شرح العقيدة الطّحاويّة

ابن أبي العزّ الحنفي

شرح العقيدة الطّحاويّة

المؤلف:

ابن أبي العزّ الحنفي


المحقق: الشيخ محمّد ناصر الدين الألباني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بغداد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٤

فهو مقروء له متلوّ ، فإن كتبه فهو مكتوب له مرسوم. وهو حقيقة في هذه الوجوه كلها لا يصح نفيه. والمجاز يصح نفيه ، فلا يجوز أن يقال : ليس في المصحف كلام الله ، ولا : ما قرأ القارئ كلام الله ، وقد قال تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) التوبة : ٦. وهو لا يسمع كلام الله من الله ، وإنما يسمعه من مبلغه عن الله. والآية تدل على فساد قول من قال : إن المسموع عبارة عن كلام الله وليس هو كلام الله ، فإنه تعالى قال : (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) التوبة : ٦ ، ولم يقل حتى يسمع ما هو عبارة عن كلام الله. والاصل الحقيقة. ومن قال : إن المكتوب في المصاحف عبارة عن كلام الله ، أو حكاية كلام الله ، وليس فيها كلام الله ـ : فقد خالف الكتاب والسنة وسلف الأمة ، وكفى بذلك ضلالا.

وكلام الطحاوي رحمه‌الله يرد قول من قال : إنه معنى واحد لا يتصور سماعه منه ، وأن المسموع المنزّل المقروء والمكتوب ليس كلام الله ، وإنما هو عبارة عنه. فإن الطحاوي رحمه‌الله يقول : كلام الله منه بدا. وكذلك قال غيره من السلف ، ويقولون : منه بدا ، وإليه يعود. وإنما قالوا : منه بدا ، لأن الجهمية من المعتزلة وغيرهم كانوا يقولون إنه خلق الكلام في محل ، فبدا الكلام من ذلك المحل. فقال السلف : «منه بدا» أي هو المتكلم به ، فمنه بدا ، لا من بعض المخلوقات ، كما قال تعالى : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) الزمر : ١. (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) السجدة : ١٣. (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) النحل : ١٠٢. ومعنى قولهم : وإليه يعود ـ : يرفع من الصدور والمصاحف ، فلا يبقى في الصدور منه آية ولا في المصاحف. كما جاء ذلك في عدة آثار.

وقوله بلا كيفية : أي : لا تعرف كيفية تكلمه به قولا ليس بالمجاز ، وأنزله على رسوله وحيا ، أي : أنزله إليه على لسان الملك ، فسمعه الملك جبرائيل من الله ، وسمعه الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الملك ، وقرأ على الناس. قال تعالى : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) الاسراء : ١٠٦. وقال تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) الشعراء : ١٩٣ ـ ١٩٥. وفي ذلك إثبات صفة العلو لله تعالى.

١٨١

وقد أورد على ذلك أن إنزال القرآن نظير إنزال المطر ، أو انزاله الحديد ، وانزال ثمانية أزواج من الأنعام.

والجواب : أن انزال القرآن فيه مذكور أنه انزال من الله. قال تعالى : (حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) غافر : ٢. وقال تعالى : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) الزمر : ١. وقال تعالى : (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فصلت : ٢. وقال تعالى : (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) حم السجدة : ٤٢. وقال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ. فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) الدخان : ٣ ـ ٥. وقال تعالى : (فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) القصص : ٤٩. وقال تعالى : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) الانعام : ١١٤. وقال تعالى : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) النحل : ١٠٢. وإنزال المطر مقيد بأنه منزل من السماء. قال تعالى : (أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) لفرقان : ٤٨. والسماء : العلو. وقد جاء في مكان آخر أنه منزل من المزن ، والمزن : السحاب. وفي مكان آخر أنه منزل من المعصرات. وإنزال الحديد والانعام مطلق ، فكيف يشبّه هذا الإنزال بهذا الانزال؟! فالحديد إنما يكون من المعادن التي في الجبال ، وهي عالية على الارض ، وقد قيل انه كلما كان معدنه أعلى كان حديده أجود. والانعام تخلق بالتوالد المستلزم إنزال الذكور الماء من أصلابها إلى أرحام الإناث ، ولهذا يقال : أنزل ولم يقل نزّل ثم الأجنة تنزل من بطون الامهات الى وجه الارض. ومن المعلوم أن الانعام تعلو فحولها إناثها عند الوطء ، وينزل ماء الفحل من علو الى رحم الانثى ، وتلقي ولدها عند الولادة من علو إلى سفل. وعلى هذا فيحتمل قوله ؛ (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ) الزمر : ٦ ـ : وجهين : أحدهما ؛ أن تكون «من» لبيان الجنس. الثاني : أن تكون «من» لابتداء الغاية. وهذان الوجهان يحتملان في قوله : (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً) الشورى : ١١.

وقوله : وصدقه المؤمنون على ذلك حقّا الإشارة إلى ما ذكره من التكلم على

١٨٢

الوجه المذكور وإنزاله ، أي هذا قول الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، وهم السلف الصالح ، وأن هذا حق وصدق.

وقوله : وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ليس بمخلوق ككلام البرية. رد على المعتزلة وغيرهم بهذا القول ظاهر. وفي قوله : بالحقيقة رد على من قال : إنه معنى واحد قام بذات الله لم يسمع منه وانما هو الكلام النفساني ، لأنه لا يقال لمن قام به الكلام النفساني ولم يتكلم به ـ : أن هذا كلام حقيقة ، وإلا للزم أن يكون الاخرس متكلما ، ولزم أن لا يكون الذي في المصحف عند الإطلاق هو القرآن ولا كلام الله ، ولكن عبارة عنه ليست هي كلام الله ، كما لو أشار أخرس الى شخص بإشارة فهم بها مقصوده ، فكتب ذلك الشخص عبارته عن المعنى الذي أوحاه إليه ذلك الاخرس ، فالمكتوب هو عبارة ذلك الشخص عن ذلك المعنى. وهذا المثل مطابق غاية المطابقة لما يقولونه ، وإن كان الله تعالى لا يسميه أحد «أخرس» ، لكن عندهم أن الملك فهم منه معنى قائما بنفسه ، لم يسمع منه حرفا ولا صوتا ، بل فهم معنى مجردا ، ثم عبر عنه ، فهو الذي أحدث نظم القرآن وتأليفه العربي ، وأنّا الله خلق في بعض الاجسام كالهوى الذي هو دون الملك هذه العبارة.

ويقال لمن قال إنه معنى واحد ـ : هل سمع موسى عليه‌السلام جميع المعنى أو بعضه؟ فإن قال : سمعه كله ، فقد زعم أنه سمع جميع كلام الله! وفساد هذا ظاهر. وإن قال : بعضه ، فقد قال يتبعض. وكذلك كل من كلمه الله أو أنزل إليه شيئا من كلامه.

