. وأحسن ما عندهم فهو في القرآن أصح تقريرا ، وأحسن تفسيرا ، فليس عندهم إلا التكلف والتطويل والتعقيد. كما قيل :

لو لا التنافس في الدنيا لما وضعت

كتب التناظر لا «المغني» ولا «العمد»

يحللون بزعم منهم عقدا

وبالذي وضعوه زادت العقد

فهم يزعمون أنهم يدفعون بالذي وضعوه ، الشّبه والشكوك ، والفاضل الذي يعلم أن الشبه والشكوك زادت بذلك.

ومن المحال أن لا يحصل الشفاء والهدى والعلم واليقين من كتاب الله وكلام رسوله ، ويحصل من كلام هؤلاء المتحيرين. بل الواجب أن يجعل ما قاله الله ورسوله هو الأصل ، ويتدبر معناه ويعقله ، ويعرف برهانه ودليله العقلي والخبري السمعي ، ويعرف دلالته على هذا وهذا ، ويجعل أقوال الناس التي توافقه وتخالفه متشابهة مجملة ، فيقال لأصحابها : هذه الألفاظ تحتمل كذا وكذا ، فإن أرادوا بها ما يوافق خبر الرسول قبل ، وإن أرادوا بها ما يخالفه رد. وهذا مثل لفظ المركب والجسم والتحيز والجوهر والجهة والحيز والعرض ، ونحو ذلك. فإن هذه الألفاظ لم تأت في الكتاب والسنة بالمعنى الذي يريده أهل الاصطلاح ، بل ولا في اللغة ، بل هم يخصون بالتعبير بها عن معان لم يعبر غيرهم عنها بها ، فتفسر تلك المعاني بعبارات أخر ، وينظر ما دل عليه القرآن من الأدلة العقلية والسمعية ، وإذا وقع الاستفسار والتفصيل تبين الحق من الباطل.

مثال ذلك ، في التركيب. فقد صار له معان : أحدها : التركيب من متباينين فأكثر. ويسمى : تركيب مزج ، كتركيب الحيوان من الطبائع الأربع والأعضاء ونحو ذلك ، وهذا المعنى منفي عن الله سبحانه وتعالى ، ولا يلزم من وصف الله تعالى بالعلوّ ونحوه من صفات الكمال ، أن يكون مركبا بهذا المعنى المذكور.

٢٠٦

والثاني : تركيب الجوار ، كمصراعي الباب ونحو ذلك ، ولا يلزم أيضا من ثبوت صفاته تعالى إثبات هذا التركيب. الثالث : التركيب من الأجزاء المتماثلة ، وتسمى : الجواهر المفردة. الرابع : التركيب من الهيولى والصورة ، كالخاتم مثلا ، هيولاه : الفضة ، وصورته معروفة. وأهل الكلام قالوا : إن الجسم يكون مركبا من الجواهر المفردة ، ولهم كلام في ذلك يطول ، ولا فائدة فيه؟؟ هو أنه : هل يمكن التركيب من جزءين ، أو من أربعة ، أو ستة ، أو ثمانية ، أو ستة عشر؟ وليس هذا التركيب لازما لثبوت صفاته تعالى وعلوه على خلقه. والحق أن الجسم غير مركب من هذه الأشياء ، وإنما قولهم مجرد دعوى ، وهذا مبسوط في موضعه. الخامس : التركيب من الذات والصفات ، هم سموه تركيبا لينفوا به صفات الرب تعالى ، وهذا اصطلاح منهم لا يعرف في اللغة ، ولا في استعمال الشارع ، فلسنا نوافقهم على هذه التسمية ولا كرامة. ولئن سموا إثبات الصفات تركيبا ـ : فنقول لهم : العبرة للمعاني لا للألفاظ ، سموه ما شئتم ، ولا يترتب على التسمية بدون المعنى حكم! فلو اصطلح على تسمية اللبن خمرا ، لم يحرم بهذه التسمية. السادس : التركيب من الماهية ووجودها ، وهذا يفرضه الذهن أنهما غيران ، وأما في الخارج ، هل يمكن ذات مجردة عن وجودها ، ووجودها مجرد عنها؟ هذا محال. فترى أهل الكلام يقولون : هل ذات الرب وجوده أم غير وجوده؟ ولهم في ذلك خبط كثير. وأمثلهم طريقة رأي الوقف والشك في ذلك. وكم يزول بالاستفسار والتفصيل كثير من الأضاليل والأباطيل.

