شرح العقيدة الطّحاويّة

ابن أبي العزّ الحنفي

شرح العقيدة الطّحاويّة

المؤلف:

ابن أبي العزّ الحنفي


المحقق: الشيخ محمّد ناصر الدين الألباني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بغداد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٤

فالجواب : أن هذا كان له سبب ، فانه كان قد قال يهودي : لا والذي اصطفى موسى على البشر ، فلطمه مسلم ، وقال : أتقول هذا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أظهرنا؟ فجاء اليهودي فاشتكى من المسلم الذي لطمه ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا ، لأن التفضيل اذا كان على وجه الحمية والعصبية وهوى النفس كان مذموما ، بل نفس الجهاد اذا قاتل الرجل حمية وعصبية كان مذموما ، فان الله حرم الفخر ، وقد قال تعالى : (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) الاسراء : ٥٥. وقال تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) البقرة : ٢٥٣. فعلم أن المذموم انما هو التفضيل على وجه الفخر ، أو على وجه الانتقاص بالمفضول. وعلى هذا يحمل أيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تفضلوا بين الأنبياء» (١٢٨) ، إن كان ثابتا ، فان هذا قد روي في نفس حديث موسى ، وهو في

__________________

ـ القيامة. أخرجه مسلم (٧ / ٥٩) وابو داود (٤٦٧٣) وابن سعد (١ / ٢٠) وهو في الصحيحين نحوه ، وتقدم قريبا ، وذكرنا له هناك شاهد آخر ؛ وله في «الصحيحة» (١٥٧١) شاهد ثالث عن سلمان.

(١٢٨) صحيح ، وهو رواية من حديث أبي هريرة المتقدم من طريق عبد الرحمن الاعرج عنه قال : «بينما يهودي يعرض سلعة له اعطي بها شيئا كرهه أو لم يرضه ، قال : لا والذي اصطفى موسى عليه‌السلام على البشر ، فسمعه رجل من الانصار ، فلطم وجهه ، قال : تقول : والذي اصطفى موسى عليه‌السلام على البشر ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أظهرنا؟! قال : فذهب اليهودي الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا أبا القاسم ان لي ذمة وعهدا ، وقال : فلان لطم وجهي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لم لطمت وجهه؟ قال : قال يا رسول الله : والذي اصطفى موسى عليه‌السلام على البشر وأنت بين أظهرنا ، قال : فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى عرف الغضب في وجهه ، ثم قال : لا تفضلوا بين أنبياء الله ، فانه ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات ومن في الارض ، الا من شاء الله ، قال : ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من بعث ، أو في أول من بعث ، فاذا موسى عليه‌السلام آخذ بالعرش ، فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطور ، أو بعث قبلي ، ولا أقول : «ان احدا أفضل من يونس بن متى عليه‌السلام». اخرجه البخاري (٢ / ٣٦٠ ـ ٣٦١) ومسلم (٧ / ١٠٠ ـ ١٠١) وقد غمز الشارح من صحته ، ولا أعلم له علة ، ولم يتكلم عليه الحافظ في «الفتح» (٦ / ٣١٨) ، وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا بلفظ : «لا تخيروا بين الأنبياء ، فإن الناس يصعقون ..» الحديث نحوه. أخرجه البخاري (٢ / ٨٩) ومسلم (٧ / ١٠٢) وأحمد (٣ / ٣٣) ، وروى أبو داود (٤٦٦٨) الجملة الاولى منه ، وهي راوية لأحمد (٣ / ٣١).

١٦١

البخاري وغيره. لكن بعض الناس يقول : ان فيه علة ، بخلاف حديث موسى ، فانه صحيح لا علة فيه باتفاقهم.

وقد أجاب بعضهم بجواب آخر ، وهو : أن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تفضلوني على موسى» (١٢٩) ، وقوله : «لا تفضلوا بين الأنبياء» نهي عن التفضيل الخاص ، أي : لا يفضل بعض الرسل على بعض بعينه ، بخلاف قوله : «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» (١٣٠) فانه تفضيل عام فلا يمنع منه. وهذا كما لو قيل : فلان أفضل أهل البلد ، لا ينصب على أفرادهم ، بخلاف ما لو قيل لاحدهم : فلان أفضل منك. ثم اني رأيت الطحاوي رحمه‌الله قد أجاب بهذا الجواب في «شرح معاني الآثار». وأما ما يروى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تفضلوني على يونس [بن متّى]» (١٣١) ، وأن بعض الشيوخ قال : لا يفسر لهم هذا الحديث حتى يعطى مالا جزيلا ، فلما أعطوه فسره بأن قرب يونس من الله وهو في بطن الحوت كقربي من الله ليلة المعراج وعدوا هذا تفسيرا عظيما. وهذا يدل على جهلهم بكلام الله وبكلام رسوله لفظا ومعنى ، فإن هذا الحديث بهذا اللفظ لم يروه أحد من أهل الكتب التي يعتمد عليها ، وإنما اللفظ الذي في الصحيح : «لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس ابن متى» (١٣٢). وفي رواية : «من قال اني خير من يونس بن متى فقد كذب». وهذا اللفظ يدل على العموم ، «لا ينبغي لأحد أن يفضل نفسه على يونس بن متى» ، ليس فيه نهي المسلمين أن يفضلوا محمدا على يونس ، وذلك لأن الله تعالى قد أخبر عنه أنه التقمه الحوت وهو مليم ، أي : فاعل ما يلام عليه. وقال تعالى : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) الأنبياء : ٨٧. فقد يقع في نفس بعض

__________________

(١٢٩) صحيح ، وتقدم قريبا (برقم ١٢٦).

(١٣٠) صحيح ، وتقدم قريبا (برقم ١٢٧).

(١٣١) لا أعرف له أصلا بهذا اللفظ ، وتقدم قريبا في حديث ابي هريرة : «ولا أقول : ان أحدا أفضل من يونس بن متى».

(١٣٢) مسلم وأحمد وغيرهما ولفظه عند مسلم (٢٣٧٦) ، «قال : يعني الله تبارك وتعالى : لا ينبغي لعبد لي (وفي لفظ : لعبدي). والرواية الاخرى للبخاري في «التفسير».