ولما قال تعالى للملائكة : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) البقرة : ٣٠. ولما قال لهم : (اسْجُدُوا لِآدَمَ). وأمثال ذلك ـ : هل هذا جميع كلامه أو بعضه؟ فإن قال : إنه جميعه ، فهذا مكابرة ، وإن قال : بعضه ، فقد اعترف بتعدده.

وللناس في مسمى الكلام والقول عند الإطلاق ـ : أربعة أقوال : أحدها : أنه يتناول اللفظ والمعنى جميعا ، كما يتناول لفظ الانسان الروح والبدن معا ، وهذا قول السلف. الثاني : اسم اللفظ فقط ، والمعنى ليس جزء مسماه ، بل هو مدلول مسماه ، وهذا قول جماعة من المعتزلة وغيرهم. الثالث : أنه اسم «للمعنى» فقط ، وإطلاقه على اللفظ مجاز ، لأنه دال عليه ، وهذا قول ابن كلاب ومن اتبعه.

١٨٣

الرابع : أنه مشترك بين اللفظ والمعنى ، وهذا قول بعض المتأخرين من الكلابية ، ولهم قول خامس ، يروى عن أبي الحسن ، أنه مجاز في كلام الله ، حقيقة في كلام الآدميين لأن حروف الآدميين تقوم بهم ، فلا يكون الكلام قائما بغير المتكلم ، بخلاف كلام الله ، فإنه لا يقوم عنده بالله ، فيمتنع أن يكون كلامه. وهذا مبسوط في موضعه. وأما من قال إنه معنى واحد ، واستدل عليه بقول الاخطل :

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا

: فاستدلال فاسد. ولو استدل مستدل بحديث في «الصحيحين» لقالوا هذا خبر واحد! ويكون مما اتفق العلماء على تصديقه وتلقيه بالقبول والعمل به! فكيف وهذا البيت قد قيل إنه موضوع (١٥٣) منسوب الى الأخطل ، وليس هو في ديوانه؟! وقيل إنما قال : «إن البيان لفي الفؤاد» وهذا أقرب الى الصحة ، وعلى تقدير صحته عنه فلا يجوز الاستدلال به ، فإن النصارى قد ضلوا في معنى الكلام ، وزعموا أن عيسى عليه‌السلام نفس كلمة الله واتحد اللاهوت بالناسوت! أي : شيء من الإله بشيء من الناس! أفيستدل بقول نصراني قد ضل في معنى الكلام على معنى الكلام ، ويترك ما يعلم من معنى الكلام في لغة العرب؟! وأيضا : فمعناه غير صحيح ، إذ لازمه أن الاخرس يسمى متكلما لقيام الكلام بقلبه وإن لم ينطق به ولم يسمع منه ، والكلام على ذلك مبسوط في موضعه ، وإنما أشير إليه إشارة.

وهنا معنى عجيب ، وهو : أن هذا القول له شبه قوي بقول النصارى القائلين باللاهوت والناسوت! فإنهم يقولون : كلام الله هو المعنى القائم بذات الله الذي لا يمكن سماعه ، وأما النظم المسموع فمخلوق ، فإفهام المعنى القديم بالنظم المخلوق يشبه امتزاج اللاهوت بالناسوت الذي قالته النصارى في عيسى عليه‌السلام ، فانظر إلى هذا الشبه ما أعجبه!

ويرد قول من قال : بأن الكلام هو المعنى القائم بالنفس ـ : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن

__________________

(١٥٣) في الاصل : مصنوع. وانظر «مختصر العلو للذهبي» ص ٢٨٥ طبع المكتب الإسلامي

.

١٨٤

صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس» (١٥٤). وقال : «إن الله يحدث من أمره ما يشاء ، وإنما أحدث أن لا تكلّموا في الصلاة» (١٥٥). واتفق العلماء على أن المصلي إذا تكلم في الصلاة عامدا لغير مصلحتها بطلت صلاته. واتفقوا كلهم على أن ما يقوم بالقلب ، من تصديق بأمور دنيوية وطلب ـ لا يبطل الصلاة ، وإنما يبطلها التكلم بذلك. فعلم اتفاق المسلمين على أن هذا ليس بكلام.

وأيضا : ففي «الصحيحين» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله تجاوز لأمتي عما حدّثت به أنفسها ، ما لم تتكلم به أو تعمل به» (١٥٦). فقد أخبر أن الله عفا عن حديث النفس إلا أن تتكلم ، ففرق بين حديث النفس وبين الكلام ، وأخبر أنه لا يؤاخذ به حتى يتكلم به ، والمراد : حتى ينطق به اللسان ، باتفاق العلماء. فعلم أن هذا هو الكلام في اللغة ، لأن الشارع إنما خاطبنا بلغة العرب.

وأيضا ففي «السنن» : أن معاذا رضي الله عنه قال : يا رسول الله ، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال : «وهل يكبّ الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم» (١٥٧). فبين أن الكلام إنما هو باللسان. فلفظ «القول» و «الكلام» وما تصرف منهما ، من فعل ماض ومضارع وأمر واسم فاعل ـ : إنما يعرف في القرآن والسنة وسائر كلام العرب إذا كان لفظا ومعنى. ولم يكن في مسمى «الكلام» نزاع بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، وإنما حصل النزاع بين المتأخرين من علماء أهل البدع ، ثم انتشر.

ولا ريب أن مسمى الكلام والقول ونحوهما ـ ليس هو مما يحتاج فيه الى قول

__________________

(١٥٤) مسلم وغيره من حديث معاوية بن الحكم ، «صحيح ابي داود» (٨٦٢) و «الارواء» (٣٩٠).

(١٥٥) النسائي وغيره بسند حسن ، وعلقه البخاري مجزوما «صحيح ابي داود» (٨٥٧).

(١٥٦) : متفق عليه ، من حديث ابي هريرة «ارواء الغليل» (٢٠٦٢).

(١٥٧) رواه الترمذي وغيره بسند فيه انقطاع ، وقد بين ذلك الحافظ ابن رجب الحنبلي في «شرح الاربعين» بيانا شافيا ، فليراجعه من شاء.

١٨٥

شاعر ، فإن هذا مما تكلم به الأولون والآخرون من أهل اللغة ، وعرفوا معناه ، كما عرفوا مسمى الرأس واليد والرجل ونحو ذلك.