وسبب الإضلال الإعراض عن تدبر كلام الله وكلام رسوله ، والاشتغال بكلام اليونان والآراء المختلفة. وإنما سمي هؤلاء : أهل الكلام ، لأنهم لم يفيدوا علما لم يكن معروفا ، وإنما أتوا بزيادة كلام قد لا يفيد ، وهو ما يضربونه من القياس لإيضاح ما علم بالحس ، وإن كان هذا القياس وأمثاله ينتفع به في موضع آخر ، ومع من ينكر الحس. وكل من قال برأيه وذوقه وسياسته ـ مع وجود النص ، أو عارض النص بالمعقول ـ فقد ضاهى إبليس ، حيث لم يسلم لأمر ربه ، بل قال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) الأعراف : ١٢. وقال تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) النساء : ٨٠. وقال

٢٠٧

تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) آل عمران : ٣١. وقال تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) النساء : ٦٥. أقسم سبحانه بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يحكّموا نبيه ويرضوا بحكمه ويسلموا تسليما.

قوله : (فيتذبذب بين الكفر والايمان ، والتصديق والتكذيب ، والاقرار والانكار ، موسوسا تائها ، شاكا ، لا مؤمنا مصدقا ، ولا جاحدا مكذبا).

ش : يتذبذب : يضطرب ويتردد. وهذه الحالة التي وصفها الشيخ رحمه‌الله حال كل من عدل عن الكتاب والسنة إلى علم الكلام المذموم ، أو أراد أن يجمع بينه وبين الكتاب والسنة ، وعند التعارض يتأول النص ويرده الى الرأي والآراء المختلفة ، فيؤول أمره إلى الحيرة والضلال والشك ، كما قال ابن رشد الحفيد ، وهو من أعلم الناس بمذاهب الفلاسفة ومقالاتهم ، في كتابه «تهافت التهافت» : «ومن الذي قال في الإلهيات شيئا يعتد به؟». وكذلك الآمدي ، أفضل أهل زمانه ، واقف في المسائل الكبار حائر. وكذلك الغزالي رحمه‌الله ، انتهى آخر أمره إلى الوقف والحيرة في المسائل الكلامية ، ثم أعرض عن تلك الطرق وأقبل على أحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمات و [وصحيح الإمام] البخاري على صدره. وكذلك أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي ، قال في كتابه الذي صنفه : [أقسام] اللذات :

نهاية إقدام العقول عقال

وغاية سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا

وحاصل دنيانا أذى ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا

سوى أن جمعنا فيه : قيل وقالوا

فكم قد رأينا من رجال ودولة

فبادوا جميعا مسرعين وزالوا

وكم من جبال قد علت شرفاتها

رجال ، فزالوا والجبال جبال

لقد تأملت الطرق الكلامية ، والمناهج الفلسفية ، فما رأيتها تشفي عليلا ، ولا تروي غليلا ، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن ، أقرأ في الإثبات : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) طه : ٥. (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) فاطر : ١٠. وأقرأ في

٢٠٨

النفي : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) الشورى : ١١ (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) طه : ١١٠. ثم قال : «ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي».

وكذلك قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم الشهرستاني ، إنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم ، حيث قال :

لعمري لقد طفت المعاهد كلها

وسيرت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعا كفّ حائر

على ذقن أو قارعا سنّ نادم

وكذلك قال أبو المعالي الجويني : يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام ، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به. وقال عند موته : لقد خضت البحر الخضم ، وخليت أهل الإسلام وعلومهم ، ودخلت في الذي نهوني عنه ، والآن فإن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني ، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي ، أو قال : على عقيدة عجائز نيسابور. وكذلك قال شمس الدين الخسروشاهي شاهي ، وكان من أجل تلامذة فخر الدين الرازي ، لبعض الفضلاء ، وقد دخل عليه يوما ، فقال : ما تعتقده؟ قال : ما يعتقده المسلمون ، فقال : وأنت منشرح الصدر لذلك مستيقن به؟ أو كما قال ، فقال : نعم ، فقال : أشكر الله على هذه النعمة ، لكني والله ما أدري ما أعتقد ، والله ما أدري ما أعتقد ، والله ما أدري ما أعتقد ، وبكى حتى أخضل لحيته. ولابن أبي الحديد. الفاضل المشهور بالعراق :

فيك يا أغلوطة الفكر

حار أمري وانقضى عمري

سافرت فيك العقول فما

ربحت إلا أذى السفر

فلحى الله الأولى زعموا

أنك المعروف بالنظر

كذبوا إن الذي ذكروا

خارج عن قوة البشر

وقال الخوفجي عند موته : ما عرفت مما حصلته شيئا سوى أن الممكن يفتقر إلى المرجح ، ثم قال : الافتقار وصف سلبي ، أموت وما عرفت شيئا. وقال آخر : أضطجع على فراشي وأضع اللحفة على وجهي ، وأقابل بين حجج هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر ، ولم يترجح عندي منها شيء.