١٦٢

الناس أنه أكمل من يونس ، فلا يحتاج الى هذا المقام ، اذ لا يفعل ما يلام عليه. ومن ظن هذا فقد كذب ، بل كل عبد من عباد الله يقول ما قال يونس : (أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) ، كما قال أول الأنبياء وآخرهم ، فأولهم : آدم ، قد قال : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) الاعراف : ٢٣. وآخرهم وأفضلهم وسيدهم : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال في الحديث الصحيح ، حديث الاستفتاح ، من رواية علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره ، بعد قوله «وجهت وجهي» آخره : «اللهم أنت الملك لا إله الا أنت ، أنت ربي وأنا عبدك ، ظلمت نفسي ، واعترفت بذنبي ، فاغفر لي ذنوبي جميعا ، لا يغفر الذنوب الا أنت» (١٣٣) ، الى آخر الحديث ، وكذا قال موسى عليه‌السلام : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) القصص : ١٦. وأيضا : فيونس صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قيل فيه : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) القلم : ٤٨ ، فنهى نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن التشبه به ، وأمره بالتشبه بأولي العزم حيث قيل له : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) الاحقاف : ٣٥ ، فقد يقول من يقول : «أنا خير من يونس» ـ : للأفضل أن يفخر على من دونه ، فكيف إذا لم يكن أفضل ، فان الله لا يحب كل مختال فخور ، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أوحي إليّ أن تواضعوا ، حتى لا يفخر أحد على أحد ، ولا يبغي أحد على أحد» (١٣٤). [فالله تعالى نهى أن يفخر على عموم المؤمنين] ، فكيف على نبي كريم؟ فلهذا قال : «لا ينبغي لعبد أن يقول : أنا خير من يونس بن متى». فهذا نهي عام لكل أحد أن يتفضل ويفتخر على يونس. وقوله : «من قال إني خير من يونس بن متى فقد كذب» ، فانه لو قدر أنه كان أفضل ، فهذا الكلام يصير نقصا ، فيكون كاذبا ، وهذا لا يقوله نبي كريم ، بل هو تقدير مطلق ، أي : من قال هذا

__________________

(١٣٣) مسلم وأحمد وغيرهما من حديث علي رضي الله عنه ، وهو قطعة من دعاء التوجه بعد الإحرام ، وهو مخرج في «صفة الصلاة» (ص ٨٥ ـ الطبعة السادسة).

(١٣٤) مسلم (٨ / ١٦٠) من حديث عياض بن حمار ، وله شاهد من حديث أنس ، وقد خرجتهما في «الصحيحة» (٥٧٠)

.

١٦٣

فهو كاذب ، وان كان لا يقوله نبي ، كما قال تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) الزمر : ٦٥ ، وان كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم معصوما من الشرك ، لكن الوعد والوعيد لبيان مقادير الأعمال.

وانما أخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سيد ولد آدم ، لأنا لا يمكننا أن نعلم ذلك الا بخبره ، إذ لا نبي بعده يخبرنا بعظيم قدره عند الله ، كما أخبرنا هو بفضائل الأنبياء قبله ، صلى الله عليهم وسلم أجمعين. ولهذا أتبعه بقوله «ولا فخر» ، كما جاء في رواية. وهل يقول من يؤمن بالله واليوم الآخر : إن مقام الذي أسري به الى ربه وهو مقرب معظم مكرم ـ كمقام الذي ألقي في بطن الحوت وهو مليم؟! وأين المعظم المقرب من الممتحن المؤدب؟! فهذا في غاية التقريب ، وهذا في غاية التأديب. فانظر الى هذا الاستدلال ، لانه بهذا المعنى المحرف اللفظ لم يقله الرسول ، وهل يقاوم هذا الدليل على نفي علو الله تعالى عن خلقه الادلة الصحيحة الصريحة القطعية على علو الله تعالى على خلقه ، التي تزيد على ألف دليل ، كما يأتي الاشارة إليها عند قول الشيخ رحمه‌الله «محيط بكل شيء وفوقه» ، إن شاء الله تعالى.

قوله : (وحبيب رب العالمين).

ش : ثبت له صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعلى مراتب المحبة ، وهي الخلة ، كما صح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ ابراهيم خليلا» (١٣٥). وقال : «ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكن صاحبكم خليل الرحمن» (١٣٦). والحديثان في الصحيح وهما يبطلان قول من قال : الخلة لابراهيم والمحبة لمحمد ، فإبراهيم خليل الله ومحمد حبيبه. وفي الصحيح أيضا : «إني أبرأ الى كل خليل من خلته (١٣٧). والمحبة قد ثبتت لغيره. قال تعالى : (وَاللهُ يُحِبُ

__________________

(١٣٥) مسلم وأبو عوانة من حديث جندب ، وهو طرف منه مخرج في «أحكام الجنائز» (٢١٧).

(١٣٦) مسلم من حديث عبد الله بن مسعود ، بلفظ «خليل الله» ، وكذا رواه الترمذي (٢ / ٢٨٩) وصححه ، وابن أبي عاصم في «السنة» (١٢٢٦).

(١٣٧) هو من حديث ابن مسعود الذي قبله.

١٦٤

الْمُحْسِنِينَ) آل عمران : ١٣٤. (فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) آل عمران : ٧٦. (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) البقرة : ٢٢٢. فبطل قول من خص الخلة بإبراهيم والمحبة بمحمد ، بل الخلة خاصة بهما ، والمحبة عامة. وحديث ابن عباس رضي الله عنهم الذي رواه الترمذي الذي فيه : «إن ابراهيم خليل الله ، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر» (١٣٨) ـ : لم يثبت.

والمحبة مراتب : أولها : العلاقة ، وهي تعلق القلب بالمحبوب. والثانية : الإرادة ، وهي ميل القلب الى محبوبه وطلبه له. الثالثة : الصبابة ، وهي انصباب القلب إليه بحيث لا يملكه صاحبه ، كانصباب الماء في الحدور. الرابعة : الغرام ، وهي الحب اللازم للقلب ، ومنه الغريم ، لملازمته ، ومنه : (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) الفرقان : ٦٥. الخامسة : المودة ، والود ، وهي صفو المحبة وخالصها ولبّها ، قال تعالى : (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) مريم : ٩٦. السادسة : الشغف ، وهي وصول المحبة الى شغاف القلب. السابعة : العشق : وهو الحب المفرط الذي يخاف على صاحبه منه ، ولكن لا يوصف به الرب تعالى ولا العبد في محبة ربه ، وان كان قد أطلقه بعضهم. واختلف في سبب المنع ، فقيل : عدم التوقيف ، وقيل غير ذلك. ولعل امتناع اطلاقه : أن العشق محبة مع شهوة. الثامنة : التّيم ، وهو بمعنى التعبد. التاسعة : التعبد. العاشرة : الخلة ، وهي المحبة التي تخللت روح المحب وقلبه. وقيل في ترتيبها غير ذلك. وهذا الترتيب تقريب حسن ، [لا] يعرف حسنه [إلا] بالتأمل في معانيه.