ولا شك أن من قال : إن كلام الله معنى واحد قائم بنفسه تعالى وأن المتلو المحفوظ المكتوب المسموع من القارئ حكاية كلام الله وهو مخلوق ـ : فقد قال بخلق القرآن وهو لا يشعر ، فإن الله يقول : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) الاسراء : ٨٨. أفتراه سبحانه وتعالى يشير الى ما في نفسه أو الى المتلو المسموع؟ ولا شك أن الإشارة إنما هي إلى هذا المتلو المسموع ، إذ ما في ذات الله غير مشار إليه ، ولا منزل ولا متلو ولا مسموع.

وقوله : (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) ـ أفتراه سبحانه يقول : لا يأتون بمثل ما في نفسي مما لم يسمعوه ولم يعرفوه ، وما في نفس الله عزوجل لا حيلة إلى الوصول إليه ، ولا الى الوقوف عليه.

فإن قالوا : انما أشار الى حكاية ما في نفسه وعبارته وهو المتلو المكتوب المسموع ، فأما أن يشير الى ذاته فلا ـ فهذا صريح القول بأن القرآن مخلوق ، بل هم في ذلك أكفر من المعتزلة ، فإن حكاية الشيء بمثله وشبهه. وهذا تصريح بأن صفات الله محكية ، ولو كانت هذه التلاوة حكاية لكان الناس قد أتوا بمثل كلام الله ، فأين عجزهم؟! ويكون التالي ـ في زعمهم ـ قد حكى بصوت وحرف ما ليس بصوت وحرف. وليس القرآن إلا سورا مسوّرة ، وآيات مسطّرة ، في صحف مطهرة. قال تعالى : (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) هود : ١٣. (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ) العنكبوت : ٤٩. (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ) عبس : ١٣ ـ ١٤. ويكتب لمن قرأ بكل حرف عشر حسنات. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما إني لا أقول (آلم) حرف ، ولكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف» (١٥٨). وهو المحفوظ في صدور الحافظين المسموع من ألسن التالين. قال الشيخ حافظ الدين النسفي رحمه‌الله في «المنار» : إن القرآن اسم للنظم والمعنى. وكذا قال غيره من أهل الأصول. وما ينسب الى أبي حنيفة رحمه

__________________

(١٥٨) صحيح ، اخرجه الترمذي وابن ماجه ، والآجري في «آداب حملة القرآن» بسند صحيح ، وهو مخرج في «المشكاة» أيضا (٢١٣٧).

١٨٦

الله : أن من قرأ في الصلاة بالفارسية أجزأه ـ فقد رجع عنه ـ وقال : لا يجوز القراءة مع القدرة بغير العربية. وقالوا : لو قرأ بغير العربية إما أن يكون مجنونا فيداوى ، أو زنديقا فيقتل ، لأن الله تكلم به بهذه اللغة ، والإعجاز حصل بنظمه ومعناه.

وقوله : ومن سمعه وقال إنه كلام البشر فقد كفر. لا شك في تكفير من أنكر أن القرآن كلام الله ، بل قال إنه كلام محمد أو غيره من الخلق ، ملكا كان أو بشرا. وأما إذا أقر أنه كلام الله ، ثم أوّل وحرّف ـ فقد وافق قول من قال : «إن هذا إلا قول البشر». في بعض ما به كفر ، وأولئك الذين استزلهم الشيطان ـ وسيأتي الكلام عليه عند قول الشيخ «ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله» إن شاء الله تعالى.

وقوله : ولا يشبه قول البشر ، يعني أنه أشرف وأفصح وأصدق. قال تعالى : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) النساء : ٨٧ وقال تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) ، الاسراء : ٨٨. الآية. وقال تعالى : (قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) يونس : ٣٨. فلما عجزوا ـ وهم فصحاء العرب ، مع شدة العداوة ـ عن الإتيان بسورة مثله ، تبين صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه من عند الله. وإعجازه من جهة نظمه ومعناه ، لا من جهة أحدهما فقط. هذا مع أنه قرآن عربي غير ذي عوج بلسان عربي مبين ، أي بلغة العربية. فنفي المشابهة من حيث التكلم ، ومن حيث التكلم به ، ومن حيث النظم والمعنى ، لا من حيث الكلمات والحروف. والى هذا وقعت الاشارة بالحروف المقطعة في اوائل السور ، أي أنه في أسلوب كلامهم وبلغتهم التي يخاطبون بها. ألا ترى أنه يأتي بعد الحروف المقطعة بذكر القرآن؟ كما في قوله تعالى : (الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) البقرة : ١ ـ ٢. (الم. اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) آل عمران : ١ ـ ٣ الآية. (المص. كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) الاعراف : ١ ـ ٢ ، الآية. (الر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) يونس : ١ ـ ٢. وكذلك الباقي ينبههم أن هذا الرسول الكريم لم يأتكم بما لا تعرفونه ، بل خاطبكم بلسانكم.

ولكن أهل المقالات الفاسدة يتذرعون بمثل هذا إلى نفي تكلم الله به ، وسماع

١٨٧

جبرائيل منه ، كما يتذرعون بقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) الشورى : ١١ ، الى نفي الصفات. وفي الآية ما يرد عليهم قولهم ، وهو قوله تعالى : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الشورى : ١١. كما في قوله تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) يونس : ٣٨ ما يرد على من ينفي الحرف ، فإنه قال : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ) ، ولم يقل فأتوا بحرف ، أو بكلمة. وأقصر سورة في القرآن ثلاث آيات. ولهذا قال أبو يوسف ومحمد : إن أدنى ما يجزئ في الصلاة ثلاث آيات قصار أو آية طويلة ، لأنه لا يقع الإعجاز بدون ذلك. والله أعلم.

قوله : (ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر ، فقد كفر. من أبصر هذا اعتبر. وعن مثل قول الكفار انزجر. علم أنه بصفاته ليس كالبشر).

ش : لما ذكر فيما تقدم أن القرآن كلام الله حقيقة ، منه بدا ، نبّه بعد ذلك على أنه تعالى بصفاته ليس كالبشر ، نفيا للتشبيه عقيب الإثبات ، يعني أن الله تعالى وإن وصف بأنه متكلم ، لكن لا يوصف بمعنى من معاني البشر التي يكون الانسان بها متكلما ، فإن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. وما أحسن المثل المضروب للمثبت للصفات من غير تشبيه ولا تعطيل ـ : باللبن الخالص السائغ للشاربين ، يخرج من بين فرث التعطيل ودم التشبيه. والمعطل يعبد عدما ، والمشبه يعبد صنما. وسيأتي في كلام الشيخ : ومن لم يتوقّ النفي والتشبيه ، زل ولم يصب التنزيه.

وكذا قوله : وهو بين التشبيه والتعطيل. أي دين الاسلام ، ولا شك أن التعطيل شر من التشبيه ، بما سأذكره إن شاء الله تعالى. وليس ما وصف الله به نفسه ولا ما وصفه به رسوله تشبيها ، بل صفات الخالق كما يليق به ، وصفات المخلوق كما يليق به.

وقوله : فمن أبصر هذا اعتبر. أي من نظر بعين بصيرته فيما قاله من إثبات الوصف ونفي التشبيه ووعيد المشبه اعتبر وانزجر عن مثل قول الكفار.

قوله : (والرؤية حق لأهل الجنة ، بغير احاطة ولا كيفية ، كما نطق به كتاب ربنا : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) القيامة : ٢٢ ـ ٢٣. وتفسيره على ما أراد الله تعالى وعلمه ، وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو كما قال ، ومعناه على ما أراد ، لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين

١٨٨

بأهوائنا ، فانه ما سلم في دينه الا من سلم لله عزوجل ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ورد علم ما اشتبه عليه الى عالمه).

ش : المخالف في الرؤية الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الخوارج والإمامية. وقولهم باطل مردود بالكتاب والسنة. وقد قال بثبوت الرؤية الصحابة والتابعون ، وأئمة الاسلام المعروفون بالامامة في الدين ، وأهل الحديث ، وسائر طوائف أهل الكلام المنسوبون الى السنة والجماعة.

وهذه المسألة من أشرف مسائل أصول الدين وأجلها ، وهي الغاية التي شمّر إليها المشمّرون ، وتنافس المتنافسون ، وحرمها الذين هم عن ربهم محجوبون ، وعن بابه مردودون.

وقد ذكر الشيخ رحمه‌الله من الأدلة قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) القيامة : ٢٢ ـ ٢٣. وهي من أظهر الأدلة. وأما من أبى إلا تحريفها بما يسميه تأويلا ـ : فتأويل نصوص المعاد والجنة والنار والحساب ، أسهل من تأويلها على أرباب التأويل. ولا يشاء مبطل أن يتأول النصوص ويحرّفها عن مواضعها إلا وجد الى ذلك من السبيل ما وجده متأول هذه النصوص.

وهذا الذي أفسد الدنيا والدين. وهكذا فعلت اليهود والنصارى في نصوص التوراة والإنجيل ، وحذرنا الله أن نفعل مثلهم. وأبى المبطلون إلا سلوك سبيلهم ، وكم جنى التأويل الفاسد على الدين وأهله من جناية ، فهل قتل عثمان رضي الله عنه إلا بالتأويل الفاسد؟ وكذا ما جرى في يوم الجمل ، وصفّين ، ومقتل الحسين ، والحرة؟ وهل خرجت الخوارج ، واعتزلت المعتزلة ، ورفضت الروافض ، وافترقت الامة على ثلاث وسبعين فرقة ، إلا بالتأويل الفاسد؟!

وإضافة النظر الى الوجه ، الذي هو محله ، في هذه الآية ، وتعديته بأداة «إلى» الصريحة في نظر العين ، وإخلاء الكلام من قرينة تدل على خلافه حقيقة (١٥٩) موضوعة صريحة في أن الله أراد بذلك نظر العين التي في الوجه الى الرب جل جلاله.

__________________

(١٥٩) في الاصل : حقيقته.

١٨٩

فإن النظر له عدة استعمالات ، بحسب صلاته وتعديه بنفسه : فإن عدي بنفسه فمعناه : التوقف والانتظار : (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) الحديد : ١٣. وإن عدي ب «في» فمعناه : التفكر والاعتبار ، كقوله : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الاعراف : ١٨٥. وإن عدي ب «إلى» فمعناه : المعاينة بالابصار ، كقوله تعالى : (انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ) الانعام : ٩٩. فكيف اذا أضيف الى الوجه الذي هو محل البصر؟ وروى ابن مردويه بسنده الى ابن عمرو ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) قال : من البهاء والحسن (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) ، قال في وجه الله عزوجل (١٦٠). عن الحسن قال : نظرت الى ربها فنضرت بنوره. وقال أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما ، [(إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) قال : تنظر الى وجه ربها عزوجل. وقال عكرمة : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) ، قال : من النعيم ، (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) ، قال : تنظر الى ربها نظرا ، ثم حكى عن ابن عباس مثله]. وهذا قول المفسرين من أهل السنة والحديث. وقال تعالى : (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) ق : ٣٥. قال الطبري : قال علي بن أبي طالب وأنس بن مالك : هو النظر الى وجه الله عزوجل. وقال تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) يونس : ٢٦ ، فالحسنى : الجنة ، والزيادة : هي النظر الى وجهه الكريم ، فسرها بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصحابة من بعده ، كما روى مسلم في صحيحه عن صهيب ، قال : قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) يونس : ٢٦ ، قال : «إذا دخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، نادى مناد : يا أهل الجنة ، إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه ، فيقولون : ما هو؟ ألم يثقل موازيننا ويبيّض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار؟ فيكشف الحجاب ، فينظرون إليه ، فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه ، وهي الزيادة» (١٦١). ورواه غيره بأسانيد

__________________

(١٦٠) ضعيف جدا ، لأن في اسناده ثوير ابن ابي فاختة ، كذبه الثوري ، وجزم الحافظ في «التقريب» بضعفه. (انظر مقدمة الطبعة الثانية ص ٤ ـ ٥).

(١٦١) صحيح ورواه الترمذي وابن ماجه واحمد نحوه عن صهيب رضي الله عنه ، وهو مخرج في «ظلال الجنة» (٤٧٢).

١٩٠

متعددة وألفاظ أخر ، معناها أن الزيادة النظر الى وجه الله عزوجل. وكذلك فسرها الصحابة رضي الله عنهم. روى ابن جرير [ذلك] عن جماعة ، منهم : أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وحذيفة ، وأبو موسى الاشعري ، وابن عباس ، رضي الله عنهم.

وقال تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) المطففين : ١٥. احتج الشافعي رحمه‌الله وغيره من الأئمة بهذه الآية على الرؤية لأهل الجنة ، ذكر ذلك الطبري وغيره عن المزني عن الشافعي. وقال الحاكم : حدثنا الأصم حدثنا الربيع ابن سليمان قال : حضرت محمد بن إدريس الشافعي ، وقد جاءته رقعة من الصعيد فيها : ما تقول في قول الله عزوجل : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ)؟ المطففين : ١٥ فقال الشافعي : لما أن حجب هؤلاء في السخط ، كان في هذا دليل على أن أولياءه يرونه في الرضى.

وأما استدلال المعتزلة بقوله تعالى : (لَنْ تَرانِي) الاعراف : ١٤٣ ، وبقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) ـ فالآيتان دليل عليهم :

أما الآية الاولى : فالاستدلال منها على ثبوت رؤيته من وجوه : أحدها : أنه لا يظن بكليم الله ورسوله الكريم وأعلم الناس بربه في وقته ـ أن يسأل ما لا يجوز عليه ، بل هو عندهم من أعظم المحال. الثاني : أن الله لم ينكر عليه سؤاله ، ولما سأل نوح ربه نجاة ابنه أنكر سؤاله ، وقال : (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) هود : ٤٦. الثالث : أنه تعالى قال : (لَنْ تَرانِي) ، ولم يقل : اني لا أرى ، أو لا تجوز رؤيتي ، أو لست بمرئي. والفرق بين الجوابين ظاهر. ألا ترى أن من كان في كمه حجر فظنه رجل طعاما فقال : أطعمنيه ، فالجواب الصحيح : أنه لا يؤكل ، أما اذا كان طعاما صح أن يقال : انك لن تأكله. وهذا يدل على أنه سبحانه مرئي ، ولكن موسى لا تحتمل قواه رؤيته في هذه الدار ، لضعف قوى البشر فيها عن رؤيته تعالى. يوضحه. الوجه الرابع : وهو قوله : (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) الاعراف : ١٤٣. فأعلمه أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت للتجلي في هذه الدار ، فكيف بالبشر الذي خلق من ضعف؟ الخامس : أن الله سبحانه قادر على أن يجعل الجبل مستقرّا ، وذلك ممكن ، وقد علق به الرؤية ،

١٩١

ولو كانت محالا لكان نظير أن يقول : إن استقر الجبل فسوف آكل وأشرب وأنام. والكل عندهم سواء. السادس : قوله تعالى : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) الاعراف : ١٤٣ ، فاذا جاز أن يتجلى للجبل ، الذي هو جماد لا ثواب له ولا عقاب ، فكيف يمتنع أن يتجلى لرسوله وأوليائه في دار كرامته؟ ولكن الله أعلم موسى أن الجبل إذا لم يثبت لرؤيته في هذه الدار ، فالبشر أضعف. السابع : أن الله كلم موسى وناداه وناجاه ، ومن جاز عليه التكلم والتكليم وأن يسمع مخاطبه كلامه بغير واسطة ـ فرؤيته أولى بالجواز. ولهذا لا يتم إنكار رؤيته الا بإنكار كلامه ، وقد جمعوا بينهما. وأما دعواهم تأييد النفي ب «لن» وأن ذلك يدل على نفي الرؤية في الآخرة ـ : ففاسد ، فانها لو قيدت بالتأبيد لا يدل على دوام النفي في الآخرة ، فكيف اذا أطلقت؟ قال تعالى : «ولن يتمنّوه أبدا» البقرة : ٩٥ ، مع قوله : (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) الزخرف : ٧٧. ولأنها لو كانت للتأبيد المطلق لما جاز تحديد الفعل بعدها ، وقد جاء ذلك ، قال تعالى : (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) يوسف : ٨٠. فثبت أن «لن» لا تقتضي النفي المؤبد.

قال الشيخ جمال الدين ابن مالك رحمه‌الله :

ومن رأى النفي بلن مؤبدا

فقوله اردد وسواه فاعضدا

وأما الآية الثانية : فالاستدلال بها على الرؤية من وجه حسن لطيف ، وهو : أن الله تعالى انما ذكرها في سياق التمدح ، ومعلوم أن المدح انما يكون بالصفات الثبوتية ، وأما العدم المحض فليس بكمال فلا يمدح به ، وانما يمدح الرب تعالى بالنفي اذا تضمن أمرا وجوديّا ، كمدحه بنفي السّنة والنوم ، المتضمن كمال القيّومية ، ونفي الموت المتضمن كمال الحياة ، ونفي اللغوب والاعياء ، المتضمن كمال القدرة ، ونفي الشريك والصاحبة والولد والظهير ، المتضمن كمال الربوبية والالوهية وقهره ، ونفي الاكل والشرب المتضمن كمال صمديته وغناه ، ونفي الشفاعة عنده الا بإذنه المتضمن كمال توحده وغناه عن خلقه ، ونفي الظلم ، المتضمن كمال عدله وعلمه وغناه ، ونفي النسيان وعزوب شيء عن علمه ، المتضمن كمال علمه وإحاطته ، ونفي المثل ، المتضمن لكمال ذاته وصفاته. ولهذا لم يتمدح بعدم محض لم يتضمن أمرا ثبوتيا ، فإن المعدم يشارك الموصوف في ذلك العدم ، ولا يوصف الكامل بأمر

١٩٢

يشترك هو والمعدوم فيه ، فإن المعنى : أنه يرى ولا يدرك ولا يحاط به ، فقوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) الانعام : ١٠٣ ، يدل على كمال عظمته ، وأنه أكبر من كل شيء ، وأنه لكمال عظمته لا يدرك بحيث يحاط به ، فإن «الادراك» هو الاحاطة بالشيء ، وهو قدر زائد على الرؤية ، كما قال تعالى : (فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى : إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ، قالَ : كَلَّا) الشعراء : ٦٢ ، فلم ينف موسى الرؤية ، وإنما نفى الإدراك ، فالرؤية والادراك كل منهما يوجد مع الآخر وبدونه ، فالرب تعالى يرى ولا يدرك ، كما يعلم ولا يحاط به علما ، وهذا هو الذي فهمه الصحابة والأئمة من الآية ، كما ذكرت أقوالهم في تفسير الآية. بل هذه الشمس المخلوقة لا يتمكن رائيها من إدراكها على ما هي عليه.

وأما الاحاديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، الدالة على الرؤية فمتواترة ، رواها أصحاب الصحاح والمسانيد والسنن. فمنها : حديث أبي هريرة : «أن ناسا قالوا : يا رسول الله ، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟ قالوا : لا يا رسول الله ، قال : هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا : لا ، قال فإنكم ترونه كذلك» (١٦٢) ، الحديث ، أخرجاه في «الصحيحين» بطوله. وحديث أبي سعيد الخدري أيضا في «الصحيحين» نظيره. وحديث جرير بن عبد الله البجلي ، قال : «كنا جلوسا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة ، فقال : انكم سترون ربكم عيانا ، كما ترون هذا ، لا تضامون في رؤيته» (١٦٣) ، الحديث أخرجاه في «الصحيحين». وحديث صهيب المتقدم ، رواه مسلم وغيره. وحديث أبي موسى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «وجنتان من فضة ، آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من ذهب ، آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن يروا ربهم تبارك وتعالى إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة

__________________

(١٦٢) متفق عليه ، وهو مخرج في «ظلال الجنة» (٤٥٣ ، ٤٧٥)

(١٦٣) متفق عليه ، وهو مخرج في المصدر المذكور (٤٤٦ ـ ٤٥١ و ٤٦١) ، وفي ثبوت كلمة وعيانا» نظر عندي ، بينته هناك فراجعه.

١٩٣

عدن» (١٦٤) ، أخرجاه في «الصحيحين». ومن حديث عدي بن حاتم : «وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه ، وليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم له ، فيقول : ألم أبعث إليك رسولا فيبلغك؟ فيقول : بلى يا رب ، فيقول : ألم أعطك ما لا وأفضل عليك؟ فيقول ، بلى يا رب» (١٦٥). أخرجه البخاري في «صحيحه».

وقد روى أحاديث الرؤية نحو ثلاثين صحابيا. ومن أحاط بها معرفة يقطع بأن الرسول قالها ، ولو لا أني التزمت الاختصار لسقت ما في الباب من الاحاديث.

ومن أراد الوقوف عليها فليواظب سماع الاحاديث النبوية ، فإن فيها مع إثبات الرؤية أنه يكلم من شاء إذا شاء ، وأنه يأتي لفصل القضاء يوم القيامة ، وأنه فوق العالم ، وأنه يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب ، وأنه يتجلى لعباده ، وأنه يضحك ، الى غير ذلك من الصفات التي سماعها على الجهمية بمنزلة الصواعق. وكيف تعلم أصول دين الاسلام من غير كتاب الله وسنة رسوله؟ وكيف يفسر كتاب الله بغير ما فسره به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم ، الذين نزل القرآن بلغتهم؟ وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» (١٦٦). وفي رواية : «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» (١٦٧). وسئل أبو بكر رضي الله عنه عن قوله تعالى : (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) عبس : ٣١. ما الأب؟ فقال : أي سماء تظلني ، وأي أرض تقلني ، إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟

__________________

(١٦٤) متفق عليه ، وهو مخرج في «الضعيفة» (٣٤٦٥) تحت حديث آخر نحو هذا ، لكن فيه زيادة على هذا ، ولذلك خرجته هناك.

(١٦٥) في «المناقب».

(١٦٦) ضعيف. اخرجه الترمذي من حديث عبد الله بن عباس مرفوعا ، وأوله «اتقوا الحديث عني الا ما علمتم ، ومن قال في القرآن برأيه ..» الحديث ، ورواه ابن جرير أيضا ، واسناده ضعيف كما ذكرت في «تخريج المشكاة» (٢٣٤) (كان هنا في الطبعة الاولى وهم من المخرج استغله صاحب التقرير ، متعمدا عن ذكر التصحيح في آخر تلك الطبعة ، وانظر الصفحة ٣٠ من مقدمة الألباني. ـ زهير ـ).

(١٦٧) ضعيف ، رواه ابو داود والترمذي وغيرهما من حديث جندب.

١٩٤

وليس تشبيه رؤية الله تعالى برؤية الشمس والقمر تشبيها لله ، بل هو تشبيه الرؤية بالرؤية ، لا تشبيه المرئي بالمرئي ، ولكن فيه دليل على علو الله على خلقه. وإلا فهل تعقل رؤية بلا مقابلة؟ ومن قال : يرى لا في جهة ـ فليراجع عقله!! فإما أن يكون مكابرا لعقله وفي عقله شيء ، وإلا فاذا قال يرى لا أمام الرائي ولا خلفه ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا فوقه ولا تحته ، رد عليه كل من سمعه بفطرته السليمة.

ولهذا ألزم المعتزلة من نفي العلو بالذات بنفي الرؤية ، وقالوا : كيف تعقل رؤية بلا مقابلة بغير جهة ، وإنما لم نره في الدنيا لعجز أبصارنا ، لا لامتناع الرؤية ، فهذه الشمس اذا حدق الرائي البصر في شعاعها ضعف عن رؤيتها ، لا لامتناع في ذات المرئي ، بل لعجز الرائي ، فإذا كان في الدار الآخرة أكمل الله قوى الآدميين حتى أطاقوا رؤيته. ولهذا لما تجلى الله للجبل : (خَرَّ مُوسى صَعِقاً ، فَلَمَّا أَفاقَ قالَ : سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) الاعراف : ١٤٣ ، بأنه لا يراك حيّ الا مات ، ولا يابس الا تدهده ، ولهذا كان البشر يعجزون عن رؤية الملك في صورته ، الا من أيده الله كما أيد نبينا ، قال تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) الانعام : ٨. قال غير واحد من السلف : لا يطيقون أن يروا الملك في صورته ، فلو أنزلنا عليهم ملكا لجعلناه في صورة بشر ، وحينئذ يشتبه عليهم : هل هو بشر أو ملك؟ ومن تمام نعمة الله علينا أن بعث فينا رسولا منّا.

وما ألزمهم المعتزلة هذا الإلزام إلا لما وافقوهم على أنه لا داخل العالم ولا خارجه. لكن قول من أثبت موجودا يرى لا في جهة ـ أقرب الى العقل من قول من أثبت موجودا قائما بنفسه لا يرى ولا في جهة.

ويقال لمن قال بنفي الرؤية لانتفاء لازمها وهو الجهة : أتريد بالجهة أمرا وجوديّا؟ أو أمرا عدميّا؟ فإن أراد بها أمرا وجوديا كان التقرير : كل ما ليس في شيء موجود لا يرى ، وهذه المقدمة ممنوعة ، ولا دليل على إثباتها ، بل هي باطلة ، فإن سطح العالم يمكن أن يرى ، وليس العالم في عالم آخر. وان أردت بالجهة أمرا عدميا ، فالمقدمة الثانية ممنوعة ، فلا نسلم أنه ليس في جهة بهذا الاعتبار.

وكيف يتكلم في أصول الدين من لا يتلقاه من الكتاب والسنة ، وإنما يتلقاه من

١٩٥

قول فلان؟! وإذا زعم أنه يأخذه من كتاب الله لا يتلقى تفسير كتاب الله من أحاديث الرسول ، ولا ينظر فيها ، ولا فيما قاله الصحابة والتابعون لهم بإحسان ، المنقول إلينا عن الثقات النقلة ، الذين تخيرهم النقاد ، فانهم لم ينقلوا نظم القرآن وحده ، بل نقلوا نظمه ومعناه ، ولا كانوا يتعلمون القرآن كما يتعلم الصبيان ، بل يتعلمونه بمعانيه. ومن لا يسلك سبيلهم فإنما يتكلم برأيه ، ومن يتكلم برأيه وما يظنه دين الله ولم يتلق ذلك من الكتاب فهو مأثوم وإن أصاب ، ومن أخذ من الكتاب والسنة فهو مأجور وإن أخطأ ، لكن إن أصاب يضاعف أجره.

وقوله : والرؤية حق لأهل الجنة ، تخصيص أهل الجنة بالذكر ، يفهم منه نفي الرؤية عن غيرهم. ولا شك في رؤية أهل الجنة لربهم في الجنة ، وكذلك يرونه في المحشر قبل دخولهم الجنة ، كما ثبت ذلك في «الصحيحين» عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١٦٨). ويدل عليه قوله تعالى : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) الاحزاب : ٤٤. واختلف في رؤية أهل المحشر على ثلاثة أقوال : أحدها : أنه لا يراه إلا المؤمنون. الثاني : يراه أهل الموقف ، مؤمنهم وكافرهم ، ثم يحتجب عن الكفار ولا يرونه بعد ذلك. الثالث : يراه مع المؤمنين المنافقون دون بقية الكفار. وكذلك الخلاف في تكليمه لأهل الموقف.

واتفقت الامة على أنه لا يراه أحد في الدنيا بعينه ، ولم يتنازعوا في ذلك إلا في نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة : منهم من نفى رؤيته بالعين ، ومنهم من أثبتها له صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وحكى القاضي عياض في كتابه «الشفا» اختلاف الصحابة ومن بعدهم في رؤيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنكار عائشة رضي الله عنها أن يكون صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى ربه بعين رأسه ، وأنها قالت لمسروق حين سألها : هل رأى محمد ربه؟ فقالت : لقد قفّ شعري مما قلت ، ثم قالت : من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب (١٦٨١). ثم قال : وقال جماعة بقول عائشة رضي الله عنها ، وهو المشهور عن ابن مسعود وأبي هريرة واختلف عنه ، وقال بإنكار هذا وامتناع رؤيته في الدنيا جماعة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين. وعن ابن

__________________

(١٦٨) انظر صفحة ١٩٣.

(١٦٨١) أخرجه الشيخان وأحمد (٦ / ٤٩) في حديث لها معروف.

١٩٦

عباس رضي الله عنهما : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رآه بعينه (١٦٩) ، وروى عطاء عنه : أنه رآه بقلبه. ثم ذكر أقوالا وفوائد ، ثم قال : وأما وجوبه لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقول بأنه رآه بعينه فليس فيه قاطع ولا نص ، والمعوّل فيه على آيتي النجم ، والتنازع فيهما مأثور ، والاحتمال لهما ممكن. وهذا القول الذي قاله القاضي عياض رحمه‌الله هو الحق ، فإن الرؤية في الدنيا ممكنة ، إذ لو لم تكن ممكنة ، لما سألها موسى عليه‌السلام ، لكن لم يرد نص بأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى ربه بعين رأسه ، بل ورد ما يدل على نفي الرؤية ، وهو ما رواه مسلم في «صحيحه» عن أبي ذر رضي الله عنه قال : «سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل رأيت ربك؟ فقال : «نور أنّى أراه» (١٧٠). وفي رواية : «رأيت نورا». وقد روى مسلم أيضا عن أبي موسى الاشعري رضي الله عنه أنه قال : «قام فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخمس كلمات ، فقال : إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل ، حجابه النور» ، (وفي رواية : النار) ، «لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه». (١٧١). فيكون ـ والله أعلم ـ معنى قوله لأبي ذر «رأيت نورا» : أنه رأى الحجاب ، ومعنى قوله «نور أنّى أراه» : النور الذي هو الحجاب يمنع من رؤيته ، فأنّى أراه؟ أي فكيف أراه والنور حجاب بيني وبينه يمنعني من رؤيته؟ فهذا صريح في نفي الرؤية. والله أعلم.

وحكى عثمان بن سعيد الدارمي اتفاق الصحابة على ذلك ، ونحن الى تقرير رؤيته لجبريل احوج منا الى تقرير رؤيته (١٧٢) لربه تعالى ، وإن كانت رؤية الرب

__________________

(١٦٩) ضعيف ، اخرجه ابن خزيمة في التوحيد بألفاظ مضطربة عنه موقوفا.

(١٧٠) صحيح أخرجه مسلم في آخر «كتاب الايمان» ويشهد له حديث ابن عمر مرفوعا بلفظ : «يوم القيامة أول يوم نظرت فيه عين الى الله عزوجل». رواه الدار قطني كما في «الدر» (٦ / ١٩١) ، وله شاهد مرسل ، رواه ابو سعيد الدارمي في «الرد على الجهمية» (٥٧) طبع المكتب الاسلامي.

(١٧١) صحيح ، وقد مضى (برقم ٥٢).

(١٧٢) ما في المطبوعتين خطأ وصوابه ما أثبتناه من الاصل ويؤيده ما في «الرد على الجهمية» للدارمي (ص ٦٤).

١٩٧

تعالى أعظم وأعلى ، فإن النبوة لا يتوقف ثبوتها عليها البتة.

وقوله : بغير إحاطة ولا كيفية ـ هذا الكمال عظمته وبهائه ، سبحانه وتعالى ، لا تدركه الابصار ولا تحيط به ، كما يعلم ولا يحاط به علما. قال تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) الانعام : ١٠٣. وقال تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) طه : ١١٠.

وقوله : وتفسيره على ما أراد الله وعلمه ، الى أن قال : لا ندحل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا. أي كما فعلت المعتزلة بنصوص الكتاب والسنة في الرؤية ، وذلك تحريف لكلام الله وكلام رسوله عن مواضعه. فالتأويل الصحيح هو الذي يوافق ما جاءت به السنة ، والفاسد المخالف له. فكل تأويل لم يدل عليه دليل من السياق ، ولا معه قرينة تقتضيه ، فإن هذا لا يقصده المبين الهادي بكلامه ، إذ لو قصده لحفّ بالكلام قرائن تدل على المعنى المخالف لظاهره ، حتى لا يوقع السامع في اللبس والخطأ ، فإن الله أنزل كلامه بيانا وهدى ، فإذا أراد به خلاف ظاهره ، ولم يحف به قرائن تدل على المعنى الذي يتبادر غيره الى فهم كل أحد ، لم يكن بيانا ولا هدى. فالتأويل إخبار بمراد المتكلم ، لا إنشاء.

وفي هذا الموضع يغلط كثير من الناس ، فإن المقصود فهم مراد المتكلم بكلامه ، فاذا قيل : معنى اللفظ كذا وكذا ، كان إخبارا بالذي عنى المتكلم ، فإن لم يكن الخبر مطابقا كان كذبا على المتكلم ، ويعرف مراد المتكلم بطرق متعددة : منها : أن يصرح بإرادة ذلك المعنى. ومنها : أن يستعمل اللفظ الذي له معنى ظاهر بالوضع ، ولا يبين بقرينة تصحب الكلام أنه لم يرد ذلك المعنى ، فكيف إذا حف بكلامه ما يدل على أنه إنما أراد حقيقته وما وضع له ، كقوله : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) النساء : ١٦٣. و «إنكم ترون ربكم عيانا كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب» (١٧٣). فهذا مما يقطع به السامع له بمراد المتكلم ، فإذا أخبر عن مراده بما دل عليه حقيقة لفظه الذي وضع له مع القرائن المؤكدة ، كان صادقا في إخباره. وأما إذا تأول الكلام بما لا يدل عليه ولا اقترن به ما يدل عليه ، فإخباره بأن هذا مراده كذب عليه ، وهو تأويل بالرأي ، وتوهم بالهوى.

__________________

(١٧٣) متفق عليه وتقدم (ص ١٦٣) مع النظر في كلمة «عيانا»

.

١٩٨

وحقيقة الامر : أن قول القائل : نحمله على كذا ، أو : نتأوله بكذا ، إنما هو من باب دفع دلالة اللفظ عما وضع له ، فإن منازعه لما احتج عليه به ولم يمكنه دفع وروده ، دفع معناه ، وقال : أحمله على خلاف ظاهره.

فإن قيل : بل للحمل معنى آخر ، لم تذكروه ، وهو : أن اللفظ لما استحال أن يراد به حقيقته وظاهره ، ولا يمكن تعطيله ، استدللنا بوروده وعدم إرادة ظاهره على أن مجازه هو المراد ، فحملناه عليه دلالة لا ابتداء.

قيل : فهذا المعنى هو الإخبار عن المتكلم أنه أراده ، وهو إما صدق وإما كذب ، كما تقدم ، ومن الممتنع أن يريد خلاف حقيقته وظاهره ولا يبين للسامع المعنى الذي أراده ، بل يعرف بكلامه ما يؤكد إرادة الحقيقة. ونحن لا نمنع أن المتكلم قد يريد بكلامه خلاف ظاهره ، إذا قصد التعمية على السامع حيث يسوغ ذلك ، ولكن المنكر أن يريد بكلامه خلاف حقيقته وظاهره إذا قصد البيان والإيضاح وإفهام مراده! كيف والمتكلم يؤكد كلامه بما ينفي المجاز ، ويكرره غير مرة ، ويضرب له الامثال.

وقوله : فإنه ما سلم في دينه إلا من سلّم لله عزوجل ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه. أي : سلم لنصوص الكتاب والسنة ، ولم يعترض عليها بالشكوك والشبه والتأويلات الفاسدة ، أو بقوله : العقل يشهد بضد ما دل عليه النقل! والعقل أصل النقل!! فإذا عارضه قدمنا العقل!! وهذا لا يكون قط. لكن إذا جاء ما يوهم مثل ذلك : فان كان النقل صحيحا فذلك الذي يدّعى أنه معقول إنما هو مجهول ، ولو حقق النظر لظهر ذلك. وإن كان النقل غير صحيح فلا يصلح للمعارضة ، فلا يتصور أن يتعارض عقل صريح ونقل صحيح أبدا. ويعارض كلام من يقول ذلك بنظيره ، فيقال : اذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النقل ، لأن الجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين ، ورفعهما رفع النقيضين ، وتقديم العقل ممتنع ، لأن العقل قد دل على صحة السمع ووجوب قبول ما أخبر به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلو أبطلنا النقل لكنا قد أبطلنا دلالة العقل ، ولو أبطلنا دلالة العقل لم يصلح أن يكون معارضا للنقل ، لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضة شيء من الاشياء ، فكان تقديم العقل موجبا عدم تقديمه ، فلا يجوز تقديمه. وهذا بين

١٩٩

واضح ، فإن العقل هو الذي دل على صدق السمع وصحته ، وأن خبره مطابق لمخبره ، فإن جاز أن تكون الدلالة باطلة لبطلان النقل لزم أن لا يكون العقل دليلا صحيحا ، وإذا لم يكن دليلا صحيحا لم يجز أن يتبع بحال ، فضلا عن أن يقدم ، فصار تقديم العقل على النقل قدحا في العقل.

فالواجب كمال التسليم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والانقياد لأمره ، وتلقي خبره بالقبول والتصديق ، دون أن نعارضه بخيال باطل نسميه معقولا ، أو نحمله شبهة أو شكّا ، أو نقدم عليه آراء الرجال وزبالة أذهانهم ، فنوحده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان ، كما نوحد المرسل بالعبادة والخضوع والذل والانابة والتوكل.

فهما توحيدان ، لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما : توحيد المرسل ، وتوحيد متابعة الرسول ، فلا نحاكم الى غيره ، ولا نرضى بحكم غيره ، ولا نوقف تنفيذ أمره وتصديق خبره على عرضه على قول شيخه وإمامه وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظمه ، فإن أذنوا له نفّذه وقبل خبره ، وإلا فإن طلب السلامة فوضه إليهم وأعرض عن أمره وخبره ، وإلا حرّفه عن مواضعه ، وسمى تحريفه تأويلا وحملا ، فقال : نؤوله ونحمله. فلأن يلقى العبد ربه بكل ذنب ـ ما خلا الإشراك بالله ـ خير له من أن يلقاه بهذه الحال. بل إذا بلغه الحديث الصحيح يعدّ نفسه كأنه سمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهل يسوغ أن يؤخر قبوله والعمل به حتى يعرضه على رأي فلان وكلامه ومذهبه؟! بل كان الفرض المبادرة الى امتثاله ، من غير التفات الى سواه ، ولا يستشكل قوله لمخالفته رأي فلان ، بل يستشكل الآراء لقوله ، ولا يعارض نصب بقياس ، بل نهدر الأقيسة ، ونتلقى نصوصه ، ولا نحرف كلامه عن حقيقته ، لخيال يسميه أصحابه معقولا ، نعم هو مجهول ، وعن الصواب معزول! ولا يوفق قبول قوله على موافقة فلان دون فلان ، كائنا من كان.

قال الإمام أحمد : حدثنا أنس بن عياض ، حدثنا أبو حازم ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : لقد جلست أنا وأخي مجلسا ما أحب أن لي به حمر النعم ، أقبلت أنا وأخي ، وإذا مشيخة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جلوس عند باب من أبوابه ، فكرهنا أن نفرق بينهم ، فجلسنا حجرة ، إذ ذكروا آية من القرآن ، فتماروا فيها ، حتى ارتفعت أصواتهم ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مغضبا ، قد احمر

٢٠٠