ومن يصل الى مثل هذه الحال إن لم يتداركه الله برحمته والا تزندق ، كما قال أبو يوسف : من طلب الدين بالكلام تزندق ، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس ، ومن

٢٠٩

طلب غريب الحديث كذب. وقال الشافعي رحمه‌الله : حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ، ويطاف بهم في القبائل والعشائر ، ويقال : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام. وقال : لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننت مسلما يقوله ، ولأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ـ ما خلا الشرك بالله ـ خير له من أن يبتلى بالكلام. انتهى.

وتجد أحد هؤلاء عند الموت يرجع إلى مذهب العجائز ، فيقر بما أقروا به ويعرض عن تلك الدقائق المخالفة لذلك ، التي كان يقطع بها ، ثم تبين له فسادها ، أو لم يتبين له صحتها ، فيكونون في نهاياتهم ـ إذا سلموا من العذاب ـ بمنزلة أتباع أهل العلم من الصبيان والنساء والأعراب.

والدواء النافع لمثل هذا المرض ، ما كان طبيب القلوب صلوات الله وسلامه عليه يقوله ـ إذا قام من الليل يفتتح الصلاة ـ : «اللهم ربّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» (١٧٧). خرجه مسلم. توجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ربه بربوبية جبرائيل وميكائيل وإسرافيل أن يهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه ، إذ حياة القلب بالهداية. وقد وكل الله سبحانه هؤلاء الثلاثة بالحياة : فجبرائيل موكل بالوحي الذي هو سبب حياة القلوب ، وميكائيل بالقطر الذي هو سبب حياة الأبدان وسائر الحيوان ، وإسرافيل بالنفخ في الصور الذي هو سبب حياة العالم وعود الأرواح إلى أجسادها. فالتوسل الى الله سبحانه بربوبية هذه الأرواح العظيمة الموكلة بالحياة ، له تأثير عظيم في حصول المطلوب. والله المستعان.

قوله : (ولا يصح الايمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم بوهم ، أو تأولها بفهم ، اذ كان تأويل الرؤية ـ وتأويل كل معنى يضاف الى الربوبية ـ بترك التأويل ، ولزوم التسليم ، وعليه دين المسلمين ، ومن لم يتوقّ النفي والتشبيه ، زل ولم يصب التنزيه).

__________________

(١٧٧) صحيح ، ورواه أبو عوانة أيضا في «صحيحه».

٢١٠

ش : يشير الشيخ رحمه‌الله إلى الرد على المعتزلة ومن يقول بقولهم في نفي الرؤية ، وعلى من يشبه الله بشيء من مخلوقاته. فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر» (١٧٨) ، الحديث : أدخل «كاف» التشبيه على «ما» المصدرية [أو] الموصولة بترون التي تتأول مع صلتها الى المصدر الذي هو الرؤية ، فيكون التشبيه في الرؤية لا في المرئي. وهذا بين واضح في أن المراد إثبات الرؤية وتحقيقها ، ودفع الاحتمالات عنها. وما ذا بعد هذا البيان وهذا الإيضاح؟! فإذا سلط التأويل على مثل هذا النص ، كيف يستدل بنص من النصوص؟! وهل يحتمل هذا النص أن يكون معناه : إنكم تعلمون ربكم كما تعلمون القمر ليلة البدر؟! ويستشهد لهذا التأويل الفاسد بقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) الفيل : ١. ونحو ذلك مما استعمل فيه «رأى» التي من أفعال القلوب!! ولا شك أن «ترى» تارة تكون بصرية ، وتارة تكون قلبية ، وتارة تكون من رؤيا الحلم ، وغير ذلك ، ولكن ما يخلو الكلام من قرينة تخلّص أحد معانيه من الباقي. وإلا لو أخلى المتكلم كلامه من القرينة المخلّصة لأحد المعاني لكان مجملا ملغزا ، لا مبيّنا موضحا. وأي بيان وقرينة فوق قوله : «ترون ربكم كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب»؟ فهل مثل هذا مما يتعلق برؤية البصر ، أو برؤية القلب؟ وهل يخفى مثل هذا إلا على من أعمى الله قلبه؟

فإن قالوا : ألجأنا إلى هذا التأويل ، حكم العقل بأن رؤيته تعالى محال لا يتصور إمكانها!

فالجواب : أن هذه دعوى منكم ، خالفكم فيها أكثر العقلاء ، وليس في العقل ما يحيلها ، بل لو عرض على العقل موجود قائم بنفسه لا يمكن رؤيته لحكم بأن هذا محال.

وقوله : «لمن اعتبرها منهم بوهم» ، أي توهم أن الله تعالى يرى على صفة كذا ، فيتوهم تشبيها ، ثم بعد هذا التوهم ـ إن أثبت ما توهمه من الوصف ـ فهو مشبه ، وإن نفى الرؤية من أصلها لأجل ذلك التوهم ـ فهو جاحد معطل. بل

__________________

(١٧٨) متفق عليه ، وقد تقدم (ص ١٩٣).

٢١١

الواجب دفع ذلك الوهم وحده ، ولا يعم بنفيه الحق والباطل ، فينفيهما ردّا على من أثبت الباطل ، بل الواجب رد الباطل وإثبات الحق.

وإلى هذا المعنى أشار الشيخ رحمه‌الله بقوله : «ومن لم يتوقّ النفي والتشبيه ، ازل ولم يصب التنزيه» فإن هؤلاء المعتزلة يزعمون أنهم ينزهون الله بهذا النفي! وهل يكون التنزيه بنفي صفة الكمال؟ فإن نفي الرؤية ليس بصفة كمال ، إذ المعدوم لا يرى ، وإنما الكمال في إثبات الرؤية ونفي إدراك الرائي له ادراك احاطة ، كما في العلم ، فإن نفي العلم به ليس بكمال ، وإنما الكمال في إثبات العلم ونفي الإحاطة به علما. فهو سبحانه لا يحاط به رؤية ، كما لا يحاط به علما.

وقوله : «أو تأولها بفهم» أي ادعى أنه فهم لها تأويلا يخالف ظاهرها ، وما يفهمه كل عربي من معناها ، فإنه قد صار اصطلاح المتأخرين في معنى التأويل : أنه صرف اللفظ عن ظاهره ، وبهذا تسلط المحرّفون على النصوص ، وقالوا : نحن نتأول ما يخالف قولنا ، فسموا التحريف : تأويلا ، تزيينا له وزخرفة ليقبل ، وقد ذم الله الذين زخرفوا الباطل ، قال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) الانعام : ١١٢. العبرة للمعاني لا للألفاظ. فكم من باطل قد أقيم عليه دليل مزخرف عورض به دليل الحق. وكلامه هنا نظير قوله فيما تقدم : «لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ، ولا متوهمين بأهوائنا». ثم أكد هذا المعنى بقوله : «إذا كان تأويل الرؤية ـ وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية ـ : بترك التأويل ، ولزوم التسليم ، وعليه دين المسلمين». ومراده ترك التأويل [الذي] يسمونه تأويلا ، وهو تحريف. ولكن الشيخ رحمه‌الله تأدب وجادل بالتي هي أحسن ، كما أمر الله تعالى بقوله : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) النحل : ١٢٥. وليس مراده ترك كل ما يسمى تأويلا ، ولا ترك شيئا من الظواهر لبعض الناس لدليل راجح من الكتاب والسنة. وإنما مراده ترك التأويلات الفاسدة المبتدعة ، المخالفة لمذهب السلف ، التي يدل الكتاب والسنة على فسادها ، وترك القول على الله بلا علم.

فمن التأويلات الفاسدة ، تأويل أدلة الرؤية ، وأدلة العلو ، وأنه لم يكلم موسى تكليما ، ولم يتخذ إبراهيم خليلا!

٢١٢

ثم قد صار لفظ «التأويل» مستعملا في غير معناه الأصلي.

فالتأويل في كتاب الله وسنة رسوله : هو الحقيقة التي يؤول إليها الكلام. فتأويل الخبر : هو عين المخبر به ، وتأويل الأمر : نفس الفعل المأمور به. كما قالت عائشة رضي الله عنها : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في ركوعه : سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي» يتأول القرآن (١٧٩). وقال تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) الاعراف : ٥٣. ومنه تأويل الرؤيا ، وتأويل العمل ، كقوله : (هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ) يوسف : ١٠٠. وقوله : (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) يوسف : ٦. وقوله : (ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) النساء : ٥٩. وقوله : (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) الكهف : ٧٨ ، الى قوله : (ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) الكهف : ٨٢ ، فمن ينكر وقوع مثل هذا التأويل ، والعلم بما تعلق بالأمر والنهي منه؟ وأما ما كان خبرا ، كالإخبار عن الله واليوم الآخر ، فهذا قد لا يعلم تأويله ، الذي هو حقيقته ، إذ كانت لا تعلم بمجرد الإخبار ، فإن المخبر إن لم يكن قد تصور المخبر به ، أو ما يعرفه قبل ذلك ـ لم يعرف حقيقته ، التي هي تأويله ، بمجرد الإخبار. وهذا هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله. لكن لا يلزم من نفي العلم بالتأويل نفي العلم بالمعنى الذي قصد المخاطب إفهام المخاطب إياه ، فما في القرآن آية إلا وقد أمر الله بتدبرها ، وما أنزل آية إلا وهو يحب أن يعلم ما عنى بها ، وان كان من تأويله ما لا يعلمه إلا الله. فهذا معنى التأويل في الكتاب والسنة وكلام السلف ، وسواء كان هذا التأويل موافقا للظاهر أو مخالفا له.

والتأويل في كلام كثير من المفسرين ، كابن جرير ونحوه ، يريدون به تفسير الكلام وبيان معناه ، سواء وافق ظاهره أو خالف ، وهذا اصطلاح معروف. وهذا التأويل كالتفسير ، يحمد حقه ، ويرد باطله. وقوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) آل عمران : ٧ ، الآية ـ فيها قراءتان : قراءة من يقف

__________________

(١٧٩) متفق عليه.

٢١٣

على قوله (إلا الله) ، وقراءة من لا يقف عندها ، وكلتا القراءتين حق. ويراد بالأولى المتشابه في نفسه الذي استأثر الله بعلم تأويله. ويراد بالثانية المتشابه الإضافي الذي يعرف الراسخون تفسيره ، وهو تأويله. ولا يريد من وقف على قوله (إلا الله) أن يكون التأويل بمعنى التفسير للمعنى ، فإن لازم هذا أن يكون الله أنزل على رسوله كلاما لا يعلم معناه جميع الأمة ولا الرسول ، ويكون الراسخون في العلم لا حظّ لهم في معرفة معناها سوى قولهم : (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) آل عمران : ٧. وهذا القدر يقوله غير الراسخ في العلم من المؤمنين ، والراسخون في العلم يجب امتيازهم عن عوامّ المؤمنين في ذلك. وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما : أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله. ولقد صدق رضي الله عنه ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا له وقال : «اللهم فقّهه في الدين ، وعلّمه التأويل» (١٨٠). رواه البخاري وغيره. ودعاؤه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يرد. قال مجاهد : عرضت المصحف على ابن عباس ، من أوله إلى آخره ، أقفه عند كل آية وأسله عنها. وقد تواترت النقول عنه أنه تكلم في جميع معاني القرآن ، ولم يقل عن آية إنها من المتشابه الذي لا يعلم أحد تأويله إلا الله. وقول الأصحاب رحمهم‌الله في الأصول : المتشابه : الحروف المقطعة في أوائل السور ، ويروى هذا عن ابن عباس. مع أن هذه الحروف قد تكلم في معناها أكثر الناس ، فإن كان معناها معروفا ، فقد عرف معنى المتشابه ، وإن لم يكن معروفا ، وهي المتشابه ، كان ما سواها معلوم المعنى ، وهذا المطلوب.

وأيضا فإن الله قال : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) آل عمران : ٧. وهذه الحروف ليست آيات عند جمهور العادّين.

__________________

(١٨٠) صحيح ، رواه أحمد (١ / ٢٦٦ ، ٣١٤ ، ٣٢٨ ، ٣٣٥) والطبراني في «المعجم الكبير» (١ / ٨٤ / ٢) والبيهقي في «دلائل النبوة» والضياء المقدسي في «المختارة» بسند صحيح عن ابن عباس. وأما عز والمصنف اياه للبخاري فوهم ، وانما عنده بلفظ : «اللهم علمه الحكمة» ، وفي لفظ «الكتاب» بدل «الحكمة» ، أخرجه (١ / ٣١ ، ٢ / ٤٤٥ ، ٤ / ٤٩٩) وهو رواية لأحمد (١ / ٢١٤ ، ٢٦٩ ، ٣٥٩) والطبراني ، ورواه مسلم (٧ / ١٥٨) مختصرا بلفظ : «اللهم فقّه». وهو رواية لأحمد (١ / ٣٢٧) وفي أخرى له (١ / ٣٣٠) عن ابن عباس قال ..

فدعا الله أن يزيدني علما وفهما.

٢١٤

والتأويل في كلام المتأخرين من الفقهاء والمتكلمين : هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدلالة توجب ذلك. وهذا هو التأويل الذي تنازع الناس فيه في كثير من الأمور الخبرية والطلبية. فالتأويل الصحيح منه : الّذي يوافق ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة ، وما خالف ذلك فهو التأويل الفاسد ، وهذا مبسوط في موضعه. وذكر في «التبصرة» أن نصير بن يحيى البلخي روى عن عمرو بن إسماعيل بن حماد بن أبي يحيى بن محمد بن الحسن رحمهم‌الله : أنه سئل عن الآيات والأخبار التي فيها من صفات الله تعالى ما يؤدي ظاهره الى التشبيه؟ فقال : نمرّها كما جاءت ، ونؤمن بها ، ولا نقول : كيف وكيف. ويجب أن يعلم أن المعنى الفاسد الكفريّ ليس هو ظاهر النص ولا مقتضاه ، وأن من فهم ذلك منه فهو لقصور فهمه ونقص علمه ، وإذا كان قد قيل في قول بعض الناس :

وكم من عائب قولا صحيحا

وآفته من الفهم السّقيم

وقيل :

عليّ نحت القوافي من معادنها

وما عليّ إذا لم تفهم البقر (١)

فكيف يقال في قول الله ، الذي هو أصدق الكلام وأحسن الحديث ، وهو الكتاب الذي (أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) هود : ١. ان حقيقة قولهم إن ظاهر القرآن والحديث هو الضلال ، وانه ليس فيه بيان ما يصلح من الاعتقاد ، ولا فيه بيان التوحيد والتنزيه؟! هذا حقيقة قول المتأولين. والحقّ أن ما دل عليه القرآن فهو حق ، وما كان باطلا لم يدل عليه. والمنازعون يدّعون دلالته على الباطل الذي يتعين صرفه!

فيقال لهم : هذا الباب الذي فتحتموه ، وإن كنتم تزعمون أنكم تنتصرون به على إخوانكم المؤمنين في مواضع قليلة خفية ـ : فقد فتحتم عليكم بابا لأنواع المشركين والمبتدعين ، لا تقدرون على سده ، فإنكم إذا سوغتم صرف القرآن عن دلالته المفهومة بغير دليل شرعي ، فما الضابط فيما يسوغ تأويله وما لا يسوغ؟ فان

__________________

(١) كان البيت مضطربا في الأصول ، وهو للبحتري.

٢١٥

قلتم : ما دل القاطع العقلي على استحالته تأولناه ، وإلا أقررناه! قيل لكم : وبأي عقل نزن القاطع العقلي؟ فإن القرمطي الباطني يزعم قيام القواطع على بطلان ظواهر الشرع! ويزعم الفيلسوف قيام القواطع على بطلان حشر الأجساد! ويزعم المعتزلي قيام القواطع على امتناع رؤية الله تعالى ، وعلى امتناع قيام علم أو كلام أو رحمة به تعالى!! وباب التأويلات التي يدعي أصحابها وجوبها بالمعقولات أعظم من أن تنحصر في هذا المقام ، ويلزم حينئذ محذوران عظيمان : أحدهما : أن لا نقرّ بشيء من معاني الكتاب والسنة حتى نبحث قبل ذلك بحوثا طويلة عريضة في إمكان ذلك بالعقل! وكل طائفة من المختلفين في الكتاب يدّعون أن العقل يدل على ما ذهبوا إليه ، فيؤول الأمر الى الحيرة المحذورة. الثاني : أن القلوب تتخلى عن الجزم بشيء تعتقده مما أخبر به الرسول. اذ لا يوثق بأن الظاهر هو المراد ، والتأويلات مضطربة ، فيلزم عزل الكتاب والسنة عن الدلالة والإرشاد إلى ما أنبأ الله به العباد ، وخاصة النبي هي الانباء ، والقرآن هو النبأ العظيم. ولهذا نجد أهل التأويل إنما يذكرون نصوص الكتاب والسنة للاعتضاد لا للاعتماد ، إن وافقت ما ادعوا أن العقل دل عليه قبلوه ، وان خالفته أولوه! وهذا فتح باب الزندقة ، نسأل الله العافية.

قوله : (ومن لم يتوقّ النفي والتشبيه ، زل ولم يصب التنزيه).

ش : النفي والتشبيه مرضان من أمراض القلوب ، فإن أمراض القلوب نوعان : مرض شبهة ، ومرض شهوة ، وكلاهما مذكور في القرآن ، قال تعالى : (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) الاحزاب : ٣٢. فهذا مرض الشهوة ، وقال تعالى : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) البقرة : ١٠. وقال تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) التوبة : ١٢٥. فهذا مرض الشبهة ، وهو أردأ من مرض الشهوة ، اذ مرض الشهوة يرجى له الشفاء بقضاء الشهوة ، ومرض الشبهة لا شفاء له إن لم يتداركه الله برحمته. والشبهة التي في مسألة الصفات نفيها وتشبيهها ، وشبه النفي أردأ من شبه التشبيه ، فإن شبه النفي ردّ وتكذيب لما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وشبه التشبيه غلو مجاوزة للحد فيما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وتشبيه الله بخلقه كفر فإن الله تعالى يقول : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ

٢١٦

شَيْءٌ) الشورى : ١١ ، ونفي الصفات كفر ، فان الله تعالى يقول : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الشورى : ١١. وهذا أصل نوعي التشبيه ، فإن التشبيه نوعان : تشبيه الخالق بالمخلوق ، وهذا الذي يتعب أهل الكلام في ردّه وإبطاله ، وأهله في الناس أقل من النوع الثاني ، الذين هم أهل تشبيه المخلوق بالخالق ، كعبّاد المشايخ ، وعزيز ، والشمس والقمر ، والأصنام ، والملائكة ، والنار ، والماء ، والعجل ، والقبور ، والجن ، وغير ذلك. وهؤلاء هم الذين أرسلت لهم الرسل يدعونهم الى عبادة الله وحده لا شريك له.

قوله : (فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية ، منعوت بنعوت الفردانية ، ليس في معناه أحد من البرية).

ش : يشير الشيخ رحمه‌الله إلى تنزيه الرب تعالى بالذي هو وصفه كما وصف نفسه نفيا واثباتا. وكلام الشيخ مأخوذ من معنى سورة الإخلاص. فقوله : موصوف بصفات الوحدانية. مأخوذ من قوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ. اللهُ الصَّمَدُ) الاخلاص : ١ ـ ٢. وقوله : منعوت بنعوت الفردانية. من قوله تعالى : (اللهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) الاخلاص : ٢ ـ ٣. وقوله : ليس في معناه أحد من البرية من قوله تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) الاخلاص : ٤. وهو أيضا مؤكد لما تقدم من إثبات الصفات ونفي التشبيه. والوصف والنعت مترادفان ، وقيل : متقاربان. فالوصف للذات ، والنعت للفعل ، وكذلك الوحدانية والفردانية. وقيل في الفرق بينهما : إن الوحدانية للذات ، والفردانية للصفات ، فهو تعالى موحد في ذاته ، منفرد بصفاته. وهذا المعنى حقّ ولم ينازع فيه أحد ، ولكن في اللفظ نوع تكرير. وللشيخ نظير هذا التكرير في مواضع من العقيدة ، وهو بالخطب والأدعية أشبه منه بالعقائد ، والتسجيع (١٨١) بالخطب أليق. و (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) الشورى : ١١. أكمل في التنزيه من قوله : ليس في معناه أحد من البرية.

__________________

(١٨١) التسجيع ، بالسين المهملة ، يعني : السجع.

٢١٧

قوله : (وتعالى عن الحدود والغايات ، والأركان والأعضاء والأدوات ، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات).

ش : أذكر بين يدي الكلام على عبارة الشيخ رحمه‌الله مقدمة ، وهي : أن الناس في إطلاق مثل هذه الألفاظ ثلاثة أقوال : فطائفة تنفيها ، وطائفة تثبتها ، وطائفة تفصّل ، وهم المتبعون للسلف ، فلا يطلقون نفيها ولا إثباتها الا إذا تبين ، ما أثبت بها فهو ثابت ، وما نفي بها فهو منفي. لأن المتأخرين قد صارت هذه الألفاظ في اصطلاحهم فيها إجمال وابهام ، كغيرها من الألفاظ الاصطلاحية ، فليس كلهم يستعملها في نفس معناها اللغوي. ولهذا كان النفاة ينفون بها حقّا وباطلا ، ويذكرون عن مثبتها ما لا يقولون به ، وبعض المثبتين لها يدخل لها معنى باطلا ، مخالفا لقول السلف ، ولما دل عليه الكتاب والميزان. ولم يرد نص من الكتاب ولا من السنة بنفيها ولا إثباتها ، وليس لنا أن نصف الله تعالى بما لم يصف به نفسه ولا وصفه به رسوله نفيا ولا إثباتا ، وانما نحن متبعون لا مبتدعون.

فالواجب أن ينظر في هذا الباب ، أعني باب الصفات ، فما أثبته الله ورسوله أثبتناه ، وما نفاه الله ورسوله نفيناه. والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الإثبات والنفي ، فنثبت ما أثبته الله ورسوله من الألفاظ والمعاني. وأما الألفاظ التي لم يرد نفيها ولا اثباتها فلا تطلق حتى ينظر في مقصود قائلها : فإن كان معنى صحيحا قبل ، لكن ينبغي التعبير عنه بألفاظ النصوص ، دون الألفاظ المجملة ، إلا عند الحاجة ، مع قرائن تبين المراد ، والحاجة مثل أن يكون الخطاب مع من لا يتم المقصود معه إن لم يخاطب بها ، ونحو ذلك.

والشيخ رحمه‌الله أراد الرد بهذا الكلام على المشبهة ، كداود الجواربي وأمثاله القائلين : إن الله جسم ، وانه جثة وأعضاء وغير ذلك! تعالى الله عما يقولون علوّا كبيرا. فالمعنى الذي أراده الشيخ رحمه‌الله من النفي الذي ذكره هنا حق ، لكن حدث بعده من أدخل في عموم نفيه حقّا وباطلا ، فيحتاج إلى بيان ذلك. وهو : أن السلف متفقون على أن البشر لا يعلمون لله حدّا ، وأنهم لا يحدون شيئا من صفاته. قال ابو داود الطيالسي : كان سفيان وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة

٢١٨

وشريك وأبو عوانة ـ لا يحدون ولا يشبهون ولا يمثلون ، يروون الحديث ولا يقولون : كيف؟ وإذا سئلوا قالوا بالأثر. وسيأتي في كلام الشيخ : وقد أعجز خلقه عن الإحاطة به. فعلم أن مراده أن الله يتعالى عن أن يحيط أحد بحدّة ، لأن المعنى أنه متميز عن خلقه منفصل عنهم مباين لهم. سئل عبد الله بن المبارك : بم نعرف ربنا؟ قال : بأنه على العرش ، بائن من خلقه ، قيل : بحدّ؟ قال : بحد ، انتهى. ومن المعلوم أن الحد يقال على ما ينفصل به الشيء ويتميز به عن غيره ، والله تعالى غير حالّ في خلقه ، ولا قائم بهم ، بل هو القيوم القائم بنفسه ، المقيم لما سواه. فالحد بهذا المعنى لا يجوز أن يكون فيه منازعة في نفس الأمر أصلا ، فإنه ليس وراء نفيه إلا نفي وجود الرب ونفي حقيقته. وأما الحدّ بمعنى العلم والقول ، وهو أن يحده العباد ، فهذا منتف بلا منازعة بين أهل السنة. قال أبو القاسم القشيري في «رسالته» : سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي ، سمعت أبا منصور بن عبد الله ، سمعت أبا الحسن العنبري ، سمعت سهل بن عبد الله التّستري يقول ، وقد سئل عن ذات الله فقال : ذات الله موصوفة بالعلم ، غير مدركة بالإحاطة ، ولا مرئية بالأبصار في دار الدنيا ، وهي موجودة بحقائق الإيمان ، من غير حدّ ولا إحاطة ولا حلول ، وتراه العيون في العقبى ، ظاهرا في ملكه وقدرته ، وقد حجب الخلق عن معرفة كنه ذاته ، ودلهم عليه بآياته ، فالقلوب تعرفه ، والعيون لا تدركه ، ينظر إليه المؤمن بالأبصار ، من غير إحاطة ولا إدراك نهاية.

وأما لفظ الأركان والأعضاء والأدوات ـ فيستدل بها النفاة على نفي بعض الصفات الثابتة بالأدلة القطعية ، كاليد والوجه. قال أبو حنيفة رضي الله عنه في «الفقه الأكبر» : له يد ووجه ونفس ، كما ذكر تعالى في القرآن من ذكر اليد والوجه والنفس ، فهو له صفة بلا كيف ، ولا يقال : ان يده قدرته ونعمته ، لأن فيه إبطال الصفة ، انتهى. وهذا الذي قاله الإمام رضي الله عنه ، ثابت بالأدلة القاطعة : قال تعالى : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) ص : ٧٥. (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) الزمر : ٦٧. وقال تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) القصص : ٨٨. (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) الرحمن : ٢٧. وقال تعالى : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) المائدة :

٢١٩

١١٦. وقال تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) الانعام : ٥٤. وقال تعالى : (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) طه : ٤١. وقال تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) آل عمران : ٢٨. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث الشفاعة لمّا يأتي الناس آدم فيقولون له : «خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء» (١٨٢) ، الحديث. ولا يصح تأويل من قال : إن المراد باليد : بالقدرة ، فإن قوله : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) ص : ٧٥. لا يصح أن يكون معناه بقدرتي مع تثنية اليد ، ولو صح ذلك لقال إبليس : وأنا أيضا خلقتني بقدرتك ، فلا فضل له عليّ بذلك. فإبليس ـ مع كفره ـ كان أعرف بربه من الجهمية. ولا دليل لهم في قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ) يس : ٧١. لأنه تعالى جمع الأيدي لما أضافها إلى ضمير الجمع ، ليتناسب الجمعان ، فاللفظان للدلالة على الملك والعظمة. ولم يقل : «أيدي» مضافا إلى ضمير المفرد ، ولا «يدينا» بتثنية اليد مضافا الى ضمير الجمع. فلم يكن قوله : (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) نظير قوله : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ). وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ربه عزوجل : «حجابه النور ، ولو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» (١٨٣).

ولكن لا يقال لهذه الصفات إنها أعضاء ، أو جوارح ، أو أدوات ، أو أركان ، لأن الركن جزء الماهية ، والله تعالى هو الأحد الصمد ، لا يتجزأ ، سبحانه وتعالى ، والأعضاء فيها معنى التفريق والتعضية (١٨٤) ، تعالى الله عن ذلك ، ومن هذا المعنى قوله تعالى : (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) الحجر : ٩١. والجوارح فيها معنى الاكتساب والانتفاع. وكذلك الأدوات هي الآلات التي ينتفع بها في جلب المنفعة ودفع المضرّة. وكل هذه المعاني منتفية عن الله تعالى ، ولهذا لم يرد ذكرها في صفات الله تعالى. فالألفاظ الشرعية صحيحة المعاني ، سالمة من الاحتمالات الفاسدة ،

__________________

(١٨٢) صحيح ، أخرجه البخاري (٤ / ٤٥٤ ، ٤٦٤) وأحمد (٣ / ١١٦) في حديث الشفاعة من حديث أنس ، وسيأتي بلفظ آخر. (ص ٢٢٩).

(١٨٣) صحيح ، وقد تقدم بتمامه (برقم ٥٢ و ١٧١).

(١٨٤) التعضية : التقطيع ، وجعل الشيء أعضاء.

٢٢٠