واعلم أن وصف الله تعالى بالمحبة والخلة هو كما يليق بجلال الله تعالى وعظمته ، كسائر صفاته تعالى ، وانما يوصف الله تعالى من هذه الانواع بالارادة والود والمحبة والخلة ، حسبما ورد النص.

وقد اختلف في تحديد المحبة على أقوال ، نحو ثلاثين قولا. ولا تحد المحبة بحد أوضح منها ، فالحدود لا تزيدها الا خفاء. وهذه الاشياء الواضحة لا تحتاج الى تحديد ، كالماء والهواء والتراب والجوع ونحو ذلك.

__________________

(١٣٨) ضعيف ، لضعف زمعة بن صالح وسلمة بن وهرام أيضا.

١٦٥

قوله : (وكل دعوى النبوة بعده فغي وهوى)

ش : لما ثبت أنه خاتم النبيين ، علم أن من ادعى بعده النبوة فهو كاذب. ولا يقال : فلو جاء المدعي للنبوة بالمعجزات الخارقة والبراهين الصادقة كيف يقال بتكذيبه؟ لأنا نقول : هذا لا يتصور أن يوجد ، وهو من باب فرض المحال ، لأن الله تعالى لما أخبر أنه خاتم النبيين ، فمن المحال أن يأتي مدّع يدعي النبوة ولا يظهر أمارة كذبه في دعواه. والغي : ضد الرشاد. والهوى : عبارة عن شهوة النفس.

أي : أن تلك الدعوى بسبب هوى النفس ، لا عن دليل ، فتكون باطلة.

قوله : (وهو المبعوث الى عامة الجن وكافة الورى ، بالحق والهدى ، وبالنور والضياء).

ش : أما كونه مبعوثا الى عامة الجن ، فقال تعالى حكاية عن قول الجن : (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) الاحقاف : ٣١ ، الآية. وكذا سورة الجن تدل على أنه أرسل إليهم أيضا. قال مقاتل : لم يبعث الله رسولا الى الانس والجن قبله. وهذا قول بعيد. فقد قال تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) الانعام : ١٣٠ ، الآية ، والرسل من الانس فقط ، وليس من الجن رسول ، كذا قال مجاهد وغيره من السلف والخلف. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : الرسل من بني آدم ، ومن الجن نذر. وظاهر قوله تعالى حكاية عن الجن : (إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) الاحقاف : ٣٠ ، الآية : تدل على أن موسى مرسل إليهم أيضا. والله أعلم.

وحكى ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم : أنه زعم أن في الجن رسلا ، واحتج بهذه الآية الكريمة. وفي الاستدلال بها على ذلك نظر لانها محتملة وليست بصريحة ، وهي ـ والله أعلم ـ كقوله : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) الرحمن : ٢٢ والمراد : من أحدهما.

وأما كونه مبعوثا الى كافة الورى ، فقد قال : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) سبأ : ٢٨. وقد قال تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) الاعراف : ١٥٨. وقال تعالى : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ

١٦٦

وَمَنْ بَلَغَ) الانعام : ١٩. أي : وأنذر من بلغه. وقال تعالى : (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) النساء : ٧٩ وقال تعالى : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) يونس : ٢ ، الآية. وقال تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) الفرقان : ١. وقد قال تعالى : (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) آل عمران : ٢٠. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الارض مسجدا وطهورا ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ، وأحلت لي الغنائم ، ولم تحلّ لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث الى قومه خاصة وبعثت الى الناس عامة» (١٣٩) ، أخرجاه في الصحيحين. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يسمع بي رجل من هذه الامة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي الا دخل النار» (١٤٠) ، رواه مسلم. وكونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبعوثا الى الناس كافة معلوم من دين الاسلام بالضرورة.

وأما قول بعض النصارى إنه رسول الى العرب خاصة ـ : فظاهر البطلان ، فإنهم لما صدقوا بالرسالة لزمهم تصديقه في كل ما يخبر به. وقد قال إنه رسول الله الى الناس عامة ، والرسول لا يكذب ، فلزم تصديقه حتما ، فقد أرسل رسله وبعث كتبه في أقطار الارض الى كسرى وقيصر والنجاشي والمقوقس وسائر ملوك الاطراف ، يدعو الى الاسلام.

وقوله : وكافة الورى في جر كافة نظر ، فإنهم قالوا : لم تستعمل «كافة» في كلام العرب الا حالا ، واختلفوا في اعرابها في قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) سبأ : ٢٨ ، على ثلاثة أقوال : أحدها : أنها حال من الكاف في

__________________

(١٣٩) صحيح ، وهو من حديث جابر ، وقد خرجته في «ارواء الغليل» (٢٨٥).

(١٤٠) صحيح ، وهو من حديث أبي هريرة ، وهو في مسلم (١ / ٩٣) ، ولكنه مغاير في بعض الاحرف لسياق الكتاب. وقد رواه ابن منده في «التوحيد» (ق ٤٤ / ١) ولفظه اقرب ، وقد خرجته في «الصحيحة» (١٥٧).

١٦٧

«أرسلناك» وهي اسم فاعل والتاء فيها للمبالغة ، أي : إلا كافّا للناس عن الباطل ، وقيل : هي مصدر كف ، فهي بمعنى كفّا أي : إلا [أن] تكفّ الناس كفّا ، [و] وقوع المصدر حالا كثير. الثاني : أنها حال من «الناس». واعترض بأن حال المجرور لا يتقدم عليه عند الجمهور ، وأجيب بأنه قد جاء عن العرب كثيرا فوجب قبوله ، وهو اختيار ابن مالك رحمه‌الله ، أي : وما أرسلناك الا للناس كافة. الثالث : أنها صفة لمصدر محذوف ، أي : رسالة كافة. واعترض بما تقدم أنها لم تستعمل الا حالا.

وقوله : بالحق والهدى وبالنور والضياء. هذه أوصاف ما جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الدين والشرع المؤيد بالبراهين الباهرة من القرآن وسائر الادلة. والضياء : أكمل من النور ، قال تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) يونس : ٥.

قوله : و (وان القرآن كلام الله ، منه بدا بلا كيفية قولا ، وأنزله على رسوله وحيا ، وصدقه المؤمنون على ذلك حقا ، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ، ليس بمخلوق ككلام البرية. فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر ، وقد ذمه الله وعابه وأوعده بسقر حيث قال تعالى : (إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) المدثر : ٢٥ ـ علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر ، ولا يشبه قول البشر).

ش : هذه قاعدة شريفة ، وأصل كبير من أصول الدين ، ضل فيه طوائف كثيرة من الناس. وهذا الذي حكاه الطحاوي رحمه‌الله هو الحق الذي دلت عليه الادلة من الكتاب والسنة لمن تدبرهما ، وشهدت به الفطرة السليمة التي لم تغير بالشبهات والشكوك والآراء الباطلة.

وقد افترق الناس في مسألة الكلام على تسعة أقوال :

أحدها : أن كلام الله هو ما يفيض على النفوس من معاني ، إما من العقل الفعال عند بعضهم ، أو من غيره ، وهذا قول الصابئة والمتفلسفة.

وثانيها : أنه مخلوق خلقه الله منفصلا عنه ، وهذا قول المعتزلة.

وثالثها : أنه معنى واحد قائم بذات الله ، هو الامر والنهي والخبر والاستخبار ،

١٦٨

وإن عبّر عنه بالعربية كان قرآنا ، وإن عبّر عنه بالعبرانية كان توراة ، وهذا قول ابن كلاب ومن وافقه ، كالاشعري وغيره.

ورابعها : أنه حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل ، وهذا قول طائفة من أهل الكلام ومن أهل الحديث.

وخامسها : أنه حروف وأصوات ، لكن تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلما ، وهذا قول الكرّامية وغيرهم.

وسادسها : أن كلامه يرجع الى ما يحدثه من علمه وارادته القائم بذاته ، وهذا يقوله صاحب المعتبر ، ويميل إليه الرازي في «المطالب العالية».

وسابعها : أن كلامه يتضمن معنى قائما بذاته هو ما خلقه في غيره ، وهذا قول أبي منصور الماتريدي.

وثامنها : أنه مشترك بين المعنى القديم القائم بالذات وبين ما يخلقه في غيره من الاصوات ، وهذا قول أبي المعالي ومن اتبعه.

وتاسعها : أنه تعالى لم يزل متكلما إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء ، وهو يتكلم به بصوت يسمع ، وأن نوع الكلام قديم وإن لم يكن الصوت المعين قديما ، وهذا المأثور عن أئمة الحديث والسنة.

وقول الشيخ رحمه‌الله وإن القرآن كلام الله إن بكسر الهمزة ـ عطف على قوله : ان الله واحد لا شريك له ثم قال : وإن محمدا عبده المصطفى. وكسر همزة إن في المواضع الثلاثة ، لانها معمول القول ، أعني قوله في أول كلامه : نقول في توحيد الله.

وقوله : كلام الله منه بدا بلا كيفية قولا : ـ رد على المعتزلة وغيرهم. فإن المعتزلة تزعم أن القرآن لم يبد منه ، كما تقدم حكاية قولهم ، قالوا : وإضافته إليه اضافة تشريف ، كبيت الله ، وناقة الله ، يحرفون الكلام عن مواضعه! وقولهم باطل ، فإن المضاف إلى الله تعالى معان وأعيان ، فإضافة الاعيان الى الله للتشريف ، وهي مخلوقة له ، كبيت الله ، وناقة الله ، بخلاف إضافة المعاني ، كعلم الله ، وقدرته ، وعزته ، وجلاله ، وكبريائه ، وكلامه ، وحياته ، وعلوه ، وقهره ـ فإن هذا كله من صفاته ، لا يمكن أن يكون شيء من ذلك مخلوقا.

١٦٩

والوصف بالتكلم من أوصاف الكمال ، وضده من أوصاف النقص. قال تعالى : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) الاعراف : ١٤٨. فكان عبّاد العجل ـ مع كفرهم ـ أعرف بالله من المعتزلة ، فإنهم لم يقولوا لموسى : وربك لا يتكلم أيضا. وقال تعالى عن العجل أيضا : (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) طه : ٨٩. فعلم أن نفي رجوع القول ونفي التكلم نقص يستدل به على عدم ألوهية العجل.

وغاية شبهتهم أنهم يقولون : يلزم منه التشبيه والتجسيم؟ فيقال لهم : إذا قلنا إنه تعالى يتكلم كما يليق بجلاله انتفت شبهتهم. ألا ترى أنه تعالى قال : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ) يس : ٦٥. فنحن نؤمن أنها تتكلم ، ولا نعلم كيف تتكلم. وكذا قوله تعالى : (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) فصلت : ٢١. وكذلك تسبيح الحصا والطعام ، وسلام الحجر ، كل ذلك بلا فم يخرج منه الصوت الصاعد من لديه المعتمد على مقاطع الحروف.

والى هذا أشار الشيخ رحمه‌الله بقوله : منه بدا بلا كيفية قولا ، أي : ظهر منه ولا ندري كيفية تكلمه به. وأكّد هذا المعنى بقوله «قولا» ، أتى بالمصدر المعرف للحقيقة ، كما أكد الله تعالى التكليم بالمصدر المثبت النافي للمجاز في قوله : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً). فما ذا بعد الحق إلا الضلال؟!

ولقد قال بعضهم لأبي عمرو بن العلاء ـ أحد القراء السبعة ـ : أريد أن تقرأ : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى) ، بنصب اسم الله ، ليكون موسى هو المتكلم لا الله! فقال أبو عمرو : هب أني قرأت هذه الآية كذا ، فكيف تصنع بقوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ)؟! فبهت المعتزلي!

وكم في الكتاب والسنة من دليل على تكليم الله تعالى لأهل الجنة وغيرهم. قال تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) يس : ٥٨ ، فعن جابر رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور ، فرفعوا أبصارهم ، فإذا الرب جلّ جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم ، فقال : السلام

١٧٠

عليكم يا أهل الجنة ، وهو قول الله تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) يس : ٥٨ ، فلا يلتفتون الى شيء مما هم فيه من النعيم ، ما داموا ينظرون إليه ، حتى يحتجب عنهم ، وتبقى بركته ونوره» (١٤١). رواه ابن ماجه وغيره. ففي هذا الحديث إثبات صفة الكلام ، وإثبات الرؤية ، واثبات العلوّ ، وكيف يصح مع هذا أن يكون كلام الرب كله معنى واحدا ، و [قد] قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) آل عمران : ٧٧ ، فأهانهم بترك تكليمهم ، والمراد أنه لا يكلمهم تكليم تكريم ، [و] هو الصحيح ، إذ قد أخبر في الآية الاخرى أنه يقول لهم في النار : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) المؤمنون : ١٠٨ ، فلو كان لا يكلم عباده المؤمنين ، لكانوا في ذلك هم وأعداؤه سواء ، ولم يكن في تخصيص أعدائه بأنه لا يكلمهم فائدة أصلا. وقال البخاري في «صحيحه» : باب كلام الرب تبارك وتعالى مع أهل الجنة ، وساق فيه عدة أحاديث. فأفضل نعيم أهل الجنة رؤية وجهه تبارك وتعالى ، وتكليمه لهم. فإنكار ذلك إنكار لروح الجنة. وأعلى نعيمها وأفضله الذي ما طابت لأهلها إلا به.

وأما استدلالهم بقوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) الرعد : ١٦ ، والقرآن شيء ، فيكون داخلا في عموم «كل» فيكون مخلوقا!! فمن أعجب العجب. وذلك : أن أفعال العباد كلها عندهم غير مخلوقة لله تعالى ، وانما يخلقها العباد

__________________

(١٤١) ضعيف ، أخرجه ابن ماجه (١٨٤) وكذا أبو نعيم في «الحلية» (٦ / ٢٠٨ ـ ٢٠٩) ، واسناده ضعيف كما قال الذهبي في «العلو» (٩٩) ، فيه أبو عاصم العباداني واسمه عبد الله بن عبيد الله. قال الذهبي : واه ، عن الفضل الرقاشي وهو منكر الحديث كما في «التقريب» ومنه يتبين أن قول الشيخ أحمد شاكر فيما يأتي : «اسناده جيد» غير جيد ، واورده ابن الجوزي في «الموضوعات» من رواية ابن عدي ، ثم قال : «موضوع ، الفضل رجل سوء» وتعقبه السيوطي في «اللآلي» (٢ / ٤٦٠ ـ ٤٦١) بأن ابن ماجه أخرجه! وهذا لا شيء ، وبأن ابن النجار اخرجه من حديث ابي هريرة نحوه ، وفيه سليمان بن ابي كريمة ، قال السيوطي : قال ابن عدي : عامة أحاديثه مناكير ، ولم أر للمتقدمين فيه كلاما. قلت : وضعفه ابو حاتم كما فى «الجرح والتعديل» (٢ / ١ / ١٣٨) قلت : وهذا وان كان ينفي أن يكون الرقاشي تفرد بالحديث فلا يرفع عنه الضعف. والله أعلم.

١٧١

جميعها ، لا يخلقها الله فأخرجوها من عموم «كل» ، وأدخلوا كلام الله في عمومها ، مع أنه صفة من صفاته ، به تكون الاشياء المخلوقة ، إذ بأمره تكون المخلوقات ، قال تعالى : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) الاعراف : ٥٣. ففرّق بين الخلق والامر ، فلو كان الامر مخلوقا للزم أن يكون مخلوقا بأمر آخر ، والآخر بآخر ، الى ما لا نهاية له ، فيلزم التسلسل ، وهو باطل. وطرد باطلهم : أن تكون جميع صفاته تعالى مخلوقة ، كالعلم والقدرة وغيرهما ، وذلك صريح الكفر ، فإن علمه شيء ، وقدرته شيء ، وحياته شيء ، فيدخل ذلك في عموم كل ، فيكون مخلوقا بعد أن لم يكن ، تعالى الله عما يقولون علوّا كبيرا.

وكيف يصح أن يكون متكلما بكلام يقوم بغيره؟ ولو صح ذلك للزم أن يكون ما أحدثه من الكلام في الجمادات كلامه! وكذلك أيضا ما خلقه في الحيوانات ، ولا يفرق حينئذ بين نطق وأنطق. وإنما قالت الجلود : (أَنْطَقَنَا اللهُ) فصلت : ٢١ ، ولم تقل : نطق الله ، بل يلزم أن يكون متكلما بكل كلام خلقه في غيره ، زورا كان أو كذبا أو كفرا أو هذيانا!! تعالى الله عن ذلك. وقد طرد ذلك الاتحادية ، فقال ابن عربي :

وكل كلام في الوجود كلامه

سواء علينا نثره ونظامه!!

ولو صح أن يوصف أحد بصفة قامت بغيره ، لصح أن يقال للبصير : أعمى ، وللاعمى : بصير! لأن البصير قد قام وصف العمى بغيره ، والاعمى قد قام وصف البصر بغيره! ولصح أن يوصف الله تعالى بالصفات التي خلقها في غيره ، من الالوان والروائح والطعوم والطول والقصر ونحو ذلك.

وبمثل ذلك ألزم الامام عبد العزيز المكي بشرا المريسي بين يدي المأمون (١٤٢) ، بعد أن تكلم معه ملتزما أن لا يخرج عن نص التنزيل ، وألزمه الحجة ، فقال بشر :

__________________

(١٤٢) عبد العزيز المكي : هو عبد العزيز بن يحيى الكناني ، احد الفقهاء من اصحاب الشافعي. قدم بغداد ايام المأمون ، وجرى بينه وبين بشر المريسي مناظرة في خلق القرآن ، بحضرة الخليفة المأمون. وصنف كتاب «الحيدة» أثبت فيه نص مناظرته لبشر لكن في ثبوت هذه المناظرة نظر فانه تفرد بروايتها محمد بن الحسن بن ازهر الدعاء ، وقد اتهمه الخطيب بأنه يضع الحديث وذكر الذهبي انه هو الذي وضعها ، فراجع «الميزان» (٣ / ٤٤) و «طبقات السبكي» (١ / ٢٦٥)

١٧٢

يا أمير المؤمنين ، ليدع مطالبتي بنص التنزيل ، ويناظرني بغيره ، فان لم يدع قوله ويرجع عنه ، ويقر بخلق القرآن الساعة وإلا فدمي حلال. قال عبد العزيز : تسألني أم أسألك؟ فقال بشر : [اسأل] أنت ، وطمع فيّ فقلت له : يلزمك واحدة من ثلاث لا بد منها : إما أن تقول : ان الله خلق القرآن ، وهو عندي أنا كلامه ـ في نفسه ، أو خلقه قائما بذاته ونفسه ، أو خلقه في غيره؟ قال : أقول : خلقه كما خلق الاشياء كلها. وحاد عن الجواب. فقال المأمون : اشرح أنت هذه المسألة ، ودع بشرا فقد انقطع. فقال عبد العزيز : ان قال خلق كلامه في نفسه ، فهذا محال ، لأن الله لا يكون محلا للحوادث المخلوقة ، ولا يكون فيه شيء مخلوق وان قال خلقه في غيره فيلزم في النظر والقياس أن كل كلام خلقه الله في غيره فهو كلامه ، فهو محال أيضا ، لانه يلزم قائله أن يجعل كل كلام خلقه الله في غيره ـ هو كلام الله! وان قال خلقه قائما بنفسه وذاته ، فهذا محال : لا يكون الكلام الا من متكلم ، كما لا تكون الإرادة الا من مريد ، ولا العلم الا من عالم ، ولا يعقل كلام قائم بنفسه يتكلم بذاته. فلما استحال من هذه الجهات أن يكون مخلوقا ، علم أنه صفة لله. هذا مختصر من كلام الامام عبد العزيز في «الحيدة».

وعموم كل في كل موضع بحسبه ، ويعرف ذلك بالقرائن. ألا ترى الى قوله تعالى : (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) الاحقاف : ٢٥ ، ومساكنهم شيء ، ولم تدخل في عموم كل شيء دمرته الريح؟ وذلك لان المراد تدمر كل شيء يقبل التدمير بالريح عادة وما يستحق التدمير. وكذا قوله تعالى حكاية عن بلقيس : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) النمل : ٢٣ ، المراد من كل شيء يحتاج إليه الملوك ، وهذا القيد يفهم من قرائن الكلام. اذ مراد الهدهد أنها ملكة كاملة في أمر الملك ، غير محتاجة الى ما يكمل به أمر ملكها ، ولهذا نظائر كثيرة.

والمراد من قوله تعالى : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) الرعد : ١٦ ، أي كل شيء مخلوق ، وكل موجود سوى الله فهو مخلوق ، فدخل في هذا العموم أفعال العباد حتما ، ولم يدخل في العموم الخالق تعالى ، وصفاته ليست غيره ، لأنه سبحانه وتعالى هو الموصوف بصفات الكمال ، وصفاته ملازمة لذاته المقدسة ، لا يتصور انفصال صفاته عنه ، كما تقدم الاشارة الى هذا المعنى عند قوله : ما زال قديما بصفاته قبل

١٧٣

خلقه. بل نفس ما استدلوا به يدل عليهم. فاذا كان قوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) مخلوقا ، لا يصح أن يكون دليلا.

وأما استدلالهم بقوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) الزخرف : ٣ ، فما أفسده من استدلال! فإن «جعل» إذا كان بمعنى خلق يتعدى الى مفعول واحد ، كقوله تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) الانعام : ١ ، وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) الأنبياء : ٣٠. (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) الأنبياء : ٣١. (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) الأنبياء : ٣٢. واذا تعدى الى مفعولين لم يكن بمعنى خلق ، قال تعالى : (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً) النحل : ٩١. وقال تعالى : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) البقرة : ٢٢٤. وقال تعالى : (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) الحجر : ٩١ وقال تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) الاسراء : ٢٩ وقال تعالى : (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) الاسراء : ٣٩. وقال تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) الزخرف : ١٩. ونظائره كثيرة. فكذا قوله تعالى (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) الزخرف :٣

وما أفسد استدلالهم بقوله تعالى : (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ) القصص : ٣٠ ـ على أن الكلام خلقه الله تعالى في الشجرة فسمعه موسى منها! وعموا عما قبل هذه الكلمة وما بعدها ، فإن الله تعالى قال : (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ) القصص : ٣٠ ، والنداء هو الكلام من بعد ، فسمع موسى عليه‌السلام النداء من حافة الوادي ، ثم قال : (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ) القصص : ٣٠ أي أن النداء كان في البقعة المباركة من عند الشجرة ، كما يقول سمعت كلام زيد من البيت ، يكون من البيت لابتداء الغاية ، لا أن البيت هو المتكلم! ولو كان الكلام مخلوقا في الشجرة ، لكانت الشجرة هي القائلة : (يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) القصص : ٣٠. وهل قال : (إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) القصص : ٣٠ ، غير رب العالمين؟ ولو كان هذا الكلام بدا من غير الله لكان قول فرعون : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) النازعات : ٢٤ ـ

١٧٤

صدقا ، إذ كل من الكلامين عندهم مخلوق قد قاله غير الله! وقد فرقوا بين الكلامين على أصولهم الفاسدة : أن ذاك كلام خلقه الله في الشجرة ، وهذا كلام خلقه فرعون!! فحرفوا وبدلوا واعتقدوا خالقا غير الله. وسيأتي الكلام على مسألة أفعال العباد ، إن شاء الله تعالى.

فإن قيل : فقد قال تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) الحاقة : ٤٠. والتكوير : ١٩. وهذا يدل على أن الرسول أحدثه ، إما جبرائيل أو محمد.

قيل : ذكر الرسول معرّف أنه مبلّغ عن مرسله ، لأنه لم يقل إنه قول ملك أو نبي ، فعلم أنه بلغه عمن أرسله به ، لا أنه أنشأ من جهة نفسه. وأيضا : فالرسول في إحدى الآيتين جبرائيل ، وفي الاخرى محمد ، فإضافته الى كل منهما تبين أن الاضافة للتبليغ ، اذ لو أحدثه أحدهما امتنع أن يحدثه الآخر. وأيضا : فقوله رسول أمين (١٤٣) ، دليل على أنه لا يزيد في الكلام الذي أرسل بتبليغه ولا ينقص منه ، بل هو أمين على ما أرسل به ، يبلغه عن مرسله. وأيضا : فإن الله قد كفّر من جعله قول البشر ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشر ، فمن جعله قول محمد ، بمعنى أنه أنشأه ـ فقد كفر. ولا فرق بين أن يقول : إنه قول بشر ، أو جني ، أو ملك ، والكلام كلام من قاله مبتدئا ، لا من قاله مبلغا. ومن سمع قائلا يقول :

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

ـ قال : هذا شعر امرئ القيس ، ومن سمعه يقول : «إنما الاعمال بالنيات وانما لكل امرئ ما نوى» (١٤٤) ـ : قال : هذا كلام الرسول ، وان سمعه

__________________

(١٤٣) قال الشيخ أحمد شاكر : الآية التي ذكرها الشارح (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) جاءت مرتين في سورة الحاقة : ٤٠ وليس فيما بعدها الوصف بلفظ (أمين). والاخرى في سورة التكوير : ١٩ ، ثم بعدها : (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ. مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) ـ ٢٠ ، ٢١. فتعبير الشارح بقوله : وأيضا فقوله : رسول أمين فيه شيء من التساهل ، لم يرد به حكاية التلاوة ، وانما اراد المعنى فقط. ولو قال : وأيضا فوصف الرسول بأنه (أمين ...» كان أدق وأجود.

(١٤٤) متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وهو اوّل حديث في «صحيح البخاري».

١٧٥

يقول : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ـ : قال : هذا كلام الله ، ان كان عنده خبر ذلك ، والا قال : لا أدري كلام من هذا؟ ولو أنكر عليه أحد ذلك لكذب. ولهذا من سمع من غيره نظما أو نثرا ، يقول له : هذا كلام من؟ هذا كلامك أو كلام غيرك؟

وبالجملة ، فأهل السنة كلهم ، من أهل المذاهب الاربعة وغيرهم من السلف والخلف ، متفقون على أن كلام الله غير مخلوق. ولكن بعد ذلك تنازع المتأخرون في أن كلام الله هل هو معنى واحد قائم بالذات ، أو أنه حروف وأصوات تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلما ، أو أنه لم يزل متكلما اذا شاء ومتى شاء وكيف شاء وأن نوع الكلام قديم ، وقد يطلق بعض المعتزلة على القرآن أنه غير مخلوق ، ومرادهم أنه غير مختلق (١٤٤١) مفترى مكذوب ، بل هو حق وصدق ، ولا ريب أن هذا المعنى منتف باتفاق المسلمين.

والنزاع بين أهل القبلة انما هو في كونه مخلوقا خلقه الله ، أو هو كلامه الذي تكلم به وقام بذاته؟ وأهل السنة انما سئلوا عن هذا ، والا فكونه مكذوبا مفترى مما لا ينازع مسلم في بطلانه. ولا شك أن مشايخ المعتزلة وغيرهم من أهل البدع ـ معترفون (١٤٥) بأن اعتقادهم في التوحيد والصفات والقدر لم يتلقوه لا عن كتاب ولا سنة ، ولا عن أئمة الصحابة والتابعين لهم باحسان ، وانما يزعمون أن عقلهم دلهم عليه ، وانما يزعمون أنهم تلقوا من الأئمة الشرائع.

ولو ترك الناس على فطرهم السليمة وعقولهم المستقيمة ، لم يكن بينهم نزاع ، ولكن ألقى الشيطان الى بعض الناس أغلوطة من أغاليطه ، فرّق بها بينهم. (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) البقرة : ١٧٦. والذي يدل عليه كلام الطحاوي رحمة الله : أنه تعالى لم يزل متكلما إذا شاء كيف شاء ، وأن نوع كلامه قديم. وكذلك ظاهر كلام الامام أبي حنيفة رضي الله عنه في الفقه الاكبر ، فإنه قال : والقرآن في المصاحف مكتوب ، وفي القلوب محفوظ ، وعلى الالسن مقروء ، وعلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منزّل ، ولفظنا بالقرآن مخلوق ، والقرآن غير مخلوق ، وما ذكر الله في

__________________

(١٤٤١) في الاصل مختلف.

(١٤٥) في الاصل : مفترون.

١٧٦

القرآن عن موسى عليه‌السلام وغيره ، وعن فرعون وابليس ـ فان ذلك كلام الله إخبارا عنهم ، وكلام موسى وغيره من المخلوقين مخلوق ، والقرآن كلام الله لا كلامهم ، وسمع موسى عليه‌السلام كلام الله تعالى ، فلما كلم موسى كلمه بكلامه الذي هو من صفاته لم يزل ، وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين ، يعلم لا كعلمنا ، ويقدر لا كقدرتنا ، ويرى لا كرؤيتنا ، ويتكلم لا ككلامنا. انتهى. فقوله : ولما كلّم (١٤٦) موسى كلمه بكلامه الذي هو من صفاته ـ يعلم منه أنه حين جاء كلمه ، لا أنه لم يزل ولا يزال أزلا وأبدا يقول يا موسى ، كما يفهم ذلك من قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) الاعراف : ١٤٣ ، ففهم منه الرد على من يقول من أصحابه أنه معنى واحد قائم بالنفس لا يتصور أن يسمع ، وإنما يخلق الله الصوت في الهواء ، كما قال أبو منصور الماتريدي وغيره. وقوله : الذي هو من صفاته لم يزل رد على من يقول إنه حدث له وصف الكلام بعد أن لم يكن متكلما.

وبالجملة : فكل ما تحتج به المعتزلة مما يدل على أنه كلام متعلق بمشيئته وقدرته ، وأنه يتكلم اذا شاء ، وأنه يتكلم شيئا بعد شيء ، فهو حق يجب قبوله. وما يقوله من يقول : إن كلام الله قائم بذاته ، وأنه صفة له. والصفة لا تقوم الا بالموصوف ـ : فهو حق يجب قبوله والقول به. فيجب الأخذ بما في قول كل من الطائفتين من الصواب ، والعدول عما يرده الشرع والعقل من قول كل منهما.

فإذا قالوا لنا : فهذا يلزم أن تكون الحوادث قامت به. قلنا : هذا القول مجمل ، ومن أنكر قبلكم قيام الحوادث بهذا المعنى به تعالى من الأئمة؟ ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك ، ونصوص الأئمة أيضا ، مع صريح العقل.

ولا شك أن الرسل الذين خاطبوا الناس وأخبروهم أن الله قال ونادى وناجى ويقول ، لم يفهموهم أن هذه مخلوقات منفصلة عنه ، بل الذي أفهموهم إياه : أن الله نفسه هو الذي تكلم ، والكلام قائم به لا بغيره ، وأنه هو الذي تكلم به وقاله ، كما قالت عائشة رضي الله عنها في حديث الإفك : «ولشأني في نفسي كان أحقر

__________________

(١٤٦) في المطبوعة «ولما كان» ، وهو خطأ

.

١٧٧

من أن يتكلم الله في بوحي يتلى» (١٤٧). ولو كان المراد من ذلك كله خلاف مفهومه لوجب بيانه ، إذ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. ولا يعرف في لغة ولا عقل قائل متكلم لا يقوم به القول والكلام وإن زعموا أنهم فروا من ذلك حذرا من التشبيه ، فلا يثبتوا صفة غيره ، فإنهم اذا قالوا : يعلم لا كعلمنا ، قلنا : ويتكلم لا كتكلمنا ، وكذلك سائر الصفات. وهل يعقل قادر لا تقوم به القدرة ، أو حي لا تقوم به الحياة؟ وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن برّ ولا فاجر» (١٤٨) ، فهل يقول عاقل إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاذ بمخلوق؟ بل هذا كقوله : «أعوذ برضاك من سخطك. وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك» (١٤٩) ، وكقوله : «أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر» (١٥٠). وكقوله : «وأعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا» (١٥١). كل هذه من صفات الله تعالى.

وهذه المعاني مبسوطة في مواضعها ، وإنما أشير إليها هنا اشارة.

وكثير من متأخري الحنفية على أنه معنى واحد ، والتعدد والتكثر والتجزؤ والتبعض حاصل في الدلالات ، لا في المدلول. وهذه العبارات مخلوقة ، وسميت «كلام الله» لدلالتها عليه وتأديه بها ، فإن عبّر بالعربية فهو قرآن ، وإن عبّر بالعبرانية فهو توراة ، فاختلفت العبارات لا الكلام. قالوا : وتسمى هذه العبارات كلام الله مجازا!

وهذا الكلام فاسد ، فإن لازمه أن معنى قوله : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) الاسراء : ٣٢ ، هو معنى قوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) البقرة : ٤٣. ومعنى آية الكرسي هو معنى آية الدّين! ومعنى سورة الاخلاص هو معنى (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) المسد : ١. وكلما تأمل الانسان هذا القول تبين له فساده ، وعلم أنه مخالف لكلام السلف.

__________________

(١٤٧) البخاري ومسلم في حديث طويل لها في قصة الإفك.

(١٤٨) صحيح ، رواه أحمد (٣ / ٤١٩) وابن السني (٦٣١) عن عبد الرحمن بن حنبش مرفوعا بسند صحيح.

(١٤٩) مسلم وقد مضى (برقم ٧٢).

(١٥٠) صحيح ، وتقدم (برقم ٧٠).

(١٥١) صحيح ، وتقدم (برقم ٧٣).

١٧٨

والحق : أن التوراة والإنجيل والزبور والقرآن من كلام الله حقيقة ، وكلام الله تعالى لا يتناهى ، فإنه لم يزل يتكلم بما شاء اذا شاء كيف شاء ، ولا يزال كذلك. قال تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) الكهف : ١٠٩. وقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) لقمان : ٢٧. ولو كان ما في المصحف عبارة عن كلام الله ، وليس هو كلام الله ، لما حرم على الجنب والمحدث مسه ، ولو كان ما يقرأه القارئ ليس كلام الله لما حرم على الجنب والمحدث قراءته. بل كلام الله محفوظ في الصدور ، مقروء بالألسن ، مكتوب في المصاحف ، كما قال أبو حنيفة في «الفقه الأكبر». وهو في هذه المواضع كلها حقيقة ، وإذا قيل : فيه خط فلان وكتابته ـ : فهم منه معنى صحيح حقيقي ، واذا قيل : فيه مداد قد كتب به ـ : فهم منه معنى صحيح حقيقي ، وإذا قيل : المداد في المصحف ـ : كانت الظرفية فيه غير الظرفية المفهومة من قول القائل : فيه السموات والارض ، وفيه محمد وعيسى ، ونحو ذلك. وهذان المعنيان مغايران لمعنى قول القائل : فيه كلام الله. ومن لم يتنبه للفروق بين هذه المعاني ضل ولم يهتد للصواب. وكذلك الفرق بين القراءة التي هي فعل القارئ ، والمقروء الذي هو قول الباري ، من لم يهتد له فهو ضال أيضا ، ولو أن انسانا وجد في ورقة مكتوبا «ألا كل شيء ما خلا الله باطل» من خط كاتب معروف. لقال : هذا من كلام لبيد حقيقة ، وهذا خط فلان حقيقة ، وهذا كل شيء حقيقة ، وهذا خبر حقيقة ، ولا تشتبه هذه الحقيقة بالأخرى.

والقرآن في الاصل : مصدر ، فتارة يذكر ويراد به القراءة ، قال تعالى : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) الاسراء : ٧٨. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «زينوا القرآن بأصواتكم» (١٥١١). وتارة يذكر ويراد به المقروء ، قال تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) النحل : ٩٨. وقال تعالى : (وَإِذا

__________________

(١٥١١) صحيح ، رواه أبو داود وغيره من أصحاب السنن والحاكم وأحمد بسند صحيح عن البراء بن عازب ، «صحيح ابي داود» (١٣٢٠).

١٧٩

قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) الاعراف : ٢٠٤. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف» (١٥٢). الى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على كل من المعنيين المذكورين. فالحقائق لها وجود عيني وذهني ولفظي ورسمي ، ولكن الأعيان تعلم ، ثم تذكر ، ثم تكتب. فكتابتها في المصحف هي المرتبة الرابعة. وأما الكلام فإنه ليس بينه وبين المصحف واسطة ، بل هو الذي يكتب بلا واسطة ولا لسان.

والفرق بين كونه في زبر الاولين ، وبين كونه في رق منشور ، أو لوح محفوظ ، أو في كتاب مكنون ـ : واضح. فقوله عن القرآن : (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) الشعراء : ١٩٦ ، أي ذكره ووصفه والاخبار عنه ، كما أن محمدا مكتوب عندهم. إذ القرآن أنزله الله على محمد ، لم ينزله على غيره أصلا ، ولهذا قال في الزبر ، ولم يقل في الصحف ، ولا في الرق ، لأن «الزبر» جمع «زبور» و «الزّبر» هو : الكتابة والجمع ، فقوله : (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) الشعراء : ١٩٦ أي : مزبور الاولين ، ففي نفس اللفظ واشتقاقه ما يبين المعنى المراد ، ويبين كمال بيان القرآن وخلوصه من اللبس. وهذا مثل قوله : (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ) الاعراف : ١٥٦ ، أي : ذكره ، بخلاف قوله : (فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) الطور : ٣ و (لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) البروج : ٢٢ و (كِتابٍ مَكْنُونٍ) الواقعة : ٧٨ ، لأن العامل في الظرف إما أن يكون من الافعال العامة ، مثل الكون والاستقرار والحصول ونحو ذلك ، أو يقدر : مكتوب في كتاب ، أو في رق. والكتاب : تارة يذكر ويراد به محل الكتابة ، وتارة يذكر ويراد به الكلام المكتوب. ويجب التفريق بين كتابة الكلام في الكتاب ، وكتابة الأعيان الموجودة في الخارج فيه ـ فإن تلك إنما يكتب ذكرها. وكلما تدبر الانسان هذا المعنى وضح له الفرق.

وحقيقة كلام الله تعالى الخارجية : هي ما يسمع منه أو من المبلغ عنه ، فإذا سمعه السامع علمه وحفظه. فكلام الله مسموع له معلوم محفوظ ، فاذا قاله السامع

__________________

(١٥٢) متفق عليه من حديث عمر ، وتمامه : «فاقرءوا ما تيسر منه».

١٨٠