شرح العقيدة الطّحاويّة

ابن أبي العزّ الحنفي

شرح العقيدة الطّحاويّة

المؤلف:

ابن أبي العزّ الحنفي


المحقق: الشيخ محمّد ناصر الدين الألباني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بغداد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٤

١
٢

٣

٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ان الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

أما بعد فهذا شرح عقيدة الامام أبي جعفر الطحاوي ، نقدمه في طبعة جديدة الى الراغبين في الوقوف على عقيدة السلف الصالح ، والتوحيد الخالص ، الذي بعث الله تعالى به أنبياءه ورسله عليهم الصلاة والسلام. ونستطيع أن نقول : إن هذا الكتاب القيم يقلّ نظيره في التحقيق والبيان ، والعمق والاحاطة ، والتزام منهج الحق الذي كان عليه السلف الصالح.

لذلك لاقت هذه العقيدة مدح عدد كبير جدا من العلماء (١) وشرحها عدد كبير منهم أيضا ، وكان أحسن شروحها المعروفة هذا الشرح ، وهو يمثل عقيدة السلف أحسن تمثيل. والمؤلف يكثر من النقل عن كتب شيخ الاسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم من غير احالة عليها. ولعل له عذرا في ذلك (٢) ، وهو : أن عقيدة السلف كانت تحارب من المتعصبين والحشويين وعلماء السوء الذين كان لهم تأثير كبير على

__________________

(١) ومما يدلك على ذلك كلمة العلامة الشيخ عبد الوهاب السبكي في كتابه «معيد النعم ومبيد النقم» التي نقلنا ملخصها على غلاف الكتاب وهي : «وهذه المذاهب الأربعة ـ ولله تعالى الحمد ـ في العقائد واحدة ، إلا من لحق منها بأهل الاعتزال والتجسيم ، وإلا فجمهورها على الحق يقرون عقيدة أبي جعفر الطحاوي التي تلقاها العلماء سلفا وخلفا بالقبول».

(٢) قلت هذا منذ ثلاثين سنة ، ثم تيقنت ذلك بعد معرفة صاحب الشرح وهو العلامة ابن أبي العز الحنفي ، والتأكد من شرحه لها ، وما لاقى في سبيل عقيدته من ظلم أهل الابتداع والضلال.

٥

بعض الحكام ، مما جعل بعض أصحاب هذه العقيدة لا يتظاهرون بها ـ غالبا ـ في تلك الأيام التي كان فيها بعض الناس مغرما بإتلاف كتب شيخ الاسلام. الأمر الذي أدى الى فقدان أو ندرة بعض مؤلفات هذا الامام العظيم مما حفز ابن عروة الحنبلي الدمشقي الى حفظها في مجموعه الضخم المعروف ب «الكواكب الدراري في ترتيب مسند الامام أحمد الشيباني» فإنه أدخل فيه العديد من كتب شيخ الاسلام لأدنى مناسبة.

وقد استمرت هذه المحنة حتى العصور المتأخرة. فقد كان أحد المتنفذين في دمشق في أواخر القرن الماضي يتلف ما يستطيع جمعه من كتب شيخ الاسلام وتلامذته وما وجد من كتبهم على رأيهم.

مستخدما في ذلك ما له من جاه وسلطان انتصارا لمذهبه واعتقاده في «الحلول والاتحاد» (١).

وظني أن هذه المحنة وهذا العداء لعقيدة السلف الصالح كانا وراء خفاء اسم المؤلف لهذا الشرح المبارك ، وكانا وراء خفاء اسم شيخ الاسلام ابن تيمية والامام ابن القيم من الشرح ، مع انه نقل عنهما في كتابه نقولا جمة ، ربما تبلغ في بعض المواطن صفحات.

وقد سبق لهذا الكتاب أن طبع مرتين (٢). لكن طبعتنا هذه تمتاز بأنها مقابلة

__________________

(١) انشر مقدمة كتاب «الكلم الطيب» ص ٤ طبع المكتب الاسلامي.

(٢) كنت أولاهما في مكة المشرفة ١٣٤٩ ه‍ وقد قامت بها لجنة من العلماء برئاسة العلامة الشيخ عبد الله ابن حسن بن حسين آل الشيخ رحمه‌الله تعالى ، واعتمدوا فيها على نسخة خطية ، كثيرة الغلط وتحريف ، لم يتيسر لهم لوقوف على غيرها ، فلم يألوا جهدا في تصحيحها ، وتقويم ما انحرف عن الثواب فيها جزاهم الله اخير ، ولكن طبعتهم مع ذلك لم تخل من اغلاط كثيرة. ثم تصدى للنشر ثانية أستاذي العلامة المحدث الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه‌الله ، فقام بطبعها في القاهرة سنة ١٣٧٣ ه‍ معتمدا على الطبعة السالفة ، واجتهد في تصحيح كلام الشارح ، وقابل بالحديث والآثار ، فجاءت طبعته أمثل من سابقتها وأقرب الى الصحة. إلا أن في كلتا الطبعتين عيب لم يكن للقائمين عليهما حية لتداركه ، فإن النسخة الخطية التي طبع عنها الكتاب في كلا المرتين لم يصر فسادها على ما فشا فيها من الغلط والتحريف ، بل وقع فيها أيضا سقط وخروم في مواطن كثيرة يبلغ بعضها ورقة كاملة ، اختل بذلك سياق الكلام ، واضطرب نظامه ، وأصبح فهم شطر كبير من هذا الكتاب متعذرا على أكثر القراء.

٦

على نسخة خطية كاملة وقعت لي ويسر الله تملكي لها جلية الخط ، حسنة الضبط. أما ما وقع فيها من غلط في بعض المواضع ، فإنه من النوع الذي يسهل تداركه. وقد جاء في ختامها ما نصه : «قد تم تحريرها على يد الفقير الحقير خادم العلماء الاعلام ، والمحرري الكتب في جامع مدرسة مرجان عليه الرحمة والرضوان ، عبد المحيي بن عبد الحميد بن الحاج محمد مكي الشيخلي البغدادي ، يوم الاثنين التاسع من شهر رجب الأصم من شهور سنة اثني (كذا) وعشرين وثلاثمائة بعد الألف ..

فاستظهرنا من أنّ الأصل الذي نسخت ، عنه ينبغي أن يكون في بغداد ، فحرصت على أن أظفر بصورة. منه ، وكتبت في ذلك الى علامة العراق الشيخ بهجة الأثري ، مع تزكية لطلبي من استاذي الجليل الشيخ بهجة البيطار. غير أنّ الأستاذ الأثري لم يوفق في الحصول على الأصل ، أو معرفة شيء عنه ، واستعنت بعدد من الأفاضل ومنهم الصديق الأديب الدكتور عبد الله جبوري ، والاستاذ الفاضل الدكتور عبد الكريم زيدان ، وغيرهم جزاهم الله كل خير. وزرت العراق أكثر من مرة وبحثت عنها فلم أوفق الى شيء حتى الآن.

ولما كانت الطبعة الأولى خلوا من اسم المؤلف. تبعا للأصل الذي طبعت عنه. وفي الطبعة الثانية استظهر استاذنا الشيخ أحمد شاكر (١) أن مؤلفه هو علي بن علي بن محمد ابن أبي العز الحنفي (٢) اعتمادا على ما أرشده إليه العالم الكريم الفاضل الشيخ محمد بن حسين نصيف (٣) ، من أن السيد مرتضى الزبيدي نقل عن هذا الكتاب قطعة في «شرح الأحياء» (٢ / ١٤٦) وعزاها الى ابن أبي العز المذكور.

وأما نسختنا فقد كان اسم مؤلفها مثبتا على الورقة الأولى منها ، إلا أنّ بعض

__________________

(١) توفي عليه رحمة الله في ذي الحجة ١٣٧٧ تموز ١٩٥٨.

(٢) انظر ترجمته في الصفحة ١٦.

(٣) انتقل الشيخ محمد نصيف الى رحمة الله تعالى في ٨ جمادى الثانية سنة ١٣٩١ ه‍ الموافق ٣١ تموز (يوليو) ١٩٧١ م.

٧

الأيدي قد لعبت فيه بالمحو والكتابة أكثر من مرة ، وأخيرا أثبت عليه ما أثبته الشيخ أحمد شاكر.

وقد استطعنا ان نتبين من بقايا الكتابة الاولى الكلمات التالية «جمال الدين ... ابن صلاح الدين أبي البركات موسى بن محمد الملطي الحنفي» فاستظهرنا انه : يوسف بن موسى بن محمد أبو المحاسن جمال الدين الملطي المتوفى سنة ٨٠٣ ه‍ وترجمته في «الضوء اللامع» للسخاوي (١٠ / ٣٣٥ ـ ٣٣٦) و «شذرات الذهب» لابن العماد (٧ / ٤٠) وابن اياس في تاريخه (٣١٥) وغيرهم.

ولكن حال دون القطع بذلك ان صاحب هذا الشرح ـ كما ذكر هو نفسه في غير موضع من الكتاب ـ من تلامذة ابن كثير ، ولم يذكر أحد ممن ترجموا للملطي المذكور انه تلميذ لابن كثير ، كما لم يذكروا أيضا ان له شرحا على الطحاوية ، ويبعد ان يؤلف مثل هذا الشرح السلفي المعتمد على الحديث النبوي الشريف وهو القائل كما في «شذرات الذهب» ٧ / ٤٠ : من نظر في البخاري فقد تزندق.

فبقيت المسألة معلقة تنتظر الدليل القاطع للبت في طبعتنا الثالثة ، وأما في طبعتنا هذه تيقنا انها لابن أبي العز جزاه الله خيرا عن الاسلام وأهله (١).

هذا وقد قمنا بمقابلة مخطوطتنا على مطبوعة مكة ، ومطبوعة الشيخ احمد شاكر ، وبما أننا قد جعلنا مخطوطتنا هي الأصل ، فكل زيادة كانت فيها ، ادرجت دون الاشارة إليها ، وهو كثير (٢) وما كان من زيادة في احدى المطبوعتين اثبتناه ضمن حاضرتين هكذا [] كما أننا قمنا بترقيم الآيات والعناية بالطبع ، والتصحيح ومراجعة النصوص على اصولها ، وضبط ما اشكل منها قدر المستطاع.

ثم يسر الله لي مصورتين لمخطوطتين لم نكن نعرف عنا شيئا.

كما اننا قابلنا المتن على عدد كبير من المخطوطات وقد قام استاذنا الجليل

__________________

(١) انظر صورة مخطوط المغرب صفحة ٦٦.

(٢) انظر مثلا السطر الثامن من الصفحة ٨١ من مطبوعتنا المقابلة للصفحة ٢٣ من مطبوعة شاكر تلاحظ سقطا مقداره ٣٤ سطرا غير موجود في مطبوعة مكة وشاكر.

٨

المحدث الشيخ محمد ناصر الدين الالباني بتخريج ما فيها من الاحاديث وأعاد النظر في تخريجه مرة أخرى بما زاد طبعتنا هذه حسنا وافادة.

وساعد على مقابلتها واعدادها للطبع ، وتحقيق نصوصها ، وضبط ألفاظها في طبعتها الثالثة ـ الأولى بالنسبة لنا ـ كل من الاساتذة الافاضل : عبد الرحمن الباني ، وهبي سليمان غاوجي ، سعيد الطنطاوي ، شعيب الارناؤوط ، عبد القادر الأرناءوط (١) ، مساهمة منهم في نشر العلم ، جزاهم الله كل خير.

وقد تلقى العلماء طبعتنا بالقبول. كما قرر تدريسها في المعاهد والكليات بالرياض ، والجامعة الاسلامية بالمدينة استاذنا الجليل المفتي الاكبر الشيخ محمد بن ابراهيم آل الشيخ ـ عليه رحمة الله ـ.

وقامت كلية الدراسات الاسلامية في بغداد بتدريسها ثم اختصارها ـ بإذن منا ـ وكذلك اعتمدها مرجعا لا غنى عنه في كلية الشريعة بجامعة دمشق استاذنا المفضال الدكتور مصطفى السباعي عميد كلية الشريعة آنذاك ـ عليه رحمة الله ـ.

وقد امتازت طبعتنا هذه بإضافات جليلة القدر ، عظيمة النفع منها :

ـ تعليق سماحة استاذي العلامة الجليل الشيخ عبد العزيز بن باز الذي تجده في الصفحة ١٠٩.

ـ حالات استاذي العلامة الشيخ عبد الرزاق عفيفي على كتب شيخ الاسلام ابن تيمية ، وتلميذه العلامة ابن القيم مما هو مثبت في هذا الشرح.

ـ اعادة النظر في تخريج الأحاديث من قبل استاذي المحدث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ، مع الابقاء على مقدمته القيمة.

__________________

(١) وقد طبعتها مصورة مرات ، غير أن بعض من لا خلاق لهم عمدوا الى سرقتها تصويرا ، أو طباعة بعد حذف أشياء منها ، وبعضهم حذف اسم المكتب والبعض أبقاه. فالله سبحانه وتعالى حسيبهم. كما أن بعضهم صوّر مطبوعة الأستاذ شاكر مزاحمة ومضاهاة ، ولو أن أستاذنا الشيخ أحمد شاكر ـ رحمه‌الله ـ بما كان يتمتع به من علم وإنصاف ، اطلع على طبعتنا هذه لكان من المحبذين لها ، والمفضلين لها على طبعته. لأننا أثبتنا فوائد طبعته وزدنا عليها الكثير.

٩

ـ كذلك ابقائي للتوضيح ، الذي دعت الحاجة الى نشره ، رغم رغبتي وسعيي الحثيث لرفعه مع المقدمة ، ولكن الذين بدءوا الاعتداء وعملوا على نشر الباطل في تقريرهم ، واسمرار مسعاهم في نشر الرسائل والتعليقات والمقالات ، والعمل على طبع شرح الطحاوية محرفا ومدلسا على الناس أنه طبعتنا ، وما زلت عند قولي في «التوضيح» (١).

وإليك بعض ما ذكرت في مقدمتي «للعقيدة الطحاوية ـ شرح وتعليق» للمحدث الألباني :

فإن عقيدة الإمام أبي جعفر الطحاوي الحنفي ، هي عقيدة أهل السنة والجماعة المتفق على اتباعها من علماء الأمة. لأنها وافقت معتقد علماء هذه الملة ، خلال قرون متعددة. ومنهم أبو حنيفة النعمان ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وأكثر أتباعهم. كما أنها عقيدة الإمام أبي الحسن الأشعري ، التي استقر عليها أخيرا بالجملة. ولم يشذ عنها إلا من أشرب في قلبه ، نوع من الاعتزال ، والجهمية ، ومناصبة السنّة العداوة.

وقد امتنّ الله عليّ ، فيسّر لي طبع «شرح العقيدة الطحاوية» للعلامة ابن أبي العزّ الحنفي ، بعد حصولي على مخطوطة قيّمة (٢).

ولم أجزم في طبعتنا بنسبة الشرح لابن أبي العزّ ـ رحمه‌الله ـ غير أن أستاذي الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ، في سفرته الأولى إلى المغرب سنة ١٣٩٥ ، أهدى إليه الأستاذ الفاضل الشيخ محمد أبو خبزة مدير مكتبة مدينة «تطون» من المملكة

__________________

(١) وقد دعت الضرورة أن نطبع كمية من النسخ خالية من المقدمة والتوضيح بناء على رغبة جهة كريمة ، لا أشك برغبتها بصدق نيتها في الاصلاح.

(٢) أنظر ذلك ، في طبعتنا هذه التي بين يديك ، في ثوبها الجديد ، ففيها ما يعرفك بالكثير مما يلزمك ، ولا تغتر بالطبعات المسروقة عن طبعتنا الرابعة الخالية من «التوضيح» ومن «مقدمة الشيخ ناصر الدين الألباني» ، ولا بالمصوّرة عن طبعة العلامة الشيخ أحمد شاكر ـ رحمه‌الله ـ فإن في كل ذلك النقص والتحريف. ولو أن أستاذنا الشيخ أحمد شاكر ، أطلع على طبعتنا ، لكان من المحبذين لها ، لما كان يتمتع به من علم وإنصاف.

١٠

المغربية ، رسالة مصوّرة عن مخطوط ، ذكر تحت عنوانها ، أن مؤلف شرح العقيدة الطحاوية ، هو ابن أبي العزّ الحنفي.

وهذا مما حداني إلى مراجعة ما سبق وجمعته بشأن معرفة الشارح ، واستبعدت أن يكون جمال الدين يوسف بن موسى الملطي ، كما كان ظاهرا من بعض الكلمات الممحية من المخطوطة ، لاستبعاد أن يؤلف الملطي مثل هذا الشرح السلفي المعتمد على الحديث النبوي الشريف ، وهو القائل كما في «شذرات الذهب» (٧ / ٤٠) : من نظر في صحيح البخاري فقد تزندق؟!

وكان يفتي بأكل الحشيشة ، ووجوه الحيل في أكل الربا ، زاعما أن يخرج ذلك على نصوص مذهبه ، هو بلا شك ، افتراء منه ، ومن أتباعه حتى يومنا هذا ، على الإمام أبي حنيفة ورجال مذهبه الأفاضل الاتقياء.

وقد أشار ابن الشحنة إلى ذلك ، حيث هجاه بقوله :

عجبت لشيخ يأمر الناس بالتقى

وما راقب الرحمن يوما وما اتقى

يرى جائزا أكل الحشيشة والربا

ومن يستمع للوحي حقا تزندقا؟

ثم اتضح أن السبب في إخفاء ابن أبي العز ، أو النسّاخ لاسمه ، هو الخوف من الهجمة الشرسة ، التي كانت سائدة في عصره من قبل المخرّفين ، والمتعصبين ، مؤيّدين بقوة السلاطين الجاهلين ... الظاهر برقوق ، وابنه الناصر فرج ، ولاجين بن عبد الله الشركسي وأمثالهم ، وكانوا على عقيدة سيئة ، فضلا عما في سلوكهم من انحراف ، وكانوا يقربون أصحاب وحدة الوجود ، وأهل السحر ، والزيج ، وضرب الرمل. ولا تكاد تجد من المقربين إليهم إلا من اشتهر بذلك أو بما هو أسوأ!!

ولا أدلّ على هذا مما رواه ابن حجر وإليك كلامه بنصه (١) :

وفي سنة ٧٨٤ كانت واقعة الشيخ صدر الدين علي بن أبي العز الحنفي

__________________

(١) أنظر «إنباء الغمر» ١ / ٢٥٨ و ٢ / ٧٥ طبع إحياء التراث. تحقيق الاستاذ حسن حبشي. «الضوء اللامع» ٥ / ٦٦٥ «النجوم» ٦ / ١٣٨ توجد نسخة محفوظة باسم «تحفة العالم في سيرة سيد العوالم» لنصر الدين ابي عبد الله محمد بن أيبك بن عبد الله الفأفاء الذي عاش حوالي ٧٨٢ «محلة المجمع» ٥٣ / ٢ / ٤٥٠

.

١١

بدمشق ، وأولها أن الأديب علي بن أيبك الصفدي ، عمل قصيدة لامية على وزن «بانت سعاد». وعرضها على الأدباء والعلماء فقرظوه ، ومنهم صدر الدين علي بن علاء الدين ابن أبي العز الحنفي ، ثم انتقد فيها أشياء ، فوقف عليها علي بن أيبك المذكور ، فساءه ذلك ودار بالورقة على بعض العلماء ، فأنكر غالب من وقف عليها وشاع الأمر.

فالتمس ابن أيبك من ابن أبي العز أن يعطيه شيئا ويعيد إليه الورقة فامتنع ، فدار على المخالفين وألّبهم عليه ، وشاع الأمر ، إلى أن انتهى إلى مصر فقام بعض المتعصبين إلى أن انتهت القضية للسلطان ، فكتب مرسوما طويلا منه :

«بلغنا أن علي بن أيبك مدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقصيدة ، وأن علي ابن أبي العز اعترض عليه وأنكر أمورا منها التوسل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقدح في عصمته وغير ذلك ، وأن العلماء بالديار المصرية ـ خصوصا أهل مذهبه من الحنفية ـ أنكروا ذلك فيتقدم بطلبه وطلب القضاة والعلماء من أهل المذاهب ويعمل معه ما يقتضيه الشرع من تعزير وغيره». وفي المرسوم أيضا :

«بلغنا أن جماعة بدمشق ينتحلون مذهب ابن حزم وداود ويدعون إليه ، منهم القرشي وابن ألجاي (كذا) (١) وابن الحسباني ، والياسوفي ، فيتقدم بطلبهم ، فإن ثبت عليهم منه شيء عمل بمقتضاه من ضرب ونفي وقطع معلوم ، ويقرر في وظائفهم غيرهم من أهل السنة والجماعة». وفيه :

«وبلغنا أن جماعة من الشافعية والحنابلة والمالكية يظهرون البدع ومذهب ابن تيمية». فذكر نحو ما تقدم في الظاهرية ، فطلب النائب القضاء وغيرهم ، فحضر أول مرة القضاة ونوابهم وبعض المفتيين ، فقرئ عليهم المرسوم ، وأحضر خط ابن أبي العز فوجد فيه قوله : «حسبي رسول الله : هذا لا يقال إلا لله!» وقوله : «اشفع

__________________

(١) هي مصحفة غالبا عن (الجابي) فيكون أحمد بن عثمان الياسوفي الأصل ، الدمشقي المعروف بابن الجابي. مات سنة ٧٨٧.

١٢

لي» ، قال : «لا تطلب منه الشفاعة». ومنها «توسلت بك» فقال : «لا يتوسل به».

وقوله : «المعصوم من الزلل» ، قال : «إلا من زلة العتاب».

وقوله : «يا خير خلق الله» الراجح تفضيل الملائكة إلى غير ذلك.

فسئل فاعترف ثم قال : «رجعت عن ذلك ، وأنا الآن أعتقد غير ما قلت أولا» فكتب ما قال وانفصل المجلس.

ثم طلب بقية العلماء فحضروا المجلس الثاني وحضر القضاة أيضا ، وممن حضر القاضي شمس الدين الصرخدي ، والقاضي شرف الدين ابن الشريشي ، والقاضي شهاب الدين الزهري وجمع كثير ، وأعيد الكلام ، فقال بعضهم : «يعزّر» وقال بعضهم : «ما وقع معه من الكلام أولا كاف في تعزير مثله» وانفصلوا.

ثم طلبوا ثالثا ، وطلب من تأخر وكتبت أسماؤهم في ورقة ، فحضر القاضي الشافعي ، وحضر ممن لم يحضر أولا : أمين الدين الأتقى ، وبرهان الدين الصنهاجي ، وشمس الدين ابن عبيد الحنبلي وجماعة.

ودار الكلام أيضا بينهم ثم انفصلوا ثم طلبوا.

وشدد الأمر على من تأخر فحضروا أيضا. وممن حضر سعد الدين النووي وجمال الدين الكردي ، وشرف الدين الغزي ، وزين الدين ابن رجب ، وتقي الدين ابن مفلح ، وأخوه ، وشهاب الدين ابن حجي ، فتواردوا على الإنكار على ابن أبي العز في أكثر ما قاله.

ثم سئلوا عن قضية الذين نسبوا إلى الظاهر ، وإلى ابن تيمية ، فأجابوا كلهم أنهم لا يعلمون في المسمون من جهة الاعتقاد إلا خيرا ، وتوقف ابن مفلح في بعضهم. ثم حضروا خامس مرة واتفق رأيهم على أنه لا بد من تعزير ابن أبي العز ، إلا الحنبلي.

فسئل ابن أبي العز عما أراد بما كتب فقال : «ما أردت إلا تعظيم جانب

١٣

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وامتثال أمره : أنه لا يعطى فوق حقه».

فأفتى القاضي شهاب الدين الزهري بأن ذلك كاف في قبول قوله ، وإن أساء في التعبير ، وكتب خطه بذلك.

وأفتى ابن الشريشي وغيره بتعزيره ، فحكم القاضي الشافعي بحبسه ، فحبس بالعذراوية ثم نقل إلى القلعة ، ثم حكم برفع ما سوى الحبس من التعزيرات ، ونفذه بقية القضاة.

ثم كتبت نسخة بصورة ما وقع وأخذ فيها خطوط القضاة والعلماء وأرسلت مع البريد إلى مصر ، فجاء المرسوم في ذي الحجة بإخراج وظائف ابن أبي العز ، فأخذ تدريس العزية البرانية شرف الدين الهروي ، والجوهرية على الملقب الأكبر ، واستمر ابن أبي العزّ في الاعتقال إلى شهر ربيع الأول من السنة المقبلة.

وأحدث من يومئذ ـ عقب صلاة الصبح ـ التوسل بجاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أمر القاضي الشافعي بذلك المؤذنين ، ففعلوه.

وفي الرابع من ذي القعدة طلب ابن الزهري شمس الدين محمد بن خليل الحريري المنصفي فعزره بسبب فتواه بمسألة الطلاق على رأي ابن تيمية ، وبسبب قوله : «الله في السماء».

وكان الذي شكاه القرشي فضربه بالدرة وأمر بتطويفه على أبواب دور القضاة ، ثم اعتذر ابن الزهري بعد ذلك وقال : «ما ظننته إلا من العوام لأنهم أنهوا إلي أن فلانا الحريري قال : كيت وكيت».

حكى ذلك ابن الحجي ، وهذا العذر دال على أنه تهوّر في أمره ولم يثبت. فلله الأمر.

ومن أطرف ما حكي عن ابن المنصفي أن بعض الناس اغتمّ له مما جرى فقال : «ما أسفي إلا على أخذهم خطي بأني أشعري فيراه عيسى بن مريم إذا نزل» انتهى.

وهذه الأسباب أوجبت إخفاء المؤلف ابن أبي العز اسمه ، أو أن النسّاخ حذفوا اسمه خوفا من بطش هؤلاء الحكام وأتباعهم الظالمين. وإذا تتبعنا تلك الحقبة ،

١٤

وما جرى فيها على العلماء من الإيذاء والإهانات ، لطال بنا البحث.

ولا تغترّ بتعليقات الكوثري التي يدافع بها عن برقوق ولاجين وأمثالهما ، فإن للعصبية لأبناء جنسه (الشركسي) دخلا في ذلك ، إضافة إلى العصبية للمذهب والمعتقد.

ـ وقد امتازت طبعتنا هذه بالفهرس الذي جمعنا فيه أطراف الأحاديث والآثار وبعض الألفاظ الواردة في الكتاب تسهيلا للمراجع والمطالع وهو بعض الواجب علينا في خدمة عقيدتنا ، وسنة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولما كان هذا الفهرس هو لسهولة الرجوع الى ما في الكتاب ، فقد دمجنا به الأحاديث الصحيحة الموصولة وغيرها مما لم يصح ، أو كان معلقا أو موقوفا أو مرسلا ، وبذلك فإنه يشمل الآثار أيضا ، وقد أدخلنا الأحاديث المحلاة ب (أل) مع جسم الحرف من غير فصل مثال حديث «الاسلام شهادة : أن لا إله إلا الله» فإنك تجده بعد حديث «أسري بجسده ...» كما أننا فهرسنا بعض الألفاظ وجعلناها أطرافا لحديث مع أن طرف الحديث لفظ آخر «يا غلام ألا أعلمك كلمات : احفظ الله ...» فإنك ستجده عند حرف «يا غلام» وعند «... احفظ الله».

وقد ساعد بالجهد الأكبر في الفهرسة الأخ الفاضل الأستاذ رجب قمرية.

والله تعالى نسأل أن يجعل عملنا هذا خالصا لوجهه ، وفي سبيل مرضاته ، وأن يحسن مثوبة كل من ساعد في نشر عقيدة السلف ، وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.

الشيخ محمد ناصر الدين الألباني

١٥

ترجمة ابن ابي العزّ الحنفيّ

هو العلامة صدر الدين محمد بن علاء الدين علي بن محمد ابن أبي العز الحنفي ، الأذرعي الصالحي الدمشقي ولد سنة ٧٣١.

اشتغل بالعلوم ، وكان ماهرا في دروسه وفتاويه ، وخطب بحسبان قاعدة البلقاء مدة ، ثم ولي قضاء دمشق في المحرم سنة ٧٧٩ ، ثم ولي قضاء مصر فأقام شهرا ثم استعفى ، ورجع إلى دمشق على وظائفه.

وذكر ابن العماد خبر اعتقاله لبيانه ما في قصيدة ابن ايبك من الشرك ، وأنه أقام مقترا عليه. إلى أن جاء الناصري ، فرفع إليه أمره ، فأمر برد وظائفه ، ولم تطل مدته فقد توفاه الله بعد ذلك.

وإصرار الكوثري وأتباعه على إنكار نسبة شرح الطحاوية إلى مؤلف حنفي ، نوع من المكابرة بالمحسوس الملموس!! بل شرحها أكثر من عالم حنفي ، وقرظها العشرات من الأحناف ، وكيف لا يشرحها حنفي وهي عقيدة الإمام أبي حنيفة وأصحابه رحمهم‌الله وهل المذهب الحنفي غير ما كان عليه أبو حنيفة وأصحابه!!

وبما تقدم من نقول وصورة المخطوطة لم يعد هناك من مجال للشك بأن الشرح هو لابن أبي العز ، جزاه عن الاسلام والمسلمين كل خير.

وقد كانت وفاته بدمشق سنة ٧٩٢ (١) عليه رحمه‌الله.

__________________

(١) ذكر في «شرح العقيدة الطحاوية» طبع مكة : أن وفاته كانت سنة ٧٤٦ وهو وهم. والصحيح ما ذكرنا نقلا عن «الدرر الكامنة» ٣ / ٨٧ طبع الهند. ورقم ٢٨١٨ ورقم ٢٨٨٩ ج ٣ / ١٩٣ طبع مصر وحق هذا الرقم الأخير أن يكون ٢٨٩٩ و «شذرات الذهب» ٦ / ٣٢٦.

١٦

ترجمة الامام الطّحاوي

«صاحب العقيدة»

هو أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة بن عبد الملك بن سلمة بن سليم بن سليمان بن جواب الأزدي الطحاوي ـ نسبة الى قرية بصعيد مصر ـ الامام المحدث الفقيه الحافظ.

ولد رحمه‌الله سنة تسع وثلاثين ومائتين ، وعند ما بلغ سن الادراك تحول الى مصر لطلب العلم ، وأخذ يتلقى العلم على خاله اسماعيل بن يحيى المزني أفقه أصحاب الامام الشافعي. وكان كلما اتسعت دائرة أفقه يجد نفسه حائرا أمام كثير من المسائل الفقهية ، ولم يكن ليجد عند خاله ما يشفي غليله عنها ، فأخذ يترقب ما يصنعه خاله عند ما تعترضه تلك المسائل ، فاذا هو كثير التعريج على كتب أصحاب أبي حنيفة ، واذا هو يختار ما ذهب إليه أبو حنيفة في كثير منها ، وقد أودع هذه الاختيارات في كتابه «مختصر المزني».

فلم يسعه بعد ذلك الا أن ينظر في كتب أصحاب أبي حنيفة ويطلع على منهجهم في التأصيل والتفريع حتى اذا اكتملت معرفته بمذهب الامام أبي حنيفة تحول إليه واقتدى به وأصبح من أتباعه. ولم يمنعه ذلك من مخالفته لبعض أقوال الامام وترجيح ما ذهب إليه غيره من الأئمة لأنه رحمه‌الله لم يكن مقلدا لأبي حنيفة ، انما كان يرى أن منهجه في التفقه أمثل المناهج في نظره فكان يسير عليه ، ويأتم به ، ولذلك تجده في كتابه «معاني الآثار» يرجح ما لم يقل به امامه. ومما يؤيد ما ذكرناه ما قاله ابن زولاق : سمعت أبا الحسن علي بن أبي جعفر الطحاوي يقول سمعت أبي يقول وذكر فضل أبي عبيد حربويه وفقهه فقال كان يذاكرني في

١٧

المسائل فأجبته يوما في مسألة فقال لي : ما هذا قول أبي حنيفة فقلت له أيها القاضي : أوكل ما قاله أبو حنيفة أقول به؟ فقال : ما ظننتك الا مقلدا. فقلت له : وهل يقلد الا عصبي. فقال لي : أو غبي. قال فطارت هذه بمصر حتى صارت مثلا وحفظها الناس (١).

وقد تخرج على كثير من الشيوخ ، وأخذ عنهم ، وأفاد منهم ، وقد أربى عددهم على ثلاثمائة شيخ ، وكان شديد الملازمة لكل قادم الى مصر من أهل العلم من شتى الأقطار ، حتى جمع الى علمه ما عندهم من العلوم ، وهذا يدلك على مبلغ عنايته في الاستفادة ، وحرصه الأكيد على العلم. وقد أثنى عليه غير واحد من أهل العلم ، ووصفوه بأنه ثقة ثبت فقيه عاقل حافظ دين ، له اليد الطولى في الفقه والحديث.

قال ابن يونس : كان الطحاوي ثقة ثبتا فقيها عاقلا لم يخلف مثله.

وقال الذهبي في «تاريخه» الكبير : الفقيه المحدث الحافظ أحد الأعلام وكان ثقة ثبتا فقيها عاقلا.

وقال ابن كثير في «البداية والنهاية» : هو أحد الثقات الأثبات والحفاظ الجهابذة.

وأما تصانيفه رحمه‌الله فهي غاية في التحقيق والجمع وكثرة الفوائد وحسن العرض.

فمن مصنفاته «العقيدة الطحاوية» وهي التي نقدمها مع شرحها في طبعتها الأنيقة للقراء وهي على صغر حجمها غزيرة النفع سلفية المنهج تجمع بين دفتيها كل ما يحتاج إليه المسلم في عقيدته. ومنها كتاب «معاني الآثار» وهو كتاب يعرض فيه الأبحاث الفقهية مقرونة بدليلها ، ويذكر في غضون بحثه المسائل الخلافية ، ويسرد أدلتها ويناقشها ، ثم يرجح ما استبان له الصواب منها ، وهذا الكتاب يدرب طالب العلم على التفقه ، ويطلعه على وجوه الخلاف ، ويربي فيه ملكة الاستنباط ، ويكون له شخصية مستقلة.

__________________

(١) انظر هذا الخبر في «لسان الميزان» لابن حجر في ترجمة المصنف.

١٨

ومنها كتاب «مشكل الآثار» (١) في نفي التضاد واستخراج الأحكام منها ، ومنها «أحكام القرآن» و «المختصر» و «شرح الجامع الكبير» و «شرح الجامع الصغير» وكتاب «الشروط» و «النوادر الفقهية» و «الرد على أبي عبيد» و «الرد على عيسى بن أبان» وغير ذلك من التصانيف الجليلة المعتبرة.

توفي رحمه‌الله سنة احدى وعشرين وثلاثمائة ليلة الخميس مستهل ذي القعدة بمصر ودفن بالقرافة.

__________________

(١) يقع هذا الكتاب في سبع مجلدات ضخام ، وهو من محفوظات مكتبة فيض الله شيخ الاسلام في استنبول ، والقسم المطبوع منه في حيدرآباد في أربعة أجزاء ربما لا يكون نصف الكتاب. وهو كتاب جليل القدر عظيم النفع يسوق الأحاديث التي تبدو لأول وهلة أنها متعارضة ، لم يأخذ في دفع ذلك التعارض بطريقته الفذة التي يرتاح إليها المؤمن المنصف.

١٩
٢